بيان عدل الإسلام في التركات
كان أهل الجاهلية قبل الإسلام يجعلون مال الميت بعد مماته حقا للكبير من الأبناء دون الصغار والنساء من البنات والزوجات والأمهات والأخوات أو يـنـتـقـل إلى أخـيه أو عــمـهبحـجة أن الصغاروالنساء لا يحمون الذمار ولا يأخذون بالثأرولا يجلبون المغانم ولا يقاتلون الأعداء فأبطل الله تعالى هذه العادة الجاهلية وفرض للنساء وللصغار نصيبا من تركة الميت وجعل نصيبهم حقا مفروضا سواء قلت التركة أو كثرت فقال تعالى
( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا.... ) النساء 7 ,
وقال تعالى ( يوصيكم للَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ....)
وقال عن نصيب الأم ( ... فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ.... )النساء 11 ,
وقال عن ميراث الزوجة (... وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ... ) النساء 12
فجعل سبحانه وتعالى للبنت النصف ‘وجعل للبنات الثلثين وللأم الثلث أوالسدس وللزوجة الربع أوالثمن وللأخت من الأم السدس
وللأخت الشقيقة والتي من الأب نصف التركة أو نصف نصيب أخيها المماثل بعد أن لم يكن لهن شيئ .
وأما في الجاهلية المعاصرة والتي لا تقل سوءا عن الجاهلية القديمة في بعض جوانبها
ومن ذلك إنها سمحت بحرمان النساء والرجال والأطفال وأتاحت للمورث صرف المال الذي جعله الله قواما للناس إلى الحيوانات .
لقد تميز نظام الإسلام في الإرث عن سائر القوانين الأرضية المعاصرة بما يلي
وقف الإسلام موقفاً وسطاً بين الاشتراكية الشيوعيّة ، وبين الرأسماليّة والمذاهب التي تقول بالحرية الشخصيَّة في التملك ؛
فالاشتراكية الشيوعية ـ كما وضعها كارل ماركس ـ تُنكر مبدأ الإرث وتعتبره ظلماً يتنافى مع مبادئ العدالة ؛
فلا تُعطي أبناء الميت وأقرباءه شيئاً مطلقاً ؛ والرأسمالية وما يُشابهها من المذاهب الاقتصادية تترك مطلق الحرية للمورِّث في التصرف بماله كيف شاء ؛
فله أن يحرم أقرباءه كلَّهم من ميراثه ، ويُوصي به إلى غريب ؛ من صديق أو خادم .
وقد يُوصي الرجل أو المرأة ـ في المجتمعات الغربية ـ بكلّ ثرواتهم أو بعضها لكلبٍ ، أو قطةٍ ، أو ما أشبه ذلك من الوصايا العجيبة الغريبة .
كما أن الإرث في النظام الإسلاميّ واجبٌ بالنسبة إلى الوارث والمورِّث ؛ فلا يملك المورث أن يمنع أحد ورثته من الإرث .
وكذا الوارث يملك نصيبه من غير حاجة إلى حكمٍ من قاض ؛ بينما نجد الأنظمة الأخرى لا تُوجب شيئاً من ذلك .
بل نجد القانون الفرنسي لا يُثبت الإرث إلاَّ بعد حكم القضاء ؛ فهو اختياريّ عندهم لا إجباريّ .
والنظام الإسلاميّ جعل الميراث في دائرة الأسرة لا يتعدَّاها ؛ فلا بُدّ من نسبٍ صحيحٍ ، أو زوجية ـ
والولاء يُشبه صلة النسب ، فكان ملحقاً به ـ . وبذلك لا يرث الولد المتبنَّى، ولا ولد الزنى ،
وفي دائرة الأسرة يُفضِّل الإسلام الأقربَ فالأقربَ إلى المتوفّى , بينما نجد الحال في الأنظمة الأخرى مخالفاً للنظام الإسلامي تماماً فعنـد اليهود يرث الأولاد الذكور ،
ويُعطى للولد البكر نصيب اثنين من إخوته ، دون تفريق بين المولود من نكاح صحيح ، أو غير صحيح .
ولا يُحرم الولد البكر من نصيبه بسبب كونه من نكاح غير شرعيّ وفي الأنظمة الغربية يمكن للغريب ؛ من صديق ، أو خادم أن يرث ،
ويمكن لولد الزنى أن يرث ، بل يرث عندهم من لا علاقةَ قرابة له بالميت ، كالحيوانات .
جعل النظام الإسلاميّ للولد الصغير نصيباً من ميراث أبيه يُساوي نصيب أخيه الكبير ؛ فلم يُفرِّق بين الحمل في بطن أمه ،
وبين الولد الكبير في العائلة الكبيرة . كما أنَّ النظام الإسلامي لم يُفرِّق بين الولد البكر وغيره من الأولاد ـ كما هو واقع الحال في شريعة اليهود المحرّفة ،
وفي القانون البريطاني ‘ وذلك لأنّ الصغار قد يكونون أحوج إلى مال يبنون به حياتهم ويواجهون به ما يستقبلهم من متطلبات الحياة
أحوج إلى ذلك من إخوانهم الكبار الذين عملوا وجمعوا لأنفسهم ثروة خاصة بهم ، مستقلة عن ثروة أبيهم .
جعل النظام الإسلامي للمرأة نصيباً من الإرث ؛ فالأم ، والزوجة ، والبنت ، وبنت الابن ، والأخت ، وأمثالهنّ ،
لهنّ نصيبٌ من مال الميت يضمن لهنّ حياة كريمة خالية من هوان الفاقة ، ومذلَّة الفقر بخلاف بعض الأنظمة التي حرمت المرأة من ذلك تماماً ‘
فالقانون الفرنسيّ سابقا حرم الزوجة من الميراث ولم يُعطها شيئاً من ذلك وكذا اليهود كانوا لا يعطون الأنثى شيئا من الميراث .
جعل النظام الإسلامي مظنة الحاجة أساسَ التفاضل في الميراث ؛ فأبناء الميت أحوج إلى ماله من أبيه ؛
لأنَّ مطالب الحياة قد لا ترهق جدّهم ، كما ترهقهم وهم شباب في مقتبل أعمارهم .
وكذا مطالب الابن الذكر في الحياة وفي نظام الإسلام نفسه أكثر من مطالب أخته ؛
فهو الذي يُكلَّف بإعالة نفسه متى بلغ سنّ الرشد ، وهو المكلَّف بدفع المهر لزوجته ،
وبنفقة الزوجية ، ونفقة الأولاد ؛ من تعليم ، وتطبيب ، وكساء ، وغير ذلك . ثمّ هو المكلَّف بإعالة أبيه أو أقربائه إذا كانوا فقراء .
أمَّــا البنت فهي في الغالب مظنة أن ينفق عليها لا أن تنفق هي على غيرها , حيث إنها ستتزوج وتصير نفقتها واجبة على زوجها .
هذه بعض المحاسن التي يتميز بها نظام المواريث الذي فرضه الله تعالى في الإسلام عن القوانين الجاهلية القديمة والمعاصرة التي فرضها البشر
و التي لا يلبثون أن يغيروا فيها بين كل مدة وأخرى.
الحكمة من مشروعية الإرث
لقد كرم الله سبحانه وتعالى الإنسان في هذه الحياة وفضله على كثير من المخلوقات كما قال عز وجل
( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) الإسراء 70 ,
والإنسان في هذه الحياة مستخلف ومحتاج إلى ما يضمن له هذا البقاء والاستخلاف وتقوم به مصالحه الدنيوية , وقد جعل الله تعالى المال قياما للناس
كما قال تعالى ( وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ... ) النساء 5 ‘
فبالمال تقوم مصالح العباد , وهو وسيلة لتحقيق تلك المصالح ، يحتاج إليه الإنسان ما دام على قيد الحياة ,
فإذا مات انقطعت حاجتـه ، فكـان من الضروري أن يخلفه في ماله مالكٌ جديدٌ . فلو جُعل ذلك المالك الجديد لمن يحوز المال ويستولي عليه ويغلب ،
لأدَّى هذا إلى التشاحن والتنازع بين الناس ، وتغدو الملكية حينها تابعة للقوة والبطش ‘
ولو جعل المال كله للقطط والكلاب والحيوانات كما تسمح به قوانين الغرب ضاعت مصالح العباد وتعطلت حاجاتهم .
من أجـل ذلك جعلت الشريعة المالَ لأقارب الميت ، كي يطمئنّ الناس على مصير أموالهم إذ هم مجبولون على إيصال النفع لمن تربطهم بهم رابطة قوية
من قرابة أو زوجية أو ولاء , فـإذا مات الشخص وترك مالاً فإنّ شريعة الإسلام الشاملة لمصالح العباد تجعل هذا المال مقسَّماً على قرابته بالعدل ,
الأقرب فالأقرب ممن يُعتبر شخصه امتداداً في الوجود لشخص الميت كالأولاد والأب ومن يليهما في درجة القرابة ,
وصدق الله العظيم إذ يقول ( .... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ... ) المائدة ‘ 3 .
أسباب الإرث في الإسلام
للإرث في الشريعة الإسلامية ثلاثة أسباب وهي :
السبب الأول : النكاح : و هو شرعاً عقد الزوجية الصحيح ، وإن لم يحصل فيه خلوة ، أو وطء , وهذا السبب يتوارث به الزوجان ما دام عقد الزوجية قائما بينهما أو في معنى القائم , فلو طلق الرجل زوجته وانتهت عدتها انقطع التوارث بينهما لانقطاع سبب الإرث بينهما , إلا إذا طلقها في مرض موته متهما بأنه يريد حرمانها من الميراث, فإنها ترثه حتى بعد انقضاء عدتها بل وبعد زواجها من آخر على قول بعض الفقهاء وذلك معاملة للزوج الظالم بنقيض قصده .
السبب الثاني : الولاء : وهو قرابة حكمية :
إذا أعتق السيد عبده صار بينهما شيء يسمى ( الولاء ) وهو نعمة سببها أن السيِّد المعتق تفضل على عبده فأعتقه , حيث أخرجه من الرق إلى الحرية ,أوهي قرابة حكمية أنشأها الشارع ، ناتجة عن عتق ، أو موالاة ‘والولاء يشبه النسب , فكما أنَّ الرجـل كان سببا في أن يخرج ابـنـه من حيّـز المعــدوم إلى حيز الموجود ، فكذلك نعمة المعتق أخرجت المملوك إلى حيز الحرية , فالسيد يرث عبده الذي أعتقه , وهناك تفصيلات أخرى تركنا ذكرها طلبا للاختصار .
السبب الثالث : النسب : القرابة الحقيقيَّة :
النسب هوالاتصال بين إنسانين في ولادة قريبة كانت أوبعيدة , فكلّ إنسان بينك وبينه صلة ولادة قربت أو بعدت , من جهة الأب أو من جهة الأم ، أو منهما معاً ، فهو قريبك ‘ وهذا السبب هو أقوى أسباب الإرث .
والقرابة الوارثون ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :
(1)- الأصــول : وهـم أبو الميت ، وأبو أبيه ، وإن علا بمحض الذكور . وأم الميت ، وكلّ جدة تُدلي بوارث ، أو وارثة .
(2)- الفروع : وهم أبناء الميت ، وابن ابنه وإن نزل ‘ وابنة ابنه وإن نزل أبوها
(3)- الحواشي : وهم إخوة الميت وأخواته مطلقاً ، وأبناء إخوته الذكور لغير الأمّ ـ أي أبناء الإخوة الأشقاء وأبناء الإخوة لأب ـ وأعمام الميت الأشقاء ولأب وإن علوا ، وبنو الأعمام ، وإن نزلوا .
هذه أسباب الإرث الثلاثة المتفق عليها بين العلماء , وهي أسباب يتفق العقل والفطرة السليمة على أنها تستحق أن تكون سببا للإرث , وهناك أسباب أخرى مختلف في كونها سببا للإرث كبيت مال المسلمين , وذوي الأرحام ( وهم الأقارب غير الوارثين ) وغير ذلك .
أهمية قسمة التركات
لقد تولى الله تعالى عز وجل بنفسه تقدير الفرائض ولم يفوض ذلك إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل , فبين لكل وارث ما له من التركة وفصلها غالباً , بخلاف كثير من الأحكام التي جاءت مجملة في الكتاب وفصلتها سنة النبي صل الله عليه وسلم كالصلاة والزكاة والحج , فالفرائض أنزلت فيها الآيات مفصلة كما في بداية سورة النساء وفي آخرها , وسمى هذه الفرائض حدوده ووعد على الوقوف عندها وعدم تجاوزها بالثواب وتوعد من تعداها بالعذاب فقال تعالى (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ) سورة النساء-الآية13 : 14 , قال ابن كثير رحمه الله تعالى : وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك ، وقد روى أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، أن رسول الله صل الله عليه وسلم قال : العلم ثلاثة ، وما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة .... انتهى , وأمر النبي صل الله عليه وسلم بقسمة الفرائض بين أهلها فقال :اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر ... متفق عليه واللفظ لمسلم , وقد سمى العلماء علم الفرائض نصف العلم , قال ابن عيينة : إنما سمى الفرائض نصف العلم ، لأنه يبتلى به الناس كلهم .. انتهى