أحمد الزرقان
أبو عامر الراهب ومسجد الضرار
المساجد هي أقدس البقاع في الأرض وأطهرها وسميت بيوت الله نسبة شرف وتكريم وتبجيل وقداسة، وهي منارات مضيئة تترآءى لأهل السماء كالكواكب المشعة، ويتسابق لها الملائكة ليشاركوا أهل الأرض بالعبادة والدعاء لهم بالخير والتوفيق والنجاح ((وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً)) [الجن18].
وكان المسجد هو المشروع الأول في حياة النبي ـ صل الله عليه وسلم ـ ، والمشروع الأهم في بداية الدولة الإسلامية وكان بالإضافة للعبادة يعد المركز الأول للإدارة والتخطيط والتشاور واستضافة الوفود والانطلاق للمعارك فهو بمثابة دار الخلافة ورئاسة الوزراء في بداية الدولة الناشئة لينطلق النور منه ويعم العالم ويبدد دياجير الظلم والظلمات.
ولكن أخطر شيء على الدولة الإسلامية والدعوة إلى الله أن تضرب من داخلها من المنافقين من الطابور الخامس، ممن يطلع على عوراتها وأسرارها ونقاط ضعفها بمسميات شرعية، وأماكن تحمل معنى القدسية لتصبح هذه المساجد المقدسة بيوت للضرار والتخريب والتدمير وضرب هذا المشروع الإسلامي الذي يعد أمل الأمة وحلمها للانعتاق والانطلاق والتحرير، بما تلبسوا به من لبوس الحق والإصلاح كذباً وزوراً ونفاقاً وتدليساً وبهتاناً.
أبو عامر الراهب رجل من الأنصار تنصر في الجاهلية وكان له شرف في الخزرج كبير، فلما قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مهاجراً إلى المدينة، واجتمع المسلمون عليه، وصارت للإسلام كلمة عالية، وأظهرهم الله يوم بدر؛ شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها، ثم خرج فاراً إلى كفار مكة يمالئهم على حرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلما خرجت قريش لمعركة أُحُد كان معهم يحرضهم على استئصال شأفة المسلمين وقتل النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين، فوقع رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ في إحداهن، فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى وشج رأسه الكريم صلوات الله وسلامه عليه بفعل هذا المنافق اللعين.
وحاول أن يستميل الأنصار في بداية المعركة لصف الكفار، فردوا عليه قائلين: لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق يا عدو الله! ونالوا منه وسبوه، فرجع وهو يقول: والله لقد أصاب قومي بعدي شراً! ثم ذهب إلى ملك الروم يستنصره على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوعده ومناه وأقام عنده، وكتب إلى جماعة من قومه من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويغلبه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه، ليكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه، ولما فرغوا منه طلبوا من رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ الصلاة فيه ليكسبوه شرعية ويغطوا على مكرهم، ولكن الله عصمه من الصلاة فيه وقال أنا على سفر إلى تبوك، وفي طريق العودة من معركة تبوك فضح الله أصحاب هذه المؤامرة والخديعة بآيات تتلى إلى يوم القيامة: ((والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفنَّ إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون* لا تقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين* أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله خير أم من أسس بنيانه على شفى جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين* لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم)) [الآيات 107-110 التوبة].
ويعلق سيد قطب رحمه الله في الظلال قائلاً: [هذا المسجد – مسجد الضرار – الذي اتخُِّذَ على عهد رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ مكيدة للإسلام والمسلمين، لا يُراد منه إلا الإضرار بالمسلمين، وإلا ستر المتآمرين على الجماعة المسلمة، الكائدين لها في الظلام، وإلا التعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستائر الدين.
هذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين، تتخذ في صورة نشاط ظاهره الإسلام وباطنه لسحق الإسلام، والجماعة المسلمة، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه! وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتترس وراءها وهي ترمي هذا الدين!
ومن أجل مساجد الضرار الكثيرة هذه يتحتم كشفها وإنزال اللافتات الخادعة عنها، وبيان حقيقتها للناس وما تخفيه وراءها، ولنا أسوة في كشف مسجد الضرار على عهد رسول الله ـ صل الله عليه وسلم ـ بذلك البيان القوي الصريح في الآيات السابقة من سورة التوبة] انتهى الاقتباس.
أعتقد أن مساجد الضرار الكثيرة التي تحاك فيها المؤامرات للدعوة الإسلامية يجب تعريتها بلا هوادة، وكشف خداعها بلا تردد، وفضحها بلا وجل، حتى يعرف حقيقتها القاصي والداني ويكون أبناء الدعوة الإسلامية على بصيرة من أمرهم، وكذلك تعرية كل من يدافع عنهم، أو يلتمس لهم العذر، أو يبرر لخداعهم وتآمرهم على أنه منهم بكل وضوح وصراحة، لأنه يتدسس في الصف ليدمّر ويخرّب من الداخل بأشد وأنكى من كل أعداء الخارج.