الحمد لله العلي الأعلم ، علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ، الحمد الله الذي حرم الظلم ، ومنع الحقوق أن تهضم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الأعظم ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأكرم ، عالي الذكر الأشم ، دعا إلى المحبة والسلم ، ونهى عن القهر والظلم ، أفضل من أطاع ربه وأسلم ، صل الله عليه وسلم ، وعلى آله وأصحابه أهل الشيم والكرم ، أما بعد : فاتقوا الله أيها الناس والتزموا بالميثاق ، وتأسوا بأحسن الأخلاق ، وتذكروا يوم الورود على العليم الخلاق ، واخشوا يوم الفراق ، الظلم وعاقبته وَمَا يَنظُرُ هَؤُلَاء إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ).
قالَ اللهُ تباركَ وتعالى في الحديثِ القدسيِّ :" يَا عبادِي إنِِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفْسِي ؛ وجعلتُهُ بينَكُمْ مُحرَّماً : فَلا تَظالَمُوا" [ أخرجَهُ مسلمٌ مِنْ حديثِ أبي ذرٍّ الغفاريِّ ] .
لـمَّا كانَ الظُّلمُ والعُدوانُ : مُنافِيَينِ للعدْلِ والحقِّ الذي اتَّصفَ بهِ الملِكُ الديَّانُ ، ومنافِيَينِ للميزانِ ؛ الذي قامتْ بهِ الأرضُ والسماواتُ ، وحُكِمَ بهِ قِسطاً وعدلاً بيْنَ جميعِ المخلوقاتِ ، كانَ الظُّلمُ والعُدوانُ عندَ اللهِ تعالى مِنْ أكبرِ الكبائرِ والـمُوبقاتِ ، وكانتْ درَجتُهُ فِي الـجُرْمِ والإثمِ بحسَبِ مفسدتِهِ فِي الأفرادِ والمُجتمعاتِ.
إن الظلم ذنب عظيم ، وإثم مرتعه وخيم ، هو سبب الفساد والفتن وسبيل الموبقات ، ومصدر الشرور ، متى فشا في أمة أذن الله بأفولها و حصل أسباب زوالها ، قال الله: { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً } .
يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا تردّ دعوتهم : الصائم حين يفطر ، والإمام العادل ، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ، ويفتح لها أبوابَ السماء ، ويقول لها الرب : وعزَّتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعدَ حين " [ أخرجه أحمد والترمذي وحسنه ] ، فسبحان من سمع أنينَ المظلوم ، وسمع نداءَ المكروب المغموم ، فرفع للمظلوم مكاناً ، وجعل الظالم مهاناً ، عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسولُ الله صل الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ لَيُملي للظالم ، حتىٰ إذا أخذَه لم يُفلِتْه " ثم قرأ : { وكذلكَ أخذُ رَبِّكَ إذا أَخَذَ القُرَى وهي ظالمة إنَّ أخذَهُ أليمٌ شديد} [ متفق عليه ] ، فاحذروا الظلم يا عباد الله ، فأجسادكم على النار لا تقوى ، واخشوا القبر ولظى ، فالنار موعد من ظلم وطغى ، قال عالم السر والنجوى الظلم وعاقبته إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيم).
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً --- فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تَنَـامُ عَيْنَاكَ وَالـمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ --- يَدْعُو عَلَيْـكَ وَعَيْنُ اللهِ لَمْ تَنَمِ
لا شَكَّ دعوةُ مظلومٍ تَحِلُّ بِهَا --- دارَ الهَوانِ ودارَ الذُّلِ والنِّقَـمِ
ألا فاعلموا عباد الله أن للظلم صور وأشكال ، فمن الظلم أن تعتدي على موظف أو مسكين أو فقير أو غريب لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعًا { وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } .
فمن أنواع الظلم ، ظلم الأجراء والعمال ، وبخسهم حقوقهم ، عن أبـي هريرةَ رضي الله عنه قالَ : قالَ رسولُ الله صَلَّـى الله عَلَـيْهِ وَسَلَّـمَ : قالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ : " ثلاثةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يومَ القـيامةِ ، ومن كنتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ ، رجلٌ أَعْطَى بِـي ثم غَدَرَ ، ورجلٌ باعَ حراً فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، ورجلٌ اسْتَأْجَرَ أجيراً ، فاسْتَوْفَـى منهُ ولـم يُوْفِه أَجْرَهُ " [ أخرجه البخاري ] ، إن الظلم لا يدوم ولا يطول ، وسيعلم الظالمون عاقبة الغرور ، يقول الله تعالى : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } ألا وإن من الظلم اليوم يا عباد الله ، توظيف من لا يستحق ، وتأخير المستحق ، وتقديم المفضول ، وتأخير الفاضل ، ممن اتضح نفعه ، وعلا سهمه وحظه ، لاسيما في أمور الدين ، بدوافع المحسوبية ، أو من أجل قبلية عصبية ، وتجمعات حزبية ، أو مصالح مشتركة ، وواسطة محرمة ، وهذا من أشد الظلم والحيف ، روى الحاكم وصححه من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : قال رسول الله صل الله عليه وسلم : " مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ المُسْلِمِينَ شَيْئاً ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَداً مُحَابَاةً ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ ، لاَ يَقْبَلُ اللَّه مِنْهُ صَرْفاً وَلا عَدْلاً ، حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ " .
ولا يختص الظلم بأصحاب الوظائف والمناصب بل إن الظلم يشمل هؤلاء وكل من كانت له سُلطة على بيت أو على أُسرة, ففي الأسرة: الكبير والصغير والقوي والضعيف والرجل والمرأة، لكلّ واحد من هؤلاء حقوق في أعناق المسؤول عليهم , بل إن الإنسان لَيُعَدّ ظالماً إذا تعدى على حقّ نفسه. كأن يُبذِّر ويُسرف في الإنفاق عليها. ومن ظُلم الإنسان لأهله أن يُعاملهم بالقسوة والشدة أو يَبخل عليهم فلا يُنفق النفقة الواجبة أو لا يُحسن معاشرتهم فقد ذكر أن عمر رضي الله عنه كان ذات يوم مُستَلقياً على ظهره في بيته وصبيانه يلعبون حوله فدخل عليهم أحدُ وُلاته فأنكر عليه ذلك، فقال له عمر: كيف أنت مع أهلك؟ فقال: إذا دخلت سكت الناطق. فعَزَله عمر من ولايته وقال له: إنك لا ترفق بأهلك وولدك فكيف ترفق بأمة محمد , ومن أعظم ظلم الرجل لأولاده أن يتركهم بلا أمر ولا نهي ولا يُؤَدّبهم ولا يُوجّههم، ولربما وجدته يأمر وينهى الناس البعيدين عنه.
ومن الظُلم ظلم الجيران بأن لا يقوم بحقّ الجوار لهم, فلا يواسيهم بل لا يَكُفّ عنهم شره وشر أولاده وأهله , عن أَبي هُريرةَ رضِي اللَّهُ عنْه قَالَ : قِيلَ لِلنَّبي صلى الله عليه وسلم : إِنَّ فُلاَنَةً تَقُوم اللَّيْلَ ، وَتَصُومُ النَّهَارَ ، وَتَفْعَلُ الْخَيْرَاتِ ، وَتَتَصَّدَّقُ ، وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صل الله عليه وسلم : " لاَ خَيْرَ فِيهَا ، هِيَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ " [ أخرجه الحاكم وقال : صحيح الإسناد ، ووافقه الألباني رحمه الله في الصحيحة ] ، كم من الناس من يرجو رحمة الله ، ويخشى عقابه ، وهو مع ذلك قد ظلم عباد الله ، واعتدى عليهم في أموالهم وأعراضهم , فأنى يستجاب لهذا ؟
عباد الله : ومن أنواع الظلم ، الحلف على يمين كاذبة ، من أجل اقتطاع أرض مغتصبة ، أو أكل حقوق واجبة ، وتالله وبالله لهو ظلم عظيم ، وعقابه وخيم ، ظلم دنيوي ، وعذاب أخروي ، قَالَ صلى اللّهِ عليه وسلم : " مَنِ اقْتَطَعَ أَرْضاً ظَالِماً ، لَقِيَ اللّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ " [ أخرجه مسلم ] ، وقال رَسُولَ اللّهِ صل الله عليه وسلم قَالَ : " مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ ، فَقَدْ أَوْجَبَ الله لَهُ النَّارَ ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ " فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : وَإِنْ كَانَ شَيْئا يَسِيراً يَا رَسُولَ اللّه ِ؟ قَالَ : " وَإِنْ قَضِيبا مِنْ أَرَاكٍ " [ أخرجه مسلم في صحيحه ] ، فإذا كان هذا في عود سواك ، فكيف بمن حرم الناس من الأموال ، وفصلهم من الأعمال ؟! فتحللوا يا رعاكم الله من ظلم الناس ، قبل أن يقع الإفلاس ، فلا تنفع الآهات ولا الوسطاء ، ولا يجدي الأصدقاء ولا الأخلاء ، بل الحسنات والسيئات ، ثم طرح في جهنم وبئس القرار ، بلا شفعاء ولا أنصار ، قال الملك الجبار : { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ } فتذكروا يوم تبعثر القبور ، ويحصّل ما في الصدور ، وعند الله تجتمع الخصوم . فيقتص من الظالم للمظلوم أيها المسلمون : الظلم حرام ، ومن كبائر الآثام ، ومن الموبقات العظام ، حرمه الله على نفسه ، وجعله بين عباده محرماً ، فقال قولاً حكيماً : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .
ألا وإن من أنواع الظلم ، أكل أموال الناس بغير حق ، والإساءة إليهم ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللّهَ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " أَتَدْرُونَ مَن الْمُفْلِسُ ؟ " قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ فَقَالَ : " إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي ، من يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي وقَدْ شَتَمَ هَـٰذَا ، وَقَذَفَ هَـٰذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَـٰذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَـٰذَا ، وَضَرَبَ هَـٰذَا ، فَيُعْطَىٰ هَـٰذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَـٰذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَىٰ مَا عَلَيْهِ ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ " [ أخرجه مسلم ] . أين الظلمة عن قول الملك الديان : { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } , عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صل الله عليه وسلم رَأَى شَاتَيْنِ تَنْتَطِحَانِ ، فَقَالَ : " يَا أَبَا ذَرٍّ ، هَلْ تَدْرِي فِيمَ تَنْتَطِحَانِ ؟ قَالَ ؟ لاَ ، قَالَ : لَكِنَّ اللهَ يَدْرِي ، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا يوم القيامة " [ أخرجه أحمد بإسناد صحيح ] ، قال تعالى : { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ.
بارك الله لي ولكم في القرآن وآياته ، والنبي الكريم وسنته وعظاته ، أقول ما سمعتم ، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ومعصية ، وكل إثم وخطيئة ، فاستغفروا ربكم إنه كان غفاراً
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أكمل لنا الدينَ وأتمّ علينا النعمة ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صل الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه ، واقتدى بسنته وهديه ، وسلم تسليماً كثيراً . أما بعد :
أمة الإسلام : اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه نهى عن الظلم بجميع صوره , وأمر بمجاهدة الظالمين ، ورفع الظلم عن المظلومين , فإذا تركنا الظالم ولم نأخذ على يديه ، فقد خالفنا ما جاءت به الرسل , ونحن مهدّدون بعقوبة عامة ، وفتنة طامة , قال صلى الله عليه وسلم : " إن الناس إذا رأوا الظالم ، فلم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه "[ أخرجه أبو داود والترمذي بإسناد جيد ] ، وقد أمر النبي صل الله عليه وسلم بنصرة المظلوم ، فانصروه وإلا فقد حق عليكم العقاب ، قال الله الوهاب : { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
واسمع قول النبي صل الله عليه وسلم : " من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ، دعاه الله سبحانه على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، حتى يخيره من الحور العين ما شاء " [ أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة ، وقال الألباني : حسن لغيره ] ،
إذا ما الظلوم اتخذ الظلم مركباً --- وتمادى في ظلمه وقبيح اكتسابه
فكله إلى الواحد الديان وعدله --- سيبدو له ما لم يكن في حسابه
أيها المظلوم : تمسك بحبل الله العظيم ، وتذكر دعوة نبي الله إبراهيم ، حسبنا الله ونعم الوكيل ، قال الحي الجليل : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ، وإليك يامن ظلم قول الحق { يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار}ِ.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنّه قال: (من كانت عنده مَظْلَمة لأخيه من عرض أو شيء فلْيَتَحلّله منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمَل صالح أُخِذ منه بقدر مَظْلَمته وإن لم تكُن له حسنات أُخِذ من سيّئات صاحبه فحمل عليه).