سرية الدعوة بين التاريخ والواقع
لا ريب أن رسول الله يريد أن يصل بدعوته لكل إنسان بادئًا بمكة بلده، ولم يكن من السهل أن يقف النبي مجاهرًا بدعوته وسط الكعبة، فقد كان اختياره لأتباعه محاطًا بكل وسائل الحيطة والحذر، ولم يعلن لعموم الناس أمره، فلماذا لم يعلن الرسول أمره ليسلم أكبر عدد من الناس في أقل وقت ممكن؟ لم يفعل ذلك النبي ؛ لعلمه أن دعوة الإسلام -وإن كانت مقنعة للناس- ستلقى حربًا ليس من قريش فقط، بل من العالم أجمع. قواعد اختيار المدعوِّين
كيف كان يتم هذا الاختيار؟ ما القواعد التي كان المسلمون يختارون على أساسها رجلاً دون الآخر؟ ولماذا يذهب المسلمون مثلاً لدعوة عثمان بن عفان، ولا يذهبون بالدعوة إلى الوليد بن المغيرة أو أبي جهل أو أمية بن خلف؟ بالنظر في حال السابقين الذين تم اختيارهم نجد قاعدتين مهمتين للاختيار كان يعتمد عليهما رسول الله ومن معه، والمخالفة لهاتين القاعدتين كانت قليلة جدًّا. القاعدة الأولى: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا
كان الاختيار يقع على أصحاب الأخلاق الحسنة والخلال الحميدة، الذين يعظمون الصدق والكرم، والشجاعة والعدل، ومكارم الأخلاق بصفة عامة، بهؤلاء بدأ رسول الله ، وهناك قطاع عريض من الناس غير ملتزمين بالإسلام، لكن أخلاقهم طيبة، ولو التزموا لكانوا سندًا قويًّا للدعوة، فبهؤلاء بدأ النبي . القاعدة الثانية: الاهتمام بالشباب
الدعوة موجهة لكل الأعمار، ولكن الاهتمام بالشباب في الفترة الأولى كان واضحًا، ولماذا الشباب بالذات؟
أولاً: هم لم يطل عليهم الأمد في تقاليد معينة، لم يألفوا عبادة الأصنام في سنوات طويلة، لم يقتنعوا بها، ولم يتمسكوا بالدفاع عنها، تخيل نفسك تدعو إنسانًا ظل أربعين أو خمسين سنة يدافع عن قضية باطلة ويجاهد من أجلها، ثم تأتي وتقول إن دفاعك وجهادك السنوات الطوال كان كله في باطل، هذا ولا شك صعب، بينما دعوة الشباب أيسر بكثير، فهم لم تتلوث عقولهم بأفكار خاطئة، ومن ثَمَّ يستطيعون تقبل الفكرة الإسلامية بسهولة.
ثانيًا: الشباب بصفة عامة مولعون بالجديد، أي جديد، لذلك تجد أحيانًا أن الشباب يقلدون التقاليد الجديدة وإن كانت سيئة أو مضرة أو لا توافق هواهم، ولكن فقط لأنها شيء جديد، فإذا وجد الشباب شيئًا صالحًا جديدًا، فهم يكونون أقرب إليه من الشيوخ.
ثالثًا: عند الشباب حماسة وحمية عالية جدًّا، فورة ونشاط، لا يعترفون بالصعب، بل لا يعترفون بالمستحيل، وحمل الإسلام أمر صعب وشاق، ويحتاج إلى عزيمة الشباب ومن لا تعوقه الصعاب.
وليس معنى ذلك إبعاد الشيوخ عن الإسلام، ولكن فرصة إيمان الشباب، وفرصة حركة الشباب للدعوة بعد الإيمان، وفرصة ثبات الشباب على الحق، وتحديه للصعاب، والمشاكل أكبر من فرصة الشيوخ.
لكن من المؤكد أن الدعوة تحتاج إلى حكمة الشيوخ بجانب حماسة الشباب؛ لذلك كان التركيز في الدعوة على الشباب حسن السيرة، على الشباب طيب الخلق، أولئك هم عماد الدعوة فعلاً، سواء في زمن رسول الله أو في الأزمان اللاحقة وإلى يوم القيامة، هذه سنة من سنن الله في التغيير. وفي اليوم الثاني من الدعوة بدأ رسول الله والمؤمنون الأوائل يتحركون من جديد بالدعوة لانتقاء عناصر جديدة، لم تكن الدعوة عند أبي بكر الصّدّيق مجرد تكاليف من الرسول ، ولكنه الحب للإسلام الذي ملأ قلبه ، وهو ما كان سببًا في استجلاب أكبر عدد من الصحابة الذين أذعنوا للدعوة، ولبّوا نداءها، وكانوا عاملاً مهمًّا في نجاحها وخروجها للعالم. ولا شك أن أبا بكر الصديق كان من الرجال الحقيقيين في هذه الدعوة المباركة، وكان عاملاً من عوامل جذب كثير من الصحابة لهذه الدعوة؛ فقد كان سهلاً لينًا محببًا مُوَطَّأ الأكناف، وسيرته تجعلنا نفكر أكثر من مرة في كيفية الاقتداء به، والسير على نهجه في استجلاب الجنود لدين الله، وفي البذل بالمال والنفس. الفقه في سرية الدعوة
إن من فقه المرحلة السرية للدعوة أن النبي اتخذ منهج الحيطة والحذر؛ لأن الدعوة في بدايتها تحتاج للرجال وهم قليلون؛ فإن فُقِد الرجالُ ضاعت الدعوة، وهذا ما يوضحه موقف النبي مع عمرو بن عَبَسَة الأسلمي رغم إسلامه. وكذا من دواعي الحيطة التي مر بها النبي وأصحابه أن اجتماعاتهم السرية كانت في دار الأرقم بن أبي الأرقم، ذلك الغلام صاحب الست عشرة سنة، البعيد عن قريش والعدو لبني هاشم؛ لأنه من قبيلة مخزوم المتنازعة دائمًا مع بني هاشم. وقد اتخذت تربية النبي لأصحابه في هذه الدار الجانبين النظري والعملي، من تثبيت العقيدة والأخلاق والتربية بالتاريخ، والاهتمام بالصلاة وقيام الليل والصوم؛ مما كان دافعًا قويًّا في السير قُدُمًا في مجال الدعوة إلى الله، وتربية رجال صدقوا عهدهم. ما لا شك فيه أن الرسول يريد أن يصل بدعوته لكل إنسان في مكة، بل لكل إنسان على ظهر الأرض، ويتخيل البعض أنه كان من السهل على الرسول أن يقف وسط الكعبة من أول يوم أُمِر فيه بالإبلاغ ويعلن للناس جميعًا أمر الإسلام، لكنه لم يفعل، بل كان يختار من يدعوهم آخذًا بكل أسباب الحيطة والحذر، فيذهب إلى الرجل فيسر له في أذنه بأمر الإسلام، ويدعوه سرًّا، ولم يعلن لعموم الناس أمره. والدعوة السريّة لم تستمر يومًا أو اثنين، بل استمرت فترة طويلة بالنسبة لعمر الدعوة الإسلامية فكانت حوالي ثلاث سنوات.
وبعض الناس يعتقدون أن الرسول عندما وقف على الصفا وقال للناس: "أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟". يعتقدون أن هذه المقولة كانت في بدء الدعوة وبعد نزول أمر الرسالة مباشرة، والواقع غير ذلك، لقد كانت هذه الكلمة بعد ثلاث سنوات كاملة من نزول الوحي.
سرية الدعوة بين التاريخ والواقع
لقد ظلت الدعوة سرية تمامًا ثلاث سنوات كاملة، ظلت الدعوة تقوم على أمر الاصطفاء والانتقاء ثلاث سنوات كاملة. لماذا؟
لماذا لم يعلن الرسول أمره ليسلم أكبر عدد من الناس في أقل وقت ممكن؟ لم يفعل ذلك النبي ؛ لأنه يعلم أن دعوة الإسلام وإن كانت مقنعة للناس إلا أنها ستلقى حربًا ليس من قريش فقط بل من كل العالم. أكان رسول الله يخشى على نفسه من قريش؟ هذا مستحيل، فهو لا شك يعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، بل كانت هذه هي الحكمة في الدعوة.
ومن الممكن أن تقول: إن السرية في الدعوة في هذه المرحلة لم تكن اختيارًا نبويًّا، بل كانت أمرًا إلهيًّا، فالله ُيعلِّم نبيه ويعلم أمته منهج التغيير في مثل هذه الظروف، وكيف تغير الأجيال القادمة من حالها في غياب رسول، وكيف التغيير إذا توافقت الظروف مع ظروف النبي في مثل هذه المرحلة. إن الله قادر على حماية رسوله، فلا يصل إليه أذًى من أحد من قريش، ومع ذلك فهو يريد منه أن يرسم الطريق الصحيح للمسلمين لإقامة هذا الدين مهما اختلفت الظروف ومهما كثرت المعوقات. ولذلك تجد أن الله قد وضع رسوله في كل الظروف التي من الممكن أن تمر بأمته بعد ذلك، وعلم رسوله كيف يتعامل مع كل ظرف، وكيف يصل بدعوته إلى الناس في وجود المعوقات المختلفة. وبذلك حُدِّد للمسلمين منهجٌ واضح لا غموض فيه.
الإسلام والاتحاد السوفيتي
قد تكون سرية الدعوة تمامًا كما في السنوات الثلاث الأولى من الإسلام. قد يحتاج المسلمون إلى هذا الأسلوب السري في الدعوة إذا توافقت ظروفهم مع ظروف الرسول في هذه المرحلة. على سبيل المثال المسلمون في الاتحاد السوفيتي قبل سقوطه كان يعيشون فترة مثل هذه الفترة، الإلحاد في كل مكان، حمل المصحف أو الاحتفاظ بالمصحف في البيت جريمة يعاقب عليها القانون، من اكْتُشف أنه يصلي أو يصوم يعاقب ويعذب وقد يقتل، فكان لا بد من السرية التامة في الإسلام، ولو لم يفعلوا ذلك لاختفى الإسلام من هذه البلاد، ولكنهم كانوا يتعلمون في ديار كدار الأرقم بن أبي الأرقم ، وكانوا يحفظون القرآن في سراديب وفي خنادق وفي كهوف بالجبال، والحمد لله بقي الدين، وبقي المسلمون، ورفعت الغمة، والذي حفظهم هو فقه المرحلة. إن الله هو الحافظ وهو المعين، لكن هناك أخذ بالأسباب، والأسباب الصحيحة هي التي أخذ بها النبي في نفس المرحلة التي عاشها المسلمون. لو أعلن كل واحد من المسلمين إسلامه في الاتحاد السوفيتي، وفتح صدره لنيران الشيوعية، لاختفى ذكر الإسلام من بقاع كثيرة، ولكن فقه المرحلة كان مهمًّا جدًّا، ووجود المثال النبوي الحكيم في إخفاء إسلامه في أول أمر الرسالة كان معلمًا لهم ومؤيدًا لمنهجهم.
اختلاف المنهج باختلاف الظروف
وستختلف الظروف بعد ذلك في حياة الرسول ، وبالتبعية سيختلف منهجه في إيصال دعوته للناس وفي تربيته للمؤمنين. سيأتي زمان يعلن فيه البعض إسلامهم ويكتم المعظم، كما سيحدث بعد الثلاث سنوات الأولى من الدعوة.
وسيأتي زمان يعلن فيه المعظم ويكتم البعض، وإن كانت التربية ستكون سرًّا، كما سيحدث بعد إسلام عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما. وسيأتي زمان يعلن فيه الجميع وتكون التربية علنًا بعد الهجرة إلى المدينة. وسيأتي زمان سيدعو فيه الرسول زعماء العالم جميعًا إلى الإسلام وذلك بعد صلح الحديبية. هذا الكلام في غاية الأهمية فلا يستشهد بفعل من أفعال الرسول والظروف مختلفة، وإلاَّ فلماذا كان هذا التنوع في سيرة النبي ، هذا التنوع ما هو إلا ليتعلم المسلمون الحكمة. وأعني بالحكمة القدرة على تقليد النبي في أقواله وأفعاله عند تشابه الظروف. الرسول هو الرسول لم يتغير، الإسلام هو الإسلام لم يتغير أيضًا، ولكن اختلاف الظروف يستلزم تغييرًا في طريقة إيصال الدعوة للناس، يستلزم فقهًا للمرحلة. قواعد للدعاة
إذن نخرج بقاعدة مهمة من موقف رسول الله عند بدء الدعوة، وهي أن الدعاة مطالبون بالحفاظ على أنفسهم وعلى حياتهم، لا لخوفهم من الموت، فالموت في سبيل الله في حد ذاته غاية ومطلب وهدف، ولكن حفاظًا على الدين وعلى الإسلام وعلى استمرار المسيرة. ونفهم من هذا الكلام الحكم الفقهيّ المشهور وهو أنه يجوز للجيش المسلم أن يفر من مثليه، ويوجد في كتب الفقه باب جواز الفرار من المثلين كما يقول الحق تبارك وتعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66].
فلو كان عدد الأعداء أكثر من الضعف يجوز القتال ويجوز الفرار، حسب ما يرى القائد كما قال بذلك الفقهاء.
لأن احتمال الهلكة كبير، إلا إذا غلب على ظن القائد أنهم سينتصرون فيجوز له القتال، بل إن الإمام مالك رحمه الله قال: إنه يجوز الفرار من المثل، وليس من المثلين إذا كان العدو أعتق جوادًا وأجود سلاحًا وأشد قوة وغلب على الظن الهلكة.
ويوضح العز بن عبد السلام هذا الأمر بصورة أكبر فيقول: إذا لم تحصل النكاية في العدو وجب الانهزام، لما في الثبوت من فوات النفس مع شفاء صدور الكافرين. سيموت المؤمن ولن يحدث أثرًا في الكافرين، بل سيزيد الكفر. بل إنه يقول: وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة. يعني يأثم المسلم بإظهار نفسه إذا كان الاختفاء هو الألزم للمرحلة، ويأثم المسلم إذا ثبت إذا كان الانسحاب هو الألزم للمرحلة.
بين الحكمة في الحفاظ على الدعوة والجبن
فقه ووعي وإدراك لسلوك الرسول ، وأسلوبه في التعامل مع كل ظرف، ولكن هنا لا بد من ملاحظتين مهمتين: الملاحظة الأولى: هي أن الفارق بين الحكمة في الحفاظ على النفس، وبين الجبن شعرة، وقد يدعي الإنسان أنه يحافظ على نفسه؛ لأن المرحلة تتطلب ذلك، فلا يتكلم الحق، ولا يجاهد، ولا يدعو إلى الله، ولا يقوم بعمل في سبيل الله، بينما الدافع الحقيقي من هذا الركون هو الخوف من مواجهة الباطل، فالفرق بين الحكيم الذي يتبع الرسول والجبان الذي لا يريد حمل الدعوة هو سيرة الرسول . فنرجع في ذلك إلى دليل شرعي من سيرة النبي ، يدل على أن هذا الموقف يشبه موقف الرسول لما أخذ النبي بمبدأ السرية. ونرجع في ذلك أيضًا إلى ورع وإيمان وتقوى الفرد العامل، والله مطلع على القلوب، وفي النهاية أنت تتعامل مع الله . وأهم من ذلك أيضًا الرأي المشار إليه من قبل القائد والجماعة والشورى.
فالقائد في هذه المرحلة هو النبي أو من ينوب مكانه، والشورى كذلك في غاية الأهمية، ومن الممكن بعد ذلك أن يخرج عامل الهوى، ونستطيع أن نفرق بين الحكيم والجبان. الملاحظة الثانية: الذي يراعى في ذلك هو مصلحة المسلمين والإسلام عمومًا، وليس مصلحة الفرد، بمعنى أن هلاك الفرد قد يكون محققًا، ولكن هذا في مصلحة المجموع، فهنا لا يلتفت إلى الحفاظ عليه في نظير الحفاظ على الدين عمومًا، أو على الأمة بصفة عامة، أو المصلحة بصفة عامة.
كما سيأتي بعد ذلك عند إعلان الرسول الدعوة بعد ثلاث سنوات، ووجود خطورة حقيقية على النبي ، لكن المصلحة العامة للدعوة أن يعلن الدعوة، وكما سيرسل مصعب بن عمير إلى المدينة؛ لتعليم أهلها الإسلام رغم المخاطر التي تحيط به في المدينة، واحتمال قتله لأن المسلمين قلة، ويوجد بالمدينة يهود ومشركون، ولكن المصلحة المتحققة أعلى، وهذا من الممكن أن يقال في العمليات الاستشهادية التي نراها في فلسطين وفي غيرها؛ لأن هلاك الفرد فيها محقق، ولكن المصلحة أعلى، والمرجعية في كل ذلك كما ذكرنا لرأي القائد والشورى وليس لرأي الفرد لئلاَّ يدخل الهوى، مع العلم أن الهوى أحيانًا يكون في الهلكة، بأن ييئس الإنسان من ظلم الظالمين أو غلبة الكافرين، فيسارع بقتالهم أو إظهار نفسه في مكان ووقت لا يسمحان بذلك، قد يكون ذلك هوى في قلب الإنسان بينما تأمر الشورى بالحفاظ على النفس، فالرجوع إلى الشورى أو إلى قائد المسلمين أمر في غاية الأهمية. إذن الرسول والمسلمون في الثلاث السنوات الأولى كانوا لا يتحدثون بالإسلام إلى الناس إلا سرًّا، يختارون رجلاً من الناس يتحدثون إليه بأمر هذا الدين.