حسن الترابي.. السيرة والمسار
محمد خروب
برحيل الدكتور حسن عبدالله الترابي، تُطوى صفحة أحد اكثر الشخصيات السياسية والدينية اثارة للجدل في المشهد السوداني وامتداده العربي (دع عنك الاسلامي) طوال نصف القرن الماضي، حيث استطاع هذا الرجل الباسم على الدوام, دون ان يعرف المرء, ما إذا كانت ابتسامته تعبيراً عن رضى داخلي وانسجام؟ أم انها مجرد علاقات عامة, نجح الترابي في التماهي معها نتيجة مكوثه في دول غربية خلال دراساته العليا وبعدها.
ولئن حرص الترابي على بذل كل جهوده وذكائه (المشهود له به) كي يكون في الصفوف الاولى, إن لجهة المشاركة في السلطة او حتى تَصَدّر المعارضة التي أودت به الى السجن اكثر من مرة وغالباً على يد حليفه وشريكه, إن لم نقل الذي وفر له الغطاء كي يقودا «معاً» ما وصف بثورة الانقاذ في 30 حزيران 1989، فإن من الحكمة والحصافة عدم نسيان او تناسي التقلب في التحالفات والاصطفافات في المواقف والرؤى التي ميزت سيرة الرجل طوال نصف القرن الماضي, كما تضيء على ذلك سيرته الذاتية والتي يصعب فصلها – ضمن أمور اخرى – عن المسار الذي اعتمده والهدف الذي وضعه نصب عينيه وهو التواجد في السلطة والبقاء فيها ما استطاع الى ذلك سبيلاً, وخصوصاً في ان يكون الرقم «1» او في كل الاحوال ان يبقى «المُرشد» الروحي لها ومصدر الفتاوى في صلاحها السياسي والايديولوجي وخصوصاً الديني، إذ ان الرجل كان أحد ابرز زعماء جماعة الاخوان المسلمين في اواخر ستينات القرن الماضي، ما لبث ان غادرها واختار لنفسه سبيلاً «سياسياً» اخر, «قدّمه» على اي سبيل آخر حتى لو كان دينياً، رغم انه بقي مُتدثِراً «بعباءة» الدين حتى آخر لحظة من حياته، لسبب بسيط وهو ان مثل هذه العباءة توفر له غطاء مطلوباً في مرحلة «الأسلمة» التي وضعها نصب عينيه، سواء عندما وصل الى السلطة كشريك في انقلاب عسكري على حكومة «مُنتخَبة» كان فيها (الحكومة المُنتخبة بزعامة صهره الصادق المهدي) نائباً للرئيس ووزيراً للخارجية في العام 1988، لكنه واصل «عمله» مع تلميذه او شريكه (الجنرال البشير) كي يُطيحا تلك الحكومة ويُضْفِيان صفة «الانقاذ» والثورة على انقلاب ما تزال مفاعليه السلطوية وغير السلطوية، قائمة حتى الان، رغم افتراق الطرق والسُبُل بين شريكي الأمس، حيث لم تستمر تلك الشراكة سوى عشر سنوات فقط, كانت احدى ابرز نتائجها «الانقاذية» اصدار حكومة الانقاذ اوامر ومراسيم, تَقْضي بفرض قوانين الشريعة الاسلامية على «كامل» التراب السوداني وخصوصاً في الجنوب الذي تعيش فيه اقلية متناهية الصغر من المسلمين, فيما غالبيته العظمى بين مسيحيين وعبدة اوثان وغير منتمين لأي ديانة سماوية او وضعية, ولا داعي للتذكير بالمآل الذي انتهى اليه جنوب السودان قبل نحو من اربع سنوات, رغم أن عوامل عديدة اسهمت في توفير المناخات والاجواء الداخلية وخصوصاً الدولية, كي يتم تقسيم السودان ويكون مجرد «بروفة» أو بالون اختبار, لما كان يُخَطّط له ويُرسم في معاهد «التفكير» وغرف الجاسوسية الاستعمارية السوداء, ضد العالم العربي (الذي يُسمى الان حتى من قِبَلِ العرب انفسهم, بالشرق الاوسط وشمال افريقيا, بعد أن استقال معظم العرب من عروبتهم) وهو الموضوع الان موضع التنفيذ في اكثر من بلد عربي سواء في سوريا أو العراق أم في ليبيا واليمن, وما يشاع عن «تطبيقه»لاحقاً في دول عربية أخرى, لم يأت «موعد» نشر الفوضى فيها.
وبصرف النظر عن اسهامات الراحل الترابي الفكرية واجتهاداته الدينية التي بدت في بعض المراحل وكأنها تجديدية ومُتناقِضة مع كثير من فتاوى وخطاب جماعات اسلامية متزمتة ومغرقة في المحافظة والتشدد, بما فيها «جماعات» الاخوان المسلمين, الا أن اخطاء الرجل السياسية وتحالفاته المثيرة للشكوك والشبهات والتساؤلات, تضع حسن الترابي «السياسي» في دائرة التشريح والتحليل, ولا تُنقِص او تُهمِل من اهمية مساهماته الفكرية في قضايا الدين والفقه والتشريع والمرأة وغيرها من الاجتهادات الجريئة التي جلبت له الكثير من الانتقادات اللاذعة في صفوف الاسلامويين ومعظم تيارات الاسلام السياسي, وخاصة عندما بدأ الرجل عملية «تصدير» افكاره بعد نجاح الانقلاب 30 حزيران 1989, إذ اسس حزباً سياسياً بغطاء اسلاموي اسماه «المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي» لمنافسة الاحزاب والقوى القومية واليسارية العربية وراح «يستجلب» الوفود والشخصيات السياسية والثقافية, حتى نافس في وقت من الاوقات ,ما كان يقوم به الاخ العقيد قائد الثورة في الجماهيرية, لكنهما (الترابي والقذافي) أخفقا في طرحهما غير الواقعي, واضطرّا للاعتراف بفشل مشروعيهما اللذين البساهما «عنوة» اللبوس الاسلامي كأداة للتمدد والزعامة والبروز.
في السطر الاخير يبقى أن يُراجِع المرء, رغم اننا في حضرة الموت الذي يفرض على المرء احترامه والترحم على روح الفقيد الذي اجتهد فاصاب واخطأ , المناصب والمواقع «المتناقِضة» التي احتلها الراحل ,كي يرى حجم «الهوَس» السلطوي الذي استبد به وجعله الهدف الاول (إن لم نقل الوحيد) لكل خطوة سياسية أو دينية يخطوها, فهو مثلاً كان وزيراً للعدل في العام 1981 في حكومة جعفر النميري ثم مستشاراً للجنرال للشؤون الخارجية, بعد أن كان في معسكر «المعارضة» ثم كان نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للخارجية في حكومة الصادق المهدي المُنْتخَبة عام 88, ومع ذلك دبّر انقلاباً ضد «حكومته» نفسها, وفي سنوات التسعينات كان «مُنظِراً» لا يُشقُ له غبار لانقلاب 89, قبل ان تتفرق السبل بينه والجنرال, ليدخُل السجن, ثم يخرج وينتهي, قبل رحيله, «مُحاوِراً» للجنرال وحزبه وحكومته .
رحم الله الترابي.