1 محرم 1439هـ
نبتدئ هذا العام الجديد بما أمَّتُنا عليه من الحروب والفتن والتطاحن الداخلي، والتآمر والكيد الخارجي؛ فالقتل والذبح وسيل الدماء وتدمير المدن والخوف والرعب كله يقع علينا نحن المسلمين وليس على أحدٍ سوانا. يهل علينا العام الجديد وشعبنا الفلسطيني في غزة ما يزال يئن تحت وطأة الحصار والدمار والأمل بالإعمار، والقدس والمسجد الأقصى المبارك يعيشان المرحلة الأكثر خطرًا عليهما من قبل مشاريع المؤسسة الإسرائيلية الظالمة.
وإذا كنا اليوم نحتفي بذكرى هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة فإننا بعد عشرة أيام سنحتفي نحن المسلمين كذلك بيوم العاشر من محرم “يوم عاشوراء”، والذي لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد الهجرة وجد اليهود هناك يصومونه، فلما عرف أن سبب صومهم ذلك اليوم هو شكرٌ لله أنه نجى في مثل هذا اليوم موسى عليه السلام وقومه من بني إسرائيل من فرعون، وأغرق فيه فرعون في البحر بعد أن شقهُ لمرور موسى وقومه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “نحن أولى بموسى منكم”، فصامه صل الله عليه وسلم وأمرنا وحث إلينا صيامه.
ولما أن الظلم الذي ينزل على شعبنا هذه الأيام، بل وينصب صبًا، فإنه من فعل بني إسرائيل الذي يزعمون الانتماء إلى موسى عليه السلام. فهي إذن المفارقة التي لا بد أن نقف عليها مع مسيرتي الهجرة هاتين؛ هجرة النبي صل الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة فرارًا من ظلم أبي جهل وأبي لهب وكل طواغيت مكة، وهجرة بني إسرائيل من مصر صوب الأرض المقدسة فرارًا من فرعون؛ طاغية ذلك الزمان بل وكل الأزمنة.
وإن المتتبع لآيات القرآن الكريم التي تصور حدث الهجرة من مكة إلى المدينة لرسول الله صل الله عليه وسلم ومن مصر إلى الأرض المقدسة لموسى عليه السلام فإنه سيلمس بلاغة النص القرآني في تصوير الحالتين، فيقول الله سبحانه في الآية 40 من سورة “التوبة” واصفًا حدث الهجرة الشريفة ولحظة لحاق فرسان قريش بهم: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنودٍ لم تروها وجعل كلمةَ الذين كفروا السفلى وكلمةُ الله هي العليا والله عزيز حكيم)، وفي الآيات التي تصور مشهد هجرة بني إسرائيل من مصر ولحظة لحاق فرعون وجنوده بهم: (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون، قال كلا إن معي ربي سيهدين).
إنها إذن لحظة حاسمة فارقة فيها يوشك فرسان أن يطبقوا على رسول الله صل الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر –رضي الله عنه- في قلب الغار، وفيها يوشك فرعون وجنوده وفرسانه أن يطبقوا على موسى عليه السلام ومعه ستمائة ألف، نعم (600,000) من بني إسرائيل في قلب البحر.
في هذه اللحظة الفاصلة والهامة استشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم معية الله سبحانه معه ومع صاحبه فقال لأبي بكر: (لا تحزن إن الله معنا). وقد تحدث بلغة الجماعة عن اثنين بعد أن قال له أبو بكر الخائف على رسول الله: (والذي بعثك بالحق يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موطئ قدمه لرآنا)، فكان جواب رسول الله صل الله عليه وسلم له: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) .
وفي هذه اللحظة الفاصلة والهامة التي عاشها موسى عليه السلام مع وجود أكثر من نصف مليون معه، كان يعلم ترددهم وتشككهم وعدم ثقتهم بالله سبحانه، وهم الذين رأوا البحر ينفلق بعصا موسى فيقف الماء كأنه العمود على الجانبين، بينما هم يمرون على طريق يبس بإذن الله، ومع ذلك وإذا بهم ولضعف ثقتهم بالله سبحانه يقولون يا موسى: “إنا لمدركون”، فكانت اللحظة التي استشعر فيها موسى عليه السلام معية الله سبحانه معه فقال: (كلا إن معي ربي سيهدين)، فتحدث عنها القرآن بلغة الفرد الواحد؛ موسى عليه السلام. إنها كلمة “معنا”، مع أنهما اثنان؛ الرسول وأبو بكر، وإنها كلمة “معي”، مع أنه موسى عليه السلام وحوله أكثر من نصف مليون.
يا قادة إسرائيل ويا شعب إسرائيل، إننا وكما تقدم نعيش ذكرى هجرة رسول الله صل الله عليه وسلم وبداية عام هجري إسلامي جديد، وأنتم الذين قبل شهر بالتمام يوم 2014/9/24 عشتم بداية عام عبري جديد كان أول ما فعلتموه فيه هو اقتحام المسجد الأقصى والاعتداء على المصلين فيه رجالًا ونساءً. وبعد عشرة أيام سنكون وإياكم مع ذكرى نجاة موسى عليه السلام من فرعون وغرق فرعون في البحر وهو الذي قال: (أنا ربكم الأعلى).
يا هؤلاء إننا نقول لكم: صحيح أن معكم أمريكا وترسانتها وحقها في قرار النقض في مجلس الأمن المسخّر لصالحكم، ومعكم الغرب، ومعكم غواصات المانيا تأتيكم بأسعار زهيدة، ومعكم مفاعل ديمونا والقنابل الذرية المائتان، بل ولعلها الثلاثمائة وفق بعض التقارير الاستخبارية، وها قد أصبح معكم الآن السيسي والتحالف العربي المعتدل الذي تحدث عنه نتنياهو، وغيرها، ومع ذلك فإنكم تعيشون حالة القلق والخوف من المستقبل.
وأما نحن فإن كل تحالفات الشر هي ضدنا، وكل ذوي القربى يتآمرون علينا، وكل النوازل والفتن تحل بدارنا، ومع ذلك فإننا واثقون مطمئنون، إلى درجة اليقين، أن المستقبل لنا بإذن الله، وأن فرج الله قريب. إنه حبل الناس معكم وحبل الله معنا، ولذلك فإنكم خائفون تقولون: (إنا لمدركون)، ونحن مطمئنون واثقون نقول: (لا تحزن إن الله معنا).
فوحقه لأُسلمنَّ لأمرهِ في كل ضائقةٍ وسوء خناق
موسى وإبراهيم لما سلما سلِما من الإغراق والإحراق
فيا هؤلاء؛ إننا والله خيرُ من سار على طريق إبراهيم عليه السلام وموسى عليه السلام، وإن زعمتم النسب والنُبُوة. وكما سلم إبراهيم من حريق نار النمرود وسلم موسى من غريق بحر فرعون فإننا بإذن الله حتمًا سننجو من حريقكم وبحر ظلمكم وبطشكم، أنتم الذين تمارسون اليوم نفس سلوك النمرود الذي قال لإبراهيم: (أنا أحيي وأميت)، ونفس سلوك فرعون الذي قال: (أنا ربكم الأعلى)، فاللهم اجعل هذا العام الهجري الجديد 1436عام خلاص ونجاة من الظالمين يا رب العالمين، اللهم اجعله عام فرج وفتح وتمكين ونصر مبين يا رب العالمين.
تحالف الشر يتجدد
لما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صارت له جماعة وأصحاب ومؤيدون حتى خارج مكة اجتمعوا له في دار الندوة؛ وهي دار قصي بن كلاب، التي كانت قريش لا تقضي أمرًا إلا فيها، يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله صل الله عليه وسلم حين خافوه وبدأت ملامح دعوته تظهر ودائرة أنصاره تكبر.
وفي اجتماع دار الندوة هذا، الذي تحدث عنه ابن عباس رضي الله عنهما وورد بتفاصيله في كتب السيرة، ظهر لهم إبليس على هيئة شيخ جليل من أجل نجد، فكان رأي البعض منهم أن احبسوه بالأغلال والحديد. وقال آخرون: نخرجه من بلادنا وننفيه إلى بلاد بعيدة. وكثرت الآراء حتى تقدم أبو جهل بن هشام المعروف بأبي الحكم فقال: (والله إن لي لرأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا: وما هو يا أبا الحكم ؟ فقال: أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابًا جليدًا نسيبًا وسيطًا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفًا صارمًا ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه ونستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعًا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا فرضوا منا بالعقل (الدية) فعقلناهُ جميعًا. فقال الشيخ النجدي (إبليس): القول ما قال الرجل. هذا الرأي لا رأي غيره !! فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له، فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صل الله عليه وسلم فقال: لا تبتْ هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه).
هكذا كانت الظروف التي قادت إلى هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة، الهجرة التي نحن اليوم في ذكراها، إنه إذن تحالف الشر من قريش بكافة قبائلها وحلفائها وبتوجيه من الشيطان إبليس. إنهم الذين عزموا على قتل رسول الله صل الله عليه وسلم والخلاص منه ومن دعوته التي راحت تكبر وتتوسع وتنتشر وتكسب أنصارًا هناك في يثرب وهناك في غفار على أطراف اليمن وغيرها من القبائل، التي أسلم بعض أبنائها وراحوا ينشرون دين الإسلام في بلادهم.
إننا نعيش هذه الأيام وفي ذكرى الهجرة هذا التحالف الجديد الذي يقوده الشيطان الأكبر (أمريكا)، وهي التي جندت أكثر من ستين دولة حتى الآن، ومنها دول عربية وإسلامية، ظاهر الأمر هو حرب “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وحقيقته هو حرب على المشروع الإسلامي والصحوة الإسلامية، التي راحت تكبر وتتسع وتنتشر ولها حضور كبير في كل الدنيا، بل إنها التي وصلت عبر صندوق الانتخابات واختيار الشعب إلى الحكم كما حصل في مصر وليبيا واليمن وفلسطين، وإذا بهم ينقلبون عليها ويتآمرون عليها.
إن تحالف الشر هذا الذي أرادت من خلاله أمريكا إشراك دول كثيرة، ومنها عرب ومسلمون، حتى لا يُقال إن أمريكا هي التي تعادي الإسلام، وإنها التي في ظاهر الأمر قد حيدت تل أبيب عن هذا التحالف، حتى لا يُقال إن هذا التحالف هو كُرمى لعيني إسرائيل والحفاظ على أمنها.
إنها التي جندت جيوشًا عربية تشارك بطائراتها، وحتمًا ستكون كل نفقات هذا التحالف المالية من ميزانياتها وأرصدتها، حتى لا يُقال إنها حرب ضد الإسلام بدليل وجود دول إسلامية وعربية ضمن هذا التحالف!!! تماما مثلما كان الأمر في تحالف الشر الأول عام 1990، والذي تشكل لتدمير العراق بدعوى تحرير الكويت.
نعم! في ذكرى هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحالف الشر، الذي كان يومها للقضاء على الإسلام، وحيث تحالف الشر الذي يتكون اليوم للقضاء على الصحوة الإسلامية وعلى الإسلام العائد بقوة والهادر مثل الطوفان، ولكن أنّى لهم ذلك؟ إنه الله سبحانه الذي كان مع رسوله صلى الله عليه وسلم فنجاهُ من كيدهم ومكرهم: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)، وإنه الله سبحانه الذي هو مع السائرين على طريق رسوله صل الله عليه وسلم، وإنه حتمًا سينجيهم من مكر تحالف الشر الجديد هذا، وإنه حتمًا الإسلام المنتصر، وإنهم حتمًا أعداؤه المنهزمون المدحورون بإذن الله، حتى وإن كان معهم بعض الأدعياء من أذناب الأعداء.
أسماء ترابط عند باب الغار وأخواتها يرابطن عند بوابات الأقصى
إنها أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وعن أبيها، والتي كان لها الدور الرائع والفريد خلال رحلة هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيها أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ إنها واحدة من أفراد الخلية الفدائية التي ساهمت في نجاح الهجرة، فأخوها عبد الله يتسمع إلى ردة فعل قريش وحديثها عن اختفاء أبيه ورسول الله صل الله عليه وسلم ثم في المساء يأتي غار ثور ليخبرهما، وعامر بن فهيرة راعي غنم أبي بكر، الذي كان يُسيِّر الغنم خلف آثار قدمي عبد الله ليضيع الأثر فلا يعرفوا أين كان يذهب، والبطلة الفدائية أسماء التي كانت كل مساء وفي عتمة الليل تذهب إليهما بالطعام، حتى إذا كان اليوم الثالث في الغار وأرادوا الخروج لاستمرار السفر جاءت إليهما بالزاد وأرادت أن تعلقه على الراحلة، فلم يكن معها عصام “رباط” فشقت نطاقها اثنين، وعلقت الزاد بواحد وانتطقت بالثاني، فسُميت لذلك بـ”ذات النطاقين”.
إن أسماء المرابطة على باب الغار تقول: (لما خرج رسول الله صل الله عليه وسلم وأبو بكر -رضي الله عنه- أتانا نفرٌ من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ فقلت: لا أدري والله أين أبي! قالت: فرفع أبو جهل يدهُ وكان فاحشًا بذيئًا فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي (الحلق الذي يعلق في الأذن للزينة).
وإننا ونحن في ذكرى هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الدور البطولي، الذي أدته أسماء رضي الله عنها في الدفاع عن رسول الله صل الله عليه وسلم وعن أبيها رضي الله عنه، والرباط لثلاثة أيام عند باب الغار توصل الطعام وتراقب سلوك اللئام.
في هذه الأيام فإنهن أخوات أسماء بنت أبي بكر من البطلات اللاتي يرابطن عند بوابات الأقصى دفاعًا وذودًا عن طهره. فإذا كانت أسماء يومها قد فعلت ما حُجِزَ عن فعله الرجال، فإن ما تفعله اليوم المرأة المسلمة الفلسطينية يفوق بطولات الرجال وتضحياتهم.
وإذا كانت في مسيرة الهجرة قد امتدت يد السافل الخبيث أبي جهل إلى أسماء البطلة وضربها على وجهها، فإنهم في أيامنا هذه السفلة واللئام والحثالات من جنود الاحتلال، الذين تمتد أيديهم إلى عبير زياد البطلة، ويضربونها على وجهها فيسقط ليس قرطها وإنما كل حجابها ينزع عن رأسها، وإن مثلها غيرها من البطلات المرابطات عند بوابات الأقصى وفي ساحاته ممن طالهن أذى هؤلاء المعتدين المتطاولين من جنود الاحتلال الإسرائيلي.
وإذا كانت كتب التاريخ والسيرة تتحدث عن أسماء بنت أبي بكر المرابطة عند باب غار ثور، دفاعًا وحماية وخدمة لدين الله، فإنه والله التاريخ والحاضر والمستقبل، وكل الأمة من شرقها وغربها وبكل لغات الدنيا تتحدث اليوم عن أخوات أسماء من المرابطات الماجدات عند بوابات الأقصى وفي ساحاته دفاعًا عنه وعن طهره.
إنكن يا أخوات أسماء من المرابطات عند بوابات الأقصى قد أصبحتن عنوان الاعتزاز والشموخ والشرف. وكما سجل التاريخ سفالة أبي جهل فإن التاريخ ليس الذي سيسجل سفالة جنود الاحتلال، فهم ليسوا إلا كذلك كانوا وما زالوا، ولكنه سيسجل نذالة وخسة الجبناء من الصامتين والمنخرسين الذين لا يدافعون عن المرابطات، ولا ينتصرون لهن ولا للأقصى المبارك الذي عند بواباته يرابطن.
فبوركتن يا أخوات أسماء، يا رمز البطولة والإباء، يا أطهر من الطهر، ويا أشرف من الشرف، ألا لا نامت أعين الجبناء.
اللهم يا من استغاث بك إبراهيم من قلب النار فأغثته، ويا من ناداك موسى من قلب البحر فلبيته، ويا من استعان بك يونس من بطن الحوت فأعنته، ويا من استجار بك محمد من قلب الغار فأجرته، اللهم إنا نستغيث بك ونناديك ونستعين بك ونستجير بك، يا نِعم المولى ونِعم النصير.