مشروع الرئيس التونسي، الحبيب بورقيبة، لتسوية النزاع العربي ـ الإسرائيلي تمهيـد القسم الأول: نبذة عن السيرة الذاتية للرئيس التونسي، الحبيب بورقيبة القسم الثاني: قرار التقسيم القسم الثالث: مشروعات التسوية المقدمة لحل الصراع العربي الإسرائيلي القسم الرابع: مشروع الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة القسم الخامس: ردود الفعل على مشروع الرئيس بورقيبة القسم السادس: مبادرة الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة عام 1973 الملاحق الخرائط المصادر والمراجع تمهيـد
كان الهدف الأساسي للحركة الصهيونية، منذ نشأتها، استقطاب أكبر عدد من يهود العالم، وتركيزهم في فلسطين، بعد طرد سكانها منها. وعلى الرغم من النجاحات، التي حققتها الحركة الصهيونية، في مجالات شتى، فإن التخلص من العرب (عرب فلسطين)، كان ـ ولا يزال ـ الحل الناجع لتحقيق هدف الحركة الصهيونية. كما أنه يمثل جزءاً أساسياً من مشروعها.
كان هذا الهدف واضحاً لدى الزعماء الصهاينة، منذ البداية. فقد كتب تيودور هرتزلTheodor Herzl، في يومياته، بتاريخ 12 يونيه 1885: "يجب أن نستخلص ملكية الأرض التي ستعطى لنا، لكن باللطف وبالتدريج. سنحاول أن نشجع فقراء السكان على النزوح إلى البلدان المجاورة، وذلك بتأمين أعمال لهم هناك، ورفض إعطائهم أي عمل لدينا".
وبعد أن نجحت الحركة الصهيونية في تحقيق أهدافها، بإعلان دولة "إسرائيل"، في 14 مايو 1948، واقتلاع أكثر من نصف مليون فلسطيني من ديارهم، وإجبارهم على اللجوء إلى البلدان العربية المجاورة، أخذت الصهيونية والاستعمار، اللذان توافقت مصالحهما، يسعيان إلى تنفيذ الجزء الثاني من المشروع الصهيوني، المتمثل في توطين اللاجئين الفلسطينيين، واستيعابهم في البلدان المضيفة لهم. وهي محاولة لطمس الهوية الفلسطينية والحقوق الثابتة لشعب فلسطين، مما يسمح، من ثمّ، بإضفاء الشرعية على الوجود الصهيوني، من طريق تكبيل حركة الفلسطينيين السياسية وشل فاعليتهم، لأن مرور الوقت، دون حل سياسي للقضية الفلسطينية، ودون حل لمشكلة اللاجئين، يشكلان أعظم خطر يهدد الوجود الصهيوني، واستطراداً، مصالح القوى الاستعمارية.
ومنذ صدور قرار التقسيم، في 29 نوفمبر 1947، وحتى المشروع التونسي، في 21 أبريل 1965، قُدِّمت، عشرات المشاريع لتسوية النزاع العربي ـ الإسرائيلي، وحل قضية فلسطين. ولكي نتعرف طبيعة المشروع التونسي، لا بد لنا من أن نتطرق إلى قرار التقسيم ومشروعات التسوية، التي قُدِّمت، لنتبين الفارق الجوهري بين هذا وذاك، وكذا، ردود الفعل على المشروع التونسي، أو مشروع الحبيب بورقيبة. كما ينبغي أن يسبق ذلك، دراسة سريعة لشخصية الحبيب بورقيبة، لنعرف مفتاح شخصيته، ورؤيته السياسية.
القسم الأول
نبذة عن السيرة الذاتية للرئيس التونسي، الحبيب بورقيبة
مولده وحياته
ولد الحبيب بورقيبة في مدينة المنستير Monastir، إحدى مدن الساحل التونسي، في 3 أغسطس 1903. وكان سابع إخوته، محمد وأحمد ومحمد وناجية وعيشوشة ومحمود. وينحدر الحبيب بورقيبة من أسرة متوسطة الحال، وكان والده، علي بن الحاج محمد بورقيبة، جنديا في جيش الباي ، ثم أحيل إلى التقاعد، بعد أن أمضى تسعة عشر عاماً في خدمة الجيش، عندما فُرضت الحماية الفرنسية على تونس، عام 1881، وسلّحت فرنسا الجيش التونسي.
وعندما بلغ الحبيب بورقيبه الخامسة من عمره، بعث به أبوه إلى العاصمة، حيث يستقر إخوته محمد ومحمد ومحمود. وهناك، دخل المدرسة الصادقية، وحصل على الشهادة الابتدائية، وواصل التعليم الثانوي بالصادقية. وفى تلك الفترة، توفيت والدته عن أربعين عاماً، فكانت تلك أول صدمة تصيب الطفل، وهو في المدرسة بعيداً عن أهله.
بدأت مدارك الحبيب بورقيبة السياسية تتفتح، في تلك السن المبكرة، وبدأ يستوعب أبعاد المحنة التي يعيش فيها وطنه، وجبروت الاحتلال الفرنسي، الذي يجثم كالكابوس على أرض تونس الخضراء، ويقودها إلى الدمار والانهيار. وكان دائم الحديث مع قرنائه في المدرسة عن هذه الأوضاع المتردية. وكان يحاول دائماً إثارة حماسهم، وحثّهم على الغضب والنقمة على هذه الأوضاع، مما أدى إلى إيقاع العقاب به عدة مرات. وقد حال حماسه وثورته، في نهاية الأمر، دون حصوله على شهادة إتمام التعليم الثانوي، بالصادقية.
وفى ديسمبر 1919، أصيب الحبيب بورقيبة بأعراض مرض السل، نتيجة سوء التغذية، وحياة العوز والحرمان، التي كان يعيشها. ودخل المستشفى، حيث أمضى في العلاج عدة أسابيع، أتيح له خلالها أن يقرأ كتاب "تونس الشهيدة"، للشيخ عبد العزيز الثعالبي، أحد مؤسسي الحزب الحر الدستوري. وكان لذلك الكتاب أثره الكبير في نفس الحبيب.
وفي سبتمبر 1921، التحق الحبيب بمدرسة "كارونو" الثانوية. وكان اختلاطه بالطلبة الأجانب، في تلك المدرسة، حافزاً له على التفوق الدراسي، حتى يثبت لهم أن التونسي، لا يقل ذكاء ومقدرة عن الأوروبي. واستطاع أن يفوز، عام 1922، بشهادة المدرسة العليا للغة والآداب العربية. ثم نال الجزء الأول من البكالوريا، عام 1923، والجزء الثاني، عام 1924. وفي 5 أبريل 1922، انضم الحبيب بورقيبة إلى الحزب الحر الدستوري. وكان يتتبع بإعجاب حركة "أتاتورك" الإصلاحية في تركيا، ويتمنى لو استطاعت تونس أن تنسج على منوالها.
وقد أتيح للحبيب بورقيبة، بعد الحصول على البكالوريا، أن يذهب في رحلة إلى العاصمة الفرنسية، ضمن وفد من الطلبة. وكانت هذه الرحلة ذات فائدة عظيمة له، فقد أمضى أياماً حافلة في باريس، يتابع، في عمق، مظاهر التقدم الحضاري الرائع، والمعالم التاريخية الباهرة، ويسأل ويستفسر عن كل ما تقع عليه عيناه. وتركت الزيارة في نفسه أبلغ الأثر، فما أن ظفر بالجزء الثاني من البكالوريا، حتى قرر السفر إلى باريس، لاستكمال دراسته. وكان ذلك في خريف عام 1924.
التحق الحبيب بكلية الحقوق بباريس، مفضلاً أن يدرس القانون، حتى يتعرف بأحوال المجتمعات البشرية وأنظمتها وتشريعاتها. وكان في الوقت عينه، يدرس علم النفس،بكلية الآداب بجامعة السوربون، والمالية العامة بمعهد العلوم السياسية.
وفي عام 1926، توفي والده، قبل أن يسعد برؤية ابنه محامياً مرموقاً. وفى أغسطس 1927، خلال إقامته في باريس، تزوج السيدة ماتيلد لوران (Matild Loran)، بعد أن تعرف بها، وأعجب بدماثة أخلاقها وحبها للخير. فأنجب منها الحبيب الابن، وأسلمت بعد استقلال تونس، وحصلت على الجنسية التونسية.
في ديسمبر 1927، حصل على شهادة الحقوق، وشهادة العلوم السياسية. وانخرط الحبيب في سلك المحامين. والتحق بمكتب الأستاذ فابيان سيريى (Fabian Seree)، ثم ما لبث أن تركه، والتحق بمكتب المحامى فيليكس(Felix)، ثم مكتب الأستاذ برنارسبو (Bernarsebo)، ثم قرر أن يستقل بعمله. ولكن تيار الحياة السياسية جرفه، فقد شُغل بالكفاح في سبيل وطنه، وتحريره من ربقة الاستعمار الفرنسي، والعمل على إيقاظ الشعب التونسي، وحثه على النضال من أجل حريته. وبدأ يكتب في جريدة "العمل التونسي"، ويجوب البلاد، طولاً وعرضاً، داعياً إلى الكفاح ومناهضة المستعمر، معرضاً نفسه للسجن والإبعاد، ومعرضاً أسرته لضيق العيش والأزمات المالية المتلاحقة.
حياته السياسية
بدأ الحبيب بورقيبة حياته السياسية عام 1929، بالمساهمة في تحرير جريدة "اللواء التونسي" التي كانت تصدر بالفرنسية، ثم جريدة "صوت التونسي"، التي تعرضت، على نحو متصل، لاضطهاد السلطات الفرنسية وبطشها.
وبعد ثلاثة أعوام، أسّس بورقية، في نوفمبر 1932، جريدة "العمل التونسي". وقرر مؤتمر الحزب الحر الدستوري، ضم الحبيب بورقيبة إلى اللجنة التنفيذية للحزب. وعقد الحزب مؤتمراً سياسياً كبيراً، طالب فيه بقيام برلمان تونسي منتخب بالاقتراع العام، يتمتع بالسلطة التشريعية الكاملة، وتشكيل حكومة مسؤولة أمام البرلمان، والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ومنح الحريات العامة للتونسيين، وجعل التعليم إجبارياً للجميع، وحماية اقتصاد البلاد. وأعقب هذه القرارات الخطيرة انتخاب الحبيب بورقيبة كاتباً عاماً للحزب (أي أميناً عاماً للحزب).
وأدرك الشعب التونسي أن روحاً جديدة، بدأت تدب في الحركة الوطنية، وأن النضال أصبح أمراً جدّياً، له وسائله وأهدافه وخططه. وظل الحبيب بورقيبة يطوف في أنحاء البلاد، ويخطب في الجماهير، مندداً بالاستعمار، ومطالباً بالاستقلال، وداعياً مواطنيه إلى التضحية بكل شئ من أجل حرية تونس. وكانت الجماهير تستقبله، في كل مكان، بالحفاوة والحماس، فانتشرت دعوته. ولم تمضِ أشهر قليلة، حتى أدرك المقيم العام الفرنسي، بيروتون (Biroton)، الخطر الذي يمثله بورقيبة على الاستعمار الفرنسي، فطلب من بورقيبة الكف عن جولاته في أقاليم تونس، وعن عقد الاجتماعات السياسية. ولكن بورقيبة رفض ذلك رفضاً قاطعاً. فأمر المقيم العام بإلقاء القبض على الحبيب بورقيبة يوم الإثنين 3 سبتمبر 1934، وأبعد إلى قرية قبلي الصحراوية. وأتاح له ذلك الإبعاد أول اتصال بالجنوب التونسي، الذي يخضع مباشرة للحكم العسكري الفرنسي. فراح يتردد إلى أسواق المنطقة، يوقظ الناس من سباتهم، ويستنهض هممهـم. فعمدت السلطات الفرنسية إلى نقله إلـى أماكن متعددة، بين الحين والآخر، حتى لا يجد فرصة كافية للاتصال بالناس.
وعقب إطلاق سراح الحبيب بورقيبة، عقد الحزب الحر الدستوري اجتماعاً استثنائياً برئاسته، طالب فيه سلطات الاحتلال بمنح الشعب التونسي الضمانات الدستورية الكافية، وتَوْنَسَة الإدارة، وجعل التعليم إجبارياً، وانتشال الشعب من الفقر والبؤس، ومقاومة البطالة التي تفشت في البلاد. ولكن السلطات الفرنسية، لم تستجب لمطالب الحزب. فراح بورقيبة يدعو الشعب إلى الإضراب العام، احتجاجاً على تعسف سلطات الاحتلال. فخرجت التظاهرات الشعبية في كل أنحاء البلاد، وسقط عشرات القتلى، ومئات الجرحى، برصاص جنود الاحتلال الفرنسي. وخطب الحبيب في جماهير الشعب، قائلاً: "إن الشعب سيقابل رصاص الرشاش بقوة إيمانه، الذي لا يتزعزع، وصموده المستميت".
وألقي القبض على الحبيب بورقيبة، للمرة الثانية. وكان، وقتذاك، مريضاً وطريح الفراش. واقتيد إلى السجن العسكري في العاصمة. ووجِّهت إليه تهم التآمر ضد أمن الدولة الداخلي، والتحريض على التباغض بين الأجناس، وحثّ الشعب على مخالفة قوانين البلاد، والتواطؤ مع إيطاليا الفاشية، وهي تُهم كفيلة بِلفّ حبل المشنقة حول رقبته. ولكن بورقيبة، صمد أمام القاضي العسكري، وأكد موقفه الرافض للحماية الفرنسية، وبطشها بالشعب، وطالب بمنح الشعب التونسي حريته واستقلاله.
ونُقل الحبيب بورقيبة، في اليوم نفسه، إلى السجن المدني. وأحيل ملف القضية إلى محكمة التعقيب في باريس. وفي تلك الفترة، نشبت الحرب العالمية الثانية، ونُقل بورقيبة، مرة أخرى، إلى السجن المدني في العاصمة، ثم ما لبث أن نُقل إلى حصن "سان نيكولا" في مرسيليا Marseille. وعندما احتل الألمان المنطقة الحرة في فرنسا، نُقل الحبيب إلى حصن "مونليك" بمدينة ليون Lyon، ثم إلى قلعة "فانسيا"، ثم إلى روما، حيث حاولت الحكومة الإيطالية إغراءه بالتعاون معها. وفى 9 أبريل 1943، وصل الحبيب بورقية إلى العاصمة التونسية، وقابل "المقيم العام" الجديد، الجنرال "ماست"، وقدَّم بورقيبة إليه مشروع برنامج لتطوير نظام الحماية، والنهوض بتونس. ولكن المقابلة، لم تسفر عن أي نتيجة.
غادر الحبيب بورقيبة تونس، سراً، إلى القاهرة، يوم 26مارس 1945، وبقى بها حوالي عشرين شهراً. وفي 2 ديسمبر 1946، سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في محاولة لاستقطاب تأييدها لكفاحه. ثم عاد إلى القاهرة، في مارس 1947، ليستأنف نشاطه السياسي، ثم شرع في جولة سياسية في العواصم العربية.
ظلّ الحبيب بورقيبة، طوال هذه الغربة، على اتصال مستمر بجميع المناضلين في تونس. يحثهم، في كل حين، على القيام بعمل إيجابي، يحرك القضية الوطنية في الداخل، بالصورة التي تتيح له مجال العمل الإيجابي في الخارج. ثم أدرك، في نهاية الأمر، أنه ما لم يرجع إلى تونس، ليشرف بنفسه على سير النضال، ويكون في قلب المعركة، فإن الحركة الوطنية، سوف تنتهي إلى الزوال. فسافر إلى العاصمة التونسية، يوم 8 سبتمبر 1949، واستأنف، على الفور، الاتصال المباشر بالشعب، بعد غياب عن تونس دام أربع سنوات ونصف السنة.
وفى 12 أبريل 1950، سافر إلى باريس، للدعوة لقضية بلده. وأجرى مقابلات مع قادة الرأي العام الفرنسي، واستطاع أن يكسب تأييـد الفرنسيين الأحـرار. وعـاد إلى تونس، في 3 أغسطس من العام نفسه. ثم ما لبث أن قرر القيام بحملة سياسية حول العالم، فزار مصر، ثم "كراتشي" بباكستان، فالهند، فإندونيسيا، ثم قصد الدول الغربية، مبتدئاً بإيطاليا، فإنجلترا، فالدول الإسكندينافية، فالولايات المتحدة الأمريكية، فأسبانيا، ثم اختتم حملته بزيارة تركيا ولبنان.
الكفاح المسلح بقيادة بورقيبة
بعد عودته إلى تونس، بدأ الحبيب بورقيبة حملة مكثفة لتهيئة الشعب للكفاح المسلح. وقرر إحالة القضية التونسية إلى منظمة الأمم المتحدة، من أجل تدويل القضية، والخروج بتونس من عزلتها، التي أبقتها وحدها، وجهاً لوجه، أمام فرنسا. وبدأت المظاهرات الدامية تجتاح أنحاء البلاد. وفي 18 يناير 1952، ألقت السلطات الفرنسية القبض على الحبيب بورقيبة، للمرة الثالثة. فاندلعت الثورة في مختلف أرجاء تونس، احتجاجاً على اعتقال المجاهد الأكبر. ففرضت سلطات الاحتلال نظام منع التجول في البلاد، وأنزلت الدبابات الفرنسية إلى الشوارع، لبث الرعب في القلوب. ولكن حماس الشعب، كان أقوى من نيران الاحتلال.
ومن المعتقل، كان الحبيب بورقيبة يغذي جذوة الكفاح، ويبعث بصوت تونس المدوي إلى قلب فرنسا، وإلى عواصم العالم. وباء "الباي" بالفشل، عندما تنكر لشعبه، واستسلم لسلطات الاستعمار، ووقّع مشروع الإصلاحات، الذي فرضه المقيم العام، الطاغية " دي هوتكلوك"، في مايو 1953، على الرغم من الرسالة التي وجهها إليه الحبيب بورقيبة من منفاه، يحذره فيها من الموافقة على ذلك المشروع، الذي يضر بالقضية التونسية أبلغ الضرر.
وتولت وزارة "بيير منديس فرانسPierre Mendes-France" الحكم في فرنسا، وكانت ذات أفكاراً تقدمية جديدة. وسافر "منديس" إلى تونس، وأعلن، في خطاب رسمي، استقلال تونس الداخلي. وتشكلت أول حكومة تفاوضية، شارك فيها الحزب الحر الدستوري بوزيرين. وانتصرت الخطة البورقيبية، التي عملت، طوال أربعة وعشرين عاماً، من أجل تخليص السيادة التونسية من التبعية لفرنسا، وخلق مناخ من التفاهم بين البلدين، وإنهاء الحكم المباشر، على مراحل، تراعَى فيها مصالح الطرفين. وبدأت المفاوضات بين تونس وفرنسا، في 4 سبتمبر 1954، واتضح، منذ أول وهلة، الخلاف الشديد بين الطرفين، في تحديد مفهوم الحكم الذاتي، وطريقة تحقيقه. ولهذا، طالت المفاوضات، وتعثرت مراراً، قبل أن يوقع الاتفاق من الطرفين.
بدأ الحبيب بورقيبة مرحلة ثانية من النضال، من أجل تحقيق تطلعات الشعب التونسي، وتمثلت هذه المرحلة في حث الحكومة الفرنسية على إعادة النظر في اتفاقيات الحكم الذاتي، وتطويرها نحو المرحلة النهائية، وهي الاستقلال الكامل. وفي 20 مارس 1956، اعترفت فرنسا، باستقلال تونس، وتم توقيع معاهدة الاستقلال، التي نصّت على أن تونس دولة مستقلة، ذات سيادة، لها حقها في ممارسة مسؤولياتها، في ميادين: الشؤون الخارجية والأمن والدفاع وتشكيل جيش وطني تونسي. وعُهد إلى بورقيبة بتشكيل الحكومة، فشكّل في 14 أبريل 1956 أول حكومة مستقلة.
ونادى الحبيب بورقيبة بجلاء الجيوش الفرنسية عن تونس، حتى تكتمل لها سيادتها على التراب التونسي. ولكن فرنسا أعلنت رفضها لسحب قواتها من تونس .
وفي 12 نوفمبر 1956، صدقت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة، على قبول تونس في عضويتها. فسافر الحبيب إلى نيويورك، حيث ألقى خطاباً من على منبر المنظمة الدولية، طالب فيه بحق الشعب الجزائري الشقيق في الحرية والكرامة، وناشد الدول الصناعية الغنية، أن تمد يد المساعدة إلى الدول النامية، لتطوير حياتها الاقتصادية والاجتماعية.
وأعلن الحبيب بورقيبة بداية معركة الجلاء عن مدينة "بنزرت"، إن لم تستجب فرنسا لرغبة تونس، وتسحب قواتها المتبقية. وبدأت المدينة تستقبل الأفواج الأولى من المتطوعين، إلى جانب القوات المسلحة النظامية. وخطب الحبيب بورقيبة في الجماهير، قائلاً: "قررنا خوض معركة الجلاء، ولسنا مستعدين لإيقاف تيارها أو تأجيله، حتى يجلو آخر جندي أجنبي عن أرض الوطن".
وبأمر من بورقيبة، شرعت دوريات المتطوعين تزحف على موقع العلامة 233، في جنوب الجمهورية، لترفع فوقها العلم التونسي، بينما أخذ الحرس الوطني والشرطة يسدون المنافذ على جيش الاحتلال ببنزرت، وإيقاف حركة البواخر. ولم تتردد القوات الفرنسية في إرسال طائراتها، لقذف المراكز التونسية. فتصدت لها قوات الجيش والحرس وجماهير المتطوعين، بما تمتلك من أسلحة متواضعة. وجرت اشتباكات دامية بين الطرفين. وواصل الطيران الفرنسي قصف المدينة، مما أدى إلى انقطاع إمدادات المياه والتيار الكهربائي عنها، فأعلن بورقيبة قطع العلاقات الدبلوماسية بفرنسا.
وصرح بورقيبة أن تونس ستخوض حرب العصابات، وهدد بقبول مبدأ مشاركة المتطوعين من جميع شعوب العالم، في المعركة. وفى ذروة المعركة، أصدر مجلس الأمن قراراً عاجلاً، يقضي بوقف إطلاق النار فوراً، ورجوع قوات الطرفين إلى أماكنها الأولى. ولكن فرنسا رفضت الخضوع للأمر. وأعلن بورقيبة أن معركة الجلاء مستمرة، حتى خروج آخر جندي فرنسي من البلاد، مما اضطر الحكومة الفرنسية إلى التسليم بالجلاء، دون قيد أو شرط. وبدأت القوات الفرنسية، بالفعل، في الانسحاب التدريجي من القاعدة. وما أن جاء يوم 4 أكتوبر 1963، حتى بشّر بورقيبة الشعب، في افتتاح الدورة السنوية لمجلس الأمة، بالجلاء الكامل عن بنزرت.
تأسيس تونس
وعقب الجلاء، بدأ الحبيب بورقيبة إرساء قواعد الدولة، بتطهير البلاد من عناصر الفوضى والاضطراب، وتوفير أسباب الأمن والاستقرار. فأنشأ، عام 1956، محكمة القضاء العليا وطوّر نظام الإدارة المحلية، وكوّن نواة الجيش الوطني والحرس الوطني، الذي أنشئ على أنقاض "الجندرمة الفرنسية"، وعهد إليه بسلطة مراقبة الحدود، وأعاد الشرطة إلى السلطات الوطنية، وطهّر القضاء ممن اتخذوا من وظيفتهم وسيلة للرشوة، والإثراء على حساب العدل والإنصاف.
وكان بورقيبة يرى أن قوة الدولة الحقيقية، تكمن في إصلاح ما فسد من أحوالها، وتغيير نظرة أفرادها إلى الحياة، وإرساء المعايير والقيم لدى أفرادها، وتجديد العلاقات بينهم على أساس، يضمن للمجتمع تماسكه، ويحقق للفرد نموه الكامل، حتى يضطلع بدوره في الحياة الاجتماعية على أحسن وجه. ومن ثمّ، فقد شن بورقيبة، في هذا المجال، حملات موفقة، جمع فيها بين أصالة الرأي، وجرأة التشريع، وبراعة التطبيق. فكان في كل ذلك نموذجاً باهراً للمصلح السياسي والاجتماعي، الذي عرف كيف ينفذ إلى المعتقدات المتحجرة، والتقاليد والعادات البالية، ويحرر منها العقول.
أعلن بورقيبة، في 13 أغسطس 1956، ولمّا يمر سوى أربعة أشهر على توليه مقاليد السلطة، صدور قانون الأحوال الشخصية، الذي يمنع تعدد الزوجات، ويقيد حرية الطلاق، ويجعل المرأة شريكة في الحياة الزوجية، على قدم المساواة مع الرجل . كما أسّس الحزبُ الحر الدستوري الاتحادَ القومي النسائي، ليوقظ المرأة، ويدربها على ممارسة حقوقها، والقيام بواجباتها، ومعالجة مشاكلها . دعا بورقيبة إلى انتخابات للمجالس البلدية. ومارست المرأة حق الانتخاب للمرة الأولى .
إعلان النظام الجمهوري
دعا بورقيبة إلى اجتماع مهم للحزب الحر الدستوري، لإعادة النظر في نظام الحكم. ونادى بإلغاء الحكم الملكي، وإحلال الجمهورية محله. فكان إجماع نواب الأمة على إلغاء النظام الملكي، وإعلان الجمهورية، وانتخاب الحبيب بورقيبة رئيساً لها .
وفى 29 يوليه 1957، أعلن الرئيس الحبيب بورقيبة أول حكومة للعهد الجمهوري. وقد اختار المجلس القومي التأسيسي النظام الجمهوري الرئاسي، فاحتفظ رئيس الجمهورية برئاسة الحكومة، وعيّن كتّاباً للدولة، بدلاً من الوزراء. واكتملت مبادئ الدستور، الذي نص على أن تونس دولة حرة مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، وأن الشعب هو صاحب السيادة فيها، ونظامها الجمهوري نظام رئاسي.
وقد عكف المجلس القومي التأسيسي على وضع دستور، كفيل بتحقيق تطلعات الأمة، وقّعه بورقيبة في أول يونيه 1959. ودعا الشعب لأول انتخابات رئاسية وتشريعية ، فمنحه من الأصوات نسبة 91.47%. وأدى بورقيبة اليمين الدستورية في موكب مهيب، بمجلس الأمة.
وقد تركز الاهتمام الأكبر للرئيس بورقيبة على المحافظة على الوحدة القومية، التي بناها وركز عليها في بناء صرح الدولة الفتية. ودعا إلى نبذ فكرة الطبقية، وحث المواطنين، في كل مناسبة، على تنمية روح الإحساس بالمسؤولية فيهم، وركز على حرية الفكر، مؤكداً أن الفكر هو العنصر الدافع إلى التقدم والرقي، على أن تكون هذه الحرية خاضعة للقيم الأخلاقية.
ي أكتوبر 1959، أعلن الرئيس التونسي بورقيبة دعمه لعرض الرئيس الفرنسي شارل ديجولCharles de Gaulle، الذي يمنح الجزائر حق تقرير المصير، وتولّى الوساطة بين الطرفين.
وفي مطلع عام 1961، زار بورقيبة فرنسا، واجتمع بالرئيس ديجول. غير أن العلاقات الفرنسية - التونسية، تدهورت بسرعة، بسبب مطالبة بورقيبة باستعادة قاعدة بنزرت، وبقسم من الصحراء متاخم لجنوب غربي تونس.
وبعد استقلال الجزائر، تدهورت علاقات تونس بها، بحكم خلاف الأيديولوجيات بين نظامَي البلدين. وفي يناير 1963، استدعت تونس سفيرها لدى الجزائر، بحجة تورط سلطات الجزائر في الاتصال بالمعارضة التونسية بقيادة صالح بن يوسف، في محاولات يوسفية[1]، والتي شارك فيها عناصر عسكرية، لاغتيال بورقيبة. وأدت وساطة المغرب، التي أسفرت عن عقد مؤتمر للبلدان الثلاثة في الرباط، والمحادثات الثنائية التي عقبته، إلى عقد اتفاقية حدود بين البلدين، وتحسين العلاقات بينهما.
وتبنّى الرئيس الحبيب بورقيبة المطالب، التي كانت تنادي بضرورة مصادرة الأراضي الزراعية التي يملكها الأجانب. وبالفعل، أقرت الجمعية الوطنية التونسية تشريعاً، يقضي بمصادرة الأراضي الزراعية، التي يملكها الأجانب، على أساس اتفاقية 1963 مع فرنسا، التي وضعت عبئاً مالياً ثقيلاً على كاهل تونس. وردت فرنسا بإلغاء العون المالي، الذي نصت عليه اتفاقيات، كانت عقدت بين البلدين في مطلع السنة نفسها.
وعُدَّ تأميم الأراضي الزراعية المملوكة من أجانب، خطوة نحو تطوير ما دُعي بالاشتراكية التونسية في القطاع الزراعي.
وأثناء الانتخابات الرئاسية العامة، في نوفمبر 1964، التي فاز فيها الرئيس بورقيبة وحزبه من دون منافسة، تم تغيير اسم الحزب الحاكم، ليصبح الحزب الاشتراكي الدستوري.
وفي هذه الفترة، أجرى الرئيس بورقيبة تغييرات وزارية، تضمنت تعيين الحبيب بورقيبة الابن وزيراً للخارجية . وفي عام 1966، أعلن تشكيل مجلس رئاسة، تكون من أعضاء الحكومة، ومن المكتب السياسي للحزب. من بين مهامه تأمين انتقال السلطة، في حال وفاة رئيس الجمهورية.
ظلت السياسة العربية، في هذه الفترة، الشاغل الرئيسي للرئيس بورقيبة، في سياسته الخارجية. وفي أبريل 1965، انتقد الرئيس التونسي السياسات العربية إزاء قضية فلسطين، ودعا إلى التفاوض مع إسرائيل حول مشروع التقسيم، الذي أقرته الأمم المتحدة في قرارها رقم 181، عام 1948.
وفي أكتوبر 1970، عين الرئيس بورقيبة الهادي نويرة رئيساً للحكومة، وأعلن أنه سيكون خليفته في الحكم.
وفي عام 1973، شدد الرئيس بورقيبة، ورئيس حكومته، الهادي نويرة، قبضتهما على الحياة السياسية للبلاد. وفي سبتمبر 1974، انتخب المؤتمر التاسع للحزب الحاكم، الرئيس بورقيبة رئيساً للحزب مدى الحياة. وعين الرئيس بورقيبة مكتباً سياسياً من 20 عضواً، ضم 14 وزيراً، دلالة على الرغبة في تقوية العلاقة بين الحزب والحكومة. وفي نوفمبر 1974، جدد انتخاب بورقيبة رئيساً، من دون منافس، وفاز أعضاء الحزب الدستوري في انتخابات الجمعية الوطنية، التي لم يخضها أي مرشح منافس. وبعد الانتخابات، عدلت الجمعية الوطنية الدستور، كمقدمة لانتخاب بورقيبة رئيساً مدى الحياة، ولتسمية الهادي نويرة خلفاً له. وأقرت إصلاحات دستورية لاحقاً (عام 1975) عزّزت سلطات رئيس الجمهورية. وفي هذه السنة، تغير أحد شعارات الدولة، فحلّ شعار "النظام" محل شعار "الحرية".
وفي 12 يناير 1974، وعقب اجتماع بين الحبيب بورقيبة والعقيد معمر القذافي، أعلن أن تونس وليبيا سوف تتحدان، وأن بورقيبة سيكون رئيس الدولة الجديدة، والقذافي نائب الرئيس. إلا أنه لم يقدّر لمشروع الوحدة النجاح.
وقد تصدى بورقيبة لأكبر حدث داخلي، شهدته تونس منذ استقلالها. فقد انفجر الصراع السياسي، الذي شاركت فيه النقابات العمالية، حول قضايا سياسية واجتماعية متعددة. وبلغ هذا الانفجار ذروته يوم الخميس الأسود، في 26 يناير 1978، حينما تدخّل الجيش لكسر الإضراب العام، الذي دعت إليه الحركة النقابية. ومنذ ذلك الحين بدأ التفسخ في صفوف الطبقة الحاكمة.
وانطلقت التعددية الحزبية في تونس، منذ سريان الانتخابات التشريعية عام 1981، من محاولة الرئيس بورقيبة تجاوز إخفاق نظام الحزب الواحد في تحقيق متطلبات التنمية، من جانب، وعجزه عن استيعاب أو الحدّ من فاعلية القوى المنافسة على الساحة السياسية، من جانب آخر.
وقد لمس الرئيس بورقيبة هذا الواقع، في خطابه عند افتتاح المؤتمر الاستثنائي للحزب الدستوري الحاكم، في أبريل 1981 إذ أشار إلى أن "مشكلة الديموقراطية، لم تغب يوماً عن أذهاننا، وإن كنا أحياناً أَحْرَص على حماية المجتمع من الفوضى. فلم أمانع في وجود أحزاب مختلفة، تتبارى في خدمة المصلحة العامة، وذلك إذا ما توافرت الشروط اللازمة للتنافس النزيه، الذي لا يؤدي إلى تناحر، تذهب ضحيته المثُل العليا، ومصلحة المجتمع".
والواضح أن قبول الرئيس بورقيبة بمبدأ التعددية، لم يكن كافياً لتجاوز أزمة النظام، التي أظهرها، بحدّة، رفض حركة النهضة توجهاته العلمانية، واجتذابها قطاعات مختلفة من الشعب التونسي، فضلاً عن الاضطرابات الشعبية، وما اقترن بها من دخول دائرة العنف الجماعي (1980، 1983، 1984). فقد سمح بورقيبة لثلاث قوى سياسية بممارسة نشاطها، كأحزاب سياسية، وهي: حركة الديموقراطيين الاشتراكيين، برئاسة أحمد المستيري، وحزب الوحدة الشعبية، برئاسة محمد بلحاج، والحزب الشيوعي، برئاسة محمد حرمل.
ونُحِّي بورقيبة عن حكم تونس في 7 نوفمبر 1987، بعد الانقلاب السلمي، الذي قام به الرئيس زين العابدين بن علي، الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء.
وفاته
وفي 6 أبريل 2000م، الموافق الأول من المحرم 1421هـ، توفي بورقيبة عن عمر يناهز 97 عاماً. ونُقل جثمانه من مدينة المنستير، مسقط رأسه، إلى تونس العاصمة، ليسجى في مقر حزب "التجمع الدستوري الديموقراطي" الحاكم؛ لإلقاء النظرة الأخيرة عليه. وأعيد الجثمان إلى مسقط رأسه، السبت 8 أبريل، حيث شٌيع رسمياً، بمشاركة عدد كبير من الوفود العربية والأجنبية.
[1] يُنسب تعبير الـ ``يوسفية`` إلى صالح بن يوسف، المعارض لحكم الرئيس بورقيبة. ويُطلق على أنصار صالح بن يوسف اسم ``اليوسفيون``. وقد حُكم عليه، في عهد بورقيبة، وعلى عدد من مؤيديه، غيابياً، بالإعدام بتهمة التآمر على اغتيال بورقيبة