( الحلقة 8 )
البنا يُصارح الإخوان
ستـُسجنون وتـُعتقلون وتـُقتلون وتـُشرَّدون
لم يكن ليغيب عن الإمام حسن البنا أن بروز جماعة الإخوان المسلمين على الساحة المصرية سيثير في وجهه ووجه الجماعة أسرابا من دبابير الخصوم المحليين من حكام فاسدين ، وعملاء للمحتل الإنجليزي ، وعلماء سلطان ، وحزبيين ، ومستغربين وعلمانيين من خرِّيجي الجامعات الأوروبية والمدارس التبشيرية التي انتشرت في مصر تحت حماية المحتلين الإنجليز ورعايتهم .
وحين وضع الإمام البنا لجماعة الإخوان المسلمين هدفيْ تحرير الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي ، وإقامة دولة إسلامية في هذا الوطن الحر ، لم يكن ليغيب عنه ، وهو الذي أكرمه الله عزَّ وجلَّ ووهبه ذكاءً وفطنة أن هذين الهدفين سيستفزَّان على الصعيد الخارجي أعداء الإسلام من كل صوب وحدب ، وفي مقدمتهم اليهود وحلفائهم من الغربيين الذين كانت بريطانيا تتزعم معسكرهم في تلك المرحلة ، فالهدف الأول ( تحرير المحتل من بلاد العرب والمسلمين ) يتهدَّد مصالحهم ومخططاتهم ، والهدف الثاني ( إقامة حكم إسلامي في الوطن الإسلامي بعد تحرير المُحتل من بلدانه ) يُشكـِّـل كابوسا يقضُّ مضاجعهم ويُطير النوم من عيونهم ، ويُفسد عليهم فرحتهم وسعادتهم بنجاح مُخطـَّـطهم في هدم دولة الخلافة الإسلامية العُثمانية التي أقضـَّـت مضاجعهم ستة قرون ( 1301 ـ 1923 م ) .
كان الإمام البنا يُدرك أنه باختيار هذين الهدفين يُحمِّـل إخوانه في الجماعة حملا ثقيلا سيُكلـِّـفهم الكثير من مالهم ووقتهم وأرواحهم ، ولأن الرائد لا يكذب أهله ، كما تقول العرب ، وجد الإمام البنا أن من واجبه مصارحة إخوانه وأخواته بتبعات ارتضائهم الإنتماء للجماعة حتى يعرفوا أن الطريق الذي اختاروه ليس مفروشا بالورود وإنما بالإشواك والصخور :
أحب أن أصارحكم إن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس ، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية .
ستجدون أمامكم الكثير من المشقــَّـات وسيعترضكم كثير من العقبات ، وسيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم .
وستجدون من بعض أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله .
وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان .
وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء ، وستحاول كل حكومة أن تحدَّ من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم .
وسيتذرَّع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم ، وسيستعينون من أجل ذلك بالحكومات الضعيفة ، والأخلاق الضعيفة ، والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال ، وإليكم بالإساءة والعدوان .
وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات ، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة وأن يظهروها للناس في أبشع صورة معتمدين على قوتهم وسلطانهم ، ومعتدين بأموالهم ونفوذهم .
وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان فتـُسجنون ، وتـُعتقلون ، وتـُقتلون ، وتـُشرَّدون ، وتـُصادر مصالحكم وتـُعطــَّـل أعمالكم وتـُفتش بيوتكم ، وقد يطول بكم مدى هذا الإمتحان : ( أحسِـبَ الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون ) ( العنكبوت20 ) .
ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين : ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ) ( الصف10 ) ، ( فأيَّدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ) ( الصف14 )
فهل أنتم مصرُّون على أن تكونوا أنصار الله ؟ .
جماعة يسبقُ قادتـُها أعضاءَها في التضحية
حين نستعرض مسيرة جماعة الإخوان المسلمين على مدار الثمانين عاما ونيفا من تاريخ تأسيسها في عام 1928 م وحتى الآن ( 2014 م ) نكتشف أن تلاميذ الإمام حسن البنا سواء الذين عاصروه أو الذين التحقوا بالجماعة وما فتئوا يلتحقون بها بعد موته قد استوعبوا جيدا ما شدَّ انتباههم إليه إمامهم من أن أمام من يلتحق بالجماعة ، رجالا ونساءاً ، طريقا مليئة بالأشواك والعوائق تتطلب صبرا وتضحية وبذلا للروح والوقت والمال ، وكان من حسن طالع الجماعة أن يكون إمامها المؤسِّـس أول من قدَّم روحه على طريق الدعوة حين ارتقى بإذن الله ومشيته شهيدا برصاص نظام الملك المخلوع فاروق وحكومته بتواطؤ من السفارة البريطانية في القاهرة ، وعلى خطى الإمام المؤسِّـس توالت مسيرة الصبر والتضحية والبذل من آلاف الإخوان يتقدَّمهم مرشدو الجماعة وقادتها جيلا بعد جيل :
المرشد الثاني المستشار ( القاضي ) الأستاذ حسن إسماعيل الهضيبي سجنه البكباشي جمال عبد الناصر لمدة ثلاثة أشهر في بداية عام 1953 م ، ثمَّ عاد فسجنه في سياق حملته الشرسة ضدَّ الجماعة بعد غدره بالإخوان وحُكم بالإعدام مع عدد من قادة الإخوان وخـُفف الحكم عليه إلى المؤبد وتمَّ إعدام إخوانه ( سأتحدَّث بالتفصيل عن ذلك في الفصل الثاني من الكتاب ) ووضع الأستاذ الهضيبي تحت الإقامة الجبرية في بيته حتى عام 1961 م ، وفي عام 1965 م أعاد عبد الناصر سجنه وحوكم بتهمة إعادة إحياء تنظيم الجماعة وحكم عليه بثلاث سنوات ولكن عبد الناصر أبقاه في السجن بعد إنقضاء الثلاث سنوات وتمَّ الإفراج عنه في عام 1971 م
المرشد الثالث الأستاذ عمر التلمساني أمضى زهرة شبابه في سجون الملك المخلوع فاروق ( 1948 م ـ 1951 م ) وفي سجون البكباشي جمال عبد الناصر ( 1954 ـ 1971 م ) ، وفي سجون السادات ( 1981 م ) .
المرشد الرابع الأستاذ محمد حامد أبو النصر أمضى عشرين عاما متواصلة في سجون عبد الناصر ( 1954 ـ 1974 م ) .
المرشد الخامس مصطفى مشهور عرف طريقه إلى سجن الملك المخلوع فاروق في سن مبكرة من عمره ( 1948 ـ 1951 ) ، ثمَّ أمضى عشر سنوات في سجون عبد الناصر ( 1954 ـ 1964 م ) ، ثمَّ أعاد عبد الناصر سجنه ( 1965 ـ 1971 م ) .
المرشد السادس المستشار ( القاضي ) محمد مأمون الهضيبي سار على درب والده المرشد الثاني فرزح في سجون عبد الناصر ( 1965 ـ 1971 م ) .
المرشد السابع الأستاذ محمد مهدي عاكف سجنه عبد الناصر في عام 1954 م وبقي في السجن حتى عام 1974 م ، ثمَّ أمضى ثلاث سنوات في سجون المخلوع حسني مبارك ( 1996 ـ 1999م ) ، ثمَّ إعيد سجنه في أعقاب الإنقلاب العسكري ( 3 / تموز / 2013 م ) الذي قاده عبد الفتاح السيسي ضدَّ الرئيس المنخب الأستاذ الدكتور محمد مرسي العيَّـاط .
المرشد الثامن الأستاذ الدكتور محمد بديع عبد المجيد سامي عرف طريقه إلى السجن في حقبة البكباشي جمال عبد الناصر وحُكم عليه خمسة عشر عاما أمضى منها تسع سنوات ، ثمَّ أعيد إلى السجن في عام 1998 لشهرين ونصف في حقبة المخلوع حسني مبارك ، ثمَّ أعيد إلى السجن في أعقاب الإنقلاب العسكري ( 3 / تموز / 2013 م ) الذي قاده عبد الفتاح السيسي ضدَّ الرئيس المنخب الأستاذ الدكتور محمد مرسي العيَّـاط ، وحُكم عليه بثلاثة أحكام بالإعدام وقد تزيد ، وإلى جانب كل هذا الإبتلاء قدَّم فلذة كبده المهندس عمَّـار شهيدا بإذن الله برصاص الإنقلابيين في17 / آب / 2013 م .
ولم تتخلف قيادات الجناح النسائي للجماعة ( الإخوات المسلمات ) عن إخوانهن في مسيرة البذل والتضحية ، فقد رزحت القيادية الإخوانية الحاجة زينب الغزالي في سجون البكباشي جمال عبد الناصر 6 سنوات ( 1965 ـ 1971 م ) تعرضت خلالها لتعذيب شديد تحدَّثت عنه في كتابها ) أيام من حياتي ( ، كما رزحت في سجون عبد الناصر القياديتان أمينة وحميدة قطب شقيقتا الشهيد بإذن الله الأستاذ سيد قطب .
وعلى هذا الطريق ، طريق الصبر والتضحية وبذل الأرواح والأموال والأوقات ، سارت ، وما تزال تسير برعاية الله عزَّ وجلَّ ، قوافل إثر قوافل من آلاف الإخوان والأخوات ، لتنصهر في بوتقة الصبر والإبتلاء والتمحيص على طريق النصر والتمكين بإذن الله .
( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) ( البقرة 214 )
( حلقة 9 )
مرحلة جديدة من الكيد
هدفها منع وصول الإخوان للحكم في مصر
لم يكن الإنجليز بحاجة إلى كثير ذكاء ليكتشفوا أن فشل محاولاتهم مع الإمام حسن البنا في إيقاعه في شباكهم من خلال قبول دعمهم المالي كان يترجم ما يضمره الإخوان المسلمون ومرشدهم من عداء للإنجليز ، وزاد من قناعة الإنجليز بالموقف العدائي لهم من قبل الإخوان إصرار الإمام حسن البنا ونائبه الأستاذ أحمد السُـكـَّـري في لقائهما مع قطبي المخابرات البريطانية في الشرق الأوسط السير الجنرال كلايتون والمستشرق جيمس هيوارث دَّن على المطالبة بجلاء الإنجليز عن مصر والسودان وبتوقف الإنجليز عن التآمر مع اليهود على فلسطين وشعبها ، وتعزَّزت قناعة الإنجليز بعدائية الإخوان لهم بما كانت تصدح به حناجر الإخوان في لقاءاتهم ومهرجاناتهم من هتافات ضدَّ المحتلين الإنجليز ، وما كان يتردَّد في خطب وكتابات الإمام البنا من تحريض ضدَّ المحتلين الإنجليز ، حتى أن الإمام البنا أعدَّ دعاءاً خاصا للقنوت ضدَّ المحتلين الإنجليز عقب كل صلاة : ( اللهم رب العالمين ، أمان الخائفين ، ومذل المتكبرين ، وقاصم الجبارين ، تقبل دعاءنا ، وأجب نداءنا ، وأنلنا حقنا ، وردّ علينا حريتنا واستقلالنا ، اللهم إن هؤلاء الغاصبين من البريطانيين قد احتلوا أرضنا ، وجحدوا حقنا ، وطغوا فى البلاد ، فأكثروا فيها الفساد ، اللهم فَرُدّ عنا كيدهم ، وفـُـلَّ حدهم ، وفرِّق جمعهم ، وخذهم ومن ناصرهم أو أعانهم أو هادنهم أو وادَّهم أخذ عزيز مقتدر ، اللهم اجعل الدائرة عليهم ، وسُـقْ الوبال إليهم ، وأذِلَّ دولتهم ، واذهب عن أرضك سلطانهم ، ولا تدع لهم سبيلا على أحد من المؤمنين .. آمين ) .
كان من الطبيعي على ضوء تلك القناعة التي تولـَّـدت عند الإنجليز بعدائية جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها لهم أن تـُصنـِّـف المخابرات البريطانية جماعة الإخوان المسلمين ومرشدهم الإمام حسن البنا بأنهم يمثلون خطراً يتهدَّد مصالح بريطانيا ومُخطـَّـطاتها في المنطقة وأن خطرهم سيشتدُّ إذا وصلوا إلى حكم مصر ، وعلى ضوء هذه القناعة وضع الإنجليز هدفا إستراتيجيا هو : ( منع وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى الحكم في مصر ) ، وفي سياق تحقيق ذلك الهدف أخذت السفارة البريطانية بتحريض أدواتها وصنائعها في القصر الملكي وفي الحكومات والأحزاب والصحف المصرية والنخبة العلمانية ضدَّ الإخوان لتبدأ مرحلة جديدة من الكيد للجماعة هدفها منع وصول الإخوان إلى حكم مصر من خلال وضع العراقيل أمام الجماعة والتضييق عليها .
تحت ضغط الإنجليز حكومة حسين سرِّي
تـُدشـِّـن سياسة التضييق على الإخوان
لم يمض طويل وقت حتى كانت الإستجابة لضغوط السفارة البريطانية على صنائعها في الحكومات المصرية تطفو بوادرها على السطح ، وجاءت أول استجابة من حسين سرِّي باشا الذي فرضه الإنجليز رئيسا للحكومة المصرية في 15 / تشرين الثاني / 1940 م بعد وفاة صنيعتهم رئيسها السابق حسن صبري باشا ، فعندما أقام الإخوان إحتفالا حاشدا في السيدة زينب بالقاهرة في بدايات عام 1941 م إستشاط الإنجليز غضبا بسبب هتافات الإخوان ضدَّ احتلال الإنجليز لمصر والسودان اللذين كانا يُشكلان وحدة سياسية تحت إسم ( مملكة وادي النيل ) ، وزاد من غضب الإنجليز من تلك الهتافات أنها جاءت في وقت كان الإنجليز يعانون من الهزائم المتوالية أمام جيوش ألمانيا النازية ، فنفث الإنجليز حقدهم على الجماعة وقاموا بالضغط على صنيعتهم حسين سرِّي باشا لإصدار قرار بحلِّ جماعة الإخوان المسلمين ، ولكنه تردَّد في تنفيذ مطلب الإنجليز وأقنعهم أن حلَّ الجماعة في تلك الظروف التي كانت بريطانيا تخوض حربا أمام النازيين الألمان بزعامة هتلر وحلفائهم الفاشيين الطليان بزعامة موسوليني ستتسبَّب في ردود فعل شعبية في مصر لن تكون في مصلحة الإنجليز ، وأقنعهم بالإكتفاء بشنِّ حملة قمعية ضدَّ الجماعة تعرقل نشاطاتهم ، ويستذكر الإمام البنا في كتابه ( مذكرات الدعوة والداعية ) مضايقات حكومة سرِّي باشا للإخوان بقوله : ( جاءت وزارة حسين سرِّي باشا تحت ضغط الإنجليز على حساب الشعب المصري ومقدراته ومتطلباته التي ينشدها وهي الإستقلال عن المحتل الإنجليزي ونيل الحرية ، وجاءت لتقضى على نشاط الإخوان المسلمين ، وتحل جماعتهم ، وتحارب دعوتهم ، وذلك بعد أن يئس الإنجليز من أن يكسبوا هذه الجماعة إلى صفهم بالوعد والوعيد ، والإغراء والتهديد مما تعلمون الكثير منه ( يُشير إلى محاولات الجنرال كلايتون وجيمس هيوارث دَّن ) ، وكان من نتائج ضغط الإنجليز على حكومة سرِّى باشا أن تعطلت إجتماعات الإخوان ، وتوقفت نشاطاتهم ، وروقبت شـُـعبهم ودورهم ، وأغلقت مطبعتهم ومجلتيهم التعارف والشعاع الأسبوعيتين ومجلة المنار الشهرية ، ومنعت الجرائد المصرية من أن تذكر إسم ألإخوان فى أية مناسبة ، أو تشير إليهم بكلمة حتى في إعلانات النعي ، ومنع رقيب المطبوعات الإنجليزي المستر فيرنس طباعة رسالة المأثورات التي تحتوي فقط على آيات كريمة وأحاديث شريفة إلا بعد شطب عبارة ( من رسائل الإخوان المسلمين ) عن غلافها .
حكومة حسين سرِّي تنقل البنا
إلى قنا لإبعاده عن القاهرة
وفي سياق التضييق على نشاطات الجماعة منعت حكومة حسين سرِّي باشا انعقاد المؤتمر السادس للجماعة الذي كان مقرراً له الانعقاد في يوم الخميس 11 / ذي الحجة / 1359هـ الموافق 9 / كانون الثاني / 1941 م ، ولكن الجماعة عقدت مؤتمرها في المركز العام للجماعة في الحلمية الجديدة ، واتخذ المؤتمر قراراً بتفويض مكتب الإرشاد باختيار مرشحين للجماعة في الإنتخابات النيابية القادمة ليرفعوا صوت الدعوة ، وليعلنوا كلمة الجماعة فيما يهمُّ الدين والوطن ، وأزاء هذا التوجـُّـه ضاعف الإنجليز ضغطهم على حكومة حسين سرِّي ، فاشتطت الحكومة في قمعها للإخوان فاعتقلت وكيل الجماعة عبد الحكيم عابدين الذي قضى في سجن الزيتون ستة أشهر ، وأصدرت وزارة المعارف في 19 / ايار / 1941 م قرارا بنقل البنا إلى قنا لإبعاده عن القاهرة ، وقد اعترف وزير المعارف الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه ( مذكرات في السياسة المصرية ) بأن نقل الإمام البنا كان بناء على ضغوط من الإنجليز ، وأن نقله قوبل بموجة استياء عارمة من جميع أنحاء مصر فألغت الحكومة قرار نقله وإعادته إلى القاهرة في شهر تموز 1941 م .
البنا في السجن لأول مرَّة
بعد فترة من إلغاء قرار نقل الإمام البنا وعودته إلى القاهرة قامت حكومة حسين سرِّي باشا تحت ضغط الإنجليز في سياق سياسة التضييق على الجماعة باعتقال مرشد الجماعة حسن البنا وسكرتيرها العام أحمد السُـكـَّـري في 14 / تشرين الأول / 1941 م في أعقاب مؤتمر جماهيري عقده الإخوان بدون علم الحكومة في مدينة دمنهور في 3 / تشرين الأول / 1941 م هاجم خلاله البنا في كلمته بالمؤتمر السياسة البريطانية ، وقوبل اعتقال البنا وأخويه بمظاهرات نظمها طلاب الإخوان في العديد من المدن المصرية ، واستغلَّ خصوم حسين سرِّي باشا وخاصة حزب السعديين الذي انشق بزعامة محمود فهمي النقراشي باشا عن حزب الوفد الفرصة فهدَّدوا بنقل قضية اعتقال البنا وأخويه إلى مجلس النوَّاب ، لا حُباً بالبنا ولكن مناكفة للسعديين ، وأمام هذه الضغوط أرسلت الحكومة حامد بك جودة سكرتير حزب السعديين إلى الإمام البنا في المعتقل للتفاوض معه على خروجه وحده وإبقاء صاحبيه كحل وسط ، ولكن الإمام البنا رفض أن يخرج إلا بعد أن يخرجا أولاً ، ويذكر الأستاذ جمعة أمين عبد العزيز في كتابه ( أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين ) أن الإمام البنا قال لحامد جوده : ( إذا كان التحمُّس لهذه الدعوة جريمة فأنا المجرم الأول ، وإن كانت مؤامرة فأنا رأس المؤامرة ، وإن كان اعتداءً على النظام فأنا أول المعتدين ، فأي حكمة لكم وأي سياسة تلك التي تجعلكم تمنحونني الحرية وتتركونهما في السجن . ؟ ) ، وأمام إصرار البنا تمَّ الإفراج عنه وعن السُـكـَّـري في 13 / تشرين الثاني / 1941 م مع وعد بإطلاق سراح عابدين بعد وقت قصير .
أول محاولة لاغتيال البنا
بعد أن فشلت محاولات الإنجليز لاحتواء جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها البنا بالإغراء والإغواء ، وبعد أن فشلت الإجراءات القمعية التي قامت بها الحكومة المصرية التي يترأسها صنيعتهم حسين سرِّي باشا في التأثير على نشاطات الجماعة ، يذكر القيادي الإخواني جمعة أمين عبدالعزيز في كتابه ( أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين ) نقلا عن مخطوطة مذكرات وكيل الجماعة الأستاذ عبد الحكيم عابدين أن أحد الإخوان وهو الأخ عبد اللطيف سيد أحمد أخبره أنه سمع من أحد زملائه في العمل الذي كان من عملاء الإنجليز بعزم الإنجليز على اغتيال الإمام البنا عن طريق دهسه بعربة تابعة للجيش الإنجليزي على أن يصور الحادث على أنه قضاء وقدر ، فسارع الأستاذ عبد الحكيم عابدين بإذاعة الخبر بطريقة غير رسمية حتى انتشر الخبر بين الناس مما منع الإنجليز من الإقدام على تنفيذ تدبيرهم .
مكيدة جديدة
إتهام البنا بالتعاون مع رومل
كان تقدم جيوش ألمانيا النازية في الجبهة الإفريقية بقيادة ثعلب الصحراء رومل يؤرِّق الإنجليز ويخيفهم ، وكان يزيد من قلق الإنجليز تعاطف غالبية الشعب المصري مع ألمانيا النازية لا حبا بها وإنما كرها بالإنجليز الذين يحتلون مصر ويساعدون اليهود على سلب فلسطين ، وفي سياق التنفيس عن مأزوميتهم أمام تقدم الجيوش الألمانية حرَّضوا حكومة حسين سرِّي باشا على تلفيق تهمة لاثنين من الإخوان هما محمد عبد السلام فهمي المهندس في مصلحة الطرق والكباري بطنطا وجمال الدين فكيه الموظف في بلدية طنطا بأنهما كانا وسيطين بين الإمام البنا ومجموعة أفراد عرَضَت تزويد البنا بالسلاح والعتاد الألماني ، وقدِّم الأخوان للمحاكمة العسكرية أمام محكمة الجنايات العسكرية العليا بباب الخلق في القضية التي أطلق عليها ( الجناية العسكرية العليا 883 لسنة 1942م ) ، وكلف الإمام البنا السياسي المصري المعروف المحامي محمد علي علوبه الذي كان متعاطفا مع الإخوان بالدفاع عن الأخوين بمساعدة الدكتور المحامي علي بدوي والمحامي عمر التلمساني الذي أصبح لاحقا مرشدا عاما للجماعة ، وتمكن فريق الدفاع من إستصدار حكم ببراءة الأخوين بعد أن قَضيا في السجن ثمانية أشهر ونصف مما فوَّت على الإنجليز الإيقاع بالإمام البنا .
حكومة الوفد تتجسَّـس
على الإخوان لحساب الإنجليز
وفي سياق مخططهم للتضييق على الإخوان تعاونت السفارة البريطانية مع الحكومة المصرية في التجسُّـس على الجماعة ومرشدها ، وفي هذا الصدد يذكر الصحفى الإنجليزى مارك كيرتس في كتابه الصادر في عام 2005 م ( العلاقات السرية : التواطؤ البريطانى مع الإسلام الراديكالى ـ secret affairs : Britain’s Collusion with Radical Islam ) أن مسؤولين في السفارة البريطانية في القاهرة عقدوا اجتماعا في 18 / أيار / 1942 م مع صنيعتهم أمين عثمان باشا وزير مالية حكومة حزب الوفد التي فرضها الإنجليز على الملك فاروق في 4 / شباط / 1942 م ، وكان أمين عثمان باشا الذي كان يُجاهر بعمالته للإنجليز رئيسا لجمعية الصداقة البريطانية المصرية ، وهو صاحب المقولة الشهيرة : ( إن علاقة مصر ببريطانيا كالزواج الكاثوليكي لا طلاق فيه ) ، وقد إغتاله الوطنيون المصريون في عام 1946 م بسبب عمالته للإنجليز ، ويذكر كيرتس أن الإجتماع أسفر عن تكليف الحكومة المصرية بزرع عملاء موثوق بهم داخل جماعة الإخوان لتراقب عن قرب أنشطتهم وتنقل المعلومات التي يحصلون عليها إلى السفارة البريطانية ، كما تمَّ الاتفاق خلال الاجتماع على تزويد الحكومة المصرية للجانب البريطانى بقائمة بأسماء أعضاء الإخوان الذين يمكن اعتبارهم من العناصر الخطرة .
( حلقة 10 )
تحت ضغط الإنجليز حكومة الوفد
تمنع البنا من الترشـُّح للإنتخابات
أمام تعاظم قلق الإنجليز من انتفاض غالبية المصريين ضدَّهم بعد تقدَّم الجيوش الألمانية التي يقودها رومل ووصولها إلى العلمين قرَّر الإنجليز تغيير الحكومة التي كان يترأسها صنيعتهم حسين سرِّي باشا بسبب عجزها عن مواجهة التعاطف الشعبي مع الجيش النازي كراهية بالإنجليز وليس حباً بالنازيين ، واعتقد السفير البريطاني في القاهرة الفيلد مارشال السير مايلز لامبسون أن حكومة برئاسة مصطفى النحَّـاس باشا ستكون أقدر على كبح جماح التعاطف الشعبي مع الجيش النازي لأن حزبه ( حزب الوفد ) أكبر حزب في مصر سيكون أقدر على التأثير في المزاج الشعبي لصالح الإنجليز ، ومع أن الإنجليز لم يعتادوا على رفض الملك فاروق لأي طلب يطلبونه منه إلا أنه أبدى رفضه لتشكيل النحَّـاس باشا للحكومة ليس من معارضة الإنجليز ولكن لأنه كان على خصومة عارضة معه ، وأثار رفض الملك غضب السفير البريطاني فأوعز في 4 / شباط / 1942 م بمحاصرة قصر عابدين وخيَّرالملك فاروق بين تكليف النحَّـاس بتشكيل الحكومة أو التنازل عن العرش فرضخ الملك واستدعى النحَّـاس باشا وكلـَّـفه بتشكيل الحكومة فذهب النحَّـاس إلى السفارة البريطانية ليبلغ السفير أن الملك طلب منه أن يتفق معه على أسماء الوزراء فأبلغه السفير أنه يترك له اختيار وزراءه من أعضاء حزب الوفد الذي يتزعمه ، وشكـَّـل النحَّأس الحكومة في 6 / شباط / 1942 م .
قوبلت عملية محاصرة الجيش البريطاني لقصر عابدين لفرض زعيم حزب الوفد مصطفى النحَّـاس باشا رئيساً للحكومة بغضب شعبي انعكس سلبا على تأييده لحزب الوفد فتراجعت شعبيته ، ووجد حزب الوفد نفسه محاصرا بين تراجع شعبيته من جهة وبين فتور علاقته لدرجة الخصومة مع الملك فاروق وحاشيته من جهة أخرى ، وعندما حلـَّـت الحكومة الوفدية مجلس النوَّاب ودعت لانتخابات جديدة أعلن الإمام حسن البنا ترشـُّـحه للإنتخابات تنفيذا لقرار المؤتمر السادس للإخوان المسلمين الذي عقد في 11 / ذي الحجة / 1359هـ الموافق / 9 كانون الثاني / 1941 م بالمركز العام للإخوان بالحلمية بترشيحه عن دائرة الإسماعيلية محضن الجماعة الأول حيث يتمتع الإخوان بشعبية كبيرة ، وسرعان ما وجد النحَّـاس باشا نفسه أمام ضغط صارم من السفير البريطاني لمنع ترشيح المرشد العام حسن البنا للإخوان المسلمين في الإنتخابات ، فقد كان من الطبيعي أن ينزعج الإنجليز من ترشيح البنا الذي كانت تصنـِّـفه مخابراتهم بأنه أخطر أعدائهم في مصر ، وزاد من إصرار الإنجليز على منع ترشيح الإمام البنا أن المؤشـِّـرات كانت تؤكـِّـد فوزه ، حتى أن الصحفي المعروف مصطفى أمين استبق الإنتخابات وذكر في افتتاحية مجلة الإثنين ( 27 / نيسان / 1942 م ) التي كان رئيسا لتحريرها أن البنا سيكون زعيم المعارضة في المجلس القادم ، ولم يكن أمام النحَّـاس باشا الذي لم يرق له أيضا ترشـُّـح الإمام البنا إلا الإستجابة لضغط الإنجليز ، فسارع إلى محاولة ثني الإمام البنا عن الترشيح ، وقد أكـَّدت برقية صادرة عن السفارة الفرنسية في القاهرة تدخل السفارة البريطانية لمنع ترشيح الإمام البنا ، ونشرت نص البرقية مجلة ( الوطن العربي (الصادرة في باريس في عددها رقم 201 الصادر في 19 – 25 / كانون أول / 1980 م ضمن سلسلة ( حلقة جديدة من وثائق وزارة الخارجية الفرنسية ( بعد سماح وزارة الخارجية الفرنسية بنشرها بعد أن انقضت الفترة القانونية للحفاظ على سرِّيتها , وتحمل الوثيقة رقم 152 في الملف رقم 61 من ملفات وزارة الخارجية الفرنسية , وهي مرسلة من السفارة الفرنسية بالقاهرة بتاريخ الأول من أيار من عام 1944 وتحمل رقم الشفرة س . و 594-44 ، وجاء في البرقية : ( تلاقى جماعة الإخوان المسلمين صعوبات من قبل الحكومة المصرية وتعانى من العقبات التي تضعها الحكومة المصرية أمامها , وذلك بتحريض من السفارة البريطانية في القاهرة التي تنظر إلى الشيخ حسن البنا بريبة وشك ، وكمثال عن ذلك فقد أوعز البريطانيون في عام 1942 م لرئيس الوزراء المصري مصطفى النحاس باشا بمنع الشيخ حسن البنا من ترشيح نفسه للنيابة عن منطقة الإسماعيلية لأن البريطانيين يعتقدون أن فوزه في الانتخابات سيكون بمثابة صفعة قاسية للنفوذ البريطاني في مصر) .
ويستذكر القيادي الإخواني الأستاذ جمعة أمين عبد العزيز في كتابه ( أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين ) ما جرى بين الإمام البنا وبين النحَّـاس باشا : ( إلتقى النحَّاس باشا بالإمام البنا في فندق مينا هاوس ، وصارح النحَّاس باشا الأستاذ المرشد بحرج الموقف ، وطلب منه التنازل عن الترشيح من أجل مصلحته ومصلحة البلاد ، لكن الإمام البنا رفض ذلك وأعلن أن هذا حق دستوري يكفله له القانون ، وأن هذا هو قرار الإخوان ولا يستطيع هو بقرار فردى أن يعدل عن ذلك ، لكن النحَّاس أكد للإمام البنا أن هذا الأمر خارج عن إرادته وأن الإنجليز جادون فى تهديداتهم ، وهم يستطيعون أن يدمِّروا البلد فى ساعتين ، كما سيقومون بحل الجماعة ونفي زعمائها خارج القطر إذا لم يسحب ترشيحه ، وترك للإمام البنا التفكير فى هذا الأمر على أن تتم مقابلة أخرى فى هذا الشأن ، وتعهد النحَّاس باشا بتنفيذ ما يريده الإخوان فى مقابل ذلك الإنسحاب من الترشيح ، وعرض الإمام البنا الأمر على مكتب الإرشاد وتدارسوا الأمر جيدا ورفض الأغلبية انسحابه ، إلا أن الإمام البنا كان ينظر لمغبَّة الأمور جيدا وخشي أن ينفذ الإنجليز تهديدهم فأقنع إخوانه بقبول الإنسحاب مقابل مطالب يشترطونها وهي : أن يسمح النحاس باشا بفتح جميع شـُـعب الإخوان التي أغلقتها حكومته في نهاية شهر شباط 1943 م في سياق ضغوطها على الجماعة ، ولم تبق إلا على المركز العام ولكن تحت المراقبة ، وإحياء الأعياد الإسلامية لا سيما مولد النبي صل الله عليه وسلم وجعله عيدًا رسميًا للدولة ، وأن تـُصدر الحكومة قراراً بمنع تداول الخمر ، وقراراً بإلغاء البغاء الذي كانت مواخيره منتشرة بتشجيع من الإنجليز فى كافة أنحاء مصر ، وإصدار قانون بوجوب استعمال اللغة العربية في تعامل جميع الشركات والمؤسسات ومراسلاتها ، فوافق النحَّاس باشا على معظم الشروط فأصدر أمرا بإعادة فتح شـُـعب الإخوان بعد أن كان قد مضى على إغلاقها ثلاثة أشهر ، وأصدر قرارا بإغلاق يعض دور البغاء ، وبمنع شرب الخمر في الأعياد والمناسبات الإسلامية .
ووجَّه الإمام البنا رسالة إلى الإخوان أشار فيها إلى أن المحتلين الإنجليز ضغطوا على الحكومة لوضعنا أمام خيارين لا ثالث لهما ، فإما الإنسحاب من الترشيح وإما إعلان الحرب على الإخوان المسلمين بكل وسيلة ، وقد كنا أحرص ما نكون على ألا نصطدم بقوة مصرية لتستفيد من هذا الإصطدام الدسائس الإنجليزية لإيجاد شرخ بين المصريين ، فآثرنا الإنسحاب من الإنتخابات وفوَّتنا على المحتلين الإنجليز فرصة جرِّ الإخوان إلى الصدام مع أبناء شعبنا .
بعد انسحاب الإمام البنا من الترشيح أوفد النحَّاس باشا وفدا من قادة حزب الوفد لزيارة المركز العام للإخوان ضمَّ الوزراء فؤاد سراج الدين وعبد الحميد عبد الحق ومحمود سليمان غنام وأحمد حمزة ومحمد صلاح الدين سكرتير مجلس الوزراء ، كما ضمَّ الوفد النائبين عبد الحميد الوكيل ومحمود عبد اللطيف ، ونشرت مجلة الإخوان المسلمين النصف شهرية في عددها الصادر في جمادى الآخرة 1362هـ / الموافق 12 / تموز / 1943 مقتطفات من كلمة فؤاد سراج الدين في المركز العام جاء فيها : ( إن دعوة الإخوان سيكون لها شأن عظيم في المستقبل ، حيث سيلتقي عندها الجميع ، وتكون الوسيلة الوحيدة لإنقاذ المجتمع المصري ) .
على الصعيد الداخلي للإخوان أحدث خبر ترشـُّح الإمام البنا في بداية الأمر بلبلة في صفوف الإخوان حيث خشي بعضهم أن يكون الترشُّح إنزلاقا نحو العمل السياسي على حساب العمل الدعوي ، ولكن الإمام البنا سارع إلى حسم الأمر في سياق رسالته إلى مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين حيث جاء فيها : ( إن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيًّا ، بعيد النظر فى شؤون أمته ، مهتماً بها غيوراً عليها ، وإن على كل جمعية إسلامية أن تضع فى رأس برنامجها الإهتمام بشؤون أمتها السياسية ، وإلا كانت تحتاج هى نفسها إلى أن تفهم معنى الإسلام ) .
الإنجليز وحكومة أحمد ماهر باشا
يزوِّرون الإنتخابات ضدَّ البنا ومرشحي الإخوان
كانت الأحزاب المصرية تدور في فلك المحتلين الإنجليز ، وكانت سفارتهم في القاهرة تتلاعب بالأحزاب على قاعدة فرِّق تسد ، فترفع حزبا بتمكينه من تشكيل الحكومة ، ثم تبعده عن الحكومة لترفع حزبا آخر بتمكينه من تشكيل الحكومة ، وفي سياق هذه السياسة أوعزت السفارة للملك فاروق بإقالة حكومة حزب الوفد التي كانوا قد فرضوها فرضا بعد حصارهم لقصر عابدين في 4 / شباط / 1942 م ، فأقال الملك حكومة الوفد برئاسة النحَّاس باشا في ٨ / تشرين الأول / ١٩٤٤م وكلف أحمد ماهر باشا زعيم حزب السعديين المنشق عن حزب الوفد بتشكيل حكومة جديدة ، وحلَّ أحمد ماهر باشا مجلس النواب ( البرلمان ) وأعلن عن إجراء انتخابات برلمانية جديدة ، فقرَّر الإخوان ترشـيـح الإمام البنا عن دائرة الإسماعيلية والأستاذ أحمد السكري عن دائرة الفاروقية في محافظة البحيرة والأستاذ صالح عشماوي عن دائرة مصر القديمة والأستاذ عبد الحكيم عابدين عن دائرة الفيوم والأستاذ عبد الفتاح البساطي عن دائرة بندر الفيوم والأستاذ محمد حامد أبو النصر عن دائرة منفلوط ، وكما فعلت عندما ترشـَّـح الإمام البنا في عام 1942 م طلب السفير البريطاني من أحمد ماهر باشا منع الإمام البنا وإخوانه من الترشـُّـح للإنتخابات ، والتقى أحمد ماهر بالمرشد وطلب منه التنازل ، وألحَّ في الطلب ، ولكن الإمام البنا رفض طلب رئيس الوزراء رفضا قاطعا ، فألقى المحتلون الإنجليز مع صنيعتهم رئيس الحكومة أحمد ماهر باشا كل ثقلهم ليخسر الإمام البنا وإخوانه في الإنتخابات ، وفي يوم الانتخاب قدمت أرتال من السيارات من معسكر الجيش البريطاني في الإسماعيلية تحمل أعداداً كبيرة من العمال الذين يعملون في المعسكرات وفي شركة قناة السويس ومعظمهم من خارج الإسماعيلية ، وصوَّت هؤلاء العمال ببطاقات هوية مزورة تحمل أسماء ناخبين من أهل الإسماعيلية ، وأعلن المحافظ عن فوز صالح سليمان عيد متعهد التغذية لمعسكر الجيش الإنجليزي في الإسماعيلية وخسارة الإمام البنا ، ولم يفز أحد من مرشحي الإخوان الآخرين ، وكان القاضي عبد القادر عوده رئيسا لإحدى اللجان فاحتج على التزوير فأصدر وزير العدل قرارا بنقله من الإسماعيلية ، فأبى القاضي عبد القادر عودة هذه الإهانة واستقال من القضاء لتكون تلك الإستقالة طريقه إلى جماعة الإخوان المسلمين التي أصبح وكيلها فيما بعد قبل أن يغتاله جمال عبد الناصر بالإعدام شنقًا .
وعلق الإمام البنا على نتيجة الإنتخابات في جمع من الإخوان الغاضبين قائلا : إن عجز أمة عن أن تدفع أحد أبنائها إلى البرلمان ليقول كلمة الحق والإسلام لدليل على أن الحرية رياء وهباء ، وأن الاستعمار هو سر البلاء ، إنني أحسب أن مراجلكم تغلي بالثورة وعلى شفا الانفجار ، ولكن في هذا الموقف لا بدَّ من صمام الأمان ، فاكظموا غيظكم ، وادَّخروا دماءكم ليوم الفصل ، وهو آت لا ريب فيه ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ، ووصيتي لكم أيها الإخوان أن تنصرفوا إلى منازلكم وبلادكم مشكورين مأجورين ، وأن تفوتوا على أعدائكم فرصة الاصطدام بكم ) .