تطور المشروع الصهيوني في فلسطين
(1939 – 1947)
أولاً: الموقف الصهيوني من سياسة الكتاب الأبيض والتعاون مع بريطانيا عشية اندلاع الحرب
عندما أعلنت الحكومة البريطانية كتابها الأبيض عام 1939، جاء رد الفعل الصهيوني على المستويين الشعبي والرسمي سريعاً وغاضباً، ففي 18 مايو (في اليوم التالي لإعلان ذلك الكتاب) اندلعت المظاهرات اليهودية الغاضبة في فلسطين تعلن تصميم التجمع اليهودي في البلاد (الييشوف) على رفض ما جاء في ذلك الكتاب وعزمهم على مقاومته مهما كانت التضحيات، وأعلن بن جوريون رئيس اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية تأييده لهذه المظاهرات في رسالة وجهها إلى قائد القوات البريطانية في فلسطين، أكد له فيها البيان الرسمي للوكالة اليهودية، الذي أعلنت فيه رفضها لما جاء في الكتاب الأبيض واستعداد اليهود لمقاومته فهم "لن يقبلوا بغلق أبواب فلسطين أمامهم ولن يقبلوا تحويل وطنهم إلى جيتو آخر".
أما الرد الرسمي للمنظمة الصهيونية العالمية فقد عبر عنه "حاييم وايزمان" رئيس المنظمة في رسالة بعث بها إلى المندوب السامي البريطاني في فلسطين جاء فيها "إن الوطن القومي (اليهودي) يفقد معناه في اللحظة التي يصبح فيها دخول اليهود إليه ممنوعاً إلا بموافقة العرب"، وهدد وايزمان في رسالته باستعداد اليهود لمقاومة سياسة الكتاب الأبيض إذا ما جرى تنفيذها.
وعندما عقد المؤتمر الصهيوني الحادي والعشرون في جنيف خلال الفترة من 16 إلى 25 أغسطس 1939 (قبل أقل من أسبوع من اندلاع الحرب العالمية الثانية) كان على هذا المؤتمر أن يضع أسس العمل الصهيوني في ظل احتمالات اندلاع الحرب. وكان التعاون مع بريطانيا وسياسة الكتاب الأبيض أحد البنود الرئيسية في جدول أعمال ذلك المؤتمر، الذي أسفرت مناقشاته عن رفض ما جاء في ذلك الكتاب، وصوَّت المؤتمرون بالنفي على صلاحيته كأساس للنقاش، إلا أنهم تركوا الباب مفتوحاً أمام الحكومة البريطانية لتعديل ما جاء فيه.
أما بالنسبة إلى التعاون مع بريطانيا، فقد اتجهت الآراء الرئيسية في ذلك المؤتمر إلى ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول، ويتزعمه "حاييم وايزمان"، وكان يرى ضرورة التعاون مع بريطانيا، وأن التحالف معها مسألة حيوية بالنسبة إلى الحركة الصهيونية. وأنه "بقدر ما هي بريطانيا ضرورية للصهيونية فإن التطور الصهيوني لفلسطين يبدو حيوياً لبريطانيا.
بينما كان الاتجاه الثاني، والذي تزعمه "بن جوريون"، يرى أن الوقت قد حان لإلغاء سياسة وايزمان الخاصة بالتعاون التام مع سلطات الانتداب أو التخفيف مها. وكان من رأي أصحاب هذا الاتجاه "أن اليهود في فلسطين قد أصبح لهم كيان خاص يؤهلهم لأن يكون لهم دولة، وعليهم أن يتصرفوا كما لو كانوا كذلك".
أما الاتجاه الثالث، والذي كان يمثل أغلبية المؤتمر، فكان يسعى إلى حل وسط بين الاتجاهين السابقين، ويرى ضرورة الاستمرار في تنفيذ الأهداف الصهيونية، مع مراعاة الاستمرار في التعاون مع بريطانيا، وعدم مقاومتها إلا كحل أخير لا وجود لغيره، وقد مثل هذا الرأي "بيرل كاتزنلسون" إلا أنه في النهاية جاءت قرارات المؤتمر معبرة عن الاتجاه الأخير.
وحتى لا يتعرض العمل الصهيوني للخلل إذا ما وقعت الحرب، قام المؤتمر الصهيوني الحادي والعشرون باختيار مجلس عام من 72 عضوا، على أن يختار ذلك المجلس ـ من أجل تنفيذ المهام العاجلة ـ مجلساً داخلياً مكوناً من ثمانية وعشرين عضواً. وعند اختيار المجلس الأخير فاز حزب المباي بثلاثة عشر عضواً وبذا أصبح المجلس الصهيوني مع اللجنة التنفيذية للمنظمة (وكان أغلب أعضائها من يهود فلسطين)، هم صانعو القرارات الصهيونية خلال الحرب العالمية الثانية بالنسبة إلى الأمور الملحة، الأمر الذي نقل سلطة القرار الصهيوني من المؤسسات الصهيونية الخارجية إلى المؤسسات الصهيونية في فلسطين، وهو ما قوَّى من نفوذ بن جوريون رئيس اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية في القدس، وجعله منافساً قوياً لحاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية في ذلك الوقت.
وبانتهاء المؤتمر الحادي والعشرين، قام حاييم وايزمان بإبلاغ الحكومة البريطانية في التاسع والعشرين من أغسطس بأن اليهود يقفون إلى جانب بريطانيا العظمى، وسوف يحاربون إلى جانب الديمقراطية، وعرض وضع الإمكانات البشرية والمادية اليهودية تحت طلب الحكومة البريطانية، رغم الخلاف حول الكتاب الأبيض، وقد رد "نيفل تشمبرلين" رئيس الحكومة البريطانية مرحباً بذلك العرض ومؤكداً على أنه بالرغم من الخلاف بين اليهود وحكومته، فإنه يعتقد في إمكانية اعتماد بريطانيا على الوكالة اليهودية.
وترجع وقفة المنظمة الصهيونية إلى جانب بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية – بالرغم من اتجاه بريطانيا إلى تطبيق سياسة الكتاب الأبيض عام 1939 ـ إلى سببين رئيسيين هما:
1. سياسة ألمانيا النازية المعادية لليهود، سواء داخل ألمانيا نفسها أو في البلاد التي ضمتها حتى ذلك الوقت (تشيكوسلوفاكيا ـ النمسا)، مما كان يُنذر بالخطر والقضاء على المشروع الصهيوني لو قُدِّر لألمانيا النازية كسب الحرب.
2. رؤية القيادة الصهيونية للحرب ووقوف اليهود إلى جوار بريطانيا في صراعها ضد النازية فرصة مواتية لتحقيق هدفين هما:
أ. تدريب وتسليح قوة يهودية بموافقة السلطات البريطانية ومعاونتها، تكون نواة الجيش اليهودي في فلسطين.
ب. تطويق عنق بريطانيا بجميل يسمح للقيادة الصهيونية بطلب المزيد من المكاسب منها بعد انتهاء الحرب كما حدث في الحرب العالمية الأولى (تصريح بلفور)، فضلاً عن غض البصر ـ خلال الحرب ـ عن أعمال الهجرة اليهودية (غير الشرعية)، والتي كانت المنظمة الصهيونية مصرة على استمرارها رغم سياسة الكتاب الأبيض.
ثانياً: التعاون العسكري الصهيوني البريطاني ودعم القوة العسكرية اليهودية
لتحقيق أهداف التعاون مع بريطانيا عقدت اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية برئاسة بن جوريون اجتماعاً في الثامن من سبتمبر 1939 ـ بعد أسبوع من اندلاع الحرب ـ حضره قادة الهجناه، لتحديد خطة العمل على ضوء الموقف الدولي الجديد. وفي هذا الاجتماع وجَّه بن جوريون حديثه للحاضرين قائلاً: "لقد تمخضت الحرب العالمية الأولى عن وعد بلفور، أما الحرب العالمية الثانية فلابد أن تأتي بالدولة اليهودية، وحدد بن جوريون هدفين مباشرين للعمل هما:
1. إنشاء الجيش اليهودي.
2. إنشاء الدولة اليهودية.
وأوضح بن جوريون للحاضرين، أن ذلك سوف يترتب عليه حرب واسعة النطاق، وطالب قادة الهجناة بما يلي:
1. التخلي عن الدفاع الثابت والخروج لمواجهة العدو أبعد ما يكون عن أهدافه وأقرب ما يكون من قواعده.
2. تشكيل جيش يكون في مقدوره مواجهة الجيوش العربية النظامية.
3. إقامة صناعة للأسلحة تتسم بفعالية أكثر.
4. الحصول على أسلحة ثقيلة.
وتحقيقاً لنفس الأهداف قدمت اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية إلى سلطات الانتداب البريطانية كشوف المسجلين لديها للخدمة الوطنية حتى سبتمبر 1939 (136043 رجل وأمرأة تراوح أعمارهم ما بين 18 و35 عاماً)، من أجل الخدمة العسكرية في فلسطين. وأرفقت عرضها باقتراح تشكيل وحدات عسكرية يهودية مستقلة ومعترف بها من الأعداد السابقة، إلا أن طلبها رُفض منذ البداية.
وكان الموقف الرسمي لحكومة تشمبرلين في ذلك الوقت، هو تشجيع اليهود على الانضمام إلى القوات البريطانية كأفراد، وليس تشكيل وحدات يهودية مستقلة، خوفاً من إثارة العرب، سواء داخل أو خارج فلسطين في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى تسكين الأوضاع في تلك المنطقة.
وما أن تولى ونستون تشرشل رئاسة الوزراء القومية في العاشر من مايو 1940، حتى تجددت المطالبة اليهودية بإنشاء جيشهم الخاص، ورغم تأييد تشرشل لمطالب الزعماء الصهيونيين وتعاطفه معهم، إلا أن هذه المطالب لاقت نفس المعارضة التي لاقتها في عهد تشمبرلين ولنفس الأسباب من الوزراء والقادة العسكريين البريطانيين، وخاصة من لهم علاقة بالشرق الأوسط. إلا أن تشرشل كان له رأي آخر، فقد أرسل ـ بعد أقل من أسبوعين من توليه منصبه ـ إلى اللورد لويد وزير المستعمرات الجديد يخبره "إن هدفنا الوحيد في فلسطين الآن هو تحرير (سحب) إحدى عشرة كتيبة من خير جنودنا فيها، لذا يجب تسليح اليهود وتنظيمهم بأسرع ما يمكن، إذ لا يمكن تركهم دون سلاح".
وسرعان ما أدى دخول إيطاليا الحرب وتهديدها لمصر، وحاجة القيادة البريطانية في الشرق الأوسط إلى قواتها الموجودة في فلسطين لتدعيم الدفاع عن قناة السويس، إلى رضوخ الوزراء والقادة البريطانيين لضغوط تشرشل فيما يتعلق بنقل جزء من القوات البريطانية في فلسطين للدفاع عن قناة السويس، وإحلال قوة يهودية محلها.
وفي 23 أغسطس 1940 أبلغ وزير المستعمرات البريطانية حاييم وايزمان بقرار مجلس الوزراء البريطاني بالاستفادة من اليهود في كل مسرح الحرب وليس في فلسطين وحدها. ورأى وزير المستعمرات أن يكون حجم القوات اليهودية في فلسطين في حدود كتيبة واحدة (500جندي)، مع استخدام ما يزيد عن هذا العدد من المتطوعين كقوة يهودية خارج فلسطين مع عدم حملها علماً أو إشارة مميزة.
ولما كان تشكيل الكتيبة اليهودية المشار إليها لا يحقق المطامع الصهيونية في إنشاء الجيش اليهودي،خاصة وقد سُمح لعرب فلسطين بتشكيل قوة مماثلة[1]، فقد لجأ وايزمان إلى تشرشل مرة أخرى. ورغم ضغوط الأخير على وزرائه، إلا أنها لم تسفر عن استجابة فورية لمطالب وايزمان، الذي أخطر في 4 مارس 1941 بتأجيل مشروع الجيش اليهودي ستة أشهر. وقد عللت بريطانيا تأجيل المشروع بحجة نقص المعدات العسكرية في ذلك الوقت[2]. إلا أنه مع تدهور الأوضاع العسكرية البريطانية في الشرق الأوسط في ذلك الوقت، كان للقيادة الصهيونية في فلسطين شأن آخر، فقد كان ذلك الموقف يحمل الكثير من النذر إلى تلك القيادة، وجعلها تشعر بالقلق خوفاً من احتلال الألمان لسورية وفلسطين. ففي مسرح شمال أفريقيا والبحر المتوسط، نجح روميل في استرداد برقة والوصول إلى الحدود المصرية في 12 أبريل 1941. كما نجحت القوات الألمانية في احتلال اليونان، وحشدت فيها الفيلق الحادي عشر و1280 طائرة، وأسطولاً ضخماً من سفن النقل خلال شهر أبريل وأوائل مايو. أما سورية التي كانت تحتلها حكومة فيشي، فقد أصبحت مسرحاً لنشاط عملاء المحور وطائرات النقل الألمانية، كما تحركت قوات فيشي إلى الحدود الفلسطينية، في الوقت الذي اندلع فيه القتال بين القوات البريطانية وحكومة رشيد عالي الكيلاني – الموالية للمحور ـ في العراق.
ومن ثم "عقدت القيادة العليا للهجناة اجتماعاً سرياً لاستعراض الموقف واحتمالاته، ولم يكن الموقف او احتمالاته تبعث على الاطمئنان. وعلى ضوء تقدير الموقف، "كان هناك حاجة ملحة لإنشاء قوات عسكرية تكون خاضعة خضوعاً مباشراً وخالصاً لقيادة الهجناة ويمكن الاعتماد عليها لمواجهة أو لتعويق الغزو النازي لفلسطين".
وعلى ذلك أصدرت القيادة الصهيونية قرارها بإنشاء قوات البلماخ (القوة الضاربة) في الرابع عشر من مايو 1941. وجاء تشكيل البلماخ مواكباً لقرار قيادة الحلفاء غزو سورية ولبنان في أغسطس من نفس العام. وقد شاركت سرايا البلماخ في هذا الغزو بالقيام بأعمال الارشاد والتخريب والاستطلاع خلف خطوط قوات حكومة فيشي. "ومنذ ذلك الوقت وحتى انتصار قوات الحلفاء في العلمين استمر التعاون غير الرسمي، الذي انطوى على اعتراف بريطاني غير مباشر بقوات البلماخ". وطبقاً لرواية إيجال آلون قائد البلماخ آنذاك، فإن ذلك التعاون مع البريطانيين أتاح لقواته فرصة فريدة لتلقي تدريب أفضل معترف به على أيدي بريطانيين متخصصين في أعمال التخريب والمخابرات والاستطلاع والاتصالات. وتحت ستار المئات من قوات البلماخ ـ التي اعترف بها البريطانيون وموّلُوها ـ تلقى آلاف من قوات الهجناه تدريباً وخبرة مماثلة كما وُضعت نواة لقوة جوية وأخرى بحرية.
أما بالنسبة إلى القوة اليهودية الرسمية التي كانت القيادات الصهيونية تلح على تشكيلها منذ بداية الحرب، فلم تسمح بها الحكومة البريطانية إلا في 20 سبتمبر عام 1944، عندما وافق البريطانيون في النهاية على تشكيل لواء مشاة من يهود فلسطين قوامه خمسة آلاف فرد، وأعطيت هذه القوة فرصة الاشتراك في عمليات إيطاليا في ربيع عام 1945 تحت علمها الخاص.
ولم تقتصر مشاركة يهود فلسطين في الحرب إلى جوار بريطانيا على قوات البلماخ (3000 مقاتل) واللواء اليهودي (5000 مقاتل) فقد تطوع أيضاً في القوات البريطانية ما يقرب من 22600 يهودي كان توزيعهم كما يلي:
4800 فرد في وحدات المشاة.
3300 فرد في وحدات المهندسين.
4400 فرد في وحدات النقل.
1250 فرد في وحدات الأسلحة والمعدات. 1100 فرد في وحدات خدمة الجيش.
2000 فرد في الوحدات الجوية.
1100 فرد في الوحدات البحرية.
4000 متطوعة في وحدات وخدمات الاحتياط.
ولم يقتصر التعاون العسكري اليهودي مع بريطانيا على نشاط القوات السابقة، فقد امتد ذلك التعاون ليشمل عدة مجالات أخرى مثل استخدام معامل الجامعة العبرية في الأبحاث اللازمة للقوات البريطانية في المنطقة، وإنشاء الورش والمصانع الحربية اليهودية لإصلاح وصيانة الأسلحة والمعدات وتصنيع الذخائر والمهمات. وبذلك تكون السلطات البريطانية قد أسهمت ليس فقط في تنمية القوة المسلحة اليهودية وزيادتها، بل إنها أتاحت الفرصة أيضاً لتطوير وتنمية القدرات اليهودية في فلسطين في مجالات البحث العلمي العسكري والصناعات الحربية.
ثالثاً: مقاومة سياسة الكتاب الأبيض
لم تر القيادات الصهيونية أي تعارض بين سياستها الرامية إلى التعاون مع بريطانيا خلال الحرب ومقاومتها لسياسة الكتاب الأبيض الذي أصدرته حكومة الأخيرة. وقد عبر بن جوريون عن موقف اليهود من هذه المعادلة الصعبة عند اندلاع تلك الحرب بقوله "سنحارب مع البريطانيين ضد هتلر كما لو لم تكن هناك ورقة بيضاء، وسنحارب الورقة البيضاء كما لو لم تكن هناك حرب".
وفي إطار محاربة الكتاب الأبيض تحركت الوكالة اليهودية والمنظمات الصهيونية في عدة اتجاهات كان أبرزها ما يلي:
· استغلال الثغرات في النظام الجديد لانتقال الأراضي لزيادة رقعة الأرض اليهودية في فلسطين.
· استغلال مشكلة اللاجئين اليهود في أوروبا لتهجيرهم إلى فلسطين بدلاً من استيعابهم في البلاد الأخرى.
· تنظيم الهجرة غير الشرعية لإدخال مزيد من المهاجرين اليهود إلى فلسطين أكثر مما حدده الكتاب الأبيض لعام 1939.
· تبديل الجياد ونقل ثقل النشاط الصهيوني إلى الولايات المتحدة للضغط على بريطانيا من أجل إلغاء سياسة الكتاب الأبيض.
[/size]
· اللجوء إلى الإرهاب الدولي للضغط على الحكومة البريطانية لإنهاء الانتداب وإقامة الدولة اليهودية.
1. محاولة زيادة رقعة الأرض اليهودية في فلسطين
عند عرض نظام انتقال الأراضي الجديد على مجلس العموم البريطاني تحركت القوى الصهيونية في المجلس وخارجه ضد هذا النظام، واتهم رئيس حزب العمال وزارة المستعمرات بأنها ابتعدت في سياستها عما جاء في صك الانتداب البريطاني على فلسطين، وقدَّم نائب عمالي آخر اقتراح يلوم الحكومة لأنها تجاهلت موقف اللجنة الدائمة للانتدابات من الكتاب الأبيض لعام 1939، الذي تحفظت عليه تلك اللجنة، كما سارع بن جوريون إلى توجيه كتاب إلى المندوب السامي في فلسطين، أشار فيه إلى أن نظام انتقال الأراضي الجديد يعني أن أي يهودي لن يتمكن من حيازة أي قطعة صغيرة من الأرض أو البناء في أي منطقة سوى المدن وجزء صغير من البلاد، وأن هذا النظام يُنكر على اليهود المساواة أمام القانون ويفرق بين السكان على أسس عنصرية، إلا أن الضغوط الصهيونية لم تثن الحكومة البريطانية عن سياستها الجديدة تجاه انتقال الأراضي العربية إلى اليهود، مع بعض الاستثناءات التي ترتبت على السلطات الخاصة للمندوب السامي البريطاني على نحو ما سبق ذكره.
وعندما تقدمت الوكالة اليهودية في مايو 1944 بطلب لإقامة مستعمرات زراعية يهودية في أراضي الدولة تخصص للجنود اليهود المسَّرحين من الجيوش البريطانية، رفض المندوب السامي وقتئذ ذلك الطلب بالنسبة إلى المنطقتين (أ) و(ب)، إلا إذا كان إقامة هذه المستعمرات سيتم على أرض يملكها اليهود فعلاً، أو إذا كان انتقالها لا يتعارض مع أحكام نظام انتقال الأراضي الصادر عام 1940.
ولما كانت اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية تعلم أن أراضي الدولة مستثناة من أحكام ذلك النظام، فقد طالبت بتهيئة جزء من تلك الأراضي في المنطقتين (أ) و(ب) لتوطين الجنود المسرحين. وفي نوفمبر عام 1944 عاودت اللجنة التنفيذية للوكالة طلبها الخاص بتوطين الجنود اليهود المسرحين من الجيوش البريطانية، وبعد دراسة الموقف وافقت حكومة الانتداب على تخصيص 42500 دونم من أراضي الدولة لاستيطان اليهود في المنطقة الحرة.
ولم تتوقف نتيجة الاستثناءات الممنوحة للمندوب السامي على انتقال الأراضي التي سبقت الإشارة إليها إلى أيدي اليهود بعد العمل بنظام الأراضي الجديد، فقد وافق المندوب السامي أيضاً ما بين عامي 1941، 1946 على انتقال 2514 دونم في المنطقة (أ) و10837 دونم في المنطقة (ب) إلى أيدي اليهود كان بعضها بقصد التبادل لتجميع الممتلكات العربية واليهودية والبعض الآخر عن طريق البيع، فضلاً عن الأراضي التي كانت ضمن صفقات عُقدت وسُجلت في سجلات الأراضي قبل إعلان النظام الجديد، ويوضح ([url=http://file///C:/Documents and Settings/Bablo Zabatta Hamada/Application Data/Microsoft/Word/tab14.doc_cvt.htm]جدول مساحة الأراضي العربية واليهودية المزروعة وتوزيعها على المناطق المختلفة طبقاُ لإحصاء عام 1945[/url]) توزيع الأراضي العربية واليهودية المزروعة طبقاً لإحصاء حكومة الانتداب عام 1945.0
2. استغلال مشكلة اللاجئين اليهود في أوروبا لتهجيرهم إلى فلسطين
عندما فاضت أوروبا باللاجئين اليهود خلال السنوات الأولى للحرب، عقد مؤتمر في جزيرة برمودا في أبريل عام 1943 لبحث إغاثة المنكوبين عموماً، وقد رَكز ذلك المؤتمر على الجوانب الإنسانية للمشكلة، ولم يربط إغاثة اللاجئين بالأهداف الصهيونية لإقامة الدولة العبرية في فلسطين، وعلى ذلك أصدر المؤتمر قراراته المتعلقة بتشكيل وكالة إغاثة اللاجئين وإعادة توطينهم UNRWA، دون أن يربط التوطين بفلسطين، مما أغضب القيادات الصهيونية.
وقد توافق تأسيس وكالة إغاثة اللاجئين المشار إليها مع إنشاء هيئة لاجئي الحرب الأمريكية في أواخر عام 1943، وأعلنت تلك الهيئة أن الحكومة الأمريكية أصدرت تعليماتها لممثليها الدبلوماسيين في العالم بإعطاء الأولوية القصوى لإنقاذ الذين يواجهون الخطر على حياتهم في المناطق التي يسيطر عليها النازيون، والاتصال بالدوائر المختلفة لإزالة أية عقبات في طريق إنقاذ هؤلاء الناس، إلا أن القيادات الصهيونية كانت ترى أنه لا يكفي إرسال الطعام إلى اللاجئين اليهود وعدم وضع العراقيل في وجه الفارين من السيطرة النازية وتأمين انتقالهم عبر البلدان المحايدة، فلا قيمة لذلك في نظرها إذا لم يتم تهجير هؤلاء اللاجئين إلى فلسطين. وأعلن بن زيفي رئيس المجلس الوطني اليهودي في ذلك الوقت أن إنقاذ اليهود يعني إدخالهم إلى فلسطين ولا حل غير ذلك، وأنه إذا لم يتحقق هذا الغرض فلا معنى لذلك الإنقاذ.
وعندما تفاقمت مشكلة اللاجئين اليهود في أوروبا، طلب الرئيس الأمريكي "روزفلت" من "موريس ارنست" أحد مستشاريه اليهود بحث برنامج محدد لإنقاذ نصف مليون من اللاجئين اليهود في أوروبا واستيعابهم في مختلف بلدان العالم، وما أن أعلن موريس أرنست ـ بعد بحثه للموضوع ـ أن بريطانيا على استعداد لقبول مائة وخمسين ألف لاجئ إذا قبلت الولايات المتحدة مثل هذا العدد وتم توزيع الباقي على دول العالم، حتى هاجمته القيادات الصهيونية كما لو كان خائناً، لأنها رأت في برنامج الرئيس الأمريكي وما أعلنه موريس أرنست تخريباً للصهيونية السياسية ومشروع الدولة اليهودية في فلسطين.
وبالنسبة إلى الوكالة اليهودية فإنها حاولت منذ البداية استغلال مشكلة اللاجئين اليهود لتجاوز عدد المهاجرين الذي حددهم الكتاب الأبيض، فعندما اندلعت الحرب ألحت الوكالة اليهودية على حكومة الانتداب من أجل تهجير كل اليهود الذين تمكنوا من الهرب من ألمانيا والبلاد الواقعة تحت الاحتلال إلى المعسكرات الذي سارعت الوكالة بإقامتها في البلاد المحايدة، غير أن الحكومة البريطانية لم تقبل تهجير أكثر من 9600 يهودي على نحو ما سبق، ومن ثم عمدت الوكالة اليهودية إلى عمليات الهجرة غير الشرعية لتحقيق غايتها.
ومع تقدم الحرب وتراخي الحكومة البريطانية في تطبيق مبدأ رفض هجرة المنتمين إلى دول المحور والبلاد الواقعة تحت الاحتلال، عمدت الوكالة اليهودية إلى استغلال هذا التراخي لتهجير آلاف اليهود تحت دعوى جمع شمل الأسر اليهودية، كما طالبت بالسماح بتهجير أعداد أخرى من اليهود ادعت أن بعضهم كانوا من المواطنين الفلسطينيين والبعض الآخر كن زوجات لمواطنين فلسطينيين، وأخريات كن زوجات ليهود يقيمون في فلسطين ولم يكن أهلاً للمواطنة الفلسطينية، وقد طالبت الوكالة اليهودية بوضع هؤلاء في قائمة تبادل المواطنين بين ألمانيا وبريطانيا بحجة أنهم كانوا في زيارة أقربائهم عندما احتجزتهم سلطات الاحتلال الألماني، وقد استجابت الحكومة البريطانية من ناحيتها لذلك الطلب إلا أن السلطات الألمانية وضعت العقبات في طريق التنفيذ، فلم يُسمح إلا بتبادل الرجال والنساء الذين تجاوزت أعمارهم سن التجنيد العسكري.
وخلال المفاوضات التي دارت بين الوكالة اليهودية و الحكومة البريطانية في ربيع عام 1944 حول الهجرة اليهودية، طالبت الوكالة بالسماح لليهود الهاربين من "بلاد العدو" أو البلاد التي حررتها "قوات حكومة صاحب الجلالة" بالهجرة إلى فلسطين، ومنح اللاجئين اليهود الذين أبعدتهم السلطات البريطانية إلى جزيرة موريشوس الحق في دخول فلسطين، إلا أنه إزاء تصاعد عمليات الإرهاب الصهيوني في فلسطين في ذلك الوقت، رفضت الحكومة البريطانية في البداية المطالب اليهودية السابقة، إلا أنه إزاء الضغط الصهيوني قبلت الحكومة البريطانية في سبتمبر عام 1944 تخصيص شهادات هجرة لنحو 10300 يهودي من اللاجئين في دول البلقان وإيطاليا وفرنسا وسويسرا وهولندا وعدن وتركيا.
وقُرب نهاية الحرب عام 1945 قامت أجهزة الوكالة اليهودية في البلدان الأوروبية بحصر اليهود اللاجئين في تلك البلاد، وأنتهت عملية الحصر إلى وجود ربع مليون لاجئ في البلدان التي تم تحريرها في وسط وشرق أوروبا والاتحاد السوفيتي، وكان من الواضح للمسؤولين في الوكالة أن سياسة الكتاب الأبيض لن تسمح بتهجير كل هؤلاء اللاجئين، ما لم تتحول الحكومة البريطانية عن تلك السياسة.
وفي 18 يونيه عام 1945 تقدمت الوكالة اليهودية بطلب إلى المندوب السامي البريطاني في فلسطين تدَّعي فيه أنه بعد دراسة مسائل الإيواء والإعاشة فإنه أصبح في الإمكان تهجير مائة ألف يهودي إلى البلاد منهم خمسة عشر ألف من الصبية الذين فقدوا الوالدين وستة وأربعين ألف من القادرين على العمل وخمسة وثلاثين ألف من المعالين، إلا أن حكومة الانتداب رفضت طلب الوكالة اليهودية، وإن سمحت في سبتمبر من نفس العام بدخول المهاجرين غير الشرعيين التي كانت تلك الحكومة قد أبعدتهم إلى جزيرة موريشوس في نهاية عام 1940.
3. تنظيم الهجرة غير الشرعية والإشراف عليها
كانت الهجرة غير الشرعية هي الوسيلة الرئيسية للوكالة اليهودية والمنظمات الصهيونية الأخرى للتغلب على قيود الهجرة التي فرضها الكتاب الأبيض وتهجير أعداد من اليهود أكبر مما حددته الحكومة البريطانية في ذلك الكتاب، ولم يكن هذا النوع من الهجرة جديداً على الوكالة اليهودية والمنظمات الصهيونية الأخرى، فقد بدأت تلك الهجرة منذ أواخر العشرينيات، إلا أنه في الوقت الذي كانت فيه الوكالة تشجع هذه الهجرة سراً فإنها كانت تدَّعي عدم مسؤوليتها عن حدوثها، مشيرة إلى أن هذا النوع من الهجرة يحدث غالباً من العرب.
غير أن تقرير الحكومة البريطانية إلى مجلس عصبة الأمم عن إدارتها لفلسطين خلال عام 1934 يؤكد على أن سلطات الانتداب كانت تُولي اهتماماً خاصاً للاستيطان غير الشرعي الذي يقوم به اليهود في أغلب الأحوال، وأن عدد هؤلاء المستوطنين قد بلغ 22400 يهودي خلال عامي 1932 و1933، وقد اعترفت الوكالة اليهودية في تقاريرها عام 1935 بهذه الهجرة معللة حدوثها بأن اليهود الذين لم يمكنهم انتظار دورهم في الحصول على شهادات الهجرة الرسمية كانوا يبحثون عن أي وسيلة تمكنهم من دخول فلسطين.
وكانت الهجرة غير الشرعية موضع بحث لجنة بيل مع الوكالة اليهودية عام 1936 بعد أن تبين لتلك اللجنة أن عدد المهاجرين اليهود غير الشرعيين خلال عامي 1933، 1934 وحدهما قد بلغ 40300، وكان هؤلاء المهاجرون يدخلون فلسطين براً عبر حدود الدول العربية المجاورة، وبحراً في سفن خُصصت لهذا الغرض بمساعدة المنظمات الصهيونية في فلسطين وخارجها، وقدرت حكومة الانتداب عدد المهاجرين اليهود الذين دخلوا فلسطين بطرق غير شرعية بما يراوح بين ثلاثين ألف وأربعين ألف يهودي.
وعندما أعلن الكتاب الأبيض لعام 1939، قامت الوكالة اليهودية نفسها بالإشراف المباشر على تنظيم الهجرة اليهودية غير الشرعية، وقد برر بن جوريون هذه الهجرة بأنه في الوقت الذي حدَّ فيه الكتاب الأبيض من الهجرة اليهودية الشرعية إلى فلسطين، فإن بلدان العالم الأخرى أقفلت أبوابها أمام الهجرة اليهودية بعد أن فاضت أوروبا باللاجئين اليهود.
وتوضح تقارير وزارة المستعمرات البريطانية أن المنظمة الصهيونية العالمية كانت تخصص عدداً من السفن التي تجوب البحر الأبيض لنقل هؤلاء المهاجرين من الموانئ التي يتجمعون فيها، ثم يتم نقلهم إلى الشاطئ الفلسطيني بواسطة قوارب صغيرة تسمح بتسربهم خلسة إلى تلك البلاد.
ومع تزايد الهجرة اليهودية غير الشرعية في أولى سنوات الحرب، اتخذت حكومة الانتداب إجراءات مشددة ضد المهاجرين غير الشرعيين منها سجن المهاجر لمدة 6 أشهر مع دفع غرامة تعادل مائة جنيه استرليني ومصادرة السفن الصغيرة التي تحمل هؤلاء المهاجرين، إلا أن الإجراءات السابقة لم تردع الوكالة اليهودية والمنظمات الصهيونية عن الاستمرار في تنظيم تلك الهجرة، فاتخذت حكومة الانتداب قراراً في 13 أغسطس عام 1940 يقضي بحرمان المهاجرين غير الشرعيين الذين يضبطون من البقاء في فلسطين وإبعادهم إلى قبرص أو أي مكان آخر حتى يتم اتخاذ قرار بشأنهم، مع تغريم صاحب وسيلة النقل المستخدمة في نقل المهاجرين غير الشرعيين وكذلك الذين ساعدوا على وصولهم إلى الأراضي الفلسطينية بغرامة تساوي ألف جنيه فلسطيني أو السجن لمدة ثماني سنوات.
وبالرغم من تشديد الرقابة البريطانية على الحدود الفلسطينية خلال سنوات الحرب، فقد بلغ عدد المهاجرين غير الشرعيين من اليهود19965 مهاجراً خلال تلك الفترة وحتى مارس 1944.
4. نقل ثقل النشاط الصهيوني إلى الولايات المتحدة الأمريكية
مع دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب قدَّر زعماء الحركة الصهيونية أنه سيكون لها الكلمة الأولى في السياسة الدولية بعد الحرب، ومن ثم قرر هؤلاء الزعماء نقل ثقل النشاط الصهيوني إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فاجتمعت كل المنظمات والجماعات الصهيونية في أول مؤتمر للحركة الصهيونية الأمريكية بفندق "بلتيمور" في نيويورك خلال الفترة من 9 إلى 11 مايو 1942، للحصول على تأييد الحكومة الأمريكية من أجل إلغاء الكتاب الأبيض، وفي هذا المؤتمر تمت الموافقة على المشروع الذي عرف فيما بعد باسم "برنامج بلتيمور" جاء فيه:"أن النظام الجديد للعالم، الذي سيجئ في أعقاب النصر، لا يمكن أن يستقر على أساس من السلام والعدل والمساواة ما لم تُحل مشكلة اليهود المشردين بشكل نهائي، ويستحث المؤتمر:
أ. فتح أبواب فلسطين للهجرة اليهودية.
ب. تخويل الوكالة اليهودية الإشراف على الهجرة إلى فلسطين والسلطة اللازمة لبناء الإقليم بما في ذلك تطوير أراضيه غير المحتلة وغير المنزرعة (المزروعة).
ج. قيام فلسطين باعتبارها كومنولث يهودي يدخل في تكوين العالم الديمقراطي الجديد". وكانت القرارات السابقة بمثابة انتصار لتوجهات بن جوريون الداعية إلى الإسراع بإقامة الدولة اليهودية في فلسطين على عكس سياسة التدرج التي كان يتبعها حاييم وايزمان، وقد نجح بن جوريون بعد عودته من مؤتمر بلتيمور في الحصول على موافقة المجلس التنفيذي الصهيوني على قرارات ذلك المؤتمر، وبذلك أصبحت تلك القرارات هي البرنامج الرسمي للوكالة اليهودية والحركة الصهيونية. كما كان مؤتمر بلتيمور بمثابة المحطة التي غيرت فيها الحركة الصهيونية جيادها، فاستبدلت الجواد البريطاني العجوز الذي استنفذ أغراضه بالجواد الأمريكي ـ الذي تنبأت بخروجه من الحرب أقوى المنتصرين – ليحملها خلال مرحلة إنشاء الدولة اليهودية.وقد ظهر النشاط الصهيوني والنفوذ اليهودي في الولايات المتحدة في سلسلة الحملات الإعلامية التي شنتها وسائل الإعلام الأمريكية خلال الحرب لاثارة تعاطف الشعب الأمريكي مع المطالب الصهيونية، باستغلال اضطهاد النازي لليهود في أوروبا والمبالغة في أحداث هذا الاضطهاد، وتنظيم قوة ضغط يهودية كانت بداية اللوبي (جماعات الضغط) الصهيوني الأمريكي فيما بعد.
وقد نجحت الحملات الإعلامية وصفقات المصالح الذي عقدها زعماء الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة مع عدد من السياسيين وأعضاء الكونجرس الأمريكي في تشكيل قوة ضغط على الإدارة الأمريكية لمساندة المطالب اليهودية والمشروع الصهيوني في فلسطين، وتوضح الوثائق الأمريكية المنشورة الجهود التي بذلتها تلك الإدارة لإقناع زعماء الكونجرس الأمريكي بعدم اتخاذ قرارات مساندة للمطالب الصهيونية المتطرفة، كانت تهدف إلى إلغاء القيود على الهجرة اليهودية وإنشاء الدولة العبرية على كل التراب الفلسطيني فور انتهاء الحرب، خوفاً من ردود الفعل العربية والإسلامية التي يمكن أن تضر المصالح الأمريكية بمنطقة الشـرق الأوسط.
وقد ظل موقف الرئيس روزفلت بعد مؤتمر بلتيمور غامضاً، وقد وصف بن جوريون ذلك الموقف بقوله أن روزفلت "كان حساساً تجاه مأساة يهود أوروبا، وربما كان يعطف على الطموحات الصهيونية، ولكنه لم يعتقد يوماً بأن فلسطين الصغيرة يمكن أن تشكل حلاً للشعب اليهودي".
وحاول الرئيس الأمريكي أن يكون رأياً محايداً تجاه القضية الفلسطينية فأرسل مندوبين عنه إلى المنطقة في ربيع عام 1943 لاستطلاع الموقف والآراء فيها بشكل مباشر بعيداً عن الدعايات الصهيونية هما الجنرال "باتريك هاركي" والكولونيل "هوسكنس"، وأوضح الأول في تقريره المؤرخ في مايو 1943، أن المطالب الصهيونية تهدف إلى إقامة دولة يهودية تشمل كل فلسطين وربما شرق الأردن، مع نقل السكان الفلسطينيين العرب إلى العراق، والهيمنة الاقتصادية على كل الشرق الأوسط، أما الكولونيل هوسكنس فقد نصح ـ على ضوء ما شاهده وسمعه خلال زيارته للمنطقة ـ بعدم اتخاذ قرار بشأن فلسطين إلا بعد الحرب وبعد مشاورات بين العرب واليهود، وهو الرأي الذي جنح إليه الرئيس روزفلت وتبلور في رسالة بعث بها إلى الملك عبدالعزيز آل سعود في 5 يونيه 1943 يوضح فيها رغبته في توصل العرب واليهود إلى تفاهم ودي حول فلسطين، ومؤكداً على موقف الولايات المتحدة الأمريكية الذي يرى عدم اتخاذ أي قرار يغير من وضع فلسطين الأساسي دون استشارة كاملة مع العرب واليهود.
وظل ذلك هو الموقف الأمريكي المعلن حتى عام 1944 الذي رشح فيه الرئيس الأمريكي نفسه للمرة الرابعة على نحو غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة، في الوقت الذي بلغت فيه حملات الدعاية الصهيونية والضغوط اليهودية قمتها، وتسابق مجلساً الشيوخ والنواب في اتخاذ القرارات المؤيدة للمطالب الصهيونية، وإزاء الضغوط اليهودية ومطالب حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية وجَّه الرئيس روزفلت في 15 أكتوبر من ذلك العام رسالة إلى السناتور "روبرت واجنر" رئيس الجمعية اليهودية الأمريكية، بمناسبة انعقاد المؤتمر السابع والأربعين للمنظمة الصهيونية الأمريكية، أعلن فيها تأييد الحزب الديمقراطي لفتح أبواب فلسطين للهجرة غير المحدودة والاستيطان اليهودي فيها.
وقد أثار موقف الكونجرس والرئيس الأمريكي خلال عامي 1944 و1945 ردود فعل عربية واسعة، تمثلت في حملة ضغط عربية مضادة للحد من تأثير الضغوط السياسية الأمريكية تجاه فلسطين، وتشير الوثائق الأمريكية المنشورة إلى الرسائل المتبادلة بين الرئيس روزفلت والملوك والرؤساء العرب حول هذا الموضوع. ولما كانت وزارتا الخارجية والحربية الأمريكية وأصحاب شركات البترول يلفتون نظر الرئيس الأمريكي إلى أهمية المصالح الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة العربية، فقد حاول الرئيس روزفلت أن يتخذ لنفسه موقفاً وسطاً، فلم ينفذ ما وعد به الجمعية اليهودية الأمريكية بعد انتخابه وأعاد تكرار وعده للملك عبدالعزيز عند عودته من يالتا، في 14 فبراير 1945 بعدم اتخاذ قرار حاسم بشأن المشكلة الفلسطينية، إلاّ بعد التشاور مع العرب واليهود.
5. اللجوء إلى الإرهاب للضغط على الحكومة البريطانية
عندما صدر الكتاب الأبيض، في مايو 1939، هددت الوكالة اليهودية باللجوء إلى العنف لمقاومة تنفيذ السياسة البريطانية لذلك الكتاب، وبدأت منظمة الأرجون المعارضة للوجود البريطاني في فلسطين عملياتها الإرهابية ضد العرب في البداية ثم ضد حكومة الانتداب ومنشآتها بعد ذلك، إلا أن الوكالة اليهودية التي كانت ترفض علميات الإرهاب ضد البريطانيين والمرافق العامة علناً لم تتورع عن دعمها وتشجيعها سراً قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، كما نظمت الوكالة عمليات تهريب السلاح من المستودعات البريطانية وتوزيعه على المستعمرين اليهود وقوات الهجناه.
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية جَّمدت المنظمات اليهودية نشاطها الإرهابي تماشياً مع السياسة اليهودية تجاه التعاون مع البريطانيين خلال تلك الحرب، إلا أنها سرعان ما استأنفت نشاطها فور انحسار التهديد الألماني ومطاردة القوات البريطانية لقوات روميل في شمال أفريقيا عام 1943، وقد أدى التزام منظمة الأرجون بوقف الأعمال الإرهابية خلال المرحلة الأولى من الحرب إلى انشقاق بعض أعضائها الذين كونوا عصابة إرهابية أخرى بزعامة "إبراهام شتيرن" رفضت الالتزام بوقف الأعمال الإرهابية خلال الحرب.
وقد تفاوتت مواقف وسياسات المنظمات الصهيونية من الإرهاب خلال السنوات الأخيرة من الحرب، حيث قررت منظمة الأرجون ـ بعد تولي مناحم بيجين قيادتها ـ استئناف نشاطها اعتباراً من عام 1943 والتعاون من منظمة شتيرن في شن حملة إرهابية ضد الوجود البريطاني في فلسطين الذي عدته هاتان المنظمتان احتلالاً للبلاد ضد رغبة التجمع اليهودي فيها (الييشوف)، متجاهلين أن بريطانيا هي التي عملت على زرع هذا التجمع في فلسطين منذ ظهور الحركة الصهيونية.
وقد فسر مناحم بيجين في مذكراته فلسفة حملة الإرهاب ضد حكومة الانتداب بقوله "إن البريطانيين يعتمدون في حكمهم للشعوب المتخلفة على نفوذ هيبتهم، وقد اقتنعنا من التاريخ وتجاربنا بأننا إذا تمكنا من تحطيم هيبة الحكومة البريطانية، فإن زوال حكمها سيتبع ذلك تلقائياً، ولذلك هاجمنا باستمرار نقطة الضعف هذه".
وشهد عام 1944 وحتى نهاية الحرب تزايداً كبيراً في العمليات الإرهابية لمنظمتي الأرجون وشتيرن، وأمتدت أيدي الإرهاب الصهيوني إلى كبار رجال حكومة الانتداب في فلسطين، ولم ينج المندوب السامي "السير هارولد ماك مايكل" وزوجته من الموت إلا بأعجوبة، كما حاول الإرهابيون اغتيال عدد من كبار المسؤولين البريطانيين خارج فلسطين، ونجح بعض أعضاء منظمة شتيرن في اغتيال "اللورد موين" في القاهرة في نوفمبر عام 1944.
أما بالنسبة إلى الوكالة اليهودية ومنظمتها الهجناه، فقد اصطنعت موقفاً معارضاً للنشاط الإرهابي لمنظمتي الأرجون وشتيرن منذ عام 1943، في الوقت الذي كانت تشجع فيه نشاطات هاتين المنظمتين بالنسبة إلى التسلح والتدريب العسكري وتنظيم الهجرة غير الشرعية، إلا أن موقف حكومة الانتداب المتشددة تجاه الإرهاب الصهيوني بعد مقتل اللورد موين وحملات الاعتقال والنفي التي لجأت إليها تلك الحكومة لقمع ذلك الإرهاب أثارت يهود الييشوف ضد الإرهابيين ودفع الوكالة اليهودية إلى التعاون مع سلطات الانتداب لمقاومة الإرهاب ومحاولة إقناع قادة منظمتي الارجون وشتيرن بالإقلاع عن العمليات الإرهابية.
وأصدرت الوكالة اليهودية بياناً تستنكر فيه أساليب الأرجون في السطو على المصارف والمؤسسات الحكومية وفرض الإتاوات على أثرياء اليهود، كما أصدرت الهجناه منشوراً هاجمت فيه منظمتي الأرجون وشتيرن، ووجَّهت إليهما تُهَم قطع الطرق والاتجار في المخدرات والسوق السوداء.
وأعرب بن جوريون عن الموقف الجديد للوكالة اليهودية تجاه إرهاب منظمتي الارجون وشتيرن في خطبة مفصلة ألقاها في مؤتمر الهستدروت آنذاك بقوله "أنه لا يوجد أي سبب يمنع اليهود من أن يتعاونوا مع السلطات البريطانية في سبيل الهدف المشترك "، وقدم بن جورين في هذا المؤتمر برنامجاً لمكافحة الإرهاب يرتكز على أربع نقاط هي:
أ. الطرد من العمل لكل من يعمل أو يتعاون مع منظمتي الارجون وشتيرن.
ب. عدم إيواء أو حماية أي إرهابي حتى لو كان في أحلك الساعات.
ج. عدم الرضوخ للتهديد والابتزاز الذي يصدر من هاتين المنظمتين.
د. التعاون مع سلطات الانتداب لقمع الإرهاب.
-------------------------
[1] كان دور الكتائب محصوراً في الدفاع المحلي وحراسة المنشآت والمرافق في داخل الأراضي الفلسطينية.
[2] نجحت ضغوط القيادات الصهيونية ومساندة تشرشل لها، في تشكيل القوة اليهودية في النهاية في شكل لواء مشاة عام 1944.