على بدوان | تعيش مدينة القدس المحتلة الآن لحظات حاسمة من عمرها، حيث يصعّد الاحتلال إغلاقاته واقتحاماته وخطواته الاستفزازية ضد الحرم القدسي، وضد عموم المقدسيين من أبناء المدينة وأحيائها القريبة.
ويواصل المستوطنون والمتطرفون اقتحاماتهم لباحات المسجد الأقصى المبارك تحت حراسة شرطة الاحتلال، في الوقت الذي أقرت فيه حكومة نتنياهو العديد من المشاريع التهويدية الجديدة، مترافقة مع بعض الأفكار والمقترحات الموضوعة على طاولة الكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، ومنها الدعوة إلى التقسيم الزماني والمكاني للأماكن المقدسة في المدينة.
وفي ظل تلك المعمعة من الإجراءات والخطوات المدروسة والمخطط لها -التي تقوم بها سلطات الاحتلال على الأرض داخل المدينة وفي جوارها القريب- يراوغ رئيس الحكومة “الإسرائيلية” بنيامين نتنياهو، معتبرا أن ما يجري من ردود فعل شعبية فلسطينية على ممارسات الاحتلال في المدينة “مشكلة أمنية صرفة، وأعمال إخلال بالنظام يجب أن تقمع عبر حلول تتلخص في ممارسة القوة”، فإلى أين تسير الأمور بشأن المدينة المقدسة؟
تسعى حكومة نتنياهو لاستغلال الارتباك الفلسطيني والعربي، والانشغال الدولي بقضايا المنطقة لإيجاد ثغرة للاستفراد بالقدس وأهلها والفلسطينيين عموما، ومقايضة “الأمر الواقع” الجديد على مائدة مفاوضات التسوية التي تزداد الضغوط لاستئنافها، أو مساومة السلطة الفلسطينية على توجهاتها بنقل ملف القضية إلى مجلس الأمن والانضمام لبعض الهيئات الدولية.
ولهذا لجأ الاحتلال إلى تصعيد غير مسبوق في منطقة القدس بالإغلاق والاقتحامات والإجراءات المباشرة عبر مصادرة الممتلكات والمنازل وإطلاق مشاريع التهويد الجديدة.
وغني عن القول إن سلطات الاحتلال “الإسرائيلي” وحكومة نتنياهو تجدان الآن وقتا مناسبا أكثر ملاءمة في ظل الظروف التي تعيشها المنطقة لتوسيع معركة الإطباق الكامل على مدينة القدس وتهويدها، وتمرير المشاريع المخبأة داخل الأدراج، ووضعها موضع التنفيذ الفعلي والعملي، في سياق مشروع “قدس واحدة كبرى وقوية للشعب اليهودي الواحد” كما تقول أدبيات ووثائق مختلف الأحزاب “الإسرائيلية” الصهيونية بما فيها الأحزاب المحسوبة على تيارات “اليسار الصهيوني”.
وسبق التطورات الأخيرة من إغلاقات واقتحامات قيام رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو باتخاذ مجموعة من الإجراءات الملموسة المباشرة على الأرض، منها:
– صفقة مع المتطرفين: حيث افتتح رئيس حكومة الاحتلال وأقطاب حكومته المتطرفة بورصة المزايدات الداخلية من أجل إرضاء الأحزاب المتطرفة بما يضمن بقاء حكومة نتنياهو اليمينية لحين إجراء انتخابات قد تكون مبكرة يحاول نتنياهو استباقها بشراء أصوات المتطرفين، لذلك عمل في الفترة الأخيرة على تمرير صفقة مع الجناح الأشد يمينية في حكومته لتسريع عمليات التهويد والاستيطان، والموافقة على مشاريع استيطانية ضخمة في الضفة الغربية بما فيها مشروع استيطاني في قلب الحرم الإبراهيمي بمدينة الخليل، وفي القدس الشرقية المحتلة خصوصا، فاستغل تهديد نفتالي بينيت وزير الاقتصاد ورئيس حزب البيت اليهودي بالانسحاب من الائتلاف إذا لم يتوقف “التجميد الهادئ” لعمليات الاستيطان والتهويد في القدس ومحيطها وعموم الضفة الغربية.
ولأجل ذلك قام نتنياهو بالإعلان عن خطة لبناء آلاف الوحدات الاستيطانية وتوسيع الطرق المؤدية إلى عموم المستعمرات في الضفة الغربية، وبدا واضحا للجميع أن ذلك جزء من صفقة أبرمها نتنياهو مع مجموعات ولوبيات المستوطنين وحزب “البيت اليهودي” من أجل ضمان استقرار الائتلاف حتى لو قاد ذلك إلى إثارة غضب العالم بأسره، كاسرا بذلك خطة “التجميد الصامت والالتفافي” لعمليات التهويد والاستيطان، ومعززا تحالفه مع أجنحة اليمين، واليمين المتطرف في حكومته.
- التقسيم الزماني والمكاني: وكان ثاني هذه الإجراءات استصدار تشريع في “الكنيست” (البرلمان) يقضي بتقسيم المسجد الأقصى والحرم القدسي مثلما وقع في المسجد الإبراهيمي بمدينة الخليل قبل نحو 18 عاما كمقدمة أو وسيلة التفافية لهدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم مكانه، بغض النظر عن تداعيات مثل هذه المحاولة ونتائجها.
والجهود تنصب حاليا على طرح وتمرير مشروع قانون تقسيم المسجد الأقصى زمانيا ومكانيا، في خطوة تصعيدية جديدة لا تقل خطورة عن الأفكار التي تم طرحها “إسرائيليا” في المفاوضات التي جرت صيف عام 2000 مع الطرف الرسمي الفلسطيني في مفاوضات كامب ديفد الثانية في سياق عملية التسوية الغارقة في الأوحال، والتي أدت خواتيمها (ونقصد فشل مفاوضات كامب ديفد الثانية) لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الكبرى الثانية التي هزت العالم وأعادت تثبيت حضور قضية فلسطين على أجندة المجتمع الدولي كقضية تحرر وطني لشعب تحت الاحتلال.
– وكان ثالثها عقد الكنيست مؤخرا وبعد العودة لأعماله في الدورة الشتوية الجديدة جلسة خاصة لمناقشة مقترح سحب السيادة الأردنية كاملة عن المسجد الأقصى، والذي كان قد قدمه في وقت سابق موشيه فيجلين نائب رئيس الكنيست مطلع عام 2014، وذلك بهدف فرض سيادة “إسرائيلية” كاملة على المسجد.
وتمت تلك الجلسة بحضور عتاة المتطرفين كوزير الأمن الداخلي، ووزير المالية، ووزير الإسكان، ومندوب منظمة “عطيرت كوهانيم” الناشطة في عمليات التهويد والاستيطان بمنطقة القدس، ومندوب مؤسسة تراث جبل الهيكل، ومنظمة “عير عميم”، وسلطة الآثار، ومندوبين عن أعضاء منظمات الهيكل المزعوم.
وبعيدا عن المعلومات الأولية التي تمخضت عن نتائج نقاشات الكنيست بهذا الشأن فإن للأمر دلالاته، ويحمل في طياته سلوكا تصعيديا في مسار الإطباق الكامل على مدينة القدس ومقدساتها العربية الإسلامية والمسيحية ومحو طابعها.
- لحظات القدس الصعبة: وكان رابع هذه الإجراءات إعلان وزير الإسكان “الإسرائيلي” أوري أرئيل نيته الانتقال للسكن في حي سلوان بالقدس المحتلة، في خطوة استفزازية تؤسس لمواجهة مفتوحة لا تحمد عقباها.
والوزير المذكور من المنظرين لمعادلة فحواها “يهود أكثر في كل مكان يعني أمنا أكثر”، وصاحب مقولة يرددها بعض الكتاب اليمينيين تقول “إذا لم يستطع اليهود شراء البيوت بالمال والسكن في القدس السيادية التي يسري عليها القانون الإسرائيلي كما يسري في تل أبيب فإننا نفقد حق الادعاء بكل أرض إسرائيل، إذا لم يستطع اليهود الوصول إلى الحرم وتلاوة كلمات عمرها آلاف السنين فإنه لا مناص من إغلاق الحرم كليا في وجه المسلمين أيضا”.
بهذه العقلية يفكر وزير الإسكان أوري أرئيل ومن معه من حاملي أوهام إغلاق الحرم القدسي الشريف بشكل كلي.
وكان خامسها إعلان الشرطة “الإسرائيلية” في القدس أنها “أكملت جميع الاستعدادات اللازمة في إطار الخطة المعروفة باسم “حراس الأسوار”، وهي خطة تهدف للجم أي تحرك شعبي فلسطيني دفاعا عن المدينة والمسجد الأقصى وأحيائها العربية والإسلامية، فسلطات الاحتلال باتت تستشعر بأن شرارات الانفجار الشعبي الفلسطيني العام في القدس وعموم الضفة قد تنطلق في أي لحظة للدفاع عن مدينة القدس، ومواجهة الاحتلال وعصابات المستوطنين.
أخيرا، إن مدينة القدس -التي تعيش محنتها القاسية ولحظاتها الصعبة- تنتظر دورا عربيا وإسلاميا، ينتقل من الأقوال إلى الأفعال، لدعم صمود المقدسيين بكل الوسائل الملموسة المباشرة وعلى كل الصعد، والتحرك الفاعل في الميدانين السياسي والدبلوماسي الدوليين من أجل نصرة قضية القدس، ولجم مشاريع تهويدها ومحو طابعها وتاريخها.