جرش - الدستور – حسني العتوم
في العيد نفتقدها.. ونحن اليها.. الى روحها..
تنظر إلى وجهها فتقرأ فيه خارطة الحب ودفء عينيها ابتسامة مشرقة بالامل، وبنبيك وشمها الذي يرتسم على محياها عن ماض يختال بنشوة المجد والأنفة وعن علاقة سامية بينها وبين الأرض والأولاد والأحفاد، لكنها لم تكتبه بلغة الحرف إنما بلغة الود ورائحة «الخلقة» والعصبة والمنديل الذي يجعل من وجهها حين ترتديه بدرا عند التمام والكمال .
«المدقدقة».. او ذات الوشم لم تعد حياتنا حافلة بهن فهن بقايا جيل مضى لكن وشمهن ما زال يرتسم في سويداء القلوب حبا واعجابا على ما قمن به في الحياة من دور جليل تعجز عنه اليوم فتوات الشباب يا أمي انا ويا أمنا نحن، فكل واحدة منكن هي ام كل واحد منا ، فمنذ ولادتنا كان الحنو علينا وكان الحليب الذي شربناه حين تذهب أمهاتنا الى فرن الطابون للخبيز او الى الحقل للحصيد اوالى البيدر لتجمع الغلال كان صدرك الدافئ يحضننا ويدر علينا الحليب.
يا أمنا اشتقنا اليك، اشتقنا الى صدرك الحنون وجلسات المساء وحكاية» نص انصيص والزير والتغريبة»، وايام الحصاد والحل والترحال عند النوم فنهدأ ونغفو على صدرك الذي اتسع لأولادك وأولاد الجيران والحارة والحي كله.
يا سيدتي المدقدقة زيديني نصحا، وعلميني الطهر من طهر ثيابك علميني معنى العطاء ، علميني كيف يكون الحب والبناء ، علميني ان الكذب وان طال فحباله قصيرة
وان الصدق منجاة وان قل أنصاره.
المدقدقة لم تفك حروف الهجاء ولم تسمع بافلاطون وكتبه ولا بابن خلدون ومقدمته ولا بالفارابي وابن سينا ولا بالمعري وشعره ولا بالمتنبي وفروسيته ولا بالجاحظ ونكته في العرجان والعميان والبرصان.. لكنها علمتنا كيف نبذر القمح وراء المحراث في أواخر أشهر الصيف وتقول بذرت حبي وتوكلت على ربي فيسقط المطر وينمو الزرع ويدر الضرع، فنعيش بأمان.
لم تفك الحرف لكنها فكت بفطرتها الكثير من طلاسم الحياة، وعلمتنا ان الطريق القويم أن تعبد شارعا بقدميك الى الأرض التي فيها كل الخير وان تحفرها باظافرك قبل المحراث وان تنظر الى السماء ليكون من خالقها الرجاء.
علمتنا ان «مدرقتها» تتسع لحب قرية باكملها ولفداء وطن اطرافه مترامية وان عصبتها تحتوي الجميع في عونة يوم الحصاد وان الصحون مع الأولاد إلى بيوت الجيران دائما مليئة ورائحة الهال والبن تدعو الجميع ليأكلوا على صحن واحد.
يا جدتي انت ويا خالتي وعمتي وجارتي يا انت يا امي يا كل الحي وشمك يحملنا الى الماضي نتلمسه فنحسه فما زال عندك رطبا فينا يجري فيه الماء وينادينا، آه يا لهذا الوشم كم يعلمنا ، فمن اجل حضنك فهناك ما يستحق الحياة.
أيا أما علمتنا ما لم تخطه الكتب، أو ما خطته أيدينا على الترب.
علمينا كيف يكون الحب ثابتا فينا وهذا الوشم ينبينا عن السبب.
وقولي يا حبا بذرناه أين الحصاد وهل يكون إلا في طارف الأدب.
أمي لو نظرنا إلى الوطن واشتقنا ان نرسمه لما وجدنا غير وشم وجهك يختزل المكان والزمن، ليحكي لنا سيرة مجد كنت أنت سيدته وقانون إنصاف بكى علينا حين
تاهت الألفاظ بين حق مرقوب كان لك فعايشته عصبتك ووشمك وانجازك وبين مطلوب رفسته سنابك قرننا الحادي والعشرين لنسير فيه بلا وشم يميزنا أو منديل يجملنا
أو كحل تطل منه العيون ككوة أنارها ضوء سراج.
يا امي.. في كل مكان انتشي فيه بالفرح أراك أمامي وكل سعادة أنا فيها هي منك قدمت الكثير ومضيت وعلمتينا الكثير فلم نسمع، جعلت من خيوط الصوف لنا بيتا لنسكنه وبساطا جميلا لنفترشه وكساء لنلبسه وخرجنا بفضلك إلى الدنيا ونحن نخط الحرف ونقراه ، وعندما كبرنا صرنا نراك انتيكه وعملة قديمة فكل إبداعك صار عندنا تراثا نزين به الصالونات وصورتك علقناها كتحفة فنية لوشمك ومنديلك ولم نفهم ما فعلناه بهذا كله بعد ، بعد ان نقلنا جسدك الهزيل حين اهتزت قواه الى دور العجزة والمسنين ليمر من أمامك عابر سبيل ويقول خذي هذا لله.
الرئيسية 
البوابة 
