تبعات الحرب على غزة
كتبت في 30/12/2008 بأن المقاومة الفلسطينية في غزة ستصمد، وأن إسرائيل ستفشل في تحقيق أهدافها بخاصة فيما يتعلق بتغيير الأوضاع السياسية في غزة، وقلت إن تبعات هامة ستترتب على صمود المقاومة سواء على المستوى الفلسطيني أو الإقليمي.
وقد أمسى واضحا الآن أن إسرائيل قد فشلت في تحقيق أي من أهدافها والمتمثلة في وقف الصواريخ وكسر ظهر المقاومة الفلسطينية وبالذات ظهر حماس، وإعادة قطاع غزة إلى بيت الطاعة بإدارة السيد محمود عباس ومساعديه، ثم استكمال تنفيذ المشروع الإسرائيلي الأميركي في تصفية القضية الفلسطينية. وأصبح واضحا أن المقاومة قد نجحت لأنها أفشلت العدوان الصهيوني وحالت دون تحقيق أهدافه.
الخسائر ونتائج الحرب
"اعتاد الصهاينة على قتل المدنيين من أجل إركاع العسكريين, هكذا فعلوا ضد مصر والأردن ولبنان وفلسطين, لكن المقاومة صمدت ولم تنحن أمام هول المجازر، وها هي حاولت في غزة وبقي المقاومون صامدون"
هناك من يتحدى هذه النتيجة فيقول إن إسرائيل انتصرت والمقاومة هُزمت لأن حجم الخسائر الفلسطينية في النفوس والعمران والبنى التحتية كبير جدا، في حين أن خسائر إسرائيل قليلة جدا.
وقد برزت هذه الجدلية بعدما وضعت حرب 2006 أوزارها، وأصر أناس ومحللون على أن حزب الله قد هزم. هذه المقولة تحمل أغلوطة في المنطق الإستراتيجي، وهي تعتمد على أرقام الخسائر دون استدعاء أهداف الحرب وما أُنجز منها.
نتيجة الحرب لا تقاس بالخسائر، وإلا فإن كل كلامنا عن انتصار الثورة الجزائرية والثورة الفيتنامية عبارة عن هراء. تاريخيا، تمتلك القوة المحتلة أو الاستعمارية قوة عسكرية هائلة بالمقارنة مع الوسائل البدائية التي تمتلكها المقاومة، وهي قادرة على التدمير والقتل الجماعي، في حين يصعب على الثوار الوصول إلى أهداف العدو العسكرية والمدنية.
لكن الغلبة في النهاية لمن يملك الإرادة الأصلب، ولمن يتحمل حتى النهاية. الثوار عادة أصحاب عقيدة وإرادة، ومستعدون للقتال حتى النهاية، أما قوى الاستعمار فلا تملك غير المصالح التي تهون في النهاية أمام الخسائر التي تتكبدها.
اعتاد الصهاينة على قتل المدنيين من أجل إركاع العسكريين. هكذا فعلوا ضد مصر والأردن ولبنان وفلسطين. قاموا بتدمير القرى في لبنان عام 2006، وقتلوا المدنيين بالجملة، لكن المقاومة صمدت ولم تنحن أمام هول المجازر، وها هي حاولت في غزة وبقي المقاومون صامدين.
التبعات المتوقعة
هناك عدد من التبعات المتوقعة لصمود المقاومة الفلسطينية أذكر منها التالي:
1- يقين إسرائيل
ربما ظنت إسرائيل أن حزب الله عبارة عن حالة فريدة من نوعها في الإعداد والاستعداد للحرب، وحاولت استعادة هيبتها العسكرية بالهجوم على حماس. وقد تفاءلت جدا عندما حسبت هي وأعوانها من الأنظمة العربية أن أهدافها ستتحقق خلال أربعة أيام.
بعد مرور عشرين يوما أيقنت إسرائيل أن تجربة حزب الله قائمة في غزة، وأن تحقيق الأهداف بعيد المنال. اصطدمت إسرائيل بمقاومة فلسطينية صلبة، وبإرادة حديدية تحمل الموت في عيونها. استعملت إسرائيل الجزء الأكبر من قدراتها الجوية، وآخر ما توصلت إليه الولايات المتحدة من تقنية تدميرية، لكن المقاومة بقيت شرسة، وفي ذات الزخم الذي ابتدأت به.
إذا كانت إسرائيل عاجزة عن تحقيق نصر على مقاومة فلسطينية محاصرة منذ زمن بعيد ومحصورة في بقعة جغرافية صغيرة، فماذا يمكن أن تفعل مستقبلا أمام قوى عربية وإسلامية عدة تمتلك الوسائل والأساليب المتنوعة، وتمتلك فوق ذلك العقيدة الصلبة والإرادة التي لا تلين؟ بالتأكيد سيبدأ قادة إسرائيل ومفكروها وعلماؤها بالتفكير بقسوة الأيام القادمة، وعيونهم نحو وجود إسرائيل وليس الثأر لمهانة جيشهم.
إسرائيل ستنام قلقة من يقين ولدته معاركها بأن المقاومة ذات بأس شديد، وأنها أصبحت قادرة على جمع الناس وإثبات صدقيتها للصديق والعدو على حد سواء.
2- نقطة الارتكاز الفلسطينية
"غزة اليوم هي نقطة ارتكاز أو رأس جسر للمقاومة الفلسطينية, فصمود المقاومة هيأ الأرضية الصلبة لتطوير المقاومة من مختلف النواحي التسليحية والتنظيمية والتكتيكية، وسيؤدي حتما إلى اكتساب المزيد من القوة"
غزة اليوم هي نقطة ارتكاز أو رأس جسر للمقاومة الفلسطينية. صمود المقاومة هيأ الأرضية الصلبة لتطوير المقاومة من مختلف النواحي التسليحية والتنظيمية والتكتيكية، وسيؤدي حتما إلى اكتساب المزيد من القوة.
الحرب على غزة عبارة عن أول حرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أرض فلسطين، وهذا بحد ذاته عبارة عن تطور إستراتيجي هام جدا من حيث أن المعركة تدور رحاها على أرض فلسطين وليس على أرض الجوار.
تنظر إسرائيل إلى هذا التطور بخطورة كبيرة، وهي تعي الآن أن الحرب لم تعد على مسافة بعيدة من تجمعاتها السكانية، وأن جزءا هاما من نظريتها الأمنية قد سقط بالفعل.
تقول النظرية الأمنية الإسرائيلية إن حروب إسرائيل يجب أن تجري على أرض الغير بعيدا عن التجمعات السكانية اليهودية، ولا بد للمتمسكين بهذا القول أن يراجعوا حساباتهم الآن.
3- انتصار فكر المقاومة الإسلامية
أثبتت حرب عام 2006 أن هزيمة إسرائيل ممكنة إذا توفرت الإرادة لدى العرب وأعدوا واستعدوا. حزب قليل بأعداده كثير بنفيره استطاع أن ينهك الجيش الإسرائيلي ويرده خائبا وذلك بسبب مقاربة علمية صحيحة لأساليب ووسائل المواجهة العسكرية.
تعزز هذا النصر الآن بقدرة المقاومة الفلسطينية في غزة على إفشال كل أهداف إسرائيل من وراء هذه الحرب. وربما يكون هذا الفشل أشد وقعا في نفوس المؤيدين لإسرائيل ونفوس المؤيدين للمقاومة من فشل عام 2006 لأن قطاع غزة محاصر تماما وصغير جدا في مساحته.
حاول عرب كثر بخاصة على مستوى الأنظمة العربية التشكيك بانتصار حزب الله، وقالوا بأن خسائر لبنان في النفوس والممتلكات كانت كبيرة جدا بالمقارنة مع خسائر إسرائيل، واستنتجوا بناء على ذلك أن حزب الله قد هُزم.
جاءت هذه الحرب لتؤكد أن الخسائر ليست المعيار في تحديد الفشل والنجاح، وأن الحروب تُقاس بنتائجها على الأرض. أمام هذا الصمود الأسطوري لغزة أمام آلة الحرب الإسرائيلية الضخمة لا يملك العربي إلا أن يفكر مليا بأسباب صمود المقاومتين اللبنانية والفلسطينية في حين أن جيوشا عربية هزمت بسهولة وولت الأدبار.
ولا بد أن يتساءل العربي الآن حول الجدلية التي يسمعها باستمرار ضد جدوى المقاومة، وربما يكتشف أن هزيمة إسرائيل أسهل بكثير مما تحاول الجهات الباحثة عن سلام تصويره.
مرّ زمن على ملايين العرب يلعنون فيه الحروب والمقاومة، واستسلموا لنتيجة بأن هزيمة إسرائيل مستحيلة، وأن جيشها لا يُقهر، ومن المحتمل جدا الآن أن يخلص هذا العربي إلى نتيجة بأن العلة ليست في قوة إسرائيل وإنما في العرب الذين أصروا على إبقاء أنفسهم ضعفاء.
بمعنى أن فكر المقاومة القائم على العقيدة الإسلامية سيتطور وسيكتسب زخما جديدا وقويا على الساحة العربية، وهو سيتغذى على فكر التسوية. وتقديري أن القادة العرب الساعين إلى حل مع إسرائيل سيجدون مهمتهم الآن أكثر صعوبة مما كانت عليه، وسيجدون رأيا عاما عربيا أكثر قدرة على تحدي سياساتهم.
4- انهيار فتنة السنة والشيعة
"في الحرب على غزة، بات واضحا أنه لم يكن من الممكن أن تكتسب المقاومة الفلسطينية السنية هذه القوة في الوسائل والأساليب لولا دعم أهل الشيعة, ولم يعد بعد هذه الحرب مجال للغباء فيما يتعلق بهذه المسألة"
حاولت أنظمة عربية عدة ومعها إسرائيل وأميركا بث فتنة بين السنة والشيعة كأداة لعزل إيران وحزب الله عن المحيط السني. أبدت الأنظمة ومن معها من أعداء الإسلام في الغرب حرصا شديدا على أهل السنة، وحاولت إيهام الناس بأن إيران وحزب الله يتربصان بالأمة، وغدا ستنقض إيران وتجبر السنة على تغيير مذهبهم. انطلت هذه المسألة على العديد من الناس، وتبنى فكرة الفتنة الكثير من عامة الناس الذين لا يدرون شيئا عن الخلافات بين السنة والشيعة.
في الحرب على غزة بات واضحا أنه لم يكن من الممكن أن تكتسب المقاومة الفلسطينية السنية هذه القوة في الوسائل والأساليب لولا دعم أهل الشيعة. قادة السنة الذين انبروا للدفاع عن أهل السنة ضد ما سموه بالغزو الشيعي لم يقدموا أي دعم للمقاومة السنية، بل هم الذين شاركوا في حصار غزة وشجعوا عليه، وهم الذين شجعوا إسرائيل على القيام بحرب تنهي فيها المقاومة الفلسطينية.
لم يعد بعد هذه الحرب مجال للغباء فيما يتعلق بهذه المسألة، بخاصة أن إسرائيل وأهل الغرب وعددا من الأنظمة العربية تتهم إيران وحزب الله بدعم حماس والجهاد الإسلامي. وقد ردّ حزب الله على هذه التهمة قائلا بأن هذه ليست تهمة لأن حزب الله يدعم حماس بالعلن.
5- اهتزاز السلطة الفلسطينية
السلطة الفلسطينية في رام الله مهتزة لأنها لم تحقق شيئا للشعب الفلسطيني، وهي الآن أكثر اهتزازا لأن خيار المقاومة يثبت نفسه. كانت تبث السلطة الفلسطينية ثقافة تندرية واستهزائية من حماس على اعتبار أنها تنظيم من رجال دين لا يفهمون بالسياسة ولا بالقتال، وهم فقط يعرفون كيف يصومون ويصلون دون أن تعمر قلوبهم تقوى الله، ولا اظنها تستطيع الآن السير قدما في هذا البث لأن المتدينين أثبتوا أنهم جدّوا واجتهدوا ونظموا ودربوا واستعدوا، وأثبتوا ثباتا وإقداما وشجاعة لا مثيل لها. لم يترك أحد منهم موقعه، ولم يول أحد دبره، وحالوا دون تحقيق أي من الأهداف الإسرائيلية.
حتى أثناء الحرب عملت عناصر السلطة على تشويه حركة حماس من خلال التشكيك بالقيادات التي وصفت بالمختبئة والتي تضحي بالآخرين من المساكين لكي تبقى في صدارة الحكم. كثيرون كانوا يتساءلون عمن وصفوا بالقيادات التلفزيونية في محاولة للتأثير على معنويات الناس وكسب ودّهم لصالح السلطة. وقد أسقط بأيدي هؤلاء بعد استشهاد الشيخ سعيد صيام.
فضلا عن أن الانطباع العام الموجود لدى غالبية ساحقة في الضفة الغربية بأن السلطة الفلسطينية متواطئة مع إسرائيل، وأن الهدف الأول لإسرائيل كان إعادة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة والتخلص من حماس. وقد أثبت موالون للسلطة هذا الانطباع عندما أعربوا عن ابتهاجهم للحملة الإسرائيلية وهي في أيامها الأولى.
6- التقدم الشعبي العربي
"مثلما ألقت نتائج حرب عام 2006 بظلالها على مجمل الوضع العربي ومن ضمنه صمود المقاومة في غزة، ستلقي نتائج هذه الحرب بظلالها على القضية الفلسطينية ومسار الصراع العربي الإسرائيلي برمته"
واكب هذه الحرب تفاعلا شعبيا عربيا واسعا، وخرجت المظاهرات الضخمة في عدد من المدن العربية، وحاول المشاركون فيها المسّ بمحرمات النظام مثل الاقتراب من السفارات الصهيونية الموجودة في البلدان العربية.
وقد كان واضحا من خلال بعض المواجهات التي تمت مع الأجهزة الأمنية العربية بأن الجمهور يكتسب جرأة أرقى مما كنا نشاهده في السابق، وهو يعبر عن نفسه الآن بصورة أكثر وضوحا. وقد لوحظ أيضا أن العديد من المتدينين البارزين في أقطار عربية عدة قد اكتسبوا شجاعة في إصدار فتاوى الجهاد وإدانة الحكام.
لم يكتسب العربي بعد الجرأة الكافية التي تمكنه من إسقاط حكومات أو إسقاط أنظمة، لكن هذه مسألة تراكمية لا بد أن تأخذ مداها، وسيمر وقت حتى يصل العربي إلى مرحلة الإصرار على إجبار الأنظمة على تبني سياسات معينة.
وبإمكان المقاومة الفلسطينية أن تساهم مباشرة في تحسين أداء الجمهور إن هي أبقت نفسها بين الجماهير ولم تحسم نفسها على الأنظمة العربية. إن فعلت ذلك فإنها ستبقى مخيفة بالنسبة للأنظمة، وسيخطب الحكام ودها، وستبقى ضمن حاضنتها الحقيقية وهي جمهور الأمة.
هذه حرب تميزت بصلابة العقيدة ورسوخ الإرادة المدعومة باستعداد وإعداد على مستوى عال من الذكاء، وهي تشكل نقطة تحول تاريخية تلقي بظلالها على مجمل التفكير الإستراتيجي العربي سواء كان على مستوى القيادات السياسية أو النخب المثقفة.
ومثلما ألقت نتائج حرب عام 2006 بظلالها على مجمل الوضع العربي ومن ضمنه صمود المقاومة في غزة، ستلقي نتائج هذه الحرب بظلالها على القضية الفلسطينية ومسار الصراع العربي الإسرائيلي برمته
.
ــــــــــ
كاتب فلسطيني