الدكتور حازم نسيبة
كنت طفلاً في السادسة من عمري عندما كنت أذهب إلى روضة المعارف
الوطنية في البلدة القديمة، مشيا على الأقدام، في بقعة تشرف مباشرة على الحرم القدسي الشريف. كان يشد انتباهي عندما أمر بباب العامود أحد أهم أبواب القدس التاريخية، مقهى متواضع يتواجد فيه كل صباح باكر نحو خمسة وعشرين زائراً، يجلسون على مقاعد القش، يحتسون القهوة ويدخنون السجائر أو النرجيلة، ويستمعون بشغف وانبهار إلى رجل يجلس على منصة مرتفعة، يتلو عليهم مختلف ما احتوت عليه صحف ذلك اليوم من وقائع وتعليقات من محرريها وقادة الرأي في المجتمع المحلي.
ما زالت في الذاكرة أيضا الشعائر والفرائض الدينية التي كان جدي لوالدتي يأمرنا بانتهاجها واحترامها بدقة.
الدكتور حازم نسيبة مقدسي ولد فيها في السادس من أيار عام 1922بحي باب الساهرة الواقع من الجهة الشمالية لمدينة القدس, وباب الساهرة من أهم مداخل القدس الشريف, يحيط به من الخارج شارع صلاح الدين وهو الذي ذكر بالقرآن الكريم « فإذا هم بالساهرة « إلا أن المقد سيين يسمونه باب الزاهرة. حاول الإسرائيليون اختراقه أكثر من مرة في معارك سنة 1948 في القدس لكنهم فشلوا في كل مرة.
د نسيبة الابن الثالث بين سبعة أخوة وأربع أخوات ولا ينفك عن ذكر ما اتصف به والده في أهمية تمكين رب العائلة من إحكام السيطرة، وفرض الاحترام والنظام والانسجام والتآلف في محيط الأسرة الكبيرة التي كانت تعيش تحت سقوف وجدران وباحات واحدة.
من السياسة إلى الاقتصاد؟
كوني شغلت منصب وكيل وزارة الاقتصاد لا يعني انني بعدت عن السياسة، حتى في السنوات التي سبقت نكبة 1948كنت أجتمع مع عدد غير قليل من ساسة العالم وذوي الرأي والقرارفيه، والذين كانوا يتقاطرون على القدس لاستِجلاء المواقف، والوقوف على وجهات نظر الفريقين المتصارعين في فترة ما قبل الحسم.كانت أكثر أماكن اللقاء لي ولغيري من رجالات القدس ومُثقفيها، الصالون السياسي الذي وفرته السيدة « كيتي أنطونيوس» أرملة أحد كبار موظفي حكومة فلسطين «جورج أنطونيوس» مؤلف كتاب يقظة العرب وهوالكتاب المرجع في الثورة العربية الكبرى.
وزيراً للخارجية في حكومة وصفي التل عام 1962.. ما طلبك منه قبل مباشرة عملك في الوزارة؟
عندما عرض عليّ وصفي التل، يرحمه الله وكان رجلا شجاعا واسع الأفق قلت له: ان المناصب والشهرة وتوابعهما لا تعنيني شيئا، وانني قبلت في المنصب الوزاري لعلي أستطيع تقديم عمل ما للقضية الفلسطينية، وقد استأذنت منه لتمضية اسبوع في منزلي، لبلورة وإعداد تصور وخطة عمل، لدفع هذه القضية الى الأمام، وعكفت على وضع دراسة في سبع وثلاثين صفحة، تضمنت مواقف الأردن في ثلاث قضايا رئيسية:
القضية الأولى هي القضية الفلسطينية، وكان قد ران عليها الصمت وعمّ التقاعس، اللهم إلا عبر موجات الأثير وصفحات الجرائد.
والقضية الثانية العلاقة العربية - العربية. والثالثة الصراعات الفكرية التي كانت دائرة على الساحة العربية وكانت موضع خلافات عميقة بينها.
وعندما قدمت تفاصيل لما عملت عليه إلى مجلس النواب ونشرته الصحف ووكالات الأنباء تلقته التجمعات الفلسطينية في الوطن العربي والمهجر بترحيب واسع النطاق، وتوافدت قيادات تلك التجمعات على عمان لتعرب عن تأييدها وترحيبها الحار بالنهج الذي انطوى عليه.
في عام 1962زرت الكويت كوزير للخارجية وكنت العربي الوحيد بين المدعوين:
جاءت زيارتي لدولة الكويت الشقيق للمشاركة في أول عيد لاستقلالها الوطني، وقد حضرت الاستعراض العسكري الذي جرى لهذه المناسبة. كان للأردن كتيبة من الجيش بناء على طلب من الجامعة العربية للوقوف في وجه تهديدات عبد الكريم قاسم باجتياح الكويت.. صحيح كنت وزير الخارجية العربي الوحيد بعد ان تقاعست عن الحضور عدة دول عربية مجاورة خوفا من اغضاب العراق، أو تحقيقا لمصلحة اقتصادية فيه، أو للمماحكات العربية- العربية المعهودة.من المحزن حقا ان تلك الوشائج العميقة قد اهتزت من جذورها بسبب ما بدا انه موقف محير وغير واضح، وحتى عدائي عندما غزا العراق الكويت عام 1991. انني واثق من منطلق معرفتي بالعديد من الفلسطينيين الذين كانوا يعملون بالكويت، بان الغالبية العظمى منهم لم تشاطر ولم ترتح لبعض التصريحات المؤسفة التي اطلقتها بعض القيادات الفلسطينية إبان الأزمة، والتي كان من عواقبها، طرد نحو نصف مليون فلسطيني أردني من الكويت، وكانوا عمادا من الأعمدة الرئيسية كمنتجين ومستهلكين، وتربطهم بأهل الكويت أوثق الروابط وأصدقها.
واستقالتك من حكومة وصفي التل عام 1966؟
جاءت استقالتي احتجاجا على استدعاء زعماء الضفة الغربية إلى الديوان الملكي، حيث استمعوا إلى كلمات قاسية نتيجة تضارب الولاءات في تصريحات وسلوكيات المنظمة، وكان موقفي أنه لا يجوز تعميم اللوم على قادة الضفة الغربية، فيما هو من فعل أفراد معدودين، وان رد فعل الحكومة كان أمرا مبالغا فيه.
على ذكر منظمة التحرير
الفلسطينية متى وكيف تم انشاؤها؟
البداية جاءت من قبل الدول العربية التي كانت تتطلع إلى اقامة شكل من اشكال الكيان الفلسطيني منذ عام 1960، واتخذت قرارا مبدئيا في مؤتمر خارجية عقد في شتورة في نفس العام، كما انها اقترحت إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية عام 1963وذلك عندما اجتمع أول مجلس وطني فلسطيني في فندق «الانتر كونتننتال» على جبل الزيتون في بيت المقدس وقد افتتح الملك الحسين - يرحمه الله- المجلس الوطني الأول وبارك أعماله،وقد انضم إلى المجلس بالاضافة إلى الفعاليات والتنظيمات الفلسطينية المتعددة جميع أعضاء مجلس النواب من فلسطينيّ الضفة الغربية. وقد اعترض النواب الأردنيون على استثنائهم من عضوية المجلس، وتم انتخاب عدد من الشخصيات الأردنية أعضاء شرف فيه. وخلال اجتماعات المؤتمر تم وضع الميثاق الوطني، وانشاء لجنة تنفيذية، وانتخاب أحمد الشقيري أول رئيس للمنظمة.
اعترفت الدول العربية بها؟
حصل واعترفت بها في اجتماع القمة العربية الأول المنعقد في كانون الثاني، وقد تقرر انشاء جيش التحرير الفلسطيني من ثلاثة الوية، وافتتحت المنظمة مكاتب لها في شعفاط بمدينتي القدس وعمان وغيرهما من العواصم العربية، وبقي أحمد الشقيري رئيسا للمنظمة حتى عام 1969، كما انتخب يحيى حمودة رئيسا لفترة من الزمن، ومن ثم تم انتخاب الرئيس ياسر عرفات رئيس أكبر التنظيمات الوطنية الفلسطينية «فتح» رئيسا للمنظمة حتى وفاته يرحمه الله في ظروف مشبوهة من التسمم بعد حصار القوات الاسرائيلية له في مقره.
زعمت إسرائيل ان من أسباب عُدوانها الغادر في حزيران 67انتقاما لغارات تشن ضدها من سورية وغزة وهجمات قليلة من الأردن:
هذا زعمها.. لكنني أذكر قبل عام 67 وكنت حينها في القدس عندما سمعت صوت انفجار عبوة صغيرة على بعد بضع مئات الأمتار عام 1965 فاستوضحت الأمر فعرفت ان شابا قد عبر إلى المنطقة الحرام ووضع العُبوة، ولم تكن ضد أي موقع معين. لم تكن فتح قد ظهرت إلى الوجود العلني، كما وانها لم تكن قد نفذت عمليات ذات بال في حينه، بحيث يمكن ان يُبرر قيام اسرائيل بعملياتها العسكرية الانتقامية الواسعة ضد قلقيلية وجنين في أيار عام 65وهي منطقة اللطرون، وضد قرية السموع في 13تشرين ثاني عام 66.
وأذكر أيضا عندما كنت في القاهرة برفقة رئيس الوزراء وصفي التل، لحضور اجتماع مجلس وزراء الخارجية والدفاع، حينها وقع الهجوم على السموع فقال لي وصفي يومها: «لقد بدأت المعركة من أجل الضفة الغربية»! واعتبرت الحكومة الأردنية هذا الهجوم الذي تم فيه تدمير معظم بيوت القرية بمثابة توطئة أو تدريب على حرب 67.
كانت إسرائيل وباعترافها تتحين الفرص للانقضاض على الضفة الغربية والقدس تحديدا للاستيلاء عليها لهدف استراتيجي مقرر لا يحتاج إلى تبرير أو تعليل.
هذه القدس التي نحب سقطت بيد العدو بين عشية وضحاها، بكل تاريخها وقدسيتها وأمجادها نتيجة سوء تقديرنا لمطامع العدو فيها، واندفاعاتنا العاطفية غير المدروسة التي ساهمت في تمكين اسرائيل من تنفيذ مخططاتها. ضاعت القدس وسائر ما تبقى من فلسطين، بسبب اغلاق مضائق تيران التي ما كادت تمر بها بضع سفن اسرائيلية في العام كله،
لكن اسرائيل كانت مصممة ومخططة لاحتلال القدس، وقد تم ذلك.
تفسيرك لما جرى في حزيران 67، عندما دخلنا الحرب في الساعة العاشرة صباحاً بينما حسمت المعركة بساعتين بتدمير سلاح الجو المصري في قواعده على الأرض؟
هذه الكارثة سبّبت لشعبنا وأمتنا جرحا عميقا لا يندمل.. لقد سألت الملك الحسين طيب الله ثراه في احدى المناسبات:» لماذا لم يبلغنا الملحق العسكري الأردني في القاهرة بما حدث؟» وبعد ثوان من الصمت والتأمل، أجاب سيدنا مذهولا:» أتتوقع ان يخبرنا الملحق العسكري بما حدث، بينما الرجل الكبير، نفسه- ويعني الفريق «عبد المنعم رياض» الذي كان بيننا يقود القوات المسلحة على الجبهة الأردنية، لم يكن يعرف»!
استغللت دبلوماسيتك
في دعم القضية الفلسطينية؟
بكل تأكيد، بدأنا في حملة دبلوماسية عالمية وبالتشارك مع الدول الشقيقة نتحرك لدعم القضية الفلسطينية، وفي أحد اجتماعات وزراء الخارجية العرب اقترحت ان تختار كل دولة عربية اقليما من اقاليم العالم تربطها به علاقات ومصالح وثيقة لعرض قضية فلسطين عليها وكسب تأييدها.
كان برنامجي كما ابلغت وزراء الخارجية العرب بدء جولة في شهر آب تشمل عشرة بلدان في امريكا اللاتينية ، فكنت في كل بلد منها اقابل رؤساء الدول ووزراء الخارجية وغيرهم من كبار المسؤولين، ولا يقل عن ذلك اهمية ممثلو التجمعات من اصول عربية، وكانت معظمها من – بلدان الشام- سوريا، الأردن، فلسطين ولبنان الذين هاجروا إلى العالم الجديد في اواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين هربا من الفقر والتخلف والحروب التي كانت تجتاح منطقتنا العربية. هؤلاء كانت النجاحات ظاهرة في حياتهم فيما حققوه، ورغم تأقلمهم وانصهارهم في المجتمعات التي يقطنون فيها لكنهم بقوا محافظين على أصولهم العربية فوجدت في كل بلد من تلك البلدان أندية وجمعيات تحمل هويات أعضائها وأصولهم.. النادي اللبناني والسوري والأردني والفلسطيني والعربي الذي يجمع بين تلك الاصول.
محصلة جولتك في أمريكا اللاتينية:
كانت مليئة بالجهد والعناء وهي حقا تستحق الجهد الذي قمت به خاصة اننا لم نكن مسرفين في توقعاتنا، وندرك محدودية النتائج المتوخاة منها.
هل من تشابه بين أوضاعنا وأميركا اللاتينية ؟
كثيرة.. انها قارة صاعدة تتقدم في جميع مجالات الحياة، وقد قصرت دولنا العربية في التواصل معها، ومع حكوماتها وشعوبها، تاركة فراغا لا بد وان يملأه أعداؤنا. يضاف إلى ذلك ان لنا اعدادا كبيرة من اكباد امتنا، ثم ان لأمريكا اللاتينية حضورا كبيرا في الأمم المتحدة ومؤسساتها العامة، وبالتالي مصالح مشتركة في التعاون على المستويات الدولية. واذا ما بالغت اقول ان 75% من شعوب أمريكا اللاتينية التي تنحدر من اصول اسبانية وبرتغالية، تحمل في عروقها من الأصول العربية التي تتبلور في التمازج الأندلسي على امتداد 800عام من الوجود العربي في شبه الجزيرة الآيبيرية،عندما قطع اجدادهم البحار حيث تم اكتشاف القارة الأمريكية عام 1492 الذي تزامن مع سقوط آخر المعاقل العربية في الأندلس – غرناطة.