تبقى عامرة بطيب ثمرها، وبنقاء أهلها، وبقداسة معالمها.. هي الطفيلة.. مدينة تهب من يحبها، دفء البيت، وطيب المقام.. وتبادل من يخلص لها حبا بحب، وتبقى وَفيّة لعهدها مع التراب، ومنحازة لكرامة الانسان، الآن.. ومنذ قديم الزمان.. تلك هي الطفيلة، فمباركة كرمة عنبها العتيقة، وجدّة الزيتون التي هي دوما تتجدد فيها!!
الطفيلة.. عبقرية مكان متميز، وجمال حياة.. والشجر، هناك، مُعمّر منذ مئات السنين، والصخر تبقى نقوشه تحاكي ترانيم العمق الذي تعيشه الطفيلة التي ذكرها عرار في حديثه وشعره عن المكان الأردن بعشق لها:
قسما بماحص والفحيص
وبالطفيلة والثنية
ودم ابن شهوان الزكي
ومصرع النفس الأبية
لسواك ما خفق الفؤاد
ولا تململ يا صبية
كما أن الروائي الشاعر، الصديق سليمان القوابعة، وهو ابن الطفيلة المخلص، يستذكر، في غربته، سفوح مدينته، وطيب بقاعها فيقول فيها:
غرب الزمان وما تزال رباك
ويفوح من فيض الربوع شذاك
سبحان من صاغ الجمال بروضه
وأبان من طرف الجنوب رؤاك
وتغيب من دنيا الجمال رتابة
وتزيد من روع الشموخ ذراك
آثار الأنباط
هناك أسمع أحاديث الزمان، وكأن صفحات مخطوط التاريخ تتجلى حيّة صفحة وراء صفحة، ومعها أرى تلك النقوش التي حفرتها أزاميل الأنباط،وكأنها تطرق صخور جبال الطفيلة كما هي في البترا، تاركة آثار حضارتها، وللأنباط حضور، وحظوة في الطفيلة، وهم أهم من بنى فيها.
توشك العين أن تقتفي لمسات تلك الحضارة في المدينة..تتبع النقوش، والمعالم، الى أن تصل الى خربة اللعبان، تلك التي يطلق عليها أهل الطفيلة، الضريح، لأنه يحتوي على مقابر للأنباط، كما أنه يوجد فيها هيكل مدمر.
اللعبان.. وكأن المكان هناك كان بلدة تمتاز بأعمدتها الضخمة، وهيكلها، ونقوشها، وزخارفها الجميلة..في خربة اللعبان خليط بين الطراز اليوناني القديم، والنبطي المتجدد، وفيها النقوش المتعمقة في الصخر بأشكال أغصان وأوراق ظاهرة وقواعد أعمدة، مرتكزة على قطع حجرية تأخذ شكل القلب.
اللعبان..تلك البلدة التي كانت منتجعا للأسر النبطية الحاكمة، اضافة الى انها في جزء منها مقبرة لأسر ملكية، اعدت بإحكام وبهندسة مختلفة عن قبور عامة الشعب.
تنطلق العين، في المدينة أكثر..ترى ما تبقى من آثار الأنباط التي تركوها في الطفيلة، فترى خربة السبعة قبور، والكتابات البنطية بنقوشها في بصيره، وخربة الصير، وخربة نقد، وخربة عابل، وغيرها من شواهد، إضافة الى آثار خربة التنور التي تحتوي على منحوتات آية في الجمال، وشوارع مبلطة، وقواعد اعمدة، وهياكل، وفيها، كذلك، اكتشف أثر تمثال النصر، وتمثال تايكي، وتمثال النسر، وتمثال اللات، تلك التي وزعت في متاحف داخل الأردن وخارجه.
هذه بعض آثار الأنباط في الطفيلة ، وهي ملامح حضارة عربية اللغة، آرامية الكتابة، سامية الديانة، يونانية ورومانية الفن والهندسة، عبقريتها الخالدة في أنها استطاعت أن تمزج كل هذي السمات، لتخرج بحضارة نبطية خاصة، تعد من اهم ملامحها تلك الاكتشافات التي وجدت في مدينة الطفيلة.
حضور الغساسنة
الطفيلة.. سيرة عطرة، وذاكرة تتجدد.. وكأن للمدينة قصة تستمر فصولها جيلا وراء جيل، ولا تتوقف.. وعلى امتداد مساحتها تفاصيل أكثر من حضارة تجىء مكملة لما سبقها، وتلك حال المدن دائمة الحياة، والحضور، فالطفيلة دخلت بعد عهد الانباط فى عهد الرومان، بعد أن تنازعتها الصراعات بين قضاعة والغساسنة في سبيل حكمها، الى ان دانت في النهاية الى الغساسنة الذين اثبتوا حضورهم وولائهم للرومان بعد ان عينوا منهم ملك على الشام أسس مدنا له في الطفيلة كما في باقي مناطق الشام، وتلك المدن منها عفرا، والسدير، وغرندل، ورواث، وبصيرا، وخربة الجنين، والسلع، والذراع، والمعطن، وارحاب، والبريص، ومن ثم اعتنقوا النصرانية بدلا من اتباع الوثنية دينا لهم، حيث صارت النصرانية في الطفيلة قرب بصيرا عاصمة للغساسنة، يقيمون فيها شعائرهم الدينية حيث هناك الأسقفية والكنيسة الكاتدرائية.
فروة الجذامي
ويستمر البوح..وكأن المدينة تريد أن تقول كل ما لديها، خاصة تلك المرحلة التي دخل فيها الإسلام الى جنباتها، أثناء امتداه في المنطقة، وبزوغ فجره، حيث اعتنقه اهل الطفيلة.. وكان أول ولائهم لهذا الدين، تقديمهم فيه أول شهيد في الإسلام خارج الجزيرة العربية.
بالتضحية والايمان كان البدء، كما عهد الطفيلة دائماً وقدر الطيبين المخلصين هكذا.. وقد بدأوا، هناك، في هذا المكان العابق بالصدق، بتدشين موقفهم شهادة عن طيب موقف، حيث صلب الروم، على ماء عفرا، فروة بن عمرو الجذامي، بعد ان حبسوه، وقد قيل أنه قال في محبسه، آنذاك، شعرا منه:
طرقت سليمى موهنا أصحابي
والروم بين الباب والقروان
صد الخيال وساءه ما قد رأى
وهممت أن أغفي وقد أبكاني
لا تكحلن العين بعدي أثمدا
سلمى ولا تدنن للإتيان
ولقد علمت أبا كبيشة أنني
وسط الأعزة لا يحص لساني
فلئن هلكت لتفقدن أخاكم
ولئن بقيت لتعرفن مكاني
ولقد جمعت أجل ما جمع الفتى
من جودة وشجاعة وبيان
وأنشد هو أيضا قبل موته قائلا:
ألا هل أتى سلمى بأن خليلها
على ماء عفرا فوق إحدى الرواجل
على ناقة لم يضرب الفحل أمها
مشذبة أطرافها بالمناجل
عظيمة قصة الشهادة والصلب هذه، وفيها دلالات ومواقف، وعبر، ورسوخ قناعة، وعمق ايمان، حيث يصل عن اللحظات الأخيرة لفروة الجذامي، أنه حين اقترب أجله،ومثل الى مكان الصلب أنشد آخر كلام له، وكان بيت الشعر هذا منه:
بلغ سراة المسلمين بأنني
سلم لربي أعظمي ومقامي
الحارث بن عمير الأزدي
هذه هي الطفيلة.. مدينة تشهر شجاعتها، ولا تتراجع.. وكأن الشاهدة على مراحل مهمة وكثيرة في مفاصل حقيقية للمواقف العميقة، فهي دائما تحتفي بالشهداء فيها، وتبقي آثارهم دلالة قرب، وإشراقة، وإشارة على طيب الدم الذي تشرّب ثراها، فهي المدينة التي تترحم دائما على رسول رسول الله، الذي قتل على يد أمير السلع، وما زال ضريح الشهيد الحارث بن عمير الأزدي مقاما مائلا فيها،وهو غير بعيد عن خربة الجنين في الطفيلة، وكذلك بقيت شواهد اخرى على سبق الاسلام هنا، وخاصة غزوة ذات السلاسل التي وقعت في شرقي الطفيلة في منطقة ابو السلاسل.
معركة الطفيلة
والتاريخ الحديث يشهد للطفيلة شهادات عز، وكرامة، وتضحية، وإباء.. حُرّة المقام، والحضور، والموقف، هي الطفيلة.. فقد رحب في بداية القرن الماضي ببيارق الثورة العربية التي انطلقت لمواجهة ظلم الأتراك، وجورهم.
وقد كتبت الطفيلة، في تلك المرحلة، تاريخها بالدم الأبي وبالموقف الحقيقي، الذي عبر عنه أهل الطفيلة بمهابة ووضوح، وكانت أكثر الشهادات على صلابة ايمانهم ومواقفهم حين استبسل ابناء الطفيلة في معركتهم الشهيرة التي دشنها التاريخ وكتبت بالبارود اكليل نصر، ووسام شرف على صدر المدينة، وأهلها.
معركة الطفيلة، صفحة مشرّفة اخرى في سجل تاريخ الطفيلة.. تلك المعركة التي تآزر فيها كل اهل الطفيلة، الذين توافدوا من كل زوايا المدينة، من السلع والعيص، وكل الأرجاء، وأمامهم احد قادة الثورة العربية الأمير زيد، وأصواتهم تنتخي، وتردد حماسا وهم مشاة، وعلى ظهور خيلهم، يهتفون:
يا زيد وانزل بالسهل
حنا العباة الضافية
نعلي البيارق في اللظى
نحميها وهي الغالية
يا زيد حنا رجالك
والأمر بيدك يا زيد
يا زيد وانزل يمنا
بارض الطفيلة العالية
والعهد كار رجالنا
في جبالنا والبادية
يا زيد حنا رجالك
والأمر بيدك يا زيد