أثبت علماء الآثار من اليهود والأوروبيين والأمريكان الذين نقّبوا تحت المسجد الأقصى أنه لا يوجد أثر واحد لهيكل سليمانالأرض المقدسة لا تتغير بملك الكافر، فتبقى قدسيتها ومكانتها لحين تحريرها من أيدي الأعداءخلال قراءتي للعديد من الكتب التي بحثت في موضوع هيكل سليمان ومطالبات اليهود بهدم الأقصى وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه، وجدت الكثير من اللبس في تلك الكتابات، التي تشتت القارئ المسلم، بل في بعض الأحيان تعطي لليهود حقاً ليس لهم!!
فمن أهم التحديات الكبيرة التي تواجه الأمة العربية والإسلامية: التغلب على الرواية الصهيونية، والادعاءات والأساطير التي عملوا على إقناع الغرب بها؛ فقد ألبس قادة الكيان اليهودي وزعماؤه -الدينيون والسياسيون- تلك الأساطير والخرافات ثوب الدين والتوراة، التي تتكرر أمام أعيننا كل يوم في نشرات الأخبار ووسائل الإعلام المختلفة.
وها قد نسج حاخامات اليهود وباحثوهم وسياسيوهم وأعوانهم من المستشرقين الكثير من الأساطير حول الهيكل المزعوم؛ فسطروا حوله الكثير من الأكاذيب، واتخذوا منها المسوغات للكثير من الإجراءات والممارسات الممهدة لهدم المسجد الأقصى؛ ليعيدوا أمجادهم المزعومة في بناء ما أسموه: (هيكل سليمان).
ما دفعني لصياغة منهجية واضحة للكتابة في هذا المجال أجملها في البنود والقواعد الآتية:1- اليقين بأن اليهود ما زالوا يشعرون في قرارةِ أنفسهم بعقدة النقص، فالجوع لديهم في إثبات علاقتهم بفلسطين، وشعورهم بأنهم غرباء، دفعهم ذلك لصناعة تاريخ وثقافة وحضارة لهم على أرض فلسطين وما حولها، وادعاء ذلك التاريخ والتراث للأجيال اليهودية القادمة!!
2- اليقين كذلك بأن اليهود أوقعوا الكثير من التشويه والتزييف بتاريخ الأمة المسلمة، والذي بدأ منذ عهد الرسالة مبعث نبينا محمدصل الله عليه وسلم ، واستمر هذا التزييف إلى أن اغتُصبت أرض المسلمين في فلسطين؛ فأكملوا رسالتهم في تزييف التاريخ لطمس جريمتهم؛ لكي يبدوا أمام العالم وكأنهم لم يأخذوا إلا حقا لهم، ولم يغتصبوا أملاك غيرهم!
3- أن بقعة المسجد الأقصى لها قداسة على مر العصور، منذ الأنبياء والأولياء والعبّاد، وأساس البناء الأول ثابت في هذه البقعة المباركة، وكل من تتابع على إعمار أو بناء أو إصلاح أو تطهير هذه البقعة إنما يفعل ذلك على الأساس القديم.
4- في الأخبار اليهودية المصنوعة يذكرون الهيكل ويذكرون المذبح، وفي المصادر الإسلامية المسندة جاء اسم: (المسجد الأقصى)، وجاء اسم: (بيت المقدس)، وجاء اسم: (المحراب)، وليس في الأخبار الإسلامية الصحيحة ما ينص على أن ما بناه سليمان يسمى: هيكلاً؛ لأن كلمة (هيكل) مروية عن كتب أهل الكتاب، ونحن لا نثق بما تقوله هذه الكتب، ولا نركن إليها عند تحقيق تاريخنا الإسلامي، وما جاء مصطلح (الهيكل الأول والهيكل الثاني) إلا من ألفاظ ومصطلحات توراتية.
5- كل ما نقل عن الهيكل مصدره الإسرائيليات: ذكر ابن خلدون(1): «الأخبار التي كانت لليهود ببيت المقدس، والملك الذي كان لهم في العمارة بعد جلاء بختنصر, وأمر الدولتين اللتين كانتا لهم في تلك المدة، لم يكتب فيها أحد من الأئمة، ولا وقفت في كتب التواريخ, مع كثرتها واتساعها على ما يلم بشيء من ذلك». وما قيل في الهيكل وتفاصيل بنائه وموجوداته وغير ذلك ينطبق عليه حكم الإسرائيليات المرفوضة التي علم كذبها ولا يحتمل صدقها البتة.
6- أن الله -سبحانه- ما أمر ببناء المسجد الأقصى إلا لعبادته في هذه البقعة المباركة، وبقعة المسجد الأقصى كانت موجودة ومعروفة؛ ولذلك سكن اليبوسيون بجوارها، ولم يسكنوا فيها؛ لأنها محل للعبادة، فقد قال أبو ذر رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: (المسجد الحرام)، قال: قلت: ثم أي؟ قال: (المسجد الأقصى)، قلت: كم كان بينهما؟ قال: «أربعون سنة»(2).
7- ما قام به سليمان -عليه السلام- في بيت المقدس ليس بناءً لهيكل وإنما هو تجديد للمسجد الأقصى المبارك؛ الذي هو ثاني مسجد وضع في الأرض، كما ثبت في الحديث الصحيح، فقد قال النبي محمدصلى الله عليه وسلم : «لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه»، فقال النبي محمدصل الله عليه وسلم : «أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة»(3).
8- المصدر الوحيد لأخبار الهيكل: (أسفار بني إسرائيل)، وهذه الأسفار ليست منسوبة إلى نبي، ولم يكتبها من كتبها في وقت الأحداث التي ترويها، فجاء أكثرها من نسج الخيال، فهل يُعقل أن المكان الذي أسري بالنبي محمد صل الله عليه وسلم إليه هو الهيكل، أو مكان الهيكل؟! لا؛ بل أسري به إلى المسجد الأقصى البقعة المباركة.
9- لم يستطع أحد من الباحثين اليهود تحديد مكان الهيكل المزعوم بصورة لا تقبل الشك حتى يومنا هذا، ولهم آراء عدة ونظريات بشأن مكان الهيكل، منهم من يقول: تحت المسجد الأقصى المبارك، وأن المسجد الأقصى قد بُني على أنقاض الهيكل، والبعض يرى أن الهيكل يقع فوق الصخرة، وأنها -أي: الصخرة- حجر الأساس لانتشار الكون، وآخرون يرون أن مكان الهيكل يقع بين مصلى (المسجد الأقصى)، وبين مسجد (قبة الصخرة) في داخل أسوار المسجد الأقصى، ويرى يهود السامرة: أن الهيكل موجود على جبل جرزيم قرب نابلس، وبعضهم يقول: إنه في بيت أيل شمال القدس وجنوب رام الله في لوزة أبو لوز(4).
10- أثبت علماء الآثار من اليهود والأوروبيين والأمريكان الذين نقّبوا واشتغلوا بالحفريات والأنفاق تحت المسجد الأقصى أنه لا يوجد أثر واحد لهيكل سليمان؛ لا تحت المسجد الأقصى، ولا تحت قبة الصخرة، وشاركهم في هذا الرأي كثير من الباحثين اليهود والغربيين؛ مما دفع بعضهم إلى أن يقول: إن الهيكل قصة خرافية ليس لها وجود! ومن أشهر هؤلاء العلماء اليهود: (إسرائيل فلنتشتاين)، من جامعة تل أبيب، ونشرت آراؤه منذ فترة قريبة، وغيره كثير(5).
11- لماذا يتشبث اليهود بمدينة بيت المقدس؛ مع العلم أنه لا توجد علامات أو إشارات أو إثباتات تشير إلى أماكن المقدسات اليهودية بها؟! ولماذا لا يتشبث اليهود بمدينة الخليل بدلاً من مدينة القدس؛ مع العلم أنها حسب رأيهم مدينة الآباء والأجداد؟! فعند اليهود: إن داود وسليمان كانا ملكين، وإبراهيم كان نبياً … فكيف تقدس مدينة الملوك ولا تقدس بنفس الدرجة مدينة الآباء والأجداد والأنبياء؟!
12- الثابت تأريخاً وجود القبائل العربية من الكنعانيين(6) في فلسطين قبل ظهور اليهود بآلاف السنوات، ولم ينقطع وجود العرب واستمرارهم في فلسطين إلى يومنا الحالي، فالعرب عاشوا في فلسطين قبل مجيء اليهود إليها وفي أثناء وجودهم فيها، وظل العرب فيها بعد طرد اليهود منها. فقد استقر العرب في فلسطين أكثر مما استقر فيها اليهود، وتمكن فيها الإسلام أكثر مما تمكنت اليهودية، وغلب عليها القرآن أكثر مما غلبت التوراة التي حرفتها أيديهم! وسادت العربية أكثر مما سادت العبرية.
13- سكن أرض فلسطين (الأرض المقدسة) في الماضي أجيال مؤمنة من بني إسرائيل، وأقاموا عليها حكماً إسلاميّاً مباركاً زمن يوشع؛ وطالوت، وزمن داود وسليمان، ولقد كتب الله الأرض المقدسة فلسطين لذلك الجيل المؤمن من بني إسرائيل لإيمانهم وفضلهم على الكافرين الذين كانوا في زمانهم، ومكنهم من دخولها على يد يوشع بن نون، ونصرهم على أعدائهم الكافرين، فلما جاءت أجيال جديدة منهم، وخالفت شرط الاستخلاف، ونقضت عهد الله، وطغت وبغت، أوقع الله بها لعنته وسخطه، ونزع الأرض المقدسة منهم، وكتب عليهم الشتات والضياع في بقاع الأرض {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا} (الأعراف:168).
14- جميع الرسل والأنبياء -من بُعث منهم إلى بني إسرائيل أو إلى غيرهم من الأمم- دينهم الإسلام، ورسالتهم هي الإسلام، ودعوتهم التوحيد، وأتباعهم الذين آمنوا بهم هم المسلمون، كما قال تعالى {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (البقرة:132). وقال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} (المائدة:111)
15- يجب أن نفرق بين أنبياء بني إسرائيل ومن آمن معهم، وتاريخهم المشرق الذي حكمهم فيه مؤمنوهم وصالحوهم، وقادهم فيه أنبياؤهم، فهذا التاريخ نُعده تاريخاً إسلاميّاً مثل تاريخ موسى وهارون، وتاريخ داود وسليمان، وتاريخ زكريا ويحيى، وتاريخ عيسى عليه السلام، وبين التاريخ الأسود الذي يقوم على الكفر والتكذيب ومحاربة الحق ونقض العهود وقتل الأنبياء وممارسة الظلم والسعي في الفساد ونشر الرذائل والمنكرات، فهذا التاريخ هو التاريخ الحقيقي لليهود، وهذا ما نتبرأ منه وننكره، ونحكم عليهم بالكفر والظلم والفسوق والعصيان.
16- أنبياء بني إسرائيل ليسوا يهوداً، ولكن اليهود هو من كفر برسالة نبيه من بني إسرائيل، وألا صلة ليهود اليوم بسلالة بني إسرائيل، وهذا بإثبات اليهود أنفسهم واعترافهم، وألا حق لليهود في القدس ولا غيرها من أرض فلسطين؛ لا من قريب ولا من بعيد.
والأرض المقدسة لا تتغير بملك الكافر، فتبقى قدسيتها ومكانتها لحين تحريرها من أيدي الأعداء، وقد نبه الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود في رسالة له باسم: (الإصلاح والتعديل فيما طرأ على اسم اليهود والنصارى من التبديل)، وفيها تحقيق بالغ أن (يهود) انفصلوا بكفرهم عن بني إسرائيل زمن بني إسرائيل؛ كانفصال إبراهيم عن أبيه آزر.
والكفر يقطع الموالاة بين المسلمين والكافرين؛ كما في قصة نوح مع ابنه، ولهذا فإن الفضائل التي كانت لبني إسرائيل ليس ليهود فيها شيء، ولهذا فإن إطلاق اسم: (بني إسرائيل) على يهود يكسبهم فضائل، ويحجب عنهم رذائل؛ فيزول التمييز بين (إسرائيل) وبين يهود المغضوب عليهم؛ الذين ضربت عليهم الذلة والمسكنة»(7).
17- الذين قدر الله -سبحانه وتعالى- أن يتحرر بيت المقدس على أيديهم وسلطانهم وإقامة حكم الله عليها هم المسلمون، ومن هؤلاء: المسلمون بقيادة يوشع بن نون، والمسلمون المجاهدون الذين من بينهم داود، وجاء بعد داود ابنه سليمان، وعلى عهده كان بيت المقدس عاصمة للدولة الإسلامية وليست عاصمة لليهود كما يزعمون! والمسلمون صحابة رسول الله -رضوان الله عليهم-، فعلى أيديهم بدأت معارك التحرير بما في ذلك بيت المقدس، وشاء الله أن يتحرر ويقوم عليها حكم الإسلام على عهد عمر بن الخطاب في عام (15 هـ)، والمسلمون بقيادة نور الدين محمود بن زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، وغيرهم من الحكام المسلمين هم الذين قادوا المجاهدين المسلمين حتى تحقق على أيديهم تحرير بيت المقدس بعد (93) عاماً من اغتصابها(
.
18- أن هذه الأرض -بيت المقدس- هي للمسلمين ما داموا أنصاراً لدين الله، فقد ارتبط امتلاك هذه الأرض بالإيمان بالله، فقد كان الكنعانيون هم سكان فلسطين في عهد موسى، ولما أنجى الله سيدنا موسى؛ ومن معه من بني إسرائيل من فرعون أمرهم موسى بأمر الله: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ} (المائدة:21-22)، وجواب هذا: أن اليهود الذين غضب الله عليهم ولعنهم في القرآن إنما كان ذلك بسبب سوء أعمالهم، بدليل قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ
عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} (النساء:155-156).
19- وخلاصة الأمر: المسلمون على مر العصور لم يعتدوا على أية أبنية أو أثار يهودية؛ سواء بالهدم أم عن طريق المصادرة، كما أنهم لم يشيدوا المسجد الأقصى فوق ما زعموا أنه هيكل سليمان، بل جاء في موقعه الحالي على أساس قدسية هذه البقعة المباركة بنص القرآن الكريم والحديث الشريف، فهذا الموقع مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعقيدة الإسلامية. فالمسجد الأقصى موجود قبل سليمان وموسى وإبراهيم، وجدد بناءه أنبياء الله -تعالى-: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وسليمان، ولم يكن في يوم من الأيام معبداً لليهود، ولكنه مسجد لكل أمة مسلمة صَدَّقَت بدعوة نبيها.
الهوامش:1- تاريخ ابن خلدون: (2/134).
2- أخرجه البخاري، برقم (3366)، وأخرجه مسلم، برقم (520).
3- أخرجه ابن ماجه، برقم (1164)، والنسائي، برقم (692).
4- انظر للاستزادة: (موسوعة اليهود واليهودية)، عبد الوهاب المسيري، (4/159-169).
5- (نقض المزاعم الصهيونية في هيكل سليمان)، د. صالح حسين سليمان الرقب، (ص45).
6- الكنعانيون: هم من أقدم الجماعات البشرية التي وعى التاريخ سكناهم لأرض فلسطين، وهم جزء من الهجرات العربية التي خرجت من شبه الجزيرة العربية إلى أرض فلسطين التي سُميت لذلك في فجر تاريخها بـ(أرض كنعان).
7- (معجم المناهي اللفظية) للشيخ بكر أبو زيد، (ص93).
8- انظر للاستزادة: (أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ: ليس لليهود حق في فلسطين)، د. جمال عبد الهادي، (ص34-38).