بين زمنين فلسطينيين
في زمن مضى كنا نقول: لا حرب بدون مصر، ولا سلام بدون سوريا. خرجت مصر من معادلة الحرب، منذ توقيع معاهدة السلام بين مصر واسرائيل في كامب ديفيد عام 1978. وخرجت سوريا من معادلة سلام مثمر، (استعادة الجولان وضمان بعض حقوق ما للفلسطينيين).
في زمن مضى كنا نقول: الثورة الفلسطينية هي رأس الحربة في مواجهة اسرائيل، واما جسم الحربة فهو عالمنا العربي مترامي الاطراف، بداية من «دول الطوق».
في زمن مضى كنا نردد مع الشهيد كمال ناصر: يا وحدنا!. وكنا نردد معه: «كل شيء سقط… ما عَدايَ فقط..».. ولم يبقَ امامنا إلا المواجهة، وتحمُّل العبء منفردين.
بقينا مع رأس الحربة فقط، وهو منظمة التحرير الفلسطينية. التي توجب عليها في حينه تحمل كامل عبء المواجهة في تلك المرحلة الصعبة والمعقّدة، التي سبقت بدء «حرب الاستنزاف» وصولا إلى حرب تشرين/ اكتوبر المجيدة. وها نحن اليوم من جديد رأس حربة فقط، حيث «جسم» الحربة مشغول بحروبه العبثية وتعقيداتها.
استدعى ذلك،في حينه، بذل تضحيات وجهود هائلة. وكان الفضل في نتائجه الحاسمة، واهمها اعادة تثبيت الوجود السياسي للشعب الفلسطيني على خريطة العالم، هو اعتماد عقيدة سياسية راسخة، عنوانها «الكفاح المسلح». وما تمر به قضيتنا هذه الايام، يستدعي هو الآخر، حشد كل الطاقات الممكنة، لوضع عقيدة سياسية متكاملة، والالتزام بها، لتأمين قطع عقبات ومصاعب هذه المرحلة بامان، وتحقيق الحد الاقصى من المكاسب لشعبنا، على طريق تحقيق كامل حقوقنا العادلة.
ليس سهلا وضع عقيدة سياسية متكاملة لأي نظام حكم، او حتى لأي حزب. لكن بدون عقيدة سياسية واضحة، لا يمكن احراز أي تقدم او انتصار في أي مواجهة، بغض النظر ان كانت تلك المواجهة عسكرية او سياسية. وبدون عقيدة سياسية تضبط الايقاع، تبقى جميع القرارات والخطوات عشوائية، لا تثمر ولا تراكم مكتسبات.
لانجاز ذلك على وجه سليم، لا بد من معرفة حقيقية عميقة للواقع: واقعنا وواقع عدونا، وقوانين العصر، واتجاهات الريح، واحتمالات المستقبل.
تعالوا ننظر إلى الواقع بعين فاحصة. فماذا نرى؟. نرى دولة اسرائيل تسابق الزمن في استعداداتها العسكرية: ترفع وتزيد موازنة جيشها؛ تخصص المليارات لتطوير اسلحتها الهجومية والدفاعية، بل واسلحة مواجهة المظاهرات؛ تسعى لتملُّك طائرات تَرى ولا تُرى؛ تُشغل باحثيها باختراع صواريخ تنطلق خلال ثوان لمواجهة قذائف مداها كيلومترات محدودة وزمن طيرانها ثوان محدودة اكثر؛ تُشغل نفسها وحلفاءها وعلماءها لتصنيع اجهزة تكشف حفر انفاق على اعماق كبيرة، على حدود من تحاصرهم في سجن كبير. هذا يعني بوضوح انعدام أي فائدة من اي مواجهة عسكرية مع اسرائيل، على مدى المستقبل الذي يمكن استقراؤه.
لكن اسرائيل هذه، ذات الجبروت العسكري، «تصنع» وتنتج سلاحا مدمرا لمستقبلها، لا تحميها في ذلك المستقبل لا صواريخها ولا قنابلها ولا طائراتها. هذا المُنتج هوالكم الهائل من العنصرية والفاشية والحقد الاسود الذي تشحن به القيادات اليمينية الاسرائيلية مواطنيها، وهو القوانين العنصرية التي يسنها البرلمان الاسرائيلي (الكنيست) بالاغلبية اليمينية العنصرية فيه، وقرارات الحكومة الاسرائيلية بكافة وزاراتها واداراتها، وهو تصرفات اليمين الفاشي في اسرائيل، ضد المواطنين الفلسطينيين في اسرائيل، وضد المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية المستعمرة، وقطاع غزة المحاصر حد الخنق.
ما تواجهه اسرائيل، (ولا اقول «الاسرائيليين»)، في الوقت الراهن وعلى مدى المستقبل المنظور ليس خطرا عسكريا يهدد وجودها ومستقبلها. لكنها تواجه ثلاثة تهديدات وجودية: اولها، نزع الشرعية عن استعمارها ومستعمراتها في الضفة الغربية، (والقدس العربية منها) وهضبة الجولان، وحصارها وتجويعها الهمجي وغير الانساني لقطاع غزة، وما قد ينتج عن ذلك، عند اضطرارها التخلي عن «مكتسباتها» هذه، من ارتدادات مدمرة على بنية مجتمعها المتخم بالعنصرية والتعصب؛ وثانيها، نزع الشرعية عن اسرائيل ذاتها، ذات الغالبية التي ربطت مصيرها بمصير مستعمراتها؛ واما التهديد الثالث لوجود اسرائيل ذاته، كما هي عليه اليوم، فهو: مواجهة واحد من استحقاقين، لا ثالث لهما: فإما اقامة نظام فصل عنصري مرفوض ومنبوذ من العالم، او القبول بدولة ديمقراطية واحدة، يشكل العرب الفلسطينيون فيها اغلبية، ان لم يكن فورا، ففي غضون سنين معدودة.
هنا يأتي دور قيادة فلسطينية سياسية وفكرية وثقافية حكيمة، تأخذ المبادرة، تبادر وتفعل، ولا تتصرف برد فعل. تتولى بشكل قوي مباشر ومعلن وصريح، قيادة العمل على محاصرة اسرائيل، وفضح سياساتها وممارساتها العنصرية، التي لا تتماشى مع روح العصر، والعمل على نزع شرعية الاستعمار الاسرائيلي، ونزع شرعية من يناصر هذا الاستعمار في اسرائيل وخارج اسرائيل، ونزع الشرعية عن دولة اسرائيل ذاتها، بالحكومة وبالصورة التي هي عليها هذه الايام. والاستعانة في تحقيق ذلك على بناء علاقات تعاون مع الدول والشعوب والاحزاب المناصرة للحق والعدل في العالم، وهي الاغلبية الساحقة في ايامنا هذه، وبناء علاقات تعاون ايضا واساسا، مع القوى العاقلة في اسرائيل ذاتها، وهي ليست اقلية ضئيلة في جسد الوحش العنصري الاسرائيلي، ولكنها لم تنضج بعد لتصبح اغلبية حاكمة.
اسرائيل ذاتها تزودنا بكم هائل من كل ما نحتاجه لفضح سياستها ونشر صورة بشعة لها ينبذها العالم، وينزع عنها قناع الضحية، ويكشف صورتها الحقيقية، كنظام فصل عنصري بغيض لفظه العالم.
أُعطي مثَلين فقط: قبل نحو شهرين باشرت قوات جيش الاستعمار الاسرائيلي مع الفجر، هدم حوالي خمسين مسكنا في جنوب محافظة الخليل، استنادا لقرار الحاكم العسكري الاسرائيلي للضفة الغربية.
وفي حوالي الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم، صدر قرار من المحكمة الاسرائيلية العليا بوقف عملية هدم البيوت، استجابة لالتماس عاجل قدمته احدى ممثليات الكنائس الاجنبية في اسرائيل. كان قد تم هدم عشرين بيتا فقيرا باسقف من صفيح، عندما تبلغ الهادمون قرار المحكمة. في ذلك اليوم كان هذا الحدث هو العنوان الرئيسي في جريدة هآرتس الاسرائيلية. وتضمن الخبر ان عدد افراد ساكني البيوت العشرين التي هدمت يفوق الثمانين شخصا، بينهم ثلاثة وستون طفلا، اصبحوا بلا مأوى وبلا سقف يحميهم من مطر وبرد تلك الايام. تلك مأساة حقيقية، ولكنها مأساة يمكن لها ان تتحول إلى سهم يصيب صورة اسرائيل في الصميم.
ثم، إلى مثل آخر: يوم الخميس الماضي، 24.3.2016، ارتكب جندي من جيش الاستعمار الاسرائيلي، يقال انه من وحدة الاسعاف في كتيبته، جريمة قتل وثّقها الشاب الفلسطيني عماد ابو شمسية بكاميرته، حيث اطلق ذلك الجندي رصاصة بندقيته، من مسافة قصيرة جدا على رأس الجريح الفلسطيني الشهيد عبد الفتاح الشريف، بعد ست دقائق من اصابته وسقوطه على الأرض مضرجا بدمائه وفاقدا للوعي، وبعد تأكد ضابط من جيش الاستعمار الاسرائيلي ان ذلك الجريح الشريف، لا يحمل أي حزام ناسف او سلاح. كان لمثل هذا الحدث المفزع والمقزز ان يسجل في خانة وجود اسرائيلي مجرم موتور. إلا ان ما تكشف لاحقا اسوأ واكثر بشاعة من ذلك بكثير: تبين ان 57٪ من الاسرائيليين يؤيدون ما أقدم عليه ذلك الجندي القاتل، حسب ما وثقه التصوير. والأكثر سوءاً وبشاعة من ذلك، تنظيم مظاهرة حاشدة صباح يوم الثلاثاء الماضي، كان من بين المشاركين فيها وزير خارجية اسرائيل سابقا، ورئيس حزب «اسرائيل بيتنا» العنصري افيغدور ليبرمان، وعدد من اعضاء البرلمان الاسرائيلي، امام غرفة التحقيق مع ذلك الجندي القاتل، مطالبين بوقف التحقيق ومباركة فعلة الجندي القاتل، واعتبار المتظاهرين ان بنيامين نتنياهو وكذلك وزير «دفاعه» بوغي يعالون المعروفان بقيادتهما تيارات مغرقة في العنصرية، «يساريان» يحرصان على دم الفلسطيني، ويهدران دم جندي اسرائيلي، «يمكن (!!!) ان يكون قد اخطأ، فهو ابن تسعة عشر عاما فقط»، ولا يجوز اخضاعه للتحقيق.
هذه الصور المقززة لاسرائيل، يجدر بنا ان نجعلها معاول تهدم استعمار اسرائيل وجدرانها العازلة وحواجزها المذلة، من خلال تحويلها إلى بند رئيسي في «عقيدة سياسية فلسطينية» جديدة.
بعد انتهاء مرحلة اعتماد عقيدة سياسية، عنوانها «الكفاح المسلح»، فرضت علينا عقيدة سياسية بديلة، عنوانها «المفاوضات». آن أوان الاعتراف اننا لم ندر المفاوضات بما يكفي من اقتدار وحكمة يحققان لنا اهدافنا، ولم نفلح في فضح العبث الاسرائيلي بها واستخدامها لاطالة عمر الاحتلال والتهويد.
آن الأوان لأن نبني ونتبنى، ونضع قواعد وضوابط عقيدة سياسية فلسطينية جديدة، عنوانها: «لا يمكن بدون مفاوضات، ولا يمكن بالمفاوضات وحدها».
٭ كاتب فلسطيني
عماد شقور