منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 قصة الحروب الصليبية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75477
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

قصة الحروب الصليبية Empty
مُساهمةموضوع: قصة الحروب الصليبية   قصة الحروب الصليبية Emptyالجمعة 02 أكتوبر 2015, 7:47 am

قصة مائتي عام
في تاريخ الأمة الإسلامية فترات تأججت فيها الحروب بينها وبين أعدائها، منها ما استمرَّ فترةً قصيرة، ومنها ما امتد عقودًا طويلة، أو قرونًا.
ومن الفترات التي شهدت حروبًا طويلة الأمد؛ فترة الحروب الصليبية التي استمرت حوالي مائتي عامٍ، شهدت سبع حملات صليبية قام بها العديد من ملوك أوربا، وقاومت فيها الأمة الإسلامية بكل ما استطاعت من قوة بقيادة عدد من أبرز قادتها المخلصين.
تبدأ قصة الحروب الصليبية عندما تآزرت عوامل عديدة دفعت ملوك أوربا إلى شنِّ هذه الحملات؛ فلم يكن الدافع واحدًا.
دوافع كثيرة لكنها كاذبة
تعصب البابا والملوك
فقد كان التعصب الديني المسيحي ضد الإسلام على رأس هذه العوامل، وكان هو المسيطر على البابا وبعض الملوك الذين قرروا المشاركة في الحملات، وكذلك بعض الجنود كفرسان المعبد. واشتعلت الأحقاد مطالبةً باحتلال الأراضي الإسلامية في بيت المقدس خاصةً، وإخراج المسلمين منها، كما أرادت الكنيسة الكاثوليكية الغربية أن تكون لها السيطرة الدينية في الشرق كما لها في الغرب؛ لذا استباحت الكذب على الشعوب المسيحية الأوربية، وأشاعت بينهم أن المسلمين يضطهدون المسيحيين في الشرق، ويمنعونهم حرياتهم الدينية، كما أجَّجت الأحقاد التي غرستها في نفوس هذه الشعوب ضد الإسلام والمسلمين طَوَال قرون عديدة.
الأطماع التجارية
كما كان هناك دافع السيطرة والتملُّك؛ إذ إن البابوية قد تمسكت بفكرة ملء الفراغ الذي نجم عن هزيمة البيزنطيين في موقعة ملاذكرد سنة 463هـ/ 1071م؛ بسبب اندفاع السلاجقة في الأراضي البيزنطية، وعجز البيزنطيين عن صدهم، فرأت أن تَهُبَّ أوربا الغربية في الدفاع عن هذه المنطقة وحُجَّاجها الأوربيين، وذلك باحتلال بلاد الشام، وقد ناصرها في ذلك معظمُ ملوك أوربا الغربية.
كذلك اشترك عدد كبير من تجار المدن الإيطالية والفرنسية والإسبانية في الحروب الصليبية بغرض استغلالي بحت؛ من أجل السيطرة على الطرق التجارية للسلع الشرقية التي أصبحت مصدر ثراء للمشتغلين بها.
الحروب المدمرة بين الإقطاعيات
كما كان للعوامل الداخلية شأن في إذكاء هذا الدافع؛ إذ كان الإقطاع يشكِّل الدعامة الأساسية للنظام السياسي والاجتماعي في أوربا، حيث كان لكل إقطاعية محاربوها، وكانت هذه الإقطاعيات تخوض حروبًا مدمرة فيما بينها؛ مما استنزف طاقاتها، وخلَّف وراءها مشاكل اجتماعية وسياسية قاسية. لذلك عمل الباباوات على توجيه الفرسان لقتال المسلمين بدلاً من الانصراف إلىالحروب الداخلية والمنازعات فيما بينهم، أي تحويل تفاقم الخطر الداخلي وتنامي الأطماع والمكاسب إلى اتجاه خارجي[1].
المجتمع الأوربي يعاني ظروف قاسية
أمَّا الدافع الثالث فقد كان الدافع الاقتصادي؛ فقد كان نشاط المسلمين التجاري قد أزعج الجمهوريات الإيطالية التي كانت تريد احتكار البحر الأبيض المتوسط لصالحها؛ لذا أرادت الدفع في اتجاه البدء في الحملات، لتحقيق تلك المصالح الاقتصادية. كما طمع هؤلاء الملوك في خيرات الشرق التي كانوا يشترونها من التجار المسلمين بأسعارٍ عالية.
إضافةً إلى ذلك كانت الغالبية العظمى من الطبقات الدنيا في المجتمع الأوربي تحيا حياةً ملؤها البؤس والشقاء في ظلِّ النظام الإقطاعي؛ فانتشرت بينها الأوبئة والمجاعات، وكان ذلك بسبب الظروف القاسية التي عاشها الفلاحون في غرب أوربا في تلك الفترة، فكثير من الأراضي الزراعية تعرَّض للخراب نتيجة لهجمات البرابرة؛ فقلَّت الأقوات في الوقت الذي ازدادت فيه أعداد السكان، وزاد الأمر سوءًا الحروبُ والمنازعات بين الأمراء الإقطاعيين، إضافة إلى النكبات الطبيعية والاقتصادية التي عانى منها الغرب الأوربي حينذاك، فعاش الناس في المنطقة عيشة الفَقر والحِرمان والخوف. وقد دفعتهم هذه الأوضاع إلى الاشتراك في الحروب الصليبية[2].
البابا يستنفر الجائعين
وقد ضرب البابا على هذا الوتر، فقال: "لا تدعوا شيئًا يقعد بكم، ذلك أن الأرض التي تسكنونها الآن -والتي تحيط بها البحار وتلك الجبال- ضيقة على سكانها الكثيرين، وتكاد تعجز عن كفايتهم من الطعام، ومن أجل هذا يذبح بعضكم بعضًا، ويلتهم بعضكم بعضًا. إن أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها، بل هي فردوس المباهج".
وإن جميع الوثائق تشير إلى سوء الأحوال الاقتصادية في غرب أوربا في أواخر القرن الحادي عشر، وكانت فرنسا بالذات تعاني من مجاعة شاملة قبيل الحملة الصليبية الأولى؛ ولذلك كانت نسبة المشاركين منها تفوق نسبة الآخرين، فقد كانت الأزمة طاحنة حيث ألجأت الناس إلى أكل الحشائش والأعشاب. وبذلك جاءت هذه الحرب لتفتح أمام أولئك الجائعين بابًا جديدًا للخلاص من أوضاعهم الصعبة، وهذا ما يفسِّر أعمال السلب والنهب للحملة الأولى ضد الشعوب النصرانية التي مرّوا في أراضيها[3].
بهذا العرض يتبين أنَّ الوضع الأوربي الداخلي كان مهيَّأً لبداية هذه الحملات العنيفة على العالم الإسلامي، ومن ثَمَّ حانت لحظة البداية!!
الأرض المقدسة بين البابا والمسيح
فقد شهدت مدينة "كليرمونت" الفرنسية حدثًا خطيرًا في (26 من ذي القعدة 488هـ/ 27 من نوفمبر 1095م) كان هو نقطة البداية للحروب الصليبية؛ حيث وقف البابا "أوربان الثاني" بابا الفاتيكان في جمعٍ حاشدٍ من الناس يدعو أمراء أوربا إلى شنِّ حرب مقدَّسة من أجل المسيح، وخاطب الحاضرين بلغة مؤثرة تكسوها الحماسة، ودعاهم إلى تخليص الأرض المقدسة من سيطرة المسلمين، ونجدة إخوانهم في الشرق، ودعا المسيحيين في غرب أوربا إلى ترك الحروب والمشاحنات، وتوحيد جهودهم لقتال المسلمين في الشرق[4].
أحوال المسلمين .. فُرقة وخلافات
في هذه الفترة كانت أحوال المسلمين في الشرق في غاية السوء؛ إذ ضربت الفُرقَة أطناب البلاد والشعوب الإسلامية، فمزقتهم شرَّ ممزَّق، وجعلتهم شراذم لا يقيم لهم الناس وزنًا، واشتعلت الخلافات والحروب بينهم من أجل التنازع على النفوذ والسلطان، ومن جرَّاء ذلك كانت أراضي الخلافة الإسلامية في نهاية القرن الخامس ومطلع القرن السادس الهجريين تخضع لقوى متعددة متنافرة، وقع بينها الخلاف، وعملت كل منها على التوسُّع على حساب الأخرى، وعلى رأس هذه القوى:
1- الخلافة العباسيةوكان خلفاؤها قد قبعوا في مدينة بغداد، ورضُوا من الحكم بالاسم بعد أن خرجت عن سلطتهم غالبية أراضي الخلافة الإسلامية، ولم يبقَ بأيديهم إلا بغداد وما يحيط بها، والأمر والقول الفصل في هذه البقعة للسلاجقة سلاطين بغداد.
2- السلاجقة: وقد توسَّعت سلطتهم تدريجيًّا حتى شملت أغلب مناطق الخلافة العباسية الشرقية، ونهضوا في عهد سلاطينهم: طُغرل بك، وألب أرسلان، ومَلِكْشاه بحماية أراضي الخلافة الإسلامية، وأثبتوا أنهم سيوف الإسلام الذائدون عنه؛ فقد نهضوا للوقوف في وجه البيزنطيين، وتوسّعوا غربًا على حسابهم. وتوّج ألب أرسلان نضاله مع البيزنطيين بمعركة ملاذكرد، تلك المعركة التي كانت آثارها كبيرة على الصعيدين المحلي والدولي؛ فعلى صعيد المنطقة، فإنها فتحت أبواب آسيا الصغرى أمام السلاجقة، ودحرت القوات البيزنطية باتجاه الغرب، وأتاحت الفرصة للسلاجقة لتأسيس دولة سلاجقة الروم. وعلى الصعيد الخارجي، فإن هذه المعركة كانت سببًا من أسباب توحيد قلوب أوربا المسيحية ضد المشرق الإسلامي، إِثْر استنجاد أباطرة القسطنطينية بالبابوية لرد خطر السلاجقة، الذين أخذوا في اجتياح ممتلكاتهم[5]. ولم تستمر قوة السلاجقة بالصعود، فقد أخذت قوتهم بالانحلال إثر وفاة ملكشاه سنة 485هـ/ 1902م. وانقسم السلاجقة على أنفسهم، ووقعت الحروب بينهم.
ولعل أكبر مظهر لانحلال سلطان السلاجقة في بلاد الشام والعراق وغيرها، ظهور عدد كبير من البيوت الحاكمة لا يجمعها رابطة سوى الاتصال بالبيت السلجوقي، ومن تلك البيوت ظهرت وحدات سياسية أطلق عليها اسم الأتابكيات، وعلى أصحابها اسم الأتابكة.
3- الدولة العُبَيْدِيَّة (المسمَّاة بالفاطمية):
أمَّا القوة الثالثة التي كان لها أثر كبير في أحداث المنطقة في تلك الفترة، فهي الدولة العبيدية (التي تنتسب زورًا للسيدة فاطمة بنت رسول الله قصة الحروب الصليبية R_20)، وقد كانت تلك الدولة على مذهب الشيعة الإسماعيلية الباطنية الخارجة عن الإسلام، وكان قيامها بشمال إفريقية سنة 296هـ/ 909م، ثم انتقلت إلى مصر سنة 358هـ/ 972م. وأخذت من ثَمَّ تُنازع الخلافة العباسية زعامة العالم الإسلامي؛ فبعدما دان المغرب العربي ومصر لسيطرتها اتجهت بأطماعها إلى الشام، واستطاعت بسط هيمنتها على معظم بلاد الشام، حتى أصبحت ملحقات مصر في بلاد الشام حتى دمشق تابعةً للفاطميين.
وكانت الدولة العبيديَّة على أتم الاستعداد لفعل كل ما يضر بالمسلمين، وقد ظهر ذلك فيما بعد بتعاونها مع الصليبيين ضد العالم الإسلامي، وقد دخلت -في ذاك الوقت- في طور من الضعف جعل السلطة الحقيقية بأيدي الوزراء لا الخلفاء.
الحملة الصليبية الأولى
بداية الحملات وتعطُّش الصليبيين للدماء
بدأت قصة الحملات الصليبية -التي ستبلغ سبعًا- بالحملة الأولى، والتي كان الرُّعاة من فرنسا هم أغلب المشاركين فيها؛ نظرًا لسوء الأحوال الاقتصادية، وندرة الغلال وارتفاع أثمانها هناك[6] وقد كان من أبرز الأمراء المشاركين في الحملة جودفري البولوني (تقع بولونيا في شمالي إيطاليا) ( Godfrey de Bouillon) الذي تولى قيادة الجيش الذي جمعه من اللورين (شمالي فرنسا)، واشترك معه أخوه بلدوين. وتولى روبرت دوق نورماندي (غربي فرنسا) (Robert Duke of Normandy) قيادة الفرسان القادمين من غرب فرنسا ونورماندي وبعض مناطق الشمال، فضلاً عن الكثير من الفرسان الإنجليز من أتباع أخيه الملك الإنجليزي وليم روفوس. أما الجيش الثالث فكان تحت قيادة ريموند الرابع كونت تولوز (جنوبي فرنسا) (Raymond IV of Toulouse)، وقد تألَّف جيشه من فرسان جنوب فرنسا، وكان في صحبته أديمار أسقف لوبوي، والمندوب البابوي في هذه الحملة. أمَّا أصغر الجيوش فكان جيش هيو كونت فرماندوا، المعروف باسم الأشغر، وهو شقيق فيليب الأول ملك فرنسا آنذاك، وكان جيشه هو أول الجيوش الصليبية في الوصول إلى الأراضي البيزنطية. وثمة جيش خامس قاده بوهيموند النورماني (bohemond) ابن روبرت جويسكارد، تألَّف من المقاتلين النورمان الأشداء في جنوب إيطاليا (هم أهل الشمال الأوربي، وهو اسم أُطلِق على الغزاة (الفايكنج) القادمين من بحار إسكندنافيا في القرن الثامن الميلادي) [7].، واتجه الأمراء بعدها بحملة تُعرَف باسم حملة الأمراء، وقد بلغ تعداد الحملة مليون صليبي، وهو أكبر رقم في التاريخ الإسلامي حتى الآن.
إذن كانت هذه الحملة -بالنسبة لعدد الدول المشاركة فيها، وتعداد الجيوش- تمثل حربًا عالميةً حقيقية ضد المسلمين.
الطريق إلى القدس
توجهت الحملة الصليبية الأولى (488- 492هـ/ 1095- 1099م) إلى القدس، وفي الطريق إليها أسَّس الصليبيون إمارة الرُّهَا بزعامة بلدوين البولوني، الذي انفصل عن الحملة واتجه نحو الشرق بناءً على دعوة من حاكم الرُّها لمساعدته أمام الزحف الإسلامي بقيادة كربوغا حاكم الموصل القادم لنجدة أنطاكية، ثم أشركه حاكم الرها معه في الحكم، وبعد اغتياله بأيدي الأرمن تزوج بلدوين أرملته، وتسلَّم الحكم في (ربيع الآخر 491هـ/ مارس 1098م)، ثم أسس الصليبيون إمارتهم الثانية في أنطاكية عام 491هـ/ 1098م، بزعامة بوهيمند النورماني (bohemond).
تحالف فاطمي صليبي
وفي أثناء حصار الصليبيين لأنطاكية، استقلَّ بطرابلس القاضي ابن عمَّار أحد أتباع الفاطميين، بل أرسل الفاطميون للصليبيين أثناء حصارهم لأنطاكية سفارة للتحالف معهم، وعرضوا عليهم قتال السلاجقة بحيث يكون القسم الشمالي (سوريا) للصليبيين وفلسطين للفاطميين، وأرسل الصليبيون وفدًا إلى مصر ليدلِّلوا على «حُسن نيَّاتهم»!! هكذا...!!
تابع ريموند دي تولوز (أمير إقليم بروفانس وتولوز بفرنسا) قيادة بقية الصليبيين إلى بيت المقدس، وكان عددهم أربعين ألفًا!! وفي ربيع 1099م دخلوا مناطق فلسطين فمرّوا بعكا التي قام حاكمها بتموين الصليبيين!! ثم قيسارية ثم أُرْسُوف، ثم احتلوا الرَّمْلَة واللُّدَّ وبيت لحم، ثم اتجهوا بعدها نحو بيت المقدس، فسار لقتالهم كربوغا صاحب الموصل، وصـاحب دمشق دقاق، وصاحب حمص جناح الدولة، غير أن الصليبيين قد انتصروا عليهم، ودخلوا معـرَّة النعـمان فقتلوا مائة ألف مسلم.
وكان العبيديون (الملقبين زورًا وبهتانًا بالفاطـميين) قد استغـلوا تقـدُّم الصليبيين من الشمال، فتقدموا هم من الجنوب ودخلوا بيت المقدس وطردوا السلاجـقة منها قبل وصول الصليبيين إليها، وجرت مفاوضات بين الأفضل الجمالي الوزير العبيدي وبين الصليبيين على أن يكون شمال بلاد الشام للصليبيين وجنوبها للعبيديين، ونصَّب العبيديون افتخار الدولة حاكمًا على القدس.
مذبحة داخل بيت المقدس
وصل الصليبيون إلى بيت المقدس، ودخلوها في (23 من شعبان 492هـ/ 15 من يوليو 1099م)، بعد حصار دام واحدًا وأربعين يومًا، ولما لم يصل حاميةَ القدسِ المددُ من مصر حيث الدولة العبيدية، استطاع الصليبيون اقتحـام المدينة، ولم يكن أمام الجنود إلا الاحتماء بالمسجـد، بعد أن قاوموهم ما استطاعوا، وقد تبعهم الصليبيون داخل المسجد وذبحوهم بوحشية بالغة، ونهبوا قبـة الصـخرة، وأَسَالُوا بحرًا من الدماء، وانتُخِبَ جودفري الفرنسي ملكًا على بيت المقدس، وأخذ لقب حامي قبر المسيح.
وفي بيت المقدس ارتكب الصليبيون أشنع المجازر، والتي تليق بقومٍ مثلهم أحرقت الأحقاد قلوبهم؛ يقول ابن خلدون في كتابه العِبَر: "استباح الفرنجة بيت المقدس، وأقاموا في المدينة أسبوعًا ينهبون ويدمرون، وأُحصِي القتلى بالمساجد فقط من الأئمة والعلماء والعبّاد والزهاد المجاورين فكانوا سبعين ألفًا أو يزيدون..."[8].
قتلوا في بيت المقدس ما يزيد على سبعين ألفًا في خلال أسبوع فحسب، وكانوا يبقرون بطون الموتى، ويذبحون الأطفال بلا شفقة ولا رحمة. ويصف الأسقف وليم الصوري هذه المذبحة وصفًا تقشعرُّ له الأبدان، إذ يقول: "ويُروى أنه هلك داخل حرم الهيكل فقط، قُرابة عشرة آلاف من الكفرة (المسلمين)، إضافة إلى القتلى المطروحين في كل مكان من المدينة، في الشوارع والساحات، حيث قدّر عددهم أنه كان مساويًا لعدد القتلى داخل حرم الهيكل، وطاف بقية الجنود خلال المدينة بحثًا عن التعساء الباقين على قيد الحياة، والذين يمكنهم أن يكونوا مختبئين في مداخل ضيقة وطرق فرعية للنجاة من الموت، وسُحب هؤلاء على مرأى الجميع وذُبحوا كالأغنام، وتشكل البعض في زُمَرٍ واقتحموا المنازل حيث قبضوا على أرباب الأسر وزوجاتهم وأطفالهم وجميع أسرهم، وقتلت هذه الضحايا أو قذفت من مكان مرتفع حيث هلكت بشكل مأساوي" . وقد تركت مذبحة بيت المقدس أثرًا عميقًا في جميع أنحاء العالم.
الإمارة الصليبية الرابعة وظهور البطل
نجح الفرنجة في تأسيس المملكة الصليبية الرابعة وهي طرابلس في 11 من ذي الحجة 503هـ/ 12 من يوليو 1109م بعد حصارٍ دام سبعة أعوام، وكانت الصدمة عنيفةً على المسلمين في أقطار الأرض، وأصابت العديدين بالإحباط واليأس، إلا أن هذه الأمَّة التي لا ينقطع خيرها ما لبثت أن أخرجت بطلاً ظهر على مسرح الأحداث مجاهدًا في سبيل الله، ساعيًا إلى توحيد الكلمة، كان هذا البطل هو عماد الدين زنكي بن آق سُنْقُر أمير الموصل الذي مَلَكَها سنة ٥٢١هـ/ ١١٢٧م.
عماد الدين زنكي
لم ينشأ عماد الدين زنكي على حبِّ الجهاد، ووَحْدة المسلمين من فراغٍ، فقد قضى فترة الثلاثين عامًا الأولى من حياته في تربيةٍ عقائديةٍ وأخلاقية مستمرة؛ كان قوام هذه التربية العودة إلى الأصول الإسلامية في القرآن والسُّنَّة، وكان القائمون على تلك التربية هم كبار علماء زمانه؛ كأبي حامد الغزالي، وعبد القادر الجيلاني، وآق سنقر والد عماد الدين.
وقد أصبح عماد الدين زنكي أقوى حاكم مسلم في زمانه؛ لأنه سخَّر إمكانياته وقوته في الجهاد ضد الصليبيين.
استطاع عماد الدين التغلب على النعرات الانعزالية في كل من بلاد الشام والعراق والجزيرة؛ ففي سنة ( جمادى الأولى ٥٢٢هـ/ يونيو 1128م) مَلَكَ مدينة حلب وقلعتها، وكان هذا أمرًا غاية في الخطورة على الصليبيين في شمال بلاد الشام؛ لأنه كان يقطع الطريق بين الرُّها وغيرها من المستوطنات الصليبية، وفي العام التالي استولى على حماة، ثم حاز حمص سنة ٥٣٢هـ/ 1138م، وبذلك صار الطريق ممهدًا أمامه لتوجيه ضربة قوية للصليبيين[9].
الرُّها في يد المسلمين
وجاءت هذه الضربة في 26 من جمادى الآخرة ٥٣٩هـ/ 23 من ديسمبر ١١٤٤م حين استطاعت قوات عماد الدين زنكي أن تستولي على الرها بعد حصار دام ثمانية وعشرين يومًا فقط، وكان ذلك السقوط ضربة مؤلمة لنفوس الصليبيين بددت أوهام الأمن والقوة التي عاشوا فيها؛ إذ سقطت المدينة بأيدي المسلمين بعد ما يقرب من خمسين عامًا من احتلالها من قِبَل بلدوين البولوني.
نور الدين على الدرب يسير
وبعد وفاة عماد الدين زنكي استكمل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي مسيرة جهاد أبيه.
وُلِد نور الدين محمود في السابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة بحلب، ونشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل وغيرهما من البلدان الكثيرة الكبيرة، وتعلم القرآن والفروسية والرمي، وكان شهمًا شجاعًا ذا همة عالية، وكان يحب العلماء والفقراء ويكرمهم ويحترمهم ويحسن إليهم؛ قال ابن الأثير: "لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نور الدين، ولا أكثر تحريًا للعدل والإنصاف منه"[10]. وقد اعتنى نور الدين بمصالح الرعية، فأسقط ما كان يؤخذ من المكوس، وأعطى عرب البادية إقطاعيات؛ لئلاّ يتعرضوا للحجاج، وقام بتحصين بلاد الشام وبنى الأسوار على مدنها، وبنى مدارس كثيرة منها العادلية والنورية ودار الحديث، ويُعتَبَر نور الدين أول من بنى مدرسة للحديث، وقام كذلك ببناء الجامع النوري بالموصل، وبنى الخانات (الفنادق) في الطرق، وكان متواضعًا مهيبًا وقورًا، يكرم العلماء، وكان فقيهًا على المذهب الحنفي، فكان يجلس في كل أسبوع أربعة أيام يحضر الفقهاء عنده، ويأمر بإزالة الحُجَّاب حتى يصل إليه من يشاء، ويسأل الفقهاء عمّا يشكل عليه، وقد وقف نور الدين كُتُبًا كثيرة ليقرأها الناس، وتُوُفِّي بدمشق سنة 569هـ[11].
وكان على نور الدين أن يواصل سياسة أبيه في جهاد الصليبيين، يدفعه إلى ذلك طبيعته المفطورة على حب الجهاد، وملازمته لأبيه في حروبه معهم، وقرب إمارته في حلب من الصليبيين؛ مما جعله أكثر الناس إحساسًا بالخطر الصليبي.
استهلَّ نور الدين حكمه بالقيام ببعض الهجمات على إمارة أنطاكية الصليبية، واستولى على عِدَّة قلاع في شمال الشام، ثم قضى على محاولة (جوسلين الثاني) لاستعادة الرها التي فتحها عماد الدين زنكي، وذلك في جمادى الآخرة 541هـ/ نوفمبر 1146م، وكانت هزيمة الصليبيين في الرُّها أشد من هزيمتهم الأولى. * نور الدين وحكام الأقطار
وكان نور الدين دائم السعي إلى استمالة القوى الإسلامية المتعددة في شمال العراق والشام وكسب وُدِّها وصداقتها؛ لتستطيع مواجهة العدو الصليبي، فعقد معاهدة مع (معين الدين أَنُر) حاكم دمشق، وحليف الصليبيين، والذي كان حاكمًا ظالمًا، وذلك سنة (541هـ/ 1147م)، وتزوج ابنته من أجل تحييده، فلمّا تعرض (أنر) لخطر الصليبيين -وكانت تربطه بهم معاهدة وحلف- لم يجد غير نور الدين يستجير به، فخرج إليه، وسارا معًا واستوليا على بُصرى وصرخند قبل أن يقعا في يد الصليبيين، ثم غادر نور الدين دمشق، حتى يبعث في قلب حاكمها الأمان، وأنه لا يفكر إلا في القضاء على الصليبيين؛ فتوجه إلى حصون إمارة أنطاكية، واستولى على أرتاح وكفر لاثا وبصرفوت.
وعلى أثر ذلك ملك الرعب قلوب الصليبيين من نور الدين، وأدركوا أنهم أمام رجل لا يقل كفاءة وقدرة عن أبيه عماد الدين، وكانوا قد ظنوا أنهم قد استراحوا بموته، لكن أملهم تبدد أمام حماسة ابنه وشجاعته، وكان سِنُّه إذ ذاك تسعًا وعشرين سنة، لكنه أوتي من الحكمة والتدبير خيرًا كثيرًا.
الحملة الصليبية الثانية
بعد سقوط إمارة الرّها وتحريرها على يد عماد الدين زنكي ذهب وفد من فرنج الشرق إلى البابا إيجينيوس الثالث، بعد أن اعتلى العرش البابويّ بوقت قصير، كما ذهب وفد آخر من الأرمن الكاثوليك يستنهض همم البابوية وملوك الغرب لمحاولة استرداد الرها التي ضاعت منهم.
ونتيجة لتلك المساعي تجمَّع جيش فرنسي كبير قوامه سبعون ألفًا على رأسه لويس السابع ملك فرنسا، وتجمع جيش ألماني قوامه سبعون ألفًا أيضًا على رأسه إمبراطور ألمانيا كونراد الثالث، وشنَّ الجيشان الحملة الصليبية الثانية سنة 542هـ/ 1147م.
اتخذ الجيشان طريقين مختلفين للوصول إلى المشرق الإسلامي؛ فالجيش الألماني اتخذ طريق البحر، ورست سفنه على شواطئ آسيا الصغرى ثم عبر البسفور، فشعر به السلاجقة، وهزموه شر هزيمة. أمّا الجيش الفرنسي فسار بطريق البر حتى وصل إلى القسطنطينية[12]ثم نقل جنوده على دفعات لعدم وجود سفن كافية.
فشل كونراد ولويس التاسع
وصل كل من لويس بقواته، وكونراد وشراذم جيشه إلى القدس عام 543هـ/ 1148م، وهناك اتفق قواد الحملة الصليبية الثانية على الاتجاه لمحاصرة مدينة دمشق، التي كانت بالغة القوة والتحصين، وفي نفس الوقت سارعت قوات إسلامية كثيرة لإنقاذ دمشق وفك الحصار المضروب حولها؛ مما اضطر الجيوش الصليبية إلى التقهقر والانسحاب ليتفادوا معركة دموية كبرى لم تكن في حسبانهم.
وهكذا فشلت الحملة الصليبية الثانية التي كان هدفها استرداد إمارة الرها، وانسحبت جيوش الصليبيين إلى أوربا وهي تشعر بمرارة الخزي والهزيمة[13]نور الدين محمود دمشق سنة ٥٤٩هـ/ ١١٥٤م برغبة أهلها الذين سَئِموا ظلم حاكمهم.، ولكنها أسدت خدمةً عظيمةً للمسلمين؛ إذ إنها تسبَّبَتْ في إقامة تحالف بين دمشق وحاكمها الضعيف وبين البطل المجاهد نور الدين محمود.
الوَحْدة بين مصر والشام
كان نور محمود يؤمن أنه لا سبيل للانتصار على الصليبيين إلا بالوحدة بين مصر والشام؛ ولمَّا كانت مصر في ذلك الوقت واقعةً تحت سيطرة الدولة العبيدية الخائنة، كان لا بد من عودتها إلى حظيرة أهل السُّنة والجماعة، وتوحيدها مع الشام، لتتكامل القوة الضاربة لمواجهة الصليبيين؛ لذا أرسل نور الدين قائده أسد الدين شيركوه، برفقة ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي؛ لمعاونة الوزير المصري شاور الذي طلب معاونة نور الدين ضد غريمه ضرغام الذي استعان بالصليبيين، واستطاع شيركوه الانتصار على ضرغام، ثم تولى الوزارة في مصر بعد خيانة شاور له، واستعانته بالصليبيين.
صلاح الدين وزيرًا لمصر
توفِّي أسد الدين شيركوه فجأة إثر وقوعه من فوق فرسه، وتولى الوزارة من بعده ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي بعد منافسة العديد من القادة العبيديين.
وصلاح الدين هو يوسف بن أيوب بن شادي، ولُقِّب بالملك الناصر، ولد سنة 532هـ في تكريت إحدى قرى الأكراد بشمال العراق، وانتقل مع أبيه وعمِّه إلى بعلبك، وهناك حفظ القرآن الكريم، وتعلم القراءة والكتابة، والحديث والفقه، واللغة العربية، والطب وأنساب العرب.
لم يكن صلاح الدين شابًا غِرًّا، بل كان فارسًا مغوارًا، وقائدًا حكيمًا رغم صغر سنِّه؛ فقد تربى على أيدي نور الدين محمود نفسه، الذي كان يُعِدُّه منذ صغره لتولي معالي الأمور، وكان يشرف على تعليمه وتربيته؛ فنشَّأه على الفروسية وحب الجهاد.
أسند إليه نور الدين محمود رئاسة الشرطة في دمشق، ثم أرسله مع عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر، فاستطاع أن يصبح وزيرًا عليها بعد وفاة عمه.
وفي هذه الأثناء كانت راية نور الدين محمود ترفرف على دولة متسعة الأرجاء فيها خمس عواصم هي: دمشق، والرُّها، وحلب، والموصل، ثم القاهرة. وأخذ نور الدين يُلِحُّ على رجله في مصر صلاح الدين الأيوبي -الذي كان يتولَّى الوزارة فيها للفاطميين- لاتخاذ الخطوات الحاسمة لإعلان نهاية الخلافة الفاطمية، وإعادة مصر إلى الخلافة العباسية. وانتظر صلاح الدين حتى واتته الفرصة في أول يوم جمعة من سنة ٥٦٧هـ/ ١٠ من سبتمبر ١١٧١م فأحلَّ اسم الخليفة العباسي محل اسم الخليفة الفاطمي في الخطبة التي أُلقِيت في مسجد عمرو بن العاص. وكان الخليفة الفاطمي العاضد طريح الفراش، ثم مات بعد أسبوع واحد دون أن يدري أن دولة آبائه قد دالت، وأنه آخر الفاطميين.
ورحل المجاهد نور الدين محمود
فُجِع العالم الإسلامي بوفاة البطل المجاهد نور الدين محمود في دمشق، إِثْر إصابته بالحمى، وذلك في (11 من شوال 569هـ/ 15 من مايو 1174م)، وكانت صدمةً كبيرة للمسلمين، أثارت خوفهم على حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين، التي نذر نور الدين حياته لها ولفكرة تحرير بيت المقدس، حتى إنه قد جنَّد العديد من أبرع المهندسين لبناء منبر يضعه في المسجد الأقصى بعد تحريره، ولكنَّ أجله كان أسرع إليه من تحقيق تلك الأمنية.
صلاح الدين وحطين
صلاح الدين أمير مصر والشام
بعد وفاة نور الدين محمود، واختلاف أمراء البيت الزنكي، وصراعهم فيما بينهم، عمل صلاح الدين على تحقيق الوحدة بين مصر والشام؛ لكي يستطيع الانتصار على الصليبيين، وبعد عدة تطورات سياسية أعلن صلاح الدين الأيوبي نفسه ملكًا على مصر والشام بمباركة الخليفة العباسي سنة ٥٧٠هـ/ ١١٧٥م.
وقد اهتم صلاح الدين بالإصلاحات في مصر، فنشطت الحركة العلمية في عصره، وأخرج المخطوطات من الخزائن، وأقام سوقًا في القصر لبيع الكتب، وأنشأ المستشفيات، وبنى القلعة فوق جبل المقطم لتكون حصنًا لمصر.
وكان -على بطولته- رقيقَ النفس والقلب، رجل سياسة وحرب بعيد النظر، وترك مصر إلى سوريا وأقام بها تسعَ عشرةَ سنة بنى فيها المدارس والمستشفيات[14].
وقضى صلاح الدين في مصر حوالي ست سنوات من (٥٧٢- ٥٧٧هـ/ ١١٧٦- ١١٨١م) لترتيب الأوضاع الداخلية في مصر والشام استعدادًا للمواجهة مع الصليبيين[15].
وفي تلك الأثناء قام الصليبيون بعدة غارات عبر شبه جزيرة سيناء، بل إن قواتهم وصلت حتى بحيرات منطقة السويس (البردويل حاليًا)، كما شنوا غارات أخرى على تيماء شبه الجزيرة العربية. وحاول رينالد دي شاتيون أمير الكرك (أرناط) أن يقتحم البحر الأحمر، ويغزو مكة والمدينة، وأن يتحكم في حركة التجارة الدولية المارة بهذا البحر، وهاجم بعض موانئ مصر والحجاز، ولكن الأسطول المصري سحق أسطوله تمامًا.
وبعد مطاولات كثيرة بينه وبين الصليبيين تمكَّن صلاح الدين بجيوشه من إنزال هزيمة ساحقة بقوات الصليبيين في معركة حطين يوم ٢٤ من ربيع الثاني 583هـ/ ٤ من يوليو ١١٨٧م، وفي هذه المعركة فقدت مملكة بيت المقدس قواتها العسكرية الرئيسية. ولم تكن حطين مجرد هزيمة عسكرية ثقيلة كالتي حدثت قبل ذلك للصليبيين، وقُتِل فيها بعض أمرائهم، ووقع بعضهم في الأسر، ولكن ما حدث في حطين كان أخطر من ذلك بكثير، فقد تمَّ تدمير أكبر جيش صليبي أمكن جمعه منذ قيام الكيان الصليبي، كما وقع ملك بيت المقدس جاي لوزينان في الأسر.
حطين ودخول بيت المقدس
وبعد حطين تمكنت جيوش صلاح الدين من استرداد عكا، ويافا، وبيروت، وجُبَيْل، ثم عسقلان، وغَزَّة. وفي أواخر جُمادى الآخرة سنة ٥٨٣هـ/ سبتمبر ١١٨٧م اتجه صلاح الدين صوب القدس.
وبعد حصار قصير دخل صلاح الدين وقواته المدينة المقدسة في ٢٧ من رجب ٥٨٣هـ/ ٢ من أكتوبر ١١٨٧م بصورة إنسانية تناقض وحشية الصليبيين حين غزوها قبل بضع وثمانين سنة، وأقيمت خطبة الجمعة في المدينة المحرَّرة بعد أن ظلت ممنوعة طويلاً.
سماحة القائد أم سماحة الإسلام!!
لم يصدق الصليبيون أنفسهم وهم يرون سماحة القائد صلاح الدين والمسلمين معه؛ ذلك أنه أبى إلا أن يُكرِم أسرى الصليبيين في كل بلد استولى عليه، فحرَّم على جنوده الاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم، وسمح لهم بالخروج آمنين سالمين إلى حيث شاءوا من المدن الصليبية الأخرى القريبة. فإذا فرض أموالاً على الأسرى مقابل إطلاق سراحهم، فإنه كان يحرص على إعفاء فقراء الصليبيين من ذلك المال؛ وبذلك استطاع صلاح الدين أن يلقِّن البرابرة الغربيين درسًا في الأخلاق كانوا في أشد الحاجة إليه.
وقد كان صلاح الدين في قمة التسامح مع الأسرى وغيرهم، وكان يعطي الأمان لمن يريده، ويسيِّر رجاله من الشرطة في الشوارع لمنع أي اعتداء على النصارى، وكان من رحمته بأعدائه أن أمر رجاله بالبحث عن ابن امرأة صليبية زعمت أن الجنود خطفوه فأحضروه لها.
الحملة الصليبية الثالثة
أوربا تستعد لحملة جديدة
بعد انتصار صلاح الدين على الصليبيين في حطين وما تلاها من انتصارات حتى سقوط بيت المقدس وما بعدها من مدن وقلاع، أسرعت رسل الصليبيين من الممالك الصليبية إلى غرب أوربا لتخبر بنبأ الكارثة التي حلَّت بهم على يد المسلمين، ولما علم البابا أوربان الثالث (1180- 1187م) بهذه الأخبار لم يتحمل الصدمة، وكان مريضًا فمات في أكتوبر 1187م، وتولَّى بعده البابا جريجوري الثامن فأرسل إلى حكام الغرب الأوربي يدعوهم إلى بذل كل الجهود لمساعدة الممالك الصليبية، والدعوة إلى فرض هدنة داخل أوربا لمدة سبع سنوات، والدعوة أيضًا إلى الصيام، والوعد لجميع الصليبيين بغفران الذنوب[16]. وفرض البابا ضريبةً مقدارها 10% على الدخل وعلى الأملاك المنقولة سمّاها: (عشور صلاح الدين) لتمويل الحملة الصليبيةالجديدة.
واستجاب لدعوة البابا عدد من ملوك أوربا على رأسهم الإمبراطور الألماني فريدرك باربروسا الأول، وفيليب الثاني ملك فرنسا، وريتشارد الأول ملك إنجلترا الذي كان يُلقَّب بقلب الأسد[17].
وفي ١١ من مايو ١١٨٩م تحركت قوات الإمبراطور الألماني فردريك باربروسا قَبْل القوات الفرنسية والقوات الإنجليزية مشكِّلةً الحملة الصليبية الثالثة. وسارت قوات الألمان عبر الطريق البري الذي سارت عليه من قبل قوات الحملة الأولى، ولكنَّ الإمبراطور لقي حتفه في أحد أنهار آسيا الصغرى غريقًا في ١٠ من يونيو ١١٩٠م. وكانت تلك خسارة فادحة لحقت بالجيش الصليبي قبل أن يصل إلى هدفه، وانتهى أمر الألمان بالمشاركة الرمزية في الحملة الصليبية الثالثة[18].
خيانة العهد صفة الصليبيين
اتجهت قوات الصليبيين إلى صقلية وظلُّوا بها في شتاء 586- 587هـ/ 1190- 1191م في نزاع حول الأمور الداخلية في صقلية، وبعد ذلك أبحروا تجاه فلسطين حيث وصلوا مدينة صور التي كانت ما تزال بأيدي الصليبيين، ثم بدءوا مسيرهم نحو عكا وحاصروها بدايةً من (10 من رجب 585هـ/ أواخر أغسطس 1189م) إلى أن سقطت في أيديهم بعد أن دافع عنها أهلها دفاعًا مستميتًا.
دخل الصليبيون عكا في (16 من جمادى الآخرة 587هـ/ 11 من يوليو 1191م) بعد أن حاصروها نحو عامين، غير أن ريتشارد قلب الأسد تجاهل بنود الاتفاق عندما دخل عكا، ونقض ما اتّفق عليه وخان العهد؛ حيث قبض على من بداخلها من المسلمين، وكانوا نحو 3 آلاف مسلم وقام بقتلهم، ولم يقابل صلاح الدين الإساءة بالإساءة، ورفض أن يقتل من كان بحوزته من أسرى الصليبيين.
ريتشارد الغادر الخائن
لم يكن غدر ريتشارد بالمسلمين، ونقضه للعهد غريبًا على شخصيته؛ فلم يكن ريتشارد نبيلاً كما صوّرته وسائل الإعلام في العالم الإسلامي من خلال فيلم الناصر صلاح الدين، بل كان على النقيض من ذلك غادرًا خائنًا متآمرًا حتى على أقرب الناس إليه، ولا يرقب فيهم قَرابة، ومن ذلك أنه اشترك مع إخوته في مؤامرة ضد والدهم سنة (569هـ/ 1173م)، ولكنها فشلت، ثم ما لبث أن عفا عنه والده، وانصرف إلى دعم سلطانه على المقاطعات التابعة له، ولكنه شرع في الضغط على أبيه ليعترف به وريثًا شرعيًّا يخلفه على عرش إنجلترا والمقاطعات الفرنسية التابعة لها.
ولم يرعوِ ريتشارد بعد عفو والده عن خيانته، بل تحالف مع فيليب أوغسطس لتحقيق غرضه في الوصول إلى عرش إنجلترا، وأعلن تمرده على والده وثار ضده سنة (584هـ/ 1188م)، ولم يكن أبوه في سن تسمح له بمقابلة تمرد ابنه بضربات قوية؛ فقد كان كبير السن عليل البدن، الأمر الذي عجَّل بوفاته سنة (585هـ/ 1189م)، وخلفه ريتشارد ملكًا على عرش إنجلترا في (20 من جمادى الأولى 585هـ/ 6 من يوليو 1189م) باسم ريتشارد الأول.
بعد الاستيلاء على عكا، زحف الصليبيون على ما جاورها من موانئ المسلمين على البحر المتوسط واستولوا عليها.
صلح الرملة ووفاة صلاح الدين
صلح الرَّمْلَة
بعد ذلك دخل الصليبيون في مفاوضات مع صلاح الدين الأيوبي انتهت بعقد صلح الرملة سنة 588هـ/ 1192م، والذي بمقتضاه خضعت المساحة الواقعة على ساحل البحر المتوسط ما بين مدينتي صور ويافا للنفوذ الصليبي، بينما ظلَّ المسلمون مسيطرين على كل المناطق التي حرّروها بما في ذلك القدس، مع السماح بحرية النصارى في زيارة الأماكن المقدسة في المدينة[19].
لماذا قَبِل صلاح الدين الصلح؟
لم يكن صلاح الدين مختارًا في قَبُوله صلح الرملة، بل كان هناك من العوامل ما ضغط عليه ليقبله، ولو سارت الأمور وَفْق ما كان يتمنى لاستمر في الجهاد حتى تتحقق غايته الكبرى بتطهير بلاد الشام من الوجود الصليبي، وقد أشار صلاح الدين إلى هذه العوامل، ومنها:
1- النزاع بين الأكراد والأتراك في جيشه.
2- ملَّ الجنود من طول فترة الحروب.
3- ازدياد قوة العدو.
4- خشيته من حدوث الخلاف بين أسرته بعد وفاته، وانصرافهم عن الاهتمام بالمصلحة العامَّة[20].
ورغم ذلك فإن هذا الصلح لم ينتقص مما في أيدي المسلمين شيئًا، ولم يعطِ الصليبيين شيئًا مما استطاع المسلمون استرداده؛ لذا يعتبر المؤرخون الحملة الصليبية الثالثة من الحملات الفاشلة في تاريخ الحروب الصليبية؛ لأنها لم تحقق من النتائج ما يتناسب مع ما بُذِل فيها من جهد ضخم، فضلاً عن أنها لم تنجح في تحقيق الهدف الذي جاءت من أجله، وهو استعادة بيت المقدس من أيدي المسلمين[21].
وفاة صلاح الدين وانقسام الدولة الأيوبية
توفِّي السلطان صلاح الدين الأيوبي في (27 من صفر 589هـ/ 4 من مارس 1193م) بقلعة دمشق بعد أن أُصيب بحمَّى؛ فحزن المسلمون كبارًا وصغارًا، وتنفّس الصليبيون الصعداء، وعوَّلوا على قلة خبرة أبنائه من بعده. وقد حدث ما كانوا يؤمِّلونه؛ إذ انشغل ورثة صلاح الدين بالصراعات الداخلية على الولايات والمدن، وقضوا تسع سنوات في مؤامرات داخلية، حتى وصل الأمر إلى انفصال الشام عن مصر مرةً أخرى في ضربة قاصمة للوَحْدة الإسلامية.
لذا فإنه في السنة التي تولى فيها السلطان العادل الأيوبي شقيق صلاح الدين منصب السلطنة الأيوبية في القاهرة، أي سنة 596هـ/ 1200م، كانت فكرة الاستيلاء على بيت المقدس وضرب مصر لا تزال تشغل بال الأوربيين.
وحين رأى الصليبيون أن السلطان العادل يفرض نوعًا من الوحدة على أبناء البيت الأيوبي، خافوا أن يعودوا إلى الموقف المرعب الذي عانوا منه كثيرًا أيام صلاح الدين الأيوبي؛ لذا بدءوا يفكرون في حملة صليبيةٍ جديدة.
وأدرك البابا والغرب الأوربي والصليبيون في الشرق أن الاستيلاء على مصر هو الخطوة المنطقية والضرورية لتأمين وجودهم في بلاد الشام، وبات غزو مصر حتميًّا لضمان استرداد ما حرَّره صلاح الدين من أراضي مملكة بيت المقدس، بل وبيت المقدس ذاته. وهكذا أخذ البابا (إنوسنت الثالث) على عاتقه مهمَّة الدعوة إلى حملة صليبية جديدة يكون هدفها مصر.
الحملة الصليبية الرابعة
وبدأت الاستعدادات لتجميع الحملة الجديدة، بَيْدَ أنَّ مشكلة نقل القوات والعتاد الصليبي الحربي إلى الشواطئ المصرية فرضت على قادة الصليبيين أن يدخلوا في مفاوضات مع جمهورية البندقية التجارية التي كانت تملك أقوى وأكبر الأساطيل العاملة في البحر المتوسط، وتمت المفاوضات، وتوجهت جيوش الصليبيين إلى البندقية لكي تنقلهم سفنها إلى شواطئ مصر، كان ذلك سنة 597هـ/ 1201م، لكن البندقية -التي كانت لها مصالح تجارية مع مصر- رأت أن تحوِّل اتجاه القوات إلى جهة أخرى. وفي أغسطس 1202م وصل إلى البندقية القائد الأعلى للصليبيين بونيفاس دي مونفيرات، وتواطأ بونيفاس مع دوق البندقية على تحويل الهجوم الذي نال تأييدًا مستترًا من بابا الفاتيكان الذي كان يشعر بالكراهية الشديدة للكنيسة الأرثوذكسية، ويريد توحيد الكنيستين: الشرقية والغربية تحت قيادته.
الاستيلاء على القسطنطينية
في القسطنطينية واجه الصليبيون خَصْمًا ضعيفًا؛ فبيزنطة قد أرهقتها الحملات السابقة والإتاوات والضرائب المتزايدة، وتناقص واردات الدولة؛ فوصلوا إلى شواطئها في 11 من شوال 599هـ/ 23 من يونيو 1203م، وبدأت العمليات العسكرية في 23 من شوال 599هـ/ 5 من يوليو 1203م، ففرَّ إمبراطور بيزنطة ألكسيوس الثالث، واقتحم الصليبيون القسطنطينية في (10 من شعبان 600هـ/ 13 من إبريل 1204م)، وسلبوها ونهبوها، وقتلوا أهلها المسيحيين على مدى ثلاثة أيام مرعبة، ثم أرسوا بها دعائم دولة جديدة تكون بديلاً للإمبراطورية البيزنطية، وعقدوا مع حاكمها الجديد معاهدة فصَّلوا بنودها حسب أهوائهم؛ وبذلك انتهت تلك الحملة الصليبية الرابعة بعد أن نسي قادتهم هدفهم الأصلي وهو غزو مصر.
الحملة الصليبية الخامسة
تجديد الحملة على مصر
بعد سبع عشرة سنة من الحملة الرابعة قرَّر قادة أوربا أن يستدركوا ما فاتهم من الهجوم على مصر والاستيلاء عليها؛ لذا تجهَّزوا وحشدوا الحشود.
وبالفعل بدأت بعض قوات الحملة الصليبية الخامسة في الوصول إلى عكا، وفي أوائل شعبان 614هـ/ نوفمبر سنة ١٢١٧م خرج الصليبيون من عكّا لكي يشنوا هجومًا مباغتًا ضد مصر في جيش ضخم لم تشهد بلاد الشام مثله منذ أيام الحملة الصليبية الثالثة، بيد أن فوضى القيادة في الجيش الصليبي الضخم جعلته عاجزًا عن القيام بأي عمليات عسكرية حقيقية، وسرعان ما عاد الجيش إلى داخل أسوار عكا لكي يظل هادئًا حتى المحرم 615هـ/ إبريل سنة ١٢١٨م حين وفدت قوات صليبية جديدة من أوربا، وقرر مجلس الحرب الصليبي الذي اجتمع في عكا مهاجمة دمياط على دلتا النيل.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75477
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

قصة الحروب الصليبية Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصة الحروب الصليبية   قصة الحروب الصليبية Emptyالجمعة 02 أكتوبر 2015, 7:49 am

قصة الحروب الصليبية

معسكر الشاطئ الغربي
وعند أوائل شهر ربيع الأول 615هـ/ نهاية شهر مايو سنة 1218م وصلت القوات الصليبية قُبَالة دمياط التي كانت بها قلعة حصينة، كما كانت أهم ثاني ميناء في مصر بعد الإسكندرية، وخرج الكامل أكبر أبناء السلطان العادل وخليفته؛ للدفاع عن دمياط ضد الصليبيين الذين أقاموا معسكرهم على الشاطئ الغربي للنيل وأحاطوه بخندق يفصلهم عن عدوِّهم، ويحميهم منه. وظل الوضع متجمدًا قُرابة أربعة أشهر حتى امتلكوا برج السلسلة، ولكن القوات المصرية ظلت تقاتلهم في البر وفي فرع النيل الدمياطي، ثم توفِّي الملك العادل في جمادى الآخرة ٦١٥هـ/ سبتمبر 1218م، وغادر الكامل العادلية (بين دمياط وفارسكور على الضفة الشرقية للنيل، وأسسها العادل سنة 614هـ/ 1217م) بعدما عرف بمؤامرة انقلاب دبّرها أحد الأمراء ضده، وخشي أن يقع بين مطرقة الأمير الخائن وسندان الصليبيين، ولكنَّ ذلك الانسحاب ضعضع صفوف المسلمين؛ مما أدى لتفرُّق جموع المدافعين عن العادلية التي سقطت بأيدي القواتالصليبية في (19 من ذي القعدة 615هـ/ 5 من فبراير 1219م)، وشرع الصليبيون في محاصرة دمياط، ولكنهم لم يستطيعوا دخولها.
الملك العادل يضحِّي بالأماكن المقدسة
وفي أثناء الحصار، قبل سقوط المدينة، كان السلطان الكامل قد يئس من إمكانية صمود دمياط (ويبدو أن نفاد الصبر صفة ملازمة له، كما أنه غير مهتم بالمقدسات، ويستطيع التنازل عن أي شيء بسهولة ويُسرٍ في سبيل أمانه الشخصي وأمان ملكه؛ كما سيتضح بعد ذلك)، وأرسل في نهاية شهر أكتوبر يقترح على الصليبيين الجلاء عن مصر مقابل أن يأخذوا الصليب المقدس، وأن يمتلكوا مدينة بيت المقدس ووسط فلسطين والجليل، على أن يدفع المسلمون جزية عن الحصون التي تبقى بأيديهم[22]. ورغم غرابة العرض الذي قدمه الكامل ومهانته -والذي يقدم للصليبيين ما لم يحلموا به، ويسلم لهم بيت المقدس على طبق من ذهب (وهو الأمر الذي يثبت ما ذكرنا عنه)- لم يوافقوا على العرض، وفوَّتوا على أنفسهم فرصة كبيرة.
شدَّد الصليبيون الحصار حول دمياط حتى بدأت حاميتها في الانهيار، ثم سقطت المدينة بأيدي الصليبيين في (25 من شعبان 616هـ/ 5 من نوفمبر 1219م).
فيضان النيل وفشل الحملة الخامسة
جمّد الصليبيون نشاطهم في دمياط على مدى ثمانية عشر شهرًا كاملة، وعندما وصلت قوات إضافية من أوربا وعكا بدءوا يزحفون جنوبًا حتى مدينة فارسكور في منتصف شهر يوليو سنة ١٢٢١م، وهذا هو وقت فيضان النيل السنوي الذي يشتد في شهر أغسطس، وعبرت قوات الجيش المصري لكي تحاصر الصليبيين قرب المنزلة، ثم بدأ فيضان النيل وفتحت الجسور فأغرقت كل الطرق أمام الجيش الصليبي المحاصر، وعلى صفحة النهر كانت سفن البحرية المصرية تستولي على عدد من سفن العدو ومعداته، وتقتل وتأسر بحّارته. وهكذا غرقت أحلام الصليبيين بالاستيلاء على مصر في أوحال الدلتا، وتحدد مصير الحملة الخامسة بشكل نهائي.
وفي التاسع من شهر رجب سنة ٦١٨هـ/ سبتمبر ١٢٢١م دخلت القوات المصرية دمياط التي كان الصليبيون قد حصَّنوها جيدًا[23].
كانت نتائج الحملة الخامسة مؤلمة لأوربا كلها، وبدا أنهم يريدون الانتقام لما حدث، ويبحثون عن تعويض الهزيمة بنصر سهل. وكان فردريك الثاني قد تولى عرش الإمبراطورية الرومانية سنة 612هـ/ ١٢١٥م، وأخذ شارة الصليب في تلك السنة لكي يضمن تأييد البابا إنوسنت الثالث له في عرش الإمبراطورية، بيد أنه كان عازفًا عن القيام بحملة صليبية؛ لأنه كان يطمح إلى بسط نفوذه على كل إيطاليا بما فيها أملاك البابوية ومدن الشمال التجارية الغنية؛ ولذلك أخذ يماطل في الوفاء بنذره الصليبي بأن يقود حملةً كبيرةً إلى الأراضي المقدسة، ولكن زواجه من يولاندا ابنة الملك الصليبي الراحل يوحنا بريين ملك عكا، جعل منه ملكًا على بيت المقدس ومسئولاً عن الصليبيين في الشرق.
هدنة العشر سنوات
وعلى الرغم من ذلك بدأت المراسلات بينه وبين السلطان الكامل الأيوبي، إذ كانت بينهما صداقة قديمة؛ مما أثار غضب البابا في روما، ثم أسفرت المراسلات عن قدوم الإمبراطور إلى فلسطين سنة ٦٢٥هـ/ ١٢٢٨م، وكان تحت إمرته جيش صغير قوامه ستمائة فارس فقط، وأسطول هزيل، وكان مشهدًا غريبًا ذلك الذي جرى على مسرح التاريخ آنذاك؛ إذ دعت البابوية إلى شنِّ حملة صليبية ضد فردريك الثاني بعد أن وقعت ضده عقوبة الحرمان، على حين كان الإمبراطور في فلسطين يؤدي واجبه الصليبي.
تفريط الكامل الأيوبي في أراضي المسلمين
كانت أهم نتائج هذه الحملة العجيبة، التي تجنبت أي إراقة للدماء، أن عقدت هدنة مدتها عشر سنوات بين الكامل الأيوبي وفردريك الثاني، على أساس أن يتسلم الإمبراطور مدينة القدس، وبيت لحم، وشريطًا من الأرض يصل بين عكا والقدس، ويبقى في حوزة المسلمين المسجد الأقصى وقبة الصخرة والمناطق الريفية، وفي المقابل يتعهد فردريك بمنع أي حملة صليبية طوال عشر سنوات من أوربا.
وبعد أن تُوِّج فردريك الثاني ملكًا على مملكة بيت المقدس الصليبية عاد في رجب 626هـ/ يونيو ١٢٢٩م إلى أوربا بمكاسب لم تستطع أية حملة أخرى قبله أن تحققها منذ الحملة الأولى في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، مع أنه كان يقود أضعف الحملات[24].
ويبدو جليًّا لنا أن هذه النتائج لم يكن لها أن تتحقق لولا تنازل الملك الكامل الذي فرَّط في أراضي المسلمين لصديقه الملك الصليبي بدون مقابل؛ وذلك حتى يُحسِّن فردريك وضعه في أوربا. ولا شك أن هذه الأحداث تعكس طبيعة متهاونة للملك الكامل في حقوق المسلمين، تُكرِّس الصورة التي ظهرت خلال الحملة الخامسة عندما انسحب تاركًا العادلية ودمياط للصليبيين.
الملك الصالح نجم الدين أيوب
كان التنازل عن بيت المقدس صدمة مزلزلة للمسلمين، الذين ترحَّموا على صلاح الدين وجنوده المجاهدين الذين بذلوا أرواحهم من أجل تحريره؛ ليأتي ذلك الملك الخانع الكامل الأيوبي ليتنازل عنه لشرذمة من الصليبيين دون أي مقاومة. ومن ثَمَّ كان من أهم آمال المسلمين إعادة تحرير الأقصى؛ حتى قيَّض الله قصة الحروب الصليبية U1_20 للأمة السلطان المجاهد نجم الدين أيوب الملقَّب بالملك الصالح، الذي عمل على تحرير المقدسات؛ حتى استطاع بفضل الله أن يحرِّر المسجد الأقصى بمعاونة جنوده الخوارزميين في 3 من صفر 642هـ/ 11 من يوليو 1244م؛ ليتحرر المسجد الأقصى نهائيًّا من أيدي الصليبيين، ولم يجرؤ جيش صليبي أن يدخلها مدة سبعة قرون، حتى دخلها الإنجليز خلال الحرب العالمية الأولى عام 1914م.
وقد كان الملك الصالح نجم الدين حاكمًا صالحًا، ومجاهدًا في سبيل الله قصة الحروب الصليبية U1_20، يحب العلم، ويقدّر العلماء، وهو مَن استضاف سلطان العلماء العز بن عبد السلام -رحمه الله- بعد أن ضيَّق عليه الخائن الصالح إسماعيل سلطان دمشق، وكان نجم الدين يلتزم برأي العز، ولا يخالفه؛ لذا لمَّا أعلمه بوجود حانات للخمور أسرع بإغلاقها. وبالجملة كان نجم الدين أيوب أفضل حاكم أيوبي بعد صلاح الدين.
آخر الحملات الصليبية
لويس التاسع يقود الحملة على مصر
بدأت الدول الأوربية في التجهيز لحملة صليبية جديدة، وكانت الاستعدادات تجري لهذه الحملة بالتنسيق بين البابا إنوسنت الرابع ولويس التاسع ملك فرنسا منذ سنة ١٢٤٥م نتيجة سقوط بيت المقدس في أيدي الخوارزمية وخضوعها للصالح أيوب. ولم يكن هدف هذه الحملة استرداد بيت المقدس فقط، وإنما سعت إلى تكوين حِلف مغولي- مسيحي بهدف تطويق العالم الإسلامي والقضاء عليه. والواقع أن فكرة الحملة الصليبية بقيادة لويس التاسع جاءت مواكبة لفكرة إقامة حِلف مغولي- صليبي ضد المسلمين، ولكن المشروع فشل؛ لأن المغول كانت لهم أحلامهم الخاصة بالسيادة على العالم، على الرغم من كثرة السفارات المتبادلة بين الجانبين.
وفي خريف سنة ٦٤٦هـ/ ١٢٤٨م أبحر الأسطول الصليبي من ميناء مرسيليا الفرنسي إلى قبرص حيث أمضى لويس التاسع فترة من الوقت في انتظار تكامل القوات التي كان لويس التاسع ينتظرها.
وفي سنة ٦٤٧هـ/ ١٢٤٩م تواترت الأنباء عن قرب قدوم الحملة، وبسرعة عاد الملك الصالح نجم الدين أيوب من الشام إلى مصر لكي ينظم وسائل الدفاع عنها.
تحصين دمياط
وفي مايو سنة ١٢٤٩م أقلعت السفن تجاه الشواطئ المصرية. وفي العشرين من شهر صفر سنة ٦٤٧هـ/ ٤ يونيو ١٢٤٩م نزل الصليبيون قُبالة دمياط، وأمامهم لويس التاسع يخوض المياه الضحلة، وهو يرفع سيفه ودرعه فوق رأسه. وانسحب الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ قائد المدافعين عن المدينة بسرعة بعد أن ظن أن سلطانه المريض قد مات، وفي أعقابه فرَّ الجنود، وفي أعقاب الجنود والفرسان فرَّ السكان المذعورون.
وهكذا سقطت دمياط دون قتال!! دمياط التي دوَّخت قوات الحملة الصليبية الخامسة مقاومتها الشرسة، استسلمت في وداعة مذهلة لقوات لويس التاسع.
وما إن تأكد الصليبيون من حقيقة النصر السهل، الذي سقط بين أيديهم دون جهد، حتى أخذوا يدعمون وجودهم في المدينة الأسيرة[25]واستقبل السلطان المريض أنباء سقوط المدينة التي بذل جهدًا مضنيًا في تحصينها، بمزيج من الألم والمرارة، وأعدم عددًا من الفرسان الهاربين، يبد أنه نقل معسكره إلى مدينة المنصورة التي كانت قد خرجت إلى الوجود قبل ثلاثين سنة فقط، ومن هناك بدأت حرب عصابات شارك فيها المصريون جميعًا، وكثرت أعداد الأسرى الصليبيين الذين تخطَّفتهم أيادي اﻟﻤﺠاهدين، وتعددت مواكب الأسرى في شوارع القاهرة، كما أن البحرية المصرية قامت بدورها، ثم جاءت قوات إسلامية أخرى من بلاد الشام لمساندة المصريين.
رحيل الملك الصالح ودور بارز لبيبرس
وفي خضم هذه الأحداث توفِّي السلطان الصالح نجم الدين أيوب في يوم الاثنين ١٤ من شعبان سنة ٦٤٧هـ/ ٢٠ من نوفمبر ١٢٤٩م، وأخفت زوجته شجرة الدر نبأ وفاته؛ لكي لا تتأثر معنويات الجيش، وأرسلت في استدعاء ابنه توران شاه من إمارته على حدود العراق، واشتدت المقاومة المصرية ضد القوات الصليبية. وبعد عِدَّة تطورات كانت القوات الصليبية تتقدم نحو مدينة المنصورة في سرعة، ولكن الأمير بيبرس البندقداري كان قد نظَّم الدفاع عن المدينة بشكل جيد، وانقشع غبار المعركة عن عدد كبير من قتلى الصليبيين بينهم عدد كبير من النبلاء، ولم ينجح في الهرب سوى عدد قليل من الفرسان هربوا على أقدامهم تجاه النيل ليلقوا حتفهم غرقًا في مياهه، أمّا الجيش الصليبي الرئيسي بقيادة لويس التاسع فكان لا يزال في الطريق دون أن يعلم بما جرى على الطليعة الصليبية التي اقتحمت المنصورة في ٤ من ذي القعدة ٦٤٧هـ/ 8 من فبراير ١٢٥٠م. وفي المحرم من سنة ٦٤٨هـ/ ١٢٥٠م دارت معركة رهيبة قرب فارسكور قضت على الجيش الصليبي، وتم أسر لويس التاسع نفسه في قرية مُنْيَة عبد الله شمالي المنصورة، ثم نُقل إلى دار ابن لقمان القاضي بالمنصورة؛ حيث بقي سجينًا فترة من الزمان حتى أُفرِجَ عنه لقاء فدية كبيرة، ومقابل الجلاء عن دمياط[26].
القائد المظفَّر سيف الدين قُظُر
بعد معركة فارسكور قُتِل الملك توران شاه على أيدي المماليك، وبموته انتهت دولة الأيوبيين في مصر، وتولت شجرة الدر الحكم مؤقتًا، ثم تزوجت عز الدين أيبك أحد قادة مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب، وبدا بذلك عصر دولة جديدة في مصر، هي دولة المماليك.
لم تستقر الأوضاع في دولة المماليك إلا بعد تولِّي الملك المظفر قطز الحكم، وقد جاء توليه في فترة عصيبة، وفاصلة للعالم الإسلامي كله؛ إذ انطلق التتار في هذا الوقت يجتاحون بلدان العالم الإسلامي؛ فأسقطوا الخلافة الإسلامية في بغداد، وانطلقوا يجتاحون الشام، وهناك بدأ التعاون بينهم وبين الصليبيين الذين كانوا يهاجمون العالم الإسلامي منذ عشرات السنين من خلالالحروب الصليبية.
قام قطز بتعبئة الشعب المصري على خير وجه؛ فأثار فيهم روح الجهاد، وعمل على تجميع صفوف المماليك، وتوحيد قوتهم؛ لملاقاة العدو الرهيب، وكانت النتيجة نصرًا عزيزًا من عند الله قصة الحروب الصليبية U1_20 في عين جالوت؛ مما أسهم في تفريغ جهود المسلمين لحرب الصليبيين.
الملك الظاهر بيبرس البندقداري
وأخذ الوجود الصليبي يتلاشى رويدًا رويدًا؛ ففي عهد السلطان الظاهر بيبرس (٦٥٨- ٦٧٦هـ/ ١٢٦٠- ١٢٧٧م) تم توحيد مصر والشام، وقد اتسمت سياسة هذا السلطان القوي بالشدة والصرامة إزاء الصليبيين.
كان بيبرس مملوكًا للملك الصالح نجم الدين أيوب، ومن قوّاده البارزين، كما كان له فضل كبير في الانتصار في معركة المنصورة؛ إذ كان يتصف بالشجاعة والقوة والإقدام، وكان قد ترك مصر بعد مقتل فارس الدين أقطاي، ولكنه عاد بعد تولِّي قطز كرسي السلطنة، وعينه قطز قائدًا للجيش في عين جالوت؛ فأبلى أحسن البلاء.
بدأت جهود بيبرس العسكرية ضد الصليبيين منذ سنة ٦٥٩هـ/ ١٢٦١م، إذ كان يُغير بقواته عليهم كل عام، ثم دخل في عمليات حربية واسعة ضد إمارات الساحل الصليبية في مطلع سنة ٦٦٣هـ/ ١٢٦٥م فاستولى على مدينة قَيْسَارِيَة، ثم مدينة أُرْسُوف إلى الجنوب منها. وفي العام التالي مباشرة أخذ قلعة صَفَد التي كانت معقل الفرسان الداوية[27]، وكان يقود جيوشه بنفسه في هذه المعارك. وفي أثناء القتال ضد قيسارية أخذ يهدم أسوارها بمطرقة في يده حتى جرحت يده. وفي صفد كان يشارك البقر في جر الأخشاب اللازمة لعمل الأبراج لمهاجمة القلعة. وفي ٦٦٦هـ/ ١٢٦٨ م استولى على يافا، ثم حصن شقيف أرنون المنيع.
وكانت سياسة بيبرس تقوم على الإفادة من منازعات الصليبيين الداخلية، وبعد مناورة كبيرة قامت بها جيوش هذا السلطان الداهية فوجئ الصليبيون بالقوات المصرية والشامية تحاصر أنطاكية، ثم تستولي عليها سنة ٦٦٦هـ/ ١٢٦٨م. واستولى بيبرس على المدينة التي ظلت رهينة الأسر الصليبي على مدى أكثر من مائة وخمسين عامًا. وكان ذلك أكبر انتصار حققه المسلمون على الصليبيين منذ أيام حطين واسترداد بيت المقدس. وكان فرح المسلمين بهذا الفتح عظيمًا.
السلطان المنصور قلاوون
أمَّا الصليبيون فقد جاءت أنباء سقوط أنطاكية عليهم بمنزلة الكارثة، وانتابهم خوف شديد فسارعوا إلى تقديم فروض الطاعة والولاء للسلطان، وعندما طلب ملك عكا الصليبي معاهدة هدنة مع بيبرس، لقاء التنازل عن نصف أملاك التاج الصليبي في عكا، وافق السلطان على أساس أن هذه الهدنة تطلق يده في مواجهة القوى الصليبية الأخرى في الشام.
وفي سنة ٦٧٠هـ/ ١٢٧١م عقد بيبرس هدنة مع بوهيموند السادس أمير طرابلس بسبب قدوم حملة صليبية جديدة إلى عكا تحت قيادة الأمير إدوارد الإنجليزي، وكانت تلك آخر جهود بيبرس الكبرى ضد الصليبيين.
وتولى الحكم سلطان مملوكي قوي آخر هو السلطان المنصور قلاوون الذي اعتلى عرش السلطنة في مصر سنة ٦٧٨هـ/ ١٢٧٩م، وبعد أن وطَّد دعائم حكمه بدأ في مواصلة جهود بيبرس ضد الصليبيين. وكانت بقايا الوجود الصليبي تتمثل في إمارة طرابلس، وبقايا مملكة بيت المقدس اللاتينيّة التي اتخذت من عكا عاصمة لها، كما كان حصن المَرْقَب بأيدي الفرسان الإسبتارية[28]، وكانت طرطوس بأيدي فرسان الداوية. وفي سنة ٦٨٤هـ/ ١٢٨٥م شنَّ الجيش المصري هجومًا ناجحًا على حصن المرقب، وانتزعه من فرسان الإسبتارية. وكانت كل الشواهد تدل على أن نهاية الوجود الصليبي في العالم الإسلامي قد اقتربت. وفي سنة ٦٨٦هـ/ ١٢٨٧م أرسل السلطان المنصور قلاوون جيشًا استولى على اللاَّذقِيَّة، آخر ما تبقى من إمارة أنطاكيةالصليبية التي حرَّرها بيبرس.
وبعد ذلك بسنتين خرج السلطان بنفسه على رأس جيش ضخم فرض حصارًا على طرابلس مدة شهرين، واستولى عليها في ربيع الأول 688هـ/ إبريل سنة ١٢٨٩م، ثم تلتها بيروت وجبلة، وانحصر الصليبيون في عكا وصيدا وعثليت[29].
صلاح الدين بن قلاوون وتصفية الصليبيين
كان لا بد من تصفية الوجود الصليبي في المشرق الإسلامي بعد أن استمرَّ ما يقرب من مائتي عامٍ، وبعد أن وهنت قوته بفعل المقاومة الإسلامية، وجهود الحكام المسلمين المجاهدين، وبالفعل تم تصفية الوجود الصليبي في بلاد الشام في عهد الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون (689- 693هـ/ 1290- 1293م)، حيث كان بعض أملاك للصليبيين في الشام لا تزال قائمةً؛ منها على سبيل المثال: (عكا) التي اتجه إليها المنصور بن قلاوون وضرب عليها الحصار، واستطاع فتحها في السابع عشر من جُمادَى الأولى عام 690هـ/ شهر مايو عام 1291م، وكان هذا بمنزلة الضربة القاضية التي نزلت بالصليبيين في بلاد الشام، إذ لم تقم لهم بعد ذلك قائمة.
أرسل السلطان جيشًا إلى (صُور) بقيادة الأمير سنجر، الذي استطاع أن يدخلها في شهر رجب من سنة دخول (عكا)، ثم ظهر جيش مملوكي بقيادة الأمير الشجاعي أمام (صيدا) الذي استطاع أن يدخلها في 15 من رجب، ثم بعد ذلك فتح (بيروت)، وما لبث السلطان أن فتح (حيفا)، ولم يبقَ إلا موضعان: أنطروس وعثليث، ولكن حامية كلٍّ منهما لم تكن قادرة على الصمود، فجاءت حامية أنطروس في (5 من شعبان/ 3 من أغسطس)، ومن عثليث في (16 من شعبان/ 14 من أغسطس)، ولم يعُدْ بحوزة الداوية سوى الحصن الواقع في جزيرة أرواد[30]، فظلُّوا محافظين على موقعهم هذا طيلة اثني عشر عامًا، ولم يغادروا الجزيرة إلا في عام (703هـ/ 1303م).
وظلَّت الجيوش المملوكية بعد طرد الصليبيين، تجوب الساحل من أقصاه إلى أقصاه بضعة أشهر في خطوة وقائية، تدمر فيها كلَّ ما تعتبره صالحًا لنزول الصليبيين إلى البَرِّ مرة أخرى، والتحصُّن فيه من جديد[31].
استفادة الصليبيين من الحملات
رغم ما حدث في هذه الحروب من مآسٍ داميةٍ وتخريب للبلاد الإسلامية، وفي نفس الوقت خسائر جسيمة للصليبيين إلا أنَّ الصليبيين استطاعوا الإفادة من هذه الحملات؛ فالمعروف أنالحروب الصليبية أحدثت هزَّة عنيفة في الغرب الأوربي ظهرت آثارها بوضوح في النواحي الاجتماعية والسياسية، فأدَّت هذه الحروب إلى إضعاف النظام الإقطاعي وهو النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي أعطى المجتمع الأوربي الغربي طابعه في ذلك العصر، ويبدو أثر الحروب الصليبية واضحًا كذلك في الميدان الاقتصادي؛ إذ ساعدت تلك الحروب على إحداث تطور ملموس في النظم المالية في غرب أوربا، هذا إضافةً إلى أن ازدياد النشاط التجاري بين الشرق والغرب على عصر الحروب الصليبية أدَّى إلى نتائج خطيرة في غرب أوربا؛ منها ازدياد نفوذ المدن وقوتها، واتساع نطاق النشاط المصرفي، وتحسين طرق التجارة، وإنشاء طرق جديدة، ونشاط الطرق البحرية.
1- التأثُّر الحضاري
على أن أهم ما تأثر به الغرب الأوربي في عصر الحروب الصليبية كان ميدان الحضارة نتيجةً للاتصال بالحضارة الإسلامية؛ ذلك أن الحروب الصليبية أتاحت فرصة للاتصال الحضاري بين الغرب الأوربي والشرق الإسلامي في الوقت الذي كان غرب أوربا ما زال تائهًا في ظلمة العصور الوسطى؛ مما ساعد على انتقال كثير من مظاهر الحضارة الإسلامية إلى غرب أوربا عن طريق الصليبيين.
والملاحظ أن الصليبيين أقبلوا على الحضارة الإسلامية يرتشفون من مَعِينها الفيّاض، فنقلوا إلى بلادهم كثيرًا من مظاهر هذه الحضارة. حقيقةً إنَّ إقامة الصليبيين بالشام كانت قلقة ومهددة دائمًا، مما لم يسمح لهم بدراسة تراث الحضارة الإسلامية في كثير من العلوم، ولكن ذلك لم يحُلْ دون رؤية الصليبيين أشياء جديدة عملوا على محاكاتها ونقلها إلى بلادهم؛ من ذلك أن الغربيين نقلوا صناعة البارود إلى أوربا عن المسلمين، كما عرفوا أشكالاً بدائية من الصواريخ، نقلوها وطوّروها في أوربا بعد ذلك. ومثل ذلك يقال عن الفنون الحربية التي شاهد الأوربيون منها أنماطًا غاية في الرُّقي والتقدم في البلدان الإسلامية في الشرق الأدنى، فأخذ الأوربيون عن المسلمين -مثلاً- فكرة جعل مدخل الحصن ملتويًا بحيث لا يرى الواقف على باب الحصن ما بداخله[32].
2- التأثر الأخلاقي
وفي ميدان السلوك والأخلاقيات، فقد تعلَّم الصليبيون من المسلمين كيف يحترمون المرأة، ويقدِّرون دورها، على عكس ما كان الوضع السائد في أوربا؛ ومن ثَمَّ تحول سلوكهم مع المرأة تحولاً كبيرًا.
3-في مجال الصناعة والزراعة
وفي مجال الزراعة والصناعة، شاهد الصليبيون نبات قصب السكر لأول مرة في الشرق، فنقلوه إلى غرب أوربا. كما حرصوا على تصدير السكر نفسه إلى غرب أوربا ليحل محل عسل النحل الذي لم تعرف أوربا وسيلة غيره لتحلية الطعام وعمل الحلوى. ومثل ذلك يقال عن كثير من أنواع النبات والثمار والفواكه التي عرفها الأوربيون عن المسلمين على عصر الحروب الصليبيةونقلوها إلى بلادهم في الغرب؛ مثل السمسم والأرز والليمون والبطيخ والثوم.
كذلك عرف الأوربيون كثيرًا من المصنوعات الإسلامية، وأعجبوا بها ونقلوها إلى بلادهم، وحرصوا على استيرادها بانتظام من المصانع الإسلامية في الشرق، سواء المصنوعات الزجاجية أو الخزفية أو المنسوجات أو الجلود أو الأواني المدنية وغيرها.
الحملات الصليبية .. نتائج ودلائل
وبذلك انتهت الحملات الصليبية على العالم الإسلامي في هذا العصر بعد ما يقرب من مائتي عام قُتِل فيها عشرات الآلاف من المسلمين، واستُنزِفت قدرات البلاد الإسلامية، ولفتت أنظار الصليبيين إلى أنَّهم لا بد أن يغيروا أسلوبهم في حرب المسلمين، وأن يستبدلوا بالحرب المسلحة الحربَ الفكرية؛ حرب العقول والأفهام، وذلك ما كان بعد ذلك عن طريق الاستشراق والتبشير والمذاهب الفكرية المنحرفة التي زرعوها بين المسلمين.
كما أثبتت الحروب الصليبية -في ذات الوقت- أن رُوح الجهاد ما زالت متقدةً في صدور المسلمين تنتظر من يوجِّهها إلى وجهتها الصحيحة، وقبل ذلك تحتاج من ينفض عنها الرَّماد لتتحول من جمرةٍ خابية إلى شعلةٍ دائمة للعِزَّة والنصر.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75477
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

قصة الحروب الصليبية Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصة الحروب الصليبية   قصة الحروب الصليبية Emptyالجمعة 02 أكتوبر 2015, 7:50 am

لن نستطيع أن نفهم حقيقة الحروب الصليبية ولا دوافعها وبواعثها بدون اطِّلاع دقيق على الحياة التي كانت تعيشها أوربا في ذلك الوقت، ولا ينبغي أن يكون ذلك على المستوى السياسي فقط، بل يجب أن يشمل أيضًا المستوى الاقتصادي والديني والاجتماعي؛ لنأخذ فكرة كاملة عن الأحوال هناك، ومن ثَمَّ نفقه هذا التوجُّه الأوربي الشامل لغزو العالم الإسلامي الشرقي.
أولاً: الدافع الديني للحروب الصليبية
سيطرة الكنيسة على أوضاع أوربا
في هذه الحقبة التاريخية وفي القرون التي سبقت الحروب الصليبية، وخاصةً القرن التاسع والعاشر الميلادي، وكذلك الحادي عشر الذي تمت فيه الحروب الصليبية، كان للكنيسة سيطرة كبيرة على مجريات الأمور في أوربا، ولم تكن هذه السيطرة فكرية ودينية فقط، بل كانت سياسية واقتصادية وعسكرية أيضًا[1].
لقد كان في إمكان الكنيسة أن تسحب الثقة من الملوك والأمراء، فتنقلب عليهم الأوضاع، ويرفضهم الخاصَّة والعامَّة، ومن ثَمَّ فالجميع ينظر إلى رأي الكنيسة بقدرٍ كبير من الرهبة والتبجيل، ويكفي للدلالة على قوة البابا في ذلك الوقت أن نذكر موقفًا للبابا جريجوري السابع مع الإمبراطور الألماني هنري الرابع. لقد كان الإمبراطور الألماني هو أقوى ملوك أوربا في زمانه، ومع ذلك فقد غضب عليه البابا في أحد المواقف، ورفض الإمبراطور الاعتذار للبابا، فقام البابا بسحب الثقة منه، وأعلن حرمانه من الرضا الكنسي، وبالتالي حرمانه من الجنة كما يزعم!
وبدأ الناس يخرجون عن طوعه، بل وكاد أن يفقد ملكه، فنصحه مقربوه بالاعتذار الفوري للبابا، فماذا يفعل الإمبراطور الألماني الكبير؟! لقد قرر أن يأتي من ألمانيا إلى روما ماشيًا حافي القدمين! وذلك حتى يظهر ندمه الشديد على إغضابه للبابا. ثم كانت المفاجأة أن البابا رفض أن يقابله لمدة ثلاثة أيام كاملة، فبقي الإمبراطور خارج الكنيسة في المطر والبرد الشديد حتى سمح له البابا بالمقابلة، فما كان من الإمبراطور إلا أن ارتمى على الأرض يُقبِّل قدمي البابا ليصفح عنه[2]!!
لقد كان هذا هو الحل الوحيد أمام الإمبراطور العظيم ليحتفظ بملكه!
وكانت الكنيسة الكبرى هي كنيسة روما، والبابا يستطيع أن يتحكم في كل كنائس أوربا الكاثوليكية، ومن ثَمَّ يستطيع السيطرة على الأحداث في البلاد المختلفة، ولم تكن الكنيسة مكان عبادة أو معلِّم للأمور الدينية فقط، إنما كانت مؤسَّسة ضخمة تُؤدَّى إليها سنويًّا الأموال الغزيرة، ومن ثَمَّ فإنها كانت تملك الإقطاعيات الكبيرة في أوربا، بل وكانت تملك الفرق العسكرية التي تدافع عن هذه الإقطاعيات، وكانت الكنيسة تتحالف مع فرق عسكرية أخرى عند الحاجة، ومن هنا أصبحت الكنيسة تمثِّل الحاكم الحقيقي لمعظم دول أوربا الغربية، وإن لم يكن هناك اتحاد بالمعنى المفهوم بين هذه الدول.
مستوى القساوسة في أوربا 
ومع كون الكنيسة تحتل في هذا الوقت هذه المكانة الكبيرة إلا أن القساوسة كانوا على درجة كبيرة من الجهل والتخبط، ولم يكن لهم في الغالب أي كفاءة دينية أو إدارية أو قيادية[3]، ولم يكن هذا فقط، بل إن معظم البابوات في القرن التاسع والعاشر الميلادي كانوا على درجة كبيرة من الفساد الأخلاقي، سواء في قضايا المال أو في قضايا النساء[4]، وكثير منهم قُتل في حوادث أخلاقية مخلَّة[5]، مع أنهم جميعًا كانوا يدَّعون الرهبانية، ويعلنون اعتزالهم مُتَع الحياة، ويشيعون الزهد في الدنيا، ويمتنعون عن الزواج، ثم يرتكبون بعد ذلك أبشع جرائم السرقة، وكذلك الزنا؛ وصدق الله قصة الحروب الصليبية U1_20 إذ يقول في كتابه واصفًا هذا التحريف والتبديل الذي أضافه هؤلاء القساوسة في دينهم فشقوا على أنفسهم، وما استطاعوا الالتزام بما فرضه بعضُهم على بعض، يقول تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27].
وليس خافيًا على أحدٍ ما حدث منذ عدة سنوات عندما أمسكوا بجيمي سواجارت[6] مع بعض العاهرات في أحد فنادق نيوأورليانز الأمريكية، وكان جيمي سواجارت قسيسًا من الذين يقيمون المناظرات مع الداعية الإسلامي الكبير أحمد ديدات[7] رحمه الله، ثم أَبَى الله إلا أن يكشف أوراقه أمام الجميع، فلا يمر أحدٌ الآن على الفندق الذي أمسكوه به إلا ويتذكر قصة هذا الدعيّ جيمي سواجارت.
ومع هذا الوضع السيئ للبابوات والقساوسة إلا أنهم كانوا يسيطرون على الأوضاع في أوربا، وكان يساعدهم في ذلك السطحية والجهل والتخلف عند معظم شعوب أوربا آنذاك، وكذلك مفهوم الدين عند هذه المجتمعات البدائية، حيث كان الدين عندهم قائمًا على الخرافات والأباطيل، وكانت تسيطر عليهم فكرة الأشباح والأرواح والخوارق مثلما يحدث في مجتمع ريفي بسيط، وكان هذا الوضع المتدني يساعد البابوات والقساوسة في السيطرة على عقول الناس عن طريق نشر الإشاعات والأوهام، وعمليات غسيل المخ التي تمحو كل فرصة للتفكير عند الشعوب[8].
إشاعة كنسية في أوربا الكاثوليكية 
ومن الأفكار المهمة التي أشاعها البابوات والقساوسة في القرن الحادي عشر -أي قبيل الحروب الصليبية بقليل- أن الدنيا على وشك الانتهاء، وأن يوم القيامة قد اقترب جدًّا، وأن هذا مرتبط بمرور ألف سنة على نهاية عهد المسيح قصة الحروب الصليبية U2_20، أي أن هذه الإشاعة بدأت تنتشر في سنة (424هـ) 1033م تقريبًا وما بعدها، وكانوا يفسِّرون كل الظواهر الكونية والطبيعية في ذلك الوقت على أنها أدلة على صدق الإشاعة، ومن ذلك مثلاً ثورة بركان فيزوف في إيطاليا، أو حدوث بعض الصواعق أو الزلازل[9].
وكان لانتشار مثل هذه الشائعات الأثر في إحداث حالة من الوجل والرعب والهلع عند عموم الناس، وخوفهم المفرط من ذنوبهم، وبروز دور البابوات والقساوسة والكنيسة بصفة عامة لإنقاذ الناس من هذه الضغوط، ومساعدتهم على التخلص من هذه الذنوب، وضرب رجال الدين على هذا الوتر بشدة، واستغلوه في توجيه الناس إلى ما يريدون، وقد كان من أهم الوسائل للتخلص من هذه الذنوب دفع الأموال للكنيسة، وهو الأمر الذي تطور بعد ذلك إلى صكوك الغفران، التي ثار عليها بعد ذلك بقرون مارتن لوثر[10] مؤسِّس البروتستانتية[11].
علاقة الحج إلى فلسطين بالحروب الصليبية 
غير أن هناك وسيلة أخرى أشاعها البابوات والقساوسة للتخلص من الذنوب لها علاقة كبيرة بموضوعنا، وهو التشجيع على رحلات الحج إلى أرض فلسطين مهد المسيح[12]، وذلك للتكفير عن الذنوب، وكانت رحلات الحج التكفيرية هذه تستغرق من الناس جهدًا كبيرًا ووقتًا طويلاً، قد يصل إلى سبع سنوات، وكانت هذه الرحلات بديلاً عن دفع المال الكثير للكنيسة[13]، ومن ثَمَّ رغب فيها الفقراء الذين لا يستطيعون شراء رضاء الكنيسة، ومن هنا توالت رحلات الحج لفلسطين، والتبرك بالآثار هناك، وأصبحت هذه الرحلات ثقافة عامة عند الناس؛ ولذلك انتشر اسم فلسطين، وصار متداولاً بين عموم الناس.
ولا شك أن هذا مهَّد نفسيًّا لقبول فكرة الحروب الصليبية بعد ذلك، فهي تذهب إلى مكان مألوف محبوب سمع الناس كثيرًا عنه، بل وشُجِّعوا على الذهاب إليه، بل إن فلسطين صارت حُلمًا لكثير ممن يريد الذهاب للتخلص من ذنوبه قبل انتهاء الدنيا، غير أنه يفتقد الطاقة البدنية أو المالية ليقوم بالرحلة، وكل هذا -لا شكَّ- أدى إلى تضخيم حجم فلسطين في عيون الغربيين[14].
وتشير الكثير من المصادر والوثائق أن استقبال المسلمين الذين يحكمون الشام وفلسطين لهؤلاء الحجاج كان استقبالاً طيبًا جدًّا، ولم يثبت أي محاولات تضييق عليهم كما يحاول البابوات أن يشيعوا؛ لكي يسوِّغوا فكرة الهجوم على فلسطين لتسهيل رحلات الحج لنصارى أوربا[15]. فهذه الخلفيات الدينية المعقدة من رغبة حثيثة للكنيسة للسيطرة على عقول الناس وأموالهم، ومن خوف مطَّرد عند الشعوب من فناء الدنيا وكثرة الذنوب، ومن حبٍّ جارف لهذه الأرض التي وُلد بها المسيح، والتي بسبب الرحلة إليها ستُغفر الذنوب. كل هذا وغيره مهَّد لفكرة الحروبالصليبية وغزو فلسطين.
ولعل الخلفيات التي يجب أن تضاف إلى هذه الأمور السابقة، والتي تفسِّر ولع الغرب بقضية فلسطين خصوصًا والشرق عمومًا، هي ظهور رغبة عند بعض بابوات روما لضم الكنيستين الغربية الكاثوليكية والشرقية الأرثوذكسية تحت سقف واحد، يحكمه الكاثوليكيون بالطبع، وكان الذي تبنَّى هذا المشروع بقوة هو البابا جريجوري السابع، وهو البابا السابق مباشرة للبابا أوربان الثاني الذي وقعت في عهده الحروب الصليبية.
وكان من ضمن الخطوات التي أخذها البابا جريجوري السابع لإتمام هذه الخطوة الفريدة أن بدأ يحسِّن من علاقاته مع الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين[16]، وهو الإمبراطور الذي سيعاصر الحروب الصليبية؛ مما جعل المراسلات بينهما مستمرة، ومما حدا -بعد ذلك- بالإمبراطور البيزنطي أن يستغيث بالغرب الكاثوليكي لنصرته ضد السلاجقة المسلمين، وذلك مع شدة كراهية هذا الإمبراطور الأرثوذكسي لكل بابوات وملوك وشعوب أوربا الكاثوليكية.
ولعل الخلفيات التي ذكرناها سابقًا تفسِّر بوضوح الحميَّة المتناهية التي كانت عند الغرب للمشاركة في الحملات الصليبية، ومع ذلك فليست الخلفية الدينية ولا الدافع الديني هو الوحيد عند الشعوب الأوربية آنذاك، ولكن كانت هناك عوامل ودوافع أخرى مؤثرة جدًّا، مثل العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
د. راغب السرجاني
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75477
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

قصة الحروب الصليبية Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصة الحروب الصليبية   قصة الحروب الصليبية Emptyالجمعة 02 أكتوبر 2015, 7:52 am

نستطيع بملاحظة تاريخ أوربا قبل الحملة الصليبية، وبملاحظة طرق التحميس، وبملاحظة خط سير الحملة الأولى، والمواقف التي تمت في رحلة الذهاب إلى أرض الشام، ثم بملاحظة الأحداث التي رأيناها أثناء الحروب الفعلية في آسيا الصغرى والشام وفلسطين، نستطيع بملاحظة كل هذه الأمور أن نحدِّد البواعث التي دفعت هذه الجموع المختلفة أن تجتمع للخروج فيالحملة الصليبية.
بواعث الحملة الصليبية
وهذه البواعث تضم ما يلي:
أولاً: الباعث الديني
وهذا الباعث يشكِّل أحد الدعامات الرئيسية لهذه الحملة، وإن لم يكن كما ذكرنا الدافع الوحيد، ونحن نعلم من القرآن الكريم، وكذلك من السُّنَّة المطهرة أن الحرب أبدية بين الإسلام ومن يرفضه، ولن يقنع الكثير من الناس بالتعايش السلمي مع الإسلام حتى لو مدَّ الإسلام يده بالتصافح والتحابِّ؛ لذلك فليس مستغربًا أن يسعى البابا أوربان الثاني لحرب المسلمين حتى دون وجود مبررات معينة تدفع لهذه الحرب، فهم مسلمون وهذا في حدِّ ذاته يكفي أن يكون سببًا في حربهم. وقد تكررت في كلماته ألفاظ توحي بعدم اعترافه بالإسلام أصلاً، كإطلاق لفظ الكفار أو الوثنيين على المسلمين، وعلى ذلك فالدافع الديني واضح عند البابا، ولا شك أنه واضح أيضًا عند بعض القساوسة والرهبان، كما أنه واضح أيضًا عند بعض الأمراء والقوَّاد.
وفوق كل ذلك فالهدف الديني هو الهدف المعلن للحملة، وإنقاذ الدولة البيزنطية من المسلمين كان السبب المتداول بين الناس، إضافةً إلى ادِّعاء البابا أن المسلمين يضطهدون الحجاج المسيحيين، وإن كان واضحًا أن هذا الادِّعاء ما ذكر إلا للاستهلاك المحلي في أوربا فقط[1]، ولتحميس الجيوش والشعوب النصرانية؛ لأنه لم يثبت أبدًا أن المسلمين اضطهدوا الحجاج النصارى، وقد ذكر أحد كبار المؤرخين الأوربيين وهو غيورغي فاسيلييف أن المسيحيين بوجه عام تمتعوا بقسط وافر من الحرية الدينية وغير الدينية في ظل الحكم الإسلامي، فلم يسمح لهم فقط بالاحتفاظ بكنائسهم القديمة، وإنما سمح لهم أيضًا بتشييد كنائس وأديرة جديدة، جمعوا في مكتباتها كتبًا دينية متنوعة في اللاهوت[2]. ويقول تومبسون -وهو مؤرخ-: "إن المسيحيين الذين خضعوا لحكم السلاجقة صاروا أسعد حالاً من إخوانهم الذين عاشوا في قلب الإمبراطورية البيزنطية ذاتها"[3].
بل إن كلام بطريرك القدس ثيودسيوس شخصيًّا في إحدى رسائله إلى بطريرك القسطنطينية سنة (255هـ) 869م امتدح المسلمين، وأثنى على قلوبهم الرحيمة، وتسامحهم المطلق، حتى إنهم سمحوا للمسيحيين ببناء مزيد من الكنائس دون أي تدخل في شئونهم الخاصة، وقد ذكر بطريرك القدس في رسالة حقيقية مهمة حين قال: "إن المسلمين قوم عادلون، ونحن لا نلقى منهم أي أذى أو تعنت"[4].
هذه الكلمات والشهادات وغيرها تثبت -بما لا يدع مجالاً للشك- أن كلام البابا أوربان الثاني عن اضطهاد المسلمين للحجاج المسيحيين ما هو إلا فِرْية لا أصل لها، وتغطية مكشوفة على الدوافع الحقيقية وراء هذه الحملة العنيفة.
وفوق هذا فإننا لم نَرَ في سلوك المحاربين في هذه المعارك -سواء في رحلتهم إلى بيت المقدس أو في أثناء حروبهم- أيَّ علامات للزهد أو الورع الذي يتصف به المتدينون، بل كانوا في غاية السفاهة والحمق، وبلغوا الذروة في الشر والإجرام، بل إنهم لم يتصفوا بذلك فقط عند تعاملهم مع المسلمين، بل كذلك عند تعاملهم مع النصارى الشرقيين، وسنرى طرفًا من هذا السلوك المقيت في أكثر من موضع من مواضع هذه القصة، سواء مع نصارى المجر والنمسا وبلغاريا أو مع نصارى القسطنطينية ذاتها، التي زعموا أنهم جاءوا لإنقاذها[5]!
إذن كان الباعث الديني موجودًا، ولكنه ليس هو الدافع الوحيد، بل لا ينبغي أن يُضخَّم كثيرًا؛ فعموم الحملة الصليبية لم يكن يعنيهم الدين لا من قريب ولا من بعيد، وإن كانوا جميعًا يضعون شارة الصليب على أكتافهم، ويدَّعون أنهم يريدون المغفرة!!
ثانيًا: الباعث الاقتصادي
وهذا الباعث أيضًا من أهم البواعث في هذه الحملة الصليبية، فالجموع الهائلة من العامة خرجت لإحباطها التام من الحصول على أي قسط من رغد الحياة في أوربا، فخرجوا يبحثون عنها في فلسطين، وهم لن يخسروا شيئًا، فحتى الموت أفضل من حالتهم البائسة تحت نير الإقطاعيين والملوك[6].
والأمراء الإقطاعيون ما خرجوا إلا بغية الثراء والتملك، وقد كانت الحرب في فلسطين فرصة للكثيرين من أمراء أوربا لتحقيق طموحات استحال عليهم تحقيقها في أوربا؛ لأن القانون الأوربي آنذاك كان يمنع تقسيم الميراث على كل الأبناء، بل كانت تنتقل الإقطاعية بكاملها إلى الابن الأكبر بعد وفاة الأب الأمير، وذلك حتى لا تتفتت الثروة وتقلُّ الأرض، وبالتالي تسقط الهيبة والكلمة[7]. وهذا الوضع خلق جيلاً من الأمراء لا أمل عندهم في التملُّك، فلما فتحت أمامهم أبواب الحرب في فلسطين سارعوا جميعًا للحصول على أي ملكية؛ لينافسوا بذلك إخوانهم الكبار.
وكان هذا الباعث الاقتصادي واضحًا أيضًا عند تجَّار الموانئ الإيطالية، وأشهرها البندقية وبيزا وجنوة، وكذلك تجَّار مرسيليا الفرنسية، وغيرهم من تجار أوربا؛ فقد رأى هؤلاء التجار أن الفرصة لتحقيق المصالح الذاتية لهم، ولو على حساب البابوية والكنيسة[8]، وكان تبادل المصالح واضحًا جدًّا بينهم وبين الكنيسة، فالصليبيون لن يستطيعوا الاستغناء أبدًا عن معونة الأساطيل البحرية، والتجار سوف يأخذون مقابلاً سخيًّا نظير هذه المعونة، وهذا المقابل كان عبارة عن امتيازات خاصة تُعطَى للجمهورية التي تساهم في هذه الحروب المتواصلة، ولم تكن الامتيازات تشمل فقط حرية التجارة في البلاد المفتوحة، بل كانوا يُعْطَون في كل مدينة تُفتح شارعًا وسوقًا وفندقًا به حمام ومخبزًا خاصًّا، وكان التنافس بين الجمهوريات الإيطالية في هذا المجال كبيرًا جدًّا، بل كان التصارع والتقاتل، وما لبثت مرسيليا أن سارت على نهجهم، وتنافست معهم، وأخذت امتيازات قوية في بيت المقدس ذاته[9].
ولا يخفى على أحد أن النوايا الدينية لم تشغل أبدًا أذهان هؤلاء التجار الجشعين، وكانت كنوز الشرق وأراضيه هي الباعث الأكبر لهم على بذل كل الجهد لإنجاح الحملة الصليبية.
ثالثًا: الباعث السياسي
وهذا الباعث الذي يهدف إلى توسيع النفوذ وقهر المنافسين، كان باعثًا رئيسيًّا عند البابا أوربان الثاني شخصيًّا، وكذلك عند ملوك أوربا، وهؤلاء الملوك لم يكن طموحهم يقف عند شيء، وكانت قوة كل ملك فيهم ترتبط بالمساحة التي يسيطر عليها، وهذا دفعهم بعد ذلك للمشاركة بقوة في الحملات الصليبية عندما شاهدوا النجاحات التي حققتها الحملة الأولى.
كما أن ملوك أوربا كانوا يرون أن الدولة البيزنطية دخلت طورًا واضحًا من أطوار الضعف، ولو سقطت فإن هذا يعني فتح الباب الشرقي لأوربا لقوات المسلمين العسكرية، سواء من السلاجقة أو من غيرهم، وهذا قد يضعهم بين فكي كماشة، أي المسلمين القادمين من الشرق والمسلمين في أرض الأندلس؛ لذلك رأينا أنه برغم التباطُؤ الذي رأيناه من الملوك في بداية الحملات إلا أنهم تسارعوا بعد ذلك للمشاركة، بل ذهب بعضهم بنفسه إلى أرض فلسطين أو مصر على قيادة جيوشه.
رابعًا: الباعث الاجتماعي
مرَّ بنا عند الحديث عن الحالة في أوربا قبيل الحروب الصليبية، الحالةُ المزرية التي كان يعيشها الفلاحون والعبيد في أوربا؛ ففضلاً عن قلة الأقوات وانعدام الطعام والشراب، كانت المعاملة في غاية السوء، ولم يكن لهم حقوق بالمرَّة، بل كانوا يباعون مع الأرض، ولا يسمح لهم بأي نوع من الملكية، والإنسان قد يصبر على الجوع أحيانًا لكن الامتهان النفسي والأذى المعنوي، قد يكون أشد ألمًا من الجوع والعطش؛ ولذلك رأى العوام الفلاحون في أوربا أن هذه فرصة لتغيير نظام حياتهم، والخروج المحتمل من قيود العبودية المذلَّة؛ ولذلك خرج الفلاحون بنسائهم وأولادهم، وحملوا معهم متاعهم القليل البسيط، لقد كان خروجًا بلا عودة، وتغييرًا كاملاً للأوضاع، وثورة حقيقية على حياة التعاسة والاستغلال؛ لذلك سنرى أثناء الأحداث أن هذه الجموع البائسة ما صبرت حتى تكتمل الجيوش وتنتظم، بل خرجت بمفردها مسرعة، وكأنها تهرب من أسرٍ طويل!
ولقد شارك هؤلاء البائسين فريقٌ آخر من المجرمين والخارجين على القانون الذين كانوا يعانون أحكامًا قضائية أو مهددين بذلك، وقد وجدوا الخروج ليس فرصة للنجاة من الأحكام وحسب، ولكنه فرصة أيضًا لمزاولة السلب والنهب والقتل والاغتصاب كما اعتادوا ذلك في حياتهم؛ وهذا سيعطي الحملات الصليبية صبغة إجرامية لا يمكن تجاهلها أبدًا.
كانت هذه هي البواعث التي من أجلها تحركت أوربا لغزو العالم الإسلامي، والسيطرة على أرضه ومقدراته وشعوبه.
تُرى عن أي شيءٍ أسفرت هذه الجهود والإعدادات؟ وكيف كانت الصورة عندما خرجت أول الجموع إلى الشام؟ وماذا فعلت هذه الجيوش الكثيفة مع ملك القسطنطينية قبل أن تعبر إلى أراضي المسلمين؟ هذا ما سنعرفه في المقالات القادمة بإذن الله.


عدل سابقا من قبل ابراهيم الشنطي في الجمعة 02 أكتوبر 2015, 7:56 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75477
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

قصة الحروب الصليبية Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصة الحروب الصليبية   قصة الحروب الصليبية Emptyالجمعة 02 أكتوبر 2015, 7:54 am

عاشت أوربا عدة قرون تعاني من أزمات اقتصادية طاحنة، فمع خصوبة الأرض إلا أنها مليئة بالغابات[1]، واستصلاح الأراضي وزرعها يحتاج إلى فنٍّ وجهد وتقنية، ولم يكن هذا متوفرًا في هذه البيئات الجاهلة، وخاصةً في المناطق الشمالية ذات الصقيع القارس، هذا فوق ضعف المواصلات وانقطاع الطرق؛ مما كان يمنع وصول الغذاء من مكان إلى مكان ولو بغرض التجارة، ومن ثَمَّ فإن نقص الإنتاج المحلي من الغذاء كان يعني ببساطة المجاعة القاتلة!
وكانت هذه المجاعات تستمر أحيانًا سنوات، مما يؤدِّي إلى فناء قرى ومدن، وكان انتشار الأمراض وانعدام العلاج يساهم في موت المزيد والمزيد، وكل هذه الأمور جعلت الفقراء والفلاحين يضيقون ذرعًا بحياتهم، ويشعرون بالإحباط الدائم واليأس المستمر، فإذا أضفت لكل ذلك الضرائب الباهظة التي كان يدفعها الفلاحون أدركت مدى المعاناة التي كانوا يعيشونها.
وفي أخريات القرن الحادي عشر، وخاصةً في السنوات العشر التي سبقت الحروب الصليبية حدثت مجاعات رهيبة قاتلة، خاصةً في شمال فرنسا وغرب ألمانيا، ولعل هذا يفسِّر خروج الكثير من الجيوش من هذه المناطق، التي كان لا بد لها من أن تهرب إلى أي مكان به طعام وشراب، ولو كان هذا المكان على بُعد مئات وآلاف الأميال، فلن يكون أسوأ من الموت جوعًا[2]!
وعلى النقيض من هذه الصورة، كانت هناك صورة مغايرة تمامًا عند بعض الاقتصاديين في أوربا، وخاصةً في الجنوب الأوربي وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط، فقد ازدهرت التجارة البحرية في ذلك الوقت وأفاد تجَّار الجنوب الأوربي من وجودهم على السواحل في التجارة مع حوض البحر الأبيض المتوسط بكامله، بل تجاوزوه إلى داخل آسيا وإفريقيا. وكان من أبرز الموانئ التي ظهرت في الفترة التي سبقت الحروب الصليبية موانئ إيطاليا، وخاصةً جنوة وبيزا، فكانت هذه الموانئ تمثِّل قوة اقتصادية مؤثرة في هذا الوقت، وكانت القوة الاقتصادية المنافسة الوحيدة هي قوة الاقتصاد الإسلامي، وكانت لهذه القوة مراكزٌ مهمة في الشام ومصر والمغرب، وكذلك في الأندلس، وكان هذا التنافس دافعًا للموانئ الإيطالية أن تتربص بالمسلمين قدر استطاعتها، ودفعها ذلك إلى تجهيز الحملات العسكرية لإخراج المسلمين من صقلية، وتمَّ لهم ذلك كما مر بنا، وخرج المسلمون خروجًا نهائيًّا من صقلية سنة (484هـ) 1091م بعد حكم مائتين وسبعين سنة، وهذا يسبق الحروب الصليبية بسبع سنوات فقط، ولا شك أن هذا جعل الطريق البحري آمنًا إلى حد كبير[3].
ومن هنا حرص تجار إيطاليا على دعم الحملات الصليبية المتجهة للشرق، فهم بذلك سيقضون على منافسهم الوحيد، ومن ناحية أخرى سيفتحون سوقًا هائلاً لتجارتهم في هذه البقاع الإسلامية.
وهكذا كان هناك شبه اتفاق بين المطحونين الكادحين الجائعين، وبين الاقتصاديين والأثرياء المتخمين لغزو العالم الإسلامي والمشاركة في الحروب الصليبية!
ثالثًا: الدافع السياسي
في القرن الخامس الميلادي، وبالتحديد في سنة 476م، سقطت الإمبراطورية الرومانية الغربية العتيدة، وذلك تحت الضربات الموجعة للقبائل الجرمانية الشمالية، وهي قبائل همجية عنيفة لم تنظر بأي عين من الاعتبار للحضارة الرومانية المتميزة، بل سعت إلى التدمير والإبادة. وفي غضون قرنين من الزمان، كانت القبائل الجرمانية قد انتشرت في كل أوربا، وكان هذا الانتشار مصحوبًا بنشر الأفكار الجرمانية العنيفة، والسلوك الإجرامي عند عامة الناس[4].
ثم شهد القرنان التاسع والعاشر الميلادي - قبل الحروب الصليبية بقرن من الزمان - عدَّة هجمات ضارية على أوربا، سواء من الفايكنج القادمين من إسكندينافيا أو من المسلمين القادمين من الأندلس أو الشمال الإفريقي، وهذا ساعد في زيادة الروح القتالية عند عموم الناس، وتحول الأوربيون إلى الشكل العسكري، حتى صارت صورة الشخص النبيل العظيم هي صورة الفارس المقاتل[5].
ونتيجة نمو هذا الفكر العسكري داخل أوربا، كان لا بد للقوى المختلفة أن تصطدم معًا، فبدأ الصراع بين الدول الأوربية المختلفة بغية التوسع والسيطرة، ثم قُسِّمت الدول إلى إقطاعيات منفصلة متصارعة فيما بينها، وعلى كل إقطاعية أمير قد يدين بالولاء أو لا يدين للملك العام على الدولة، وكوَّن كل أمير ميليشيات عسكرية خاصة به، وعمَّت الفوضى كل أرجاء أوربا؛ مما أدى إلى فَقْد الكنيسة السيطرة على هذه القوى الكثيرة والمتناحرة[6].
وكان الوضع أشد ما يكون ترديًا في فرنسا، حيث فقد ملك فرنسا السيطرة كُلِّيَّةً على البلاد، وصار الحكم فيها لأمراء الإقطاعيات، وتفتَّتت الدولة إلى إمارات متعددة، كلٌّ منها له جيشه الخاص[7]. أما الوضع في ألمانيا فكان أفضل حالاً، حيث ظهر فيها ملك قويّ هو هنري الثالث، ثم ابنه هنري الرابع، وذلك في القرن الحادي عشر وقبيل الحروب الصليبية مباشرة؛ وهذا أدى إلى تماسك الوضع نسبيًّا في ألمانيا[8]، وإن كان هناك خلافا خطيرا نشأ بين هنري الرابع والبابا في روما كما مر بنا[9]، كان له توابع سنراها مع سير الأحداث.
وفي إنجلترا ظهر ملك قوي أيضًا هو وليم الفاتح، ولكن وضع إنجلترا الاقتصادي كان سيئًا جدًّا؛ مما جعلها مشغولة تمامًا بنفسها[10]. أما الدويلات النصرانية في شمال الأندلس، فكانت تبذل كل طاقتها في حرب المسلمين هناك[11].
وتأتي القوة العسكرية الأخيرة في غرب أوربا متمثلة في إيطاليا، وكانت في الواقع قوة كبيرة، خاصةً في المناطق التي يسيطر عليها النورمانديون في جنوب إيطاليا، وبالذات بعد ظهور زعيم قوي جدًّا هناك هو روبرت جويسكارد، الذي كانت له أحلام توسعية هائلة وصلت إلى حروب مباشرة مع الدولة البيزنطية العتيدة[12]، وقد استطاع هذا القائد أن يُسقِط البلقان البيزنطية تحت سيطرته، بل وبذل أولى المحاولات لاحتلال أنطاكية التي كانت في حوزة البيزنطيين ثم المسلمين، وكان الذي يبذل هذه المحاولات هو ابنه شخصيًّا، وهو الأمير بوهيموند، الذي سيكون بعد ذلك أحد أمراء الحملة الصليبية الأولى[13].
كما صاحب ظهور هذه القوة الإيطالية المتنامية نمو سريع لأسطول بحري عسكري لميناء البندقية الإيطالي، وصار له أثر مباشر في تغيير سير الأحداث في حوض البحر الأبيض المتوسط بكامله[14].
إذن فالوضع السياسي في أوربا كان يضم عددًا كبيرًا من العسكريين المتصارعين، والمتنافسين على تقسيم البلاد عليهم، ولما كانت أوربا ضيقة وطبيعتها الجبلية والثلجية معوِّقة، كان التفكير في التوسع خارج أوربا، كما فكر في ذلك روبرت جويسكارد زعيم النورمانديين الإيطاليين، كما سيحدث بعد ذلك في الحروب الصليبية.
رابعًا: الدافع الاجتماعي
لم تكن الشعوب الأوربية في ذلك الوقت شعوبًا مستقرة، بل كانت تعيش حياة البدو الرُّحَّل، حيث ينتقلون من مكان إلى مكان سعيًا وراء الطعام أو الأمن؛ وهذا أدى إلى عدم وجود روح الاستقرار والتمسُّك بأرض معينة. ولعل هذا سهَّل كثيرًا على الناس أن يتركوا أوربا بكاملها، ويتجهون إلى فلسطين بحثًا عن نظام حياة أفضل وأسعد[15].
وكان الفلاحون في أوربا يعانون بطش أمراء الإقطاع، ولم يكن للفلاحين أدنى حقوق، بل كانوا يباعون مع الأرض، ويستغلون تمام الاستغلال لجلب الرفاهية لمالك الإقطاعية، وهذا ولَّد عندهم شعورًا بالحقد تجاه ملاَّك الأراضي وملاَّكهم، ولكن لم يكن لهم فرصة ولا حتى حُلم في الخروج من أزمتهم[16].
وفوق هذا الأسى الذي كان يعيشه معظم الشعوب فإن الجهل كان مُطبِقًا على الجميع، وكانت الأمية طاغية، ولم يكن هناك أي ميل للعلوم، وهذه الحالة المتخلفة جعلت من السهل جدًّا السيطرة عليهم بأية أفكار أو دوافع، ولم يكن عندهم من القدرة العقلية والذهنية ما يسمح لهم بتحليل الأفكار المعروضة عليهم، أو ما يمكِّنهم من الاختيار بين رأيين متعارضين، وهذا كله -ولا شك- سهَّل مهمة إقناعهم بترك كل شيء، والتوجه للحرب في فلسطين[17]!
هذه الخلفيات التي بحثناها، وضحت لنا أن المجتمع الأوربي كان مكوَّنًا من طوائف شتى: دينية وسياسية واقتصادية وشعوبية، وكل هذه الطوائف لها أهدافها ومطامعها، تصغر أو تكبر بحسب حجمها، وسيكون من العجيب حقًّا أن تظهر شخصية تجمع أهداف هذا الشتات في هدف واحد، وتدفعهم جميعًا على اختلاف مستوياتهم المادية والعقلية في اتجاه واحد، فيخرج الجميع، كلٌّ يبحث عن غايته، وكلٌّ يسعى لتحقيق سعادته.
تُرى من هي هذه الشخصية؟ وكيف جمعت هذا الشتات؟ وما هي البواعث الحقيقية للحروب الصليبية؟ وهل هي حرب سياسية أم اقتصادية أم دينية؟ هذا ما سنعرفه بإذن الله في المقال القادم.
عاشت أوربا عدة قرون تعاني من أزمات اقتصادية طاحنة، فمع خصوبة الأرض إلا أنها مليئة بالغابات[1]، واستصلاح الأراضي وزرعها يحتاج إلى فنٍّ وجهد وتقنية، ولم يكن هذا متوفرًا في هذه البيئات الجاهلة، وخاصةً في المناطق الشمالية ذات الصقيع القارس، هذا فوق ضعف المواصلات وانقطاع الطرق؛ مما كان يمنع وصول الغذاء من مكان إلى مكان ولو بغرض التجارة، ومن ثَمَّ فإن نقص الإنتاج المحلي من الغذاء كان يعني ببساطة المجاعة القاتلة!
وكانت هذه المجاعات تستمر أحيانًا سنوات، مما يؤدِّي إلى فناء قرى ومدن، وكان انتشار الأمراض وانعدام العلاج يساهم في موت المزيد والمزيد، وكل هذه الأمور جعلت الفقراء والفلاحين يضيقون ذرعًا بحياتهم، ويشعرون بالإحباط الدائم واليأس المستمر، فإذا أضفت لكل ذلك الضرائب الباهظة التي كان يدفعها الفلاحون أدركت مدى المعاناة التي كانوا يعيشونها.
وفي أخريات القرن الحادي عشر، وخاصةً في السنوات العشر التي سبقت الحروب الصليبية حدثت مجاعات رهيبة قاتلة، خاصةً في شمال فرنسا وغرب ألمانيا، ولعل هذا يفسِّر خروج الكثير من الجيوش من هذه المناطق، التي كان لا بد لها من أن تهرب إلى أي مكان به طعام وشراب، ولو كان هذا المكان على بُعد مئات وآلاف الأميال، فلن يكون أسوأ من الموت جوعًا[2]!
وعلى النقيض من هذه الصورة، كانت هناك صورة مغايرة تمامًا عند بعض الاقتصاديين في أوربا، وخاصةً في الجنوب الأوربي وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط، فقد ازدهرت التجارة البحرية في ذلك الوقت وأفاد تجَّار الجنوب الأوربي من وجودهم على السواحل في التجارة مع حوض البحر الأبيض المتوسط بكامله، بل تجاوزوه إلى داخل آسيا وإفريقيا. وكان من أبرز الموانئ التي ظهرت في الفترة التي سبقت الحروب الصليبية موانئ إيطاليا، وخاصةً جنوة وبيزا، فكانت هذه الموانئ تمثِّل قوة اقتصادية مؤثرة في هذا الوقت، وكانت القوة الاقتصادية المنافسة الوحيدة هي قوة الاقتصاد الإسلامي، وكانت لهذه القوة مراكزٌ مهمة في الشام ومصر والمغرب، وكذلك في الأندلس، وكان هذا التنافس دافعًا للموانئ الإيطالية أن تتربص بالمسلمين قدر استطاعتها، ودفعها ذلك إلى تجهيز الحملات العسكرية لإخراج المسلمين من صقلية، وتمَّ لهم ذلك كما مر بنا، وخرج المسلمون خروجًا نهائيًّا من صقلية سنة (484هـ) 1091م بعد حكم مائتين وسبعين سنة، وهذا يسبق الحروب الصليبية بسبع سنوات فقط، ولا شك أن هذا جعل الطريق البحري آمنًا إلى حد كبير[3].
ومن هنا حرص تجار إيطاليا على دعم الحملات الصليبية المتجهة للشرق، فهم بذلك سيقضون على منافسهم الوحيد، ومن ناحية أخرى سيفتحون سوقًا هائلاً لتجارتهم في هذه البقاع الإسلامية.
وهكذا كان هناك شبه اتفاق بين المطحونين الكادحين الجائعين، وبين الاقتصاديين والأثرياء المتخمين لغزو العالم الإسلامي والمشاركة في الحروب الصليبية!
ثالثًا: الدافع السياسي
في القرن الخامس الميلادي، وبالتحديد في سنة 476م، سقطت الإمبراطورية الرومانية الغربية العتيدة، وذلك تحت الضربات الموجعة للقبائل الجرمانية الشمالية، وهي قبائل همجية عنيفة لم تنظر بأي عين من الاعتبار للحضارة الرومانية المتميزة، بل سعت إلى التدمير والإبادة. وفي غضون قرنين من الزمان، كانت القبائل الجرمانية قد انتشرت في كل أوربا، وكان هذا الانتشار مصحوبًا بنشر الأفكار الجرمانية العنيفة، والسلوك الإجرامي عند عامة الناس[4].
ثم شهد القرنان التاسع والعاشر الميلادي - قبل الحروب الصليبية بقرن من الزمان - عدَّة هجمات ضارية على أوربا، سواء من الفايكنج القادمين من إسكندينافيا أو من المسلمين القادمين من الأندلس أو الشمال الإفريقي، وهذا ساعد في زيادة الروح القتالية عند عموم الناس، وتحول الأوربيون إلى الشكل العسكري، حتى صارت صورة الشخص النبيل العظيم هي صورة الفارس المقاتل[5].
ونتيجة نمو هذا الفكر العسكري داخل أوربا، كان لا بد للقوى المختلفة أن تصطدم معًا، فبدأ الصراع بين الدول الأوربية المختلفة بغية التوسع والسيطرة، ثم قُسِّمت الدول إلى إقطاعيات منفصلة متصارعة فيما بينها، وعلى كل إقطاعية أمير قد يدين بالولاء أو لا يدين للملك العام على الدولة، وكوَّن كل أمير ميليشيات عسكرية خاصة به، وعمَّت الفوضى كل أرجاء أوربا؛ مما أدى إلى فَقْد الكنيسة السيطرة على هذه القوى الكثيرة والمتناحرة[6].
وكان الوضع أشد ما يكون ترديًا في فرنسا، حيث فقد ملك فرنسا السيطرة كُلِّيَّةً على البلاد، وصار الحكم فيها لأمراء الإقطاعيات، وتفتَّتت الدولة إلى إمارات متعددة، كلٌّ منها له جيشه الخاص[7]. أما الوضع في ألمانيا فكان أفضل حالاً، حيث ظهر فيها ملك قويّ هو هنري الثالث، ثم ابنه هنري الرابع، وذلك في القرن الحادي عشر وقبيل الحروب الصليبية مباشرة؛ وهذا أدى إلى تماسك الوضع نسبيًّا في ألمانيا[8]، وإن كان هناك خلافا خطيرا نشأ بين هنري الرابع والبابا في روما كما مر بنا[9]، كان له توابع سنراها مع سير الأحداث.
وفي إنجلترا ظهر ملك قوي أيضًا هو وليم الفاتح، ولكن وضع إنجلترا الاقتصادي كان سيئًا جدًّا؛ مما جعلها مشغولة تمامًا بنفسها[10]. أما الدويلات النصرانية في شمال الأندلس، فكانت تبذل كل طاقتها في حرب المسلمين هناك[11].
وتأتي القوة العسكرية الأخيرة في غرب أوربا متمثلة في إيطاليا، وكانت في الواقع قوة كبيرة، خاصةً في المناطق التي يسيطر عليها النورمانديون في جنوب إيطاليا، وبالذات بعد ظهور زعيم قوي جدًّا هناك هو روبرت جويسكارد، الذي كانت له أحلام توسعية هائلة وصلت إلى حروب مباشرة مع الدولة البيزنطية العتيدة[12]، وقد استطاع هذا القائد أن يُسقِط البلقان البيزنطية تحت سيطرته، بل وبذل أولى المحاولات لاحتلال أنطاكية التي كانت في حوزة البيزنطيين ثم المسلمين، وكان الذي يبذل هذه المحاولات هو ابنه شخصيًّا، وهو الأمير بوهيموند، الذي سيكون بعد ذلك أحد أمراء الحملة الصليبية الأولى[13].
كما صاحب ظهور هذه القوة الإيطالية المتنامية نمو سريع لأسطول بحري عسكري لميناء البندقية الإيطالي، وصار له أثر مباشر في تغيير سير الأحداث في حوض البحر الأبيض المتوسط بكامله[14].
إذن فالوضع السياسي في أوربا كان يضم عددًا كبيرًا من العسكريين المتصارعين، والمتنافسين على تقسيم البلاد عليهم، ولما كانت أوربا ضيقة وطبيعتها الجبلية والثلجية معوِّقة، كان التفكير في التوسع خارج أوربا، كما فكر في ذلك روبرت جويسكارد زعيم النورمانديين الإيطاليين، كما سيحدث بعد ذلك في الحروب الصليبية.
رابعًا: الدافع الاجتماعي
لم تكن الشعوب الأوربية في ذلك الوقت شعوبًا مستقرة، بل كانت تعيش حياة البدو الرُّحَّل، حيث ينتقلون من مكان إلى مكان سعيًا وراء الطعام أو الأمن؛ وهذا أدى إلى عدم وجود روح الاستقرار والتمسُّك بأرض معينة. ولعل هذا سهَّل كثيرًا على الناس أن يتركوا أوربا بكاملها، ويتجهون إلى فلسطين بحثًا عن نظام حياة أفضل وأسعد[15].
وكان الفلاحون في أوربا يعانون بطش أمراء الإقطاع، ولم يكن للفلاحين أدنى حقوق، بل كانوا يباعون مع الأرض، ويستغلون تمام الاستغلال لجلب الرفاهية لمالك الإقطاعية، وهذا ولَّد عندهم شعورًا بالحقد تجاه ملاَّك الأراضي وملاَّكهم، ولكن لم يكن لهم فرصة ولا حتى حُلم في الخروج من أزمتهم[16].
وفوق هذا الأسى الذي كان يعيشه معظم الشعوب فإن الجهل كان مُطبِقًا على الجميع، وكانت الأمية طاغية، ولم يكن هناك أي ميل للعلوم، وهذه الحالة المتخلفة جعلت من السهل جدًّا السيطرة عليهم بأية أفكار أو دوافع، ولم يكن عندهم من القدرة العقلية والذهنية ما يسمح لهم بتحليل الأفكار المعروضة عليهم، أو ما يمكِّنهم من الاختيار بين رأيين متعارضين، وهذا كله -ولا شك- سهَّل مهمة إقناعهم بترك كل شيء، والتوجه للحرب في فلسطين[17]!
هذه الخلفيات التي بحثناها، وضحت لنا أن المجتمع الأوربي كان مكوَّنًا من طوائف شتى: دينية وسياسية واقتصادية وشعوبية، وكل هذه الطوائف لها أهدافها ومطامعها، تصغر أو تكبر بحسب حجمها، وسيكون من العجيب حقًّا أن تظهر شخصية تجمع أهداف هذا الشتات في هدف واحد، وتدفعهم جميعًا على اختلاف مستوياتهم المادية والعقلية في اتجاه واحد، فيخرج الجميع، كلٌّ يبحث عن غايته، وكلٌّ يسعى لتحقيق سعادته.
تُرى من هي هذه الشخصية؟ وكيف جمعت هذا الشتات؟ وما هي البواعث الحقيقية للحروب الصليبية؟ وهل هي حرب سياسية أم اقتصادية أم دينية؟ 
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
قصة الحروب الصليبية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» أهمية دراسة الحروب الصليبية
» كتاب تاريخ العرب - من بداية الحروب الصليبية إلى نهاية الدولة العثمانية
» عشرون عاماً من الحروب مشروع تكاليف الحروب بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر
» الحملة الصليبية الرابعة
» الحملة الصليبية الخامسة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: الدين والحياة-
انتقل الى: