الجانب الأخلاقي من عقوبة الإعدام
تعارض الحكومات الأوروبية عقوبة الإعدام بكل عناد وإصرار - والاتحاد الأوروبي يحظر هذه العقوبة تماماً - ويرى بعض الأوروبيين أن استخدام هذه العقوبة في الولايات المتحدة يعد سلوكاً همجياً. والحقيقة أن العديد من المفكرين في أوروبا يزعمون أن العقوبة بصورة عامة، وليس عقوبة الإعدام وحدها، لا تردع المجرمين.
ولكن بينما كان بوسع الأوروبيين أن يتعاملوا برقة نسبياً مع أغلب الجرائم، بسبب انخفاض معدلات الجريمة في أوروبا إلى حد كبير مقارنة بالمعدلات الأميركية خلال نصف القرن الماضي، إلا أن أوروبا قد شهدت ارتفاعاً حاداً في معدلات الجريمة أثناء العقدين الماضيين، على النقيض مما حدث في الولايات المتحدة، حيث انخفضت معدلات الجريمة أثناء نفس الفترة، ويرجع هذا جزئياً إلى كثافة استخدام العقوبة هناك.
وهذا يتضمن عقوبة الإعدام. وأنا في الواقع أؤيد إعدام بعض الأشخاص المدانين بجريمة القتل لأنني - ولهذا السبب فقط - أعتقد أنها تردع جرائم قتل أخرى. وإن لم أكن على يقين من هذا لكنت قد عارضت عقوبة الإعدام، وذلك لأن الانتقام والدوافع الأخرى المحتملة لا ينبغي لها أن تشكل الأساس لصياغة السياسة العامة.
كانت الأبحاث التجريبية الجادة بشأن عقوبة الإعدام قد بدأت في الولايات المتحدة بدراسة رائدة قام بها إسحاق إيرليك ونشرت في (American Economic Review) "المجلة الاقتصادية الأميركية" في عام 1975. ولقد وجدت بعض الدراسات التالية تأثيراً أضعف كثيراً لعامل الردع في بعض الأحيان، بينما وجدت دراسات أخرى أن الردع ذو تأثير أقوى كثيراً. لكن البيانات المتاحة محدودة للغاية على أية حال، لذا لا يتعين علينا أن نبني النتائج على الأدلة التي تقدمها البيانات الإحصائية فحسب.
مما لا شك فيه أن السياسة العامة إزاء أية عقوبة لا تملك أن تنتظر حتى يتوفر لها الدليل القاطع. ولكن حتى في ظل الأدلة الكمية المحدودة المتاحة، فهناك من الأسباب الوجيهة ما يجعلنا نعتقد أن عقوبة الإعدام رادعة للمجرمين.
إن أغلب الناس، والقتلة بصورة خاصة، يهابون الموت، وتتضاعف هذه الهيبة إذا ما أدرك القاتل أن الموت سوف يأتيه عاجلاً وعلى نحو شبه مؤكد في أعقاب ارتكابه لجريمة القتل. وكما عبر ديفيد هيوم عن هذا في معرض مناقشته للانتحار: "لن تجد إنساناً يقدم على التخلص من حياته أبداً إذا ما كانت تلك الحياة تستحق أن يعيشها. ومن هنا تنبع رهبتنا الطبيعية للموت...". وعلى نحو مماثل كان شوبنهاور يقول: "بمجرد أن تصل أهوال الحياة إلى الحد الذي تتجاوز معه الرهبة من الموت، فقد يقدم الإنسان على إنهاء حياته بنفسه. لكن رهبة الموت تشكل قدراً كبيراً من مقاومة الرغبة في الانتحار...".
يردد معارضو عقوبة الإعدام على نحو متكرر أن الدولة لا تملك الحق الأخلاقي الذي يسمح لها بإنهاء حياة أي إنسان، بما في ذلك أشد القتلة عتياً وإجراماً. لكن هذا الرأي يشكل استنتاجاً غير صحيح على الإطلاق في نظر أي شخص يؤمن بأن عقوبة الإعدام رادعة للمجرمين.
ولكي نفهم السبب، فلنفترض أنه في مقابل كل قاتل يُـعْـدَم (بدلاً من الحكم بسجنه مدى الحياة على سبيل المثال)، ينخفض عدد جرائم القتل بمقدار ثلاث جرائم فقط، وهي نسبة أقل كثيراً من الرقم الذي قدره إيرليك وآخرون لعامل الردع. هذا يعني ضمناً أنه في مقابل كل قاتل لا يُـعْـدَم، سيموت ثلاث ضحايا من الأبرياء. وبهذا تكون الحكومة قد تسببت على نحو غير مباشر في مقتل العديد من الضحايا إذا لم تأخذ بعقوبة الإعدام.
إن إنقاذ ثلاث أرواح بريئة في مقابل كل شخص ينفذ فيه حكم الإعدام يبدو نتيجة جذابة، ذلك أن نسبة الاستفادة إلى التكلفة تبدو مجزية للغاية في حالة تنفيذ حكم الإعدام، حتى لو أنقذنا بذلك روحين فقط من الأبرياء وليس ثلاثا. لا نستطيع أن ننكر أن الحجج المؤيدة لتنفيذ عقوبة الإعدام تصبح أقل وضوحاً وقوة مع انخفاض عدد الأرواح التي نستطيع إنقاذها في مقابل كل حكم بالإعدام. ولكن حتى لو أنقذنا روحاً واحدة في مقابل كل حكم إعدام، فقد تظل الصفقة مرغوبة إذا ما كانت حياة الشخص الذي أنقذناه أفضل كثيراً من حياة الشخص الذي حكمنا بإعدامه، وهذه هي الحال عادة.
يعترض العديد من الناس على المقارنة بين نوعية الحياة التي قد ننقذها وبين نوعية الحياة التي نحكم بإنهائها. لكنني لا أرى مهرباً من عقد هذه المقارنة. ولنتصور معاً مجرماً محترفاً يسرق ويقتل ضحية كان يعيش حياة محترمة وسيترك خلفه من بعد مقتله زوجة وأطفالاً. ولنفترض أننا قد نتمكن من إنقاذ حياة هذا الرجل البريء إذا ما أعدمنا مثل ذلك المجرم. في اعتقادي أنه من الواضح أن إنقاذ حياة ضحية كهذا الرجل لابد وأن تكون في الميزان أرجح كثيراً من إنهاء حياة ذلك المجرم. بطبيعة الحال ليست كل الحالات بهذا الوضوح، لكن المقارنة بين نوعية حياة الأفراد لابد وأن تشكل جزءاً مهماً من أي سياسة اجتماعية معقولة.
هذا يساعدنا في تفسير السبب وراء ضرورة استخدام عقوبة الإعدام في حالات القتل فقط، وليس لجرائم أقل وحشية. ذلك أن المقايضة إذا ما كانت بين إنهاء الحياة وبين تقليص أعداد سرقات الممتلكات على سبيل المثال، فإن الكفة سترجح بشدة لصالح فرض عقوبة أخف. وعلى الرغم من أن الاعتداءات الوحشية، بما في ذلك بعض حالات الاغتصاب الشنيعة، قد تقترب من جريمة القتل في شدتها، وقد تستدعي تنفيذ عقوبة الإعدام، إلا أنني لا أؤيد استخدامها في مثل هذه الحالات.
من بين الحجج القوية التي تدعم ضرورة اقتصار عقوبة الإعدام على جرائم القتل مسألة "الردع الهامشي". ذلك أننا إذا ما عاقبنا الاعتداء على سبيل المثال بالإعدام، فقد يبادر مرتكبو جرائم الاعتداء إلى قتل ضحاياهم تجنباً لافتضاح أمرهم (وهذا من بين الأسباب الرئيسية التي تؤكد ضرورة اختيار شدة العقوبة تبعاً لشدة الجريمة).
ومن بين التعقيدات المترتبة على فرض عقوبة الإعدام أن الجاني قد يقاتل بضراوة في محاولة لتجنب إلقاء القبض عليه، الأمر الذي قد يؤدي إلى المزيد من القتلى. ولكن على الرغم من أهمية "الردع الهامشي"، إلا أنني أعتقد أن مقاومة القاتل لمحاولات إلقاء القبض عليه، حتى ولو كلفته هذه المقاومة حياته في بعض الأحيان، تشكل دليلاً غير مباشر يؤكد خوف المجرمين من عقوبة الإعدام.
من المؤكد أنني أنزعج بشدة حين أفكر في احتمالات إعدام شخص بريء. والحقيقة أن تأييدي لفرض عقوبة الإعدام كان قد يضعف إلى حد كبير إذا كانت معدلات إعدام الأبرياء ضخمة إلى ذلك الحد الذي يدعيه بعض الناس. لكنني أعتقد في ذات الوقت أن عملية استئناف الأحكام في الولايات المتحدة توفر قدراً كبيراً من الحماية، ليس ضد الإدانة الخطأ، بقدر ما توفره من حماية ضد الإعدام الخطأ. وعلى هذا فإننا لن نجد سوى حالات موثقة قليلة للغاية، إن كان هناك أية حالات على الإطلاق، حيث تم إعدام أشخاص أبرياء. ومن المعروف أن عملية الاستئناف قد تعززت إلى حد كبير مع تطوير أسلوب تحديد الهوية باستخدام الحمض النووي (DNA).
في النهاية أعود مرة أخرى إلى التأكيد على أن المناقشات الدائرة بشأن عقوبة الإعدام هي في الأساس مناقشات بشأن الردع (الذي قد تتضاءل فعاليته كثيراً بسبب الاستئناف المطول). أستطيع أن أفهم تشكك بعض الناس بشأن إقامة الدليل، على الرغم من اعتقادي بأنهم مخطئون في شكوكهم هذه ومخطئون أيضاً فيما يتصل بالفهم العام للقضية. إنه لمن المؤلم أن نقضي بإنهاء حياة شخص ما، حتى ولو كان قاتلاً، ولكن في بعض الأحيان قد يكون من الضروري أن نتخذ إجراءات غير سارة سعياً إلى منع سلوك أسوأ يترتب عليه ضياع حياة ضحايا أبرياء.
جراي س. بيكر حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد وأستاذ علوم الاقتصاد والاجتماع في جامعة شيكاغو.
خاص بـ"الغد" بالتنسيق مع بروجيكت سنديكيت