JUN 20, 2014
تصريحات وبيانات الساسة العرب وعلمائهم تدعو للعجب
اسماعيل القاسمي الحسني
فلسطين، هذه الأرض العربية المغتصبة في عقيدة الأمة، هي بعينها وبكل تفاصيل مآسيها ومن الساعات الأولى لاحتلالها، سوق تجارة مربحة وبورصة مضاربة لدى معظم ساسة هذه الأمة الممتحنة، وأغلب علمائها مع الأسف الشديد؛ كم بيعت مواقف وكم تمت المزايدة باسمها، بل تحت عنوانها تم احتلال دول اسلامية وعربية اخرى وتمزيقها، ولغلاء هذه “الدرة” الثمينة والفريدة في العالم بأسره، لما يقوم على أرضها من جواهر أثرية، تضرب بعروقها الدينية في باطن تاريخ البشرية، لازالت فلسطين ورقة نقدية رابحة بأيدي مستخدميها في سوق السياسة والمنابر الدينية.
هل نحتاج لدرجة من الذكاء متميزة لمقارنة المواقف السياسية العربية؟ لا أعتقد ذلك بالمرة، فقد بات الأمر مكشوفا الى درجة بات الكشف يستحي هومن عورتنا السياسية، وأصبحت الفضائح تلملم اليها كساءها الغبي الشفاف، شفقة عن نفسها من حالنا بل وحياء كذلك؛ قيل للأمة ذات مرحلة بعد تحرير افغانستان سنلتفت الى فلسطين، ثم قيل لها بعد تحرير البوسنة، ثم بعد تحرير الجزائر ثم بعد تحرير العراق، ثم بعد تحرير ليبيا وها نحن اليوم نسمع أن الطريق الى القدس تمر عبر تحرير دمشق وتدمير كل الشام، طبعا وتم احتلال كل تلكم البلدان وتمزيقها وقتل مئات الآلاف بل الملايين من المدنيين، سواء بأيدي ابنائها تم الخراب، أوباستدعاء حلفاء الغرب الذي أعلن قائده (بوش) يوما على الملأ صراحة، أنها الحملة الصليبية الجديدة لاستعادة الشرق الأوسط وبسط النفوذ كليا وبشكل مباشر لا يحتمل اللبس اوالمداراة. أعلم جيدا أن القارئ لم يعد في حاجة لاجترار هذا الواقع المرير بتفاصيله وتناقضاته، بل أصبح يستفزه قول أحدهم: هل ترى كيف أن القادة العرب سارعوا لقطع علاقتهم وتواصلهم مع الراحل صدام حسين، ثم مع الراحل معمر القذافي، ثم مع الصامد بشار الأسد، بحجة أنهم مجرمون يحتلون شعوبهم بالقوة، وذات الوقت يعرضون على العدوالاسرائيلي “مباردة سلامهم”، كأنهم يملكون حربا حتى يعرضون سلاما، وكأن العدولا يحتل أرضا ولا ينكل بشعب، بل كأن العدوليس مجرم حرب كما تقر بهذا الوصف احكام قضائية دولية، فضلا عن أصل القضية وعقيدة الأمة. ومازالوا ينتظرون ردّ العدوعلى مبادرتهمويستجدونه منذ خمسة عشر عاما تقريبا.
لا أنكر بأن تصريحات السيد محمود عباس التي اطلقها في جدّة كانت صادمة من ناحية، لكنها كانت متناسقة وموضوعية مع المكان والزمان والظروف من ناحية أخرى، بمعنى لا يمكن أن ننتظر غير ذلك، ومن كان يتصور أويتوقع خلافها فهوواهم لا محالة؛ فقد بات معلوما أن الهيئتين الاقليميتين العربية والاسلامية تم احتلالها بشكل مطلق من قبل أنظمة خليجية، توجهها حيث ارادت وتستصدر عبرها البيانات والقرارات التي تتوهم خدمة مصالحها القطرية، فقد تجمد دور دول عربية واسلامية عظمى مثل ماليزيا وايران والعراق وسورية والجزائر وغيرها، لصالح منظومة دول الخليج التي كما هوكذلك معروف، تنضوي في مجملها تحت راية وسياسة المملكة السعودية؛ وهنا لنفهم موقف السيد محمود عباس الذي اطلقه تحت رعاية الامير سعود الفيصل، تعود بنا الذاكرة الى محاضرة ألقاها الامير تركي الفيصل في واشنطن عام 2006 أمام المنتدى العربي الأمريكي، أعلن فيها بأن أبرز التحديات التي تواجهها بلاده (اي السعودية)، هي اقناع الشعب الفلسطيني بالتخلي (نعم بالتخلي) عن النضال (هكذا التعبير والمفردة التي استعملها وليس الجهاد، فالقتال في فلسطين المحتلة لا يعد جهادا- الجهاد حصرا في الجزائر وليبيا وسورية والعراق)، ويسلك نهج المهاتما غاندي اومارتن لوثر كينغ (نسي معاليه أن من أشهر كلمات مارتن: لا أحد يستطيع ركوب ظهرك ما لم تركع أنت)، ويقرر معاليه في نفس الكلمة بأن العنف هوسلاح الضعيف، أما عدم العنف فهوسلاح القوي؛ طبعا هذه المعادلة تنسحب فقط على الشعب الفلسطيني، أما استعمال القوة العسكرية من قبل العدوالاسرائيلي فهوحق مشروع ولا يدل على ضعف. تحت مظلة هذا المنطق وبرعاية هذه السياسة أعلن السيد محمود عباس تنديده وادانته لغياب جنود الاحتلال الثلاثة.
أقول غياب ولا أقول اختطاف لأنني وبعد متابعة ردود فعل العدو، استقرت لدي قناعة تترسخ يوما بعد يوم بأن وراء غياب الجنود الثلاثة مئة علامة استفهام، ذلك أنها لا تتماهى مع حالة الاختطاف، فضلا عن غياب جهة معروفة تبنت عملية أسر الجنود؛ ومع احترامي للسيد اسامة القواسمي الناطق باسم منظمة فتح، الذي قصف بالثقيل وعلى الهواء مباشرة (قناة الميادين) حركة حماس وكل فصائل المقاومة، فجميع المبررات التي قدمها لموقف السيد محمود عباس، نعتبرها نحن هنا في الجزائر وبالمختصر المفيد، من جنس خطاب الرئيس المنتهية ولايته، يعني بألطف توصيف ليس من الوطنية في شيء، حتى لا نقول نعتا آخر؛ وإلا بماذا يمكن وصف انجازات السلطة الفلسطينية التي حماها السيد محمود عباس بموقفه هذا؟ لقد أقر في مداخلته الناطق باسم منظمة فتح أنها لا تعدومقرات مؤسساتها، باللغة العربية الفصيحة مجموعة بنايات يستغلها رجال السلطة، هل يعدُّ هذا انجازا؟ بل ويستدعي التنديد بأسر جنود الاحتلال للحفاظ عليه ! ما غاب عن الرجل أن أهم الانجازات الفعلية والمؤثرة في مسار القضية الفلسطينية، ليست جدران مقرات السلطة، بل اقرار وانجاز ما يزيد عن 50ألف وحدة استيطانية في الضفة، وتهويد القدس الشريف بشكل كلي، هذا ما جناه الشعب الفلسطيني منذ 1993 الى اليوم، مزيدا من القتل والتهجير وهدم البيوت وتقطيع أوصال الأرض، ومزيدا من الأسرى ومزيدا من التعذيب والتنكيل فضلا عن اغتيال رمزه وقائده ورئيسه، هذه هي الانجازات ولسنا نرى غيرها مع الأسف الشديد، والدفاع عن سياسة محتل يعد في عقيدتنا ومنطقنا أمر غير مقبول بالمرة؛ أما القول بأن الرئيس جنّب الشعب الفلسطيني عدوانا اسرائيليا على الضفة والقطاع، فلعمري إنه أمر مضحك حد البكاء، هل نفهم بأن الشعب الفلسطيني قبل غياب جنود العدوالثلاثة، كان ينافس الشعب السويدي في رغد العيش والأمن؟…..أكتفي بهذا.
أما بخصوص البيان الأخير للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، فيكاد الأمر لا يختلف عن الحال الأول، من الجهل بأبسط ابجديات سياسة الأمة، لا يمكن إلصاق تهمة الجهل بهيئة عنوانها العلم ويُعرّفُ رجالها بعلماء الأمة، إذن السؤال: هل الأمر متعمد؟ الله أعلم، ولكن أعتقد أن عنوان “العالمي” و”علماء المسلمين” يمنع على أصحابه ادراج مفردات طائفية، والدعوة لنصرة طائفة من المسلمين على طائفة أخرى هي كذلك من المسلمين، هذا إن صح بأن هناك فعلا صراع بين طائفتين، وهل في مثل هذه الحالة تكون الطائفة الثالثة من النصارى واليهود كما جرت عادة دعوة هؤلاء العلماء؟ هل يستحيل أن تكون الطائفة الثالثة من المسلمين؟ وهل دورها ابتداء وأساسا هوالاصلاح بين طائفيتين من المؤمنين اقتتلوا، أم القفز مباشرة الى نصرة واحدة عن الأخرى؟ وهل محاولة الاصلاح تتم عبر الفضائيات ومن أبراج عاجية؟ ألا يقضي الاصلاح الانتقال الى أرض الصراع؟ الذي خول لك دعوة نصرة هذا عن ذاك هونفسه الذي يفرض عليك شرعا الاصلاح اولا وثانيا وثالثا، ومن على أرض الواقع. وما لم تنتقل الى واقع الاخوة المتقاتلين، فلا يحق لك ان تخاطبهم من فضاء السياسيين المنافقين.
فضلا عن كون البيان صدر في طي ليل خلسة، ونشرته على استحياء وكالة اناضول، لا لشيء إلا لأنه يحمل بشيء من الخجل ادانة لجرائم “داعش”، ويختلف لهجة ونبرة صوت وقوة ومظهرا عن بيانات وخطب علماء الاتحاد حين يتعلق الأمر بما يصفونه جرائم القذافي والأسد، وكأنما من جهة ما، لا يريد الاتحاد أن يسمع اتباعه بهذا البيان، والغريب أن تعتبر جرائم داعش في العراق مجرد غلوفي الدين؛ والحال أن الدين اساسا برئ منها، بالعربي الفصيح والواضح: هذه الجرائم ليست غلوا في الدين، بل ليست منه في شيء جملة وتفصيلا؛ويؤسفني القول وأنا المتابع هذه لعلها أول مرة نسمع بإدانة اعمال داعش في سورية، وأشهد بأن بعض العلماء البارزين في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، كما تشهد خطبهم وحواراتهم المسجلة، بأنهم لم يزكوا فقط تلكم الجرائم بداية الازمة في سورية، بل أضفوا عليها خلعة شرعية، ودعوا اليها وشجعوا عليها، وحين رفعنا صوتنا مستنكرين، رمينا بالجهل والعمالة ووصفنا بالشبيحة كما قال لي شخصيا أحدهم، وهويشمت باغتيال الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي، ويكفي القول هنا أن رئيس الاتحاد نفسه لم يكلف نفسه تقديم واجب العزاء في البوطي… واكتفي كذلك هنا بهذا.
أخيرا، اعترف أن حفلات التصريحات السياسية والدينية، التي تتدفق في مناسبات مستديمة لمآسي هذه الأمة، باتت لغرابة طرحها مدعاة للتندر لدى العامة وليس التعجب فحسب، فمن سياسي رفيع يرى بكل بساطة ضرورة الدفاع عن عدو يحتل أرضه وينكل بشعبه، وعالم دين يزعم بأن زج رؤوس المسلمين واغتصاب نسائهم غلوا في العراق، ومن الأعمال الواجبة، بل ومن اوسع أبواب “رحمة الله” في سورية، ما يجعل المواطن العربي البسيط يضحك كثيرا ولكنه ضحك كالبكاء ….ولك الله يا أمة سيدنا محمد.
فلاح جزائري