المواطنة بين المصطلح والمفهوم (قراءة في الفكر السياسي الإسلامي)
المواطنة واحدة من أهم مفردات الدولة الحديثة، وهو تعبير يهتم بنسج علاقة عادلة ومتوازنة بين مكون الشعب وبين مكوني الاقليم والسلطة السياسية داخل الدولة بما يضمن مكانة فاعلة للفرد داخل مجتمعه.
فالمواطنة هي التي توجد المعادلة الناجحة لمواجهة تحديات الدولة من خلال الموازنة بين منظومة الحقوق والواجبات.
ولفظة (مواطنة) لم ترد في كتب التراث الاسلامي التي تهتم بالسياسة الشرعية، وهو مصطلح دستوري مستحدث بدأ الحديث عنه في القرن السابع الميلادي ولكنه لم يستقر بشكله النهائي إلا بصدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان 1948م بمعنى أن مصطلح المواطنة مر بمراحل تطور وانضاج الى أن استقر على المفهوم الذي يتداول اليوم.
فكرة المواطنة:
تقوم فكرة المواطنة على فك حالة تعارض المصالح التي تُفضي الى الاختلاف والتنازع بين أفراد البلد الواحد المتنوعون عرقياً أو دينياً او طبقياً اجتماعياً واقتصادياً. بل يتعدى حالة فك التعارض في المصالح الى ايجاد صيغة تعايش مشترك ، هذا على مستوى علاقة مجموع الافراد في الدولة الواحدة.
ومن ناحية اخرى فان فكرة المواطنة تقوم على أساس ايجاد علاقة متوازنة بين مجموع افراد الشعب في الدولة وبين السلطة السياسية أساسه العدل والمساواة في الحقوق والواجبات.
ولذلك فان فكرة المواطنة تأتي مرافقة لتشكيل الدولة وتأسيسها في محاولة حقيقية لاذابة الفوارق وتقليص الفجوات بقدر الامكان، وخلق حالة من التناغم والتكامل داخل المكونات الاجتماعية في الدولة الواحدة مع الاخذ بعين الاعتبار ان هذا لا يعني شطب او الغاء تعدد الديانات وتنوع العرقيات واختلاف الثقافات داخل الدولة ، لكن مفهوم المواطنة يحدد اسهام كل فرد او جماعة او طائفة في الدولة وما يمكن أن يقدم فيها من انجازات تعود على المجتمع بكليته بالخير والفائدة والرفاه.
وهذا المعنى يدل عليه المعنى اللغوي لكلمة "مواطنة" على وزن "مفاعلة" والتي تفيد المشاركة في تشكيل حالة تشاركية إما سياسية او مجتمعية او اقتصادية او فكرية وأدبية.
وبالتالي فهي تشكل المدخل الطبيعي للتعايش السلمي بين أفراد الشعب في الدولة الواحدة وبين الأمم والشعوب وعلاقتها مع بعضها البعض، وكذلك ترسخ حالة الاستقرار السياسي وتضمن الممارسة الديمقراطية الحقيقية في التعددية والتدول السلمي على السلطة.
فالبديل عن ترسيخ مفهوم المواطنة بما يحمل من معاني ايجابية هو انكفاء كل مكون على نفسه وتقوقعه وبالتالي ضعف أواصر التواصل في المجتمع، والأخطر من كل ذلك وجود بيئة خصبة لوقوع الاختلافات والتدافعات الاجتماعية والسياسية التي قد تفضي الى النزاعات المسلحة وعندها يسهل على أعداء الدولة اضعافها وانهاكها والسيطرة عليها.
مفهوم المواطنة:
مفهوم وليس تعريف اصطلاحي، لوجود تباين يصعب من خلاله تحديد تعريف متفق عليه للمواطنة، وذلك لاختلاف زاوية النظر التي يُنظر منها للمواطنة، فمفهوم المواطنة يعالج أبعاداً ومجالات متعددة منها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقانونية والقيميّ والثقافي والمكاني، ولكل مجالٍ وبُعدٍ مفهوم ودلالة يحملها ويعبر عنها.
وهنا ترد عدة تساؤلات على المواطنة في محاولة تحديد مفهومها:
- هل هي علاقة الفرد مع الوطن الذي هو النطاق الجغرافي الذي ولد ونشأ فيه فهو ينتسب اليه او يقيم به اقامة دائمة؟
- أم هل هي علاقة الفرد مع المجتمع الذي يتداخل معه يومياً في مختلف نشاطات الحياة اليومية وما ينشأ عنها من تقاطعات ومصالح مشتركة وتحقيق نفعٍ عام؟
- أم هي علاقة الفرد مع السلطة السياسية بما ينشئ الحقوق ويرتب الواجبات التي تنشئ التزامات متبادلة له وعليه؟
أعتقد ان كل ما سبق هو جزء من مفهوم المواطنة لا يمكن تجاوزه فالمواطنة أساساً تحدد علاقة الفرد بمن حوله ضمن اطار الدولة بكل مكوناتها سواء أكانت سلطة سياسية او كانت علاقة الفرد مع مجموع افراد المجتمع، وكل ذلك يجري ضمن أرض الدولة ونطاقها الجغرافي.
لكن المواطنة الصالحة مرتبطة أساساً بالسلوك البشري من عموم أفراد المجتمع حكاماً ومحكومين بحيث يكون ذلك السلوك صحيحاً ومفيداً ونافعاً للفرد نفسه وللمجتمع من حوله.
ومن هنا يجب التركيز على الانسان وتأهيله وتوفير الأمن والحماية له، وتحقيق كرامته وتوفير العيش الكريم والرفاهية بما يمكّنه ويعينه على القيام بواجباته وجعله عنصراً ايجابياً وفاعلاً في محيطه.
وعليه فان المواطنة ليست مجرد انتساب لنطاق جغرافي معين، وانما يحمل مفهوماً أكبر وأعمق له علاقة بمكونات المجتمع نفسه، وبالسلطة السياسية وحقوقه السياسية، وله علاقة بالجانب الاقتصادي وممارسة حقوقه الاقتصادية وغيرها من الأبعاد والمجالات المختلفة.
معنى ذلك ان مبدأ المواطنة لا يتعارض مع الانتماء القومي العروبي ولا يتعارض مع الانتماء للامة الاسلامية والشعور الديني كما انها لا تتعارض مع انتماء الفرد لعشيرته التي ينتسب اليها فهي حلقات متواصلة ومتداخلة، بينها تقاطع واشتراك كبير، فالمواطنة في البعد السياسي تنظم علاقة الفرد مع السلطة السياسية ولها تعبير سياسي من خلال المشاركة السياسية ترشيحاً وانتخابات وحق تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية وتسلم المناصب العامة والعليا في الدولة، ولها تعبير قانوني من خلال مجموع الحقوق التي يتمتع بها بسبب الحصول على جنسية تلك الدولة من حق التعليم والتأمين الصحي والمحاكمة العادلة وغيرها.
والمواطنة في بعدها الاجتماعي يعبّر عنها من خلال المساواة والحرية والتعايش السلمي وغيرها.
أما علاقة الفرد باسرته وعشيرته فلها طابع اجتماعي بحت، وهي علاقة فطرية لا تحمل ولا ينبغي أن تُحمّل أي مضمون سياسي.
أما علاقة الفرد مع أمته العربية فلها طابع ثقافي ووجداني مهم، وأينما وجد الانسان العربي اليوم في العالم كله حتى لو كان يحمل جنسية دولة غير عربية فان الانتماء العروبي لا ينقطع ولا يتلاشى.
وأما علاقة الفرد في الدولة القُطرية ومواطنته فيها فانه لا يتناقض مع علاقته بأمته الاسلامية القائمة على رابطة الاخوة في العقيدة والدين، فالمواطن الصالح ينعكس صلاحه على وطنه وكذلك الحال على امته العربية وكذلك الاسلامية، ومن لا يملك الصلاح في نفسه فانه لن يعطيه لغيره.
لذلك فانني أعتقد اننا اذا أردنا ان ننسجم مع ذواتنا ومجتمعاتنا واذا ما ابتعدنا عن جانب التنظير واقتربنا من جانب التأطير والعمل والانجاز فاننا لن نجد تعارضاً بين تلك العلاقات جميعاً.
وأما اذا أردنا ان نضع العراقيل ونعظم التناقضات ونضعها نصب أعيننا فاننا حتماً سنوجد التعارض حتى فيما لا تعارض فيه.
وبالخلاصة فان المواطنة ليست مجرد انتماء لتراب أو جغرافيا فحسب، بل هي حالة معقدة ومتداخلة بين الارض والانسان بما تحمله تلك والعلاقات الانسانية من ثقافات متنوعة وديانات متعددة وعرقيات مختلفة ومكونات سياسية واجتماعية واقتصادية متداخلة، كل هذا تجمعه المواطنة بتفاعل ايجابي مثمر وتترجمه انجازات حضارية مشهودة.
المواطنة في الفكر السياسي الاسلامي:
بعد النظر والتدقيق ندرك ان مفهوم المواطنة كان حاضراً في الفكر السياسي الاسلامي من خلال دلالات النصوص الشرعية ووقائع السيرة النبوية وفي الكثير من أحداث التاريخ الاسلامي.
ففي القرآن الكريم جملة من الايات التي تدعو الى اقامة العدل بين الناس وان اختلفو معنا في العرق أو الدين أو الطائفة قال تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). وامر الله بالمحاورة بالاسلوب الامثل كدليل على حرية الرأي التعبير قال تعالى: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ). كذلك حق حرية الاعتقاد لقوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) وقوله تعالى (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وأما احاديث النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته فهي كثيرة في التدليل على تكريس حالة الحريات وحقوق الانسان في الدولة الاسلامية والتي تقوم أساساً على الكرامة الانسانية ، فقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم احتراماً لمرور جنازة في المدينة ، ولما اخبروه انها جنازة يهودي قال صلى الله عليه وسلم
أليست نفساً). وقول النبي صل الله عليه وسلم: (من آذى ذمياً فقد آذاني).
وأول ما قامت الدولة الاسلامية في المدينة المنورة ظهرت الحاجة لتأطير مفهوم المواطنة لجمع كل مكونات المجتمع المدني ضمن نطاق دستوري واحد ، فكانت وثيقة المدينة المنورة التي ومنذ اللحظة الأول أسست لقيام مجتمع مدني متنوع الأديان والقبائل والأعراق حيث جاء في الوثيقة ما نصه: (محمد والمسلمون من قريش ويثرب ويهود ومن دخل في حلفهم أمة من دون الناس).
وهذه الدولة قامت بمرجعية اسلامية يقودها النبي صل الله عليه وسلم كحاكم وقائد سياسي، جاء في الوثيقة ما نصه : ( وأن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو أشتجار يخاف فساده فان مرده الى الله ومحمد رسول الله).
وفي سياق صياغة هذه الوثيقة الدستورية المهمة يتعين علينا أن نعرف بان عدد اليهود في المدينة المنورة في وقت كتابة الوثيقة كان أكثر من عدد المسلمين، وكان من مكونات المجتمع المدني قبائل يثرب التي بقيت على الوثنية ولم تدخل الاسلام بعد ، بمعنى ان المجتمع المدني وقت صياغة الوثيقة النبوية كان مكوَّن من ثلاث فئات : المسلمون من المهاجرين والانصار، واليهود، وقبائل المدينة الذين ما زالو يعبدون الاصنام. فقد كان المجتمع المدني متنوعاً عرقياً واثنياً وعقائدياً، ومع ذلك لم يمنع أن يكون الاسلام كنظام عام هو مرجعية جميع مكونات المجتمع المدني بلا استثناء، وهنا يظهر ان الانتماء للدولة المدنية أساسه الالتزام بالنظام العام والنظام السياسي الذي يقوده، ويتضح بأن الاسلام بهذا الوصف ليس مجرد علاقة بين الانسان وربه تظهر على شكل عبادات شعائرية، بل هو نظام عام يقود المجتمع بكل مكوناته وينظم شؤونه وفق نظرة متكاملة. فمفهوم المواطنة مفهوم سياسي مدني جامع يظهر بالممارسة العملية في الحياة العامة.
وبالحديث عن الوثيقة النبوية في المدينة المنورة نجد السبق الزمني الواضح لترسيخ مفهوم المواطنة النابع من اقامة الدولة الدستورية المحددة الملامح والتي جاءت في القرن السابع الميلادي (1هـ الذي يوافق622 م) في حين ان مفهوم المواطنة لم يصل الى ذروة اكتماله في النظام الغربي المعاصر سوىفي القرن العشرين من خلال الاعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1948 م بفارق زمني كبير لا مجال فيه للمقارنة.
ومن أهم مراحل التطور التي مرت على مفهوم المواطنة في القرن الثامن عشر كانت مع الثورة الفرنسية والامريكية والتي خرجت بالانسان الغربي من عصر الاقطاع نحو المواطنة لكنها مواطنة منقوصة ، فقد حرمت الثورتان قطاعات مهمة من الناس من حق المواطنة، فدستور الثورة الامريكية سنة 1787 م استعبد النساء والهنود الحمر والجنس الاسود من دائرة المواطنة ، وظل هذا الوضع قائماً رغم الغاء نظام الرق سنة 1800م ولم تتحقق لهم المواطنة الا سنة 1965م.
وأما لثورة الفرنسية فانها لم تضع حداً للعبودية الا في سنة 1848م واستمر حرمان المرأة من ممارسة حقوقها السياسية ولم يسمح لها بالتصويت في الانتخابات الا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1948م، وفي انجلترا لم تحصل المرأة على المساواة السياسية وحق المواطنة الكامل الا في سنة 1928م.
مجتمع المواطنة يقوم على أساس الحرية والمساواة وحقوق الانسان في ظل دولة ديمقراطية تحكمها المؤسسات وتصل فيها الحقوق لأصحابها بموجب مواطنتهم وليس بموجب التكسب والهبات ولا حتى المطالبات، كل هذا يتحقق من خلال شعور الفرد بأنه كائن سياسي له حق المواطنة الكاملة من هنا تأتي مقولة "مواطنون لا رعايا".
ومع ذلك والى اليوم ما زال مفهوم المواطنة يواجه تحديات كبيرة في دول العالم الثالث وكذلك في دول العالم المتقدم صاحبة الديمقراطيات العريقة.
أهم هذه التحديات تكريس حالة الطبقية الجديدة لتلك الفئة التي تستحوذ على السلطة ومراكز صنع القرار، وتتحكم بالثروات واقتصادات الدول من خلال الشركات الكبرى العابرة للقارات، والتي تشكل مراكز قوى عالمية واقتصادية وسياسية تسطو على ثروات الدول والشعوب الفقيرة. اضافة الى عدم المساواة التامة بين المواطنين الأصليين وبين الحاصلين على الجنسية من الشعوب الأخرى في تلك الدول الكبرى.
أما تحديات المواطنة في دولنا العربية فهي أكثر من ان يتم الحديث عنها، فالانسان العربي لا زال يعيش كونه رعية الحاكم ينتظر منه العلاج للمريض أو اطلاق سراح السجين أو توظيف العاطل عن العمل في تكريس واضح لمفهوم الرعية بدلاً من المواطنة.
ومن أهم تحديات المواطنة في عالمنا العربي هو اننا الى الآن لم نفرق بين الدولة وبين شخص الحاكم ، وبين السلطة وبين النظام العام.
وأكثر ما يهدد مفهوم المواطنة في عالمنا العربي ويعدّ التحدي الأكبر له هو الخروج من حالة الاستقطاب الطائفي والعرقي والمذهبي التي أدت الى تفتيت المنطقة العربية وادخلتها في أتون صراع مع الذات والهوية بما يضمن عدم تحقيق استقرار او تقدم أو تنمية لشعوب منطقتنا، ذلك الى جانب تكريس الهويات الفرعية والعشائرية على حساب المواطنة الجامعة لكل مكونات المجتمع. وبما يضمن استمرار حالة الهيمنة والتبعية للقوى الكبرى، والشواهد ماثلة أمامنا على هذا الحال في العراق وسوريا واليمن وغيرها.
هذا يدعونا الى التفكير بعمق للملاءمة بين متطلبات الشعوب وسيطرة أصحاب السلطة السياسية والاقتصادية بما يحقق حالة التوازن والاستقرار البنيوي الاجتماعي والسياسي من خلال مواطنة حقيقية كاملة الحقوق والواجبات.
يبقى التأكيد على ان المواطنة بالرغم من كونها حقاً إلا أنها ممارسة وسلوك لا يمكن أن تنمو وتعيش إلا في مناخ الحرية والديمقراطية والمساواة.