أوضاع الدولة الفارسية قبيل الفتوح الإسلامية
يسرد مقال "أوضاع الدولة الفارسية قبيل الفتوح الإسلامية" الأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية المضطربة والصراع على الحكم بين أفراد البيت الساساني، مما جعل الفرس عاجزون عن وقف زحف المسلمين الجارف. كما يسرد تركيبة الجيش الفارسي الذي واجه المسلمون أثناء فتوحات العراق وفارس.
أردشير بن بابك مؤسس الإمبراطورية الساسانية
كان العراق الذي غزاه المسلمون بعد حروب الردة، جزءًا من الإمبراطورية الساسانية التي أسسها أردشير بن بابك في عام 224م، وبعد أن توسع باتجاه الجنوب وسيطر على كرمان، والخليج العربي، والأهواز، وميسان، وتغلب على الجيش الأشكاني بقيادة أردوان آخر الملوك الأشكانيين ، التفت نحو الشمال، وسيطر على همذان والجبال، وأذربيجان وأرمينية، والموصل واجتاز السواد، ثم بسط سلطانه على المناطق الفارسية الشرقية، وتجاوز خراسان إلى مرو، وبلخ وخوارزم، واتخذ المدائن عاصمة له، وأطلق على نفسه لقب شاهنشاه، أي ملك الملوك.
توفي أردشير في عام241م بعد أن أقام صرح الدولة على أساس وحدة الإقليم، وأخضع العروش الكثيرة التي تربع عليها ملوك الطوائف، إما باستعمال القوة أو بالإغراء بالمال، وحدد سياسته تجاههم وعلاقته بهم من جانب قوي، بوصفه الأقوى على الساحة السياسية والعسكرية، فمنحهم بعض الامتيازات مثل حق اختيار خلفه، وأشرك معهم رجال الدين، لكنه لم يقدر أنه سيكون من بين خلفائه أشخاص ضعاف، وأنهم سوف يخضعون لمشيئة هؤلاء مما سينعكس سلبًا على أوضاع الدولة.
الصراعات على السلطة
وأثبتت الأحداث السياسية، اللاحقة تذبذب ولاء هؤلاء لملك الملوك، وفقًا لتطورات الظروف السياسية مما أدخل البلاد في متاهات الصراع على السلطة والنفوذ، واضطر ملوك الملوك بعد أردشير أن يتعاونوا مع ملوك الإقطاع، ورجال الدين، الذين تزايد خطرهم بعد أن ملكوا القرى، والأراضي الشاسعة، وأضحوا مركز قوى عسكرية ومادية، كما أضحى بقاء ملك الملوك أو سقوطه رهنًا بإرادتهم.
تعرضت الدولة الساسانية خلال مراحل تاريخها لصراعات حادة على السلطة بين أفراد البيت الساساني، نذكر منها: صراع فيروز وأخيه هرمز ابنا يزدجرد بن بهرام حيث قتل الأول الثاني، وتولى الحكم "459- 484م"، وصراع بلاش وأخيه قباذ الأول، فقد خلف بلاش والده على الحكم "484- 488م"، فنازعه أخوه وخلعه، وتولى السلطة "488- 531م"، وقتل هرمز "579- 590م" إخوته حتى لا ينافسوه على الحكم، كما قتل قباذ الثاني شيرويه "628م" أباه وتخلص من إخوته حتى لا ينازعوه على السلطة.
وحتى يقوي المتنازعون مواقفهم لجأوا إلى الاستعانة بقوى خارجية، غير مكترثين بما يترتب على ذلك من إذلال، وسقوط هيبة الحكم، نذكر منها: استعان بهرام جور "420- 438م" بالمناذرة العرب ليجلسوه على عرش أبيه يزدجر الأول، كما استعان قباذ الأول بالهياطلة في صراعه مع أخيه بلاش، واستعان كسرى الثاني أبرويز "590- 628م" بالبيزنطيين لمحاربة بهرام جوبين الذي اغتصب العرش الساساني.
وفقدت الدولة الساسانية وحدتها السياسية منذ عام 631م حين انقسمت على نفسها، ففي الشرق بويع لكسرى الثالث بن الأمير قباذ أخي كسرى الثاني، وفي المدائن عين الأشراف ورجال الدين بوران دخت بنت كسرى الثاني أبرويز، وقد حكمت سنة وأربعة أشهر قبل أن تخلفها أختها آزرميدخت.
وظهر في عهدها القائد رستم بن فرخ هرمزذ كأحد القادة الأقوياء، ويبدو أنه استاء من تولي امرأة عرش الأكاسرة، كما حنق عليها لقتلها والده، فزحف نحو العاصمة، واستولى عليها وعزل الملكة، وسمل عينيها.
وتتابع على الحكم حكام ضعاف مثل هرمز الخامس وكسرى الرابع، لكن لم يكن معترفًا بهما إلا في بعض أجزاء البلاد، ثم تولى عرش الدولة الساسانية أحد عشر ملكًا على مدى أربعة أعوام، كان آخرهم يزدجرد الثالث ابن الأمير شهريار الذي استولى على الحكم بمساعدة القائد رستم .
والواقع أن التفكك والضعف بدآ يظهران على جسم الدولة في الأعوام المضطربة، التي تلت موت كسرى الثاني أبرويز في عام 628م بفعل السياسية العسكرية التي نفذها كسرى الأول أنوشروان "531- 579م"، فمال التطور شيئًا فشيئًا نحو التسلط العسكري، واستقل كل قائد وحاكم ولاية بإقطاعه، وكأنه وراثي، وبخاصة عندما هوت الأسرة المالكة إلى تدهورها النهائي.
وقد كثرت محاولات اغتصاب السلطة من قبل القادة، ويعد تسلط هؤلاء آخر مرحلة من مراحل التطور السياسي أيام الساسانيين، ولكن نظام الإقطاع الذي برز في هذه المرحلة لم يكن لديه متسع من الوقت ليتحد قبل الفتح الإسلامي، ومنذ عهد فيروز الثاني الذي تولى الحكم بعد آزرميدخت، كانت جميع الأقاليم الواقعة شرقي مرو الروذ خارجة عن سلطة الدولة، ولم تكن هراة نفسها تابعة للساسانيين، وخضعت الولايات الواقعة على شواطئ بحر قزوين للديالمة، واستقرت الولايات الشمالية، والشرقية في أيدي ملوك وأمراء مستقلين.
أضحى رستم الحاكم الفعلي لفارس، ولم تفلح جهود التي بذلها في إعادة اللحمة، والقوة إلى الدولة المتداعية، ووجد نفسه عاجزًا عن وقف زحف المسلمين الجارف.
الوضع الاجتماعي عند الفرس
لم يكن تغيير الأسرة الحاكمة في فارس حدثًا سياسيًا فحسب، بل امتاز بظهور روح جديدة في الدولة، والطابعان المميزان للنظام الجديد هما تركيز قوى السلطان، واتخاذ دين رسمي للدولة، وإذا كان الطابع الأول هو عودة إلى التقاليد التي سادت أيام الملك دارا ، فإن الطابع الثاني يعد تجديدًا، وفي مقابل تطور الحياة العامة، والتنظيم الإداري، فإن الهيكل الاجتماعي، والإداري الذي أنشأه أو أكمله مؤسس الدولة الساسانية بقي حتى نهايتها من الأمور المقدسة التي لا تحتمل التغيير .
قام المجتمع الفارسي على نظام ملزم للطبقات، ونصت "الأوستا" الكتاب المقدس للفرس، على ثلاث طبقات هي: رجال الدين، رجال الحرب والحراثين، وأصحاب المهن والحرف، إذا استثنينا طبقة الحكام، غير أن تطور الحياة العامة في الدولة الساسانية، أفرز نظامًا سباعيًا على أساس سبع طبقات، وقسمت كل طبقة بدورها إلى عدة أقسام.
أفقدت هذه الأوضاع الشاذة ثقة الفارسي بمجتمعه ووطنه، وتزعزع إيمانه بهذا النظام، ولم تقض إصلاحات كسرى الأول أنوشروان على ما هو في نفوس الناس من الشعور بالظلم، والتطلع إلى من يتحدث عن المساواة، وتكافؤ الفرص بين الناس، حتى وجدوا ذلك في الدين الإسلامي.
الوضع الديني عند الفرس
اتخذ الساسانيون، منذ بداية عهدهم الزرادشتية دينًا رسميًا، ومن خصائص هذا الدين تقديس عناصر الطبيعة، وللشمس عند الساسانيين حرمة عظيمة، غير أن النار أعظم شأنًا، لذلك دخلت كعامل رئيسي في عباداتهم، وبيوت النار عندهم هي مراكز العبادة والتقديس.
يعتقد الزرادشتيون بوجود إله للخير والنور، خالق يسمونه أهورامزدا، وإله للشر، والظلمة يسمونه آهرمان، ولكنه ليس بمستوى أهورامزدا. إنها إذن نحلة تقوم على الثنوية والنزاع الدائم بين إله الخير وإله الشر، لكن النصر في النهاية سيكون للإله الأول بما يبذله الإنسان من أعمال حسنة للتغلب على روح الشر.
وابتلي الساسانيون بنزاعات دينية بعد ظهور الديانتين المانوية والمزدكية، بفعل اختلاف فلسفاتها وتعاليمها، وكان تشجيع الأكاسرة لإحدى هذه الديانات يدفع معتنقيها إلى اضطهاد مخالفيهم، وقد أضاع هذا التاجر البلاد حين وضعها في جو مشحون بالنزاعات.
تركيبة الجيش الفارسي
نحت الدولة الساسانية منذ بداية حياتها السياسية منحى توسعيًّا؛ بهدف إحياء الإمبراطورية الشرقية التي قضى عليها الإسكندر المقدوني، وقد تطلب ذلك إنشاء جيش منظم وقوي، لذلك أدخل الملك أردشير الأول طوائف الجند التي كانت تتبع صاحب الإقطاع في الجيش النظامي، والمعروف أن الفرسان الدارعين يشكلون القوة الضاربة في الجيش الفارسي، وأن النصر يتوقف على مدى اندفاعهم، وشجاعتهم في القتال، وبخاصة الفرقة المعروفة بالخالدين، وهي مؤلفة من عشرة آلاف فارس يختارون من بين المجلين.
وتتخذ الفيلة مكانها خلف الفرسان وكأنها حصون، وتشكل عامل رعب لخيل العدو، وعامل ثقة لأفراد الجيش الفارسي، كما يحمل عليها أبراج من الخشب مشحونة بالمقاتلين والسلاح ورماة النبال وحاملي الرايات، ويقدمونها أحيانًا أمامهم، ويجعلون منها نواة لفرقهم، تلتف حول كل فيل فرقة من الجيش، وإذا ذعر فيل أثناء المعركة وارتد على جنود الفرس يبادر الفيَّال إلى قتله .
شكل المشاة مؤخرة الجيش، وهم من أهل القرى، يستدعون إلى الحرب دون أجر أو حافز، إنهم الحراثون الخاضعون للنظام الإقطاعي، يلبسون دروعًا من الخيزران المتشابك المغطى بجلد غير مدبوغ، وهم جنود غير مهرة عادة، يولون الأدبار قبل أن يبدأهم العدو بحرب.
واعتمد الجيش الفارسي على المرتزقة أيضًا، وهم من الشعوب القاطنة في أطراف الدولة من الذين اشتهروا بالشدة في القتال، نذكر منهم: السجستانيون، الساجيون، القوقازيون، الديالمة وغيرهم.
ويقود ملك الملوك عادة الجيش في المعارك، وينصب العرش المالكي وسط الجيش، ويحيط به خدمه وحاشيته، وفرقة من الجند المكلفة بحراسته.
واقتبس الفرس بعض الفنون العسكرية من الرومان، مثل عمليات حصار القلاع، واستعمال المجانيق والأبراج المتحركة، وآلات الحصار الأخرى التي كانت تستعمل قديمًا، كما نفذوا أسلوب حرق المحاصيل الزراعية حتى لا يستفيد العدو منها، وفتح السدود في الأراضي التي يخصبها الري، حتى يغرق الوادي ويوقف تقدم العدو، هذا ويشترط بالقائد أن تتوفر فيه الصفات العسكرية الضرورية لإدارة الحرب، والقدرة على وضع، وتنفيذ الخطط العسكرية.
لم يكن الفرس شديدي البأس في الحرب، ولم يعتادوا القتال ببسالة إلا أن يكونوا على مسافة بعيدة من عدوهم، وإذا شعروا بأن فرقهم تتراجع يتقهقرون مطلقين خلفهم سهامهم حتى يخففوا من مطاردة عدوهم لهم.
تعتمد الخطط العسكرية التي طبقها الساسانيون في القتال على الصدمة بأفواج منظمة من الفرسان الدارعين في صفوف كثيفة، كما طبقوا نظام التعبئة القائم على المقدمة من الفرسان، والقلب الذي يرتاد أفراده مكانًا مشرفًا، والجناحين والمؤخرة من الرماة والمشاة، وهو نظام الزحف من خلال تقسيم الجيش إلى كراديس، والواقع أن هذا النظام العسكري لم يثبت أمام التعبئة الإسلامية القائمة على الكر والفر، والمعروف أن المسلمين استعملوا أيضًا أسلوب الكراديس في القتال.
[1] ينتسب الساسانيون إلى ساسان، وهو من عائلة نبيلة عاش في أواخر عهد الدولة الأشكانية، وكان سادنًا على بيت نار اصطخر يقال له: بيت نار أناهيد.
[2] حكمت الدولة الأشكانية مدة مائتين عام، ولا تعني بهم الأساطير الفارسية، بل تعدهم أجانب، لم يتركوا أثرًا في آداب الفرس، ولم يكشف التاريخ عن أصل هذه الدولة أكانت من أصل إيراني أم توراني، وتدل آثار حضارتها على اصطباغها بالصيغة اليونانية، ويذكر بأن الأشكانيين كانوا أعظم ملوك الطوائف الذين نبغوا في فارس بعد الإسكندر المقدوني.
[3] الطبري: ج2، ص38 - 42. البلخي، أبو زيد أحمد بن سهل: كتاب البدء والتاريخ ج1 ص287، 288. أربري، أ. ج: تراث فارس: إسلام الفرس، يحيى خشاب ص13، 14.
[4] المناذرة أو آل نصر أو آل لخم: أمراء الحيرة من العرب، نزحوا من جنوبي الجزيرة العربية على أثر انهيار سد مأرب، واستقروا في أطراف العراق، قريبًا من حدود الدولة الفارسية الساسانية، واستعان الفرس بهم لتحقيق تطلعاتهم السياسية من خلال جعلهم سدًا أمام غارات العرب على الأطراف الفارسية، والتصدي لهجمات البيزنطيين، وحلفائهم الغساسنة على مناطق الحدود بين الدولتين.
[5] الهياطلة: أمة تركية كانت تسكن ولاية طبرستان جنوبي بحر قزوين.
[6] انظر الخبر عن ملوك الفرس، وسني ملكهم في الطبري: ج2 ص37- 234. الفردوسي: الشاهنامة الجزء الثاني.
[7] دارا: تاسع ملوك الدولة الأخمينية التي حكمت في إيران بين القرنين السابع والرابع قبل الميلاد.
[8] كريستنسن، آرثر: إيران في عهد الساسانيين ص84 - 85.
[9] كريستنسن: ص198 - 199.
[10] ابن قتيبة، أبو محمد، عبد الله بن مسلم: عيون الأخبار ج1 ص112. كريستنسن: ص206 -207.