الدعوة الإسلامية بين الغربة الأولى والتمكين
قبل خوض غمار كتابة هذه الكلمات، لا بد لنا من البصيرة أولا بالتاريخ الماضي، تاريخ صدر الإسلام، وما كان فيه من وقائع وأحداث؛ حتى يتبين لنا كيف بدأت دعوة هذا الدين مسيرتها في التاريخ، وكيف مكن الله تعالى لهذه الأمة في تلك الحقبة الشديدة حقًّا، وكيف كتب الله لها النصر والظفر بحركة ودعوة النبي - صل الله عليه وسلم.
لأن الإسلام بطبيعته يمر بين مرحلتين من الغربة في بداية ظهوره وأول أمره، وبين عودته للقيادة والريادة في آخر الزمان، كما جاء في الحديث المعروف المحفوظ عند الإمام مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صل الله عليه وسلم-: ((بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ)).
وقد بينت أحاديث أخرى صفات أهل الغربة الثانية؛ منها: أنهم يصلحون إذا فسد الناس، ويصلحون ما أفسده الناس، فهم بهذا الصالحون المصلحون، الذين يتلمسون خطى منهاج النبوة الأولى، في محاولة صادقة منهم بإعادة الناس إلى أول أمرهم.
وقد جاءت كتب السيرة والسنة والتاريخ بذلك، فالغربة الأولى للإسلام قد مُحيت ببعثة النبي -صل الله عليه وسلم- والتمكين له ولأصحابه - رضي الله عنهم - وبَقِيت الآن الغربة الثانية لعودة هذا الدين من جديد، وعودة منهجه إلى حياة الناس وواقعهم، وهذا أمر يأخذ من الجهد والبذل والتضحية والثبات الشيء الكثير والكبير، ولكن مع الصدق والمجاهدة تؤتي دعوة الإسلام ثمارها بإذن الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت:69].
ولا بد هنا بداية من الوقوف أمام مظاهر الغربة الأولى للإسلام في صفحة من صفحات تاريخ هذه الدعوة المشرق، لنعود بعدها إلى واقعنا المعاصر، ونتأمل أين الطريق، وأين المخرج لهذه الأمة اليوم؟
أولاً: نظرة على الواقع الجاهلي:
المستقرئ للسيرة النبوية وواقع الجزيرة العربية قبل البعثة المحمدية وبعدها، يلمَح الفارق الكبير بينهما، ويقف في اندهاش لما يراه من عظمة البناء الإسلامي، والتعليم النبوي، الذي أقامه الله تعالى لهذا الدين بالتمكين له، وجعله منهج حياة إسلامي، بعد أن ولت الجاهلية على أدبارها بما تحمله من عقائد وشركيات وثنية، وبما تحمله من تصورات ومعاملات وأخلاق وتشريعات جاهلية.
وكتب السيرة والتاريخ سطر فيها حال الجاهلية كلها، وما وصلت إليه البشرية آنذاك من انتكاس في الفطرة، وانحطاط في الإنسانية، وتقديس للآلهة المصنوعة العاجزة، لقد عاش العرب في مثالب الجاهلية يرتعون، وفي ظلمات الشرك والوثنية يعمهون، وخلف شهواتهم ورذائلهم ينكبون، هذا هو زمان البعثة المحمدية حقًّا جاهلية وأية جاهلية.
وكما قال أبو الحسن الندوي - رحمه الله تعالى -:
"بعث محمد بن عبدالله -صل الله عليه وسلم- والعالم بناء أصيب بزلزال شديد هزه هزًّا عنيفًا، فإذ كل شيء فيه في غير محله، فمن أساسه ومتاعه ما تكسر، ومنه ما التوى وانعطف، ومنه ما فارق محله اللائق به وشغل مكانًا آخر، ومنه ما تكدس وتكوم، نظر إلى العالم بعين الأنبياء فرأى إنسانًا قد هانت عليه إنسانيته، رآه يسجد للحجر والشجر والنهر، وكل ما لا يملك لنفسه النفع والضر.
رأى إنسانًا معكوسًا قد فسدت عقليته، فلم تعد تستسيغ البديهيات، وتعقل الجليات، وفسد نظام فكره، فإذا النظري عنده بديهي وبالعكس، يستريب في موضع الجزم، ويؤمن في موضع الشك، وفسد ذوقه فصار يستحلي المُر، ويستطيب الخبيث، ويستمرئ الوخيم، وبطَل حسه، فأصبح لا يبغض العدو الظالم، ولا يحب الصديق الناصح.
رأى مجتمعًا هو الصورة المصغرة للعالم، كل شيء فيه في غير شكله أو في غير محله، قد أصبح فيه الذئب راعيًا، والخَصم الجائر قاضيًا، وأصبح المجرم فيه سعيدًا حظيًّا، والصالح محرومًا شقيًّا، لا أنكر في هذا المجتمع من المعروف، ولا أعرف من المنكر، ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية، وتسوقها إلى هُوَّة الهلاك.
رأى معاقرة الخمر إلى حد الإدمان، والخلاعة والفجور إلى حد الاستهتار، وتعاطي الربا إلى حد الاغتصاب واستلاب الأموال، ورأى الطمع وشهوة المال إلى حد الجشع والنهامة، ورأى القسوة والظلم إلى حد الوأد وقتل الأولاد، رأى ملوكًا اتخذوا بلاد الله دولاً، وعباد الله خولاً، ورأى أحبارًا ورهبانًا أصبحوا أربابًا من دون الله، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله، رأى المواهب البشرية ضائعة أو زائغة، لم ينتفع بها ولم توجه التوجيه الصحيح، فعادت وبالاً على أصحابها وعلى الإنسانية، فقد تحولت الشجاعة فتكًا وهمجية، والجواد تبذيرًا وإسرافًا، والأنَفة حَميَّة جاهلية، والذكاء شطارة وخديعة، والعقل وسيلة لابتكار الجنايات، والإبداع في إرضاء الشهوات.
رأى أفراد البشر والهيئات البشرية كخامات لم تحظَ بصانع حاذق، ينتفع بها في هيكل الحضارة، وكألواح الخشب لم تسعد بنجار يركب منها سفينة تشق بحر الحياة، رأى الأمم قطعانًا من الغنم ليس لها راعٍ، والسياسة كجمل هائج حبله على غاربه، والسلطان كسيف في يد سكران يجرح به نفسه، ويجرح به أولاده وإخوانه"[1]. ثانياً: ظهور دعوة الإسلام:
هذا هو النظام الجاهلي الأول، الذي كان يعِج بالهبوط الإنساني في كل شؤون حياته، وفقدانه لبدهيات الحياة المستقيمة السوية، لقد طال الفساد والخواء والضلال كل حياتهم، واستحال التغيير والإصلاح عند الكثير منهم، لكن يأبى الله إلا أن يتم نوره على العالمين، وتشرق أضواء نوره وشريعته على هذه القلوب الغارقة في بحار من شهوات النفس والدنيا الفانية، والواقعة في مستنقع الرذيلة الآسن، فكانت البعثة الربانية والمحمدية، بعثة الإنقاذ والهداية لهذه البشرية الجاهلية التائهة.
كانت بعثة النبي محمد -صل الله عليه وسلم- تغييرًا حقيقيًّا وكبيرًا لم يشهد مثله على طول التاريخ البشري كله، وما هذا إلا لأن مشركي جزيرة العرب جمعت فيهم جل أدواء وأمراض الأمم السابقة لها، التي لم تجتمع لأمة قبلها، فكان الأمر جللاً، كيف الطريق إلى تخليص هؤلاء من جميع هذه الأمراض والأدواء القاتلة؟
ولكن شاء الله ذلك بحكمته وإرادته وقدرته؛ كما أخبر - سبحانه وتعالى - بذلك في كتابه العزيز: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33]، فكانت البعثة وبداية تنزل الوحي الرباني بغار حراء على النبي -صلى الله عليه وسلم- وكتب السنة والسِّيَر والتاريخ بيَّنت ذلك ودوَّنته، فقد كان فتحًا من الله تعالى ومنَّة على هذه البشرية كلها، فقام النبي -صل الله عليه وسلم- يدعو إلى هذه الرسالة الربانية، فاستجاب له بعض من الناس أول الأمر لتصديقهم له قبل البعثة، ويقينهم في دعوته.
فبدأ التكوين النبوي لجيل هذه الدعوة، ورعيلها الأول من خيار الصحابة - رضي الله عنهم - وكان ذلك باصطفاء من يدعوهم للإسلام، وقوة تأثيرهم على أفراد ذلك المجتمع الجاهلي؛ يقول أبو الحسن الندوي - رحمه الله تعالى -: "لقد وضع محمد -صل الله عليه وسلم- مفتاح النبوة على قفل الطبيعة البشرية، فانفتح على ما فيها من كنوز وعجائب وقوى ومواهب، أصاب الجاهلية في مقتلها أو صميمها، فأصمى رميته، وأرغم العالم العنيد بحول الله على أن ينحو نحوًا جديدًا، ويفتتح عهدًا سعيدًا، ذلك هو العهد الإسلامي الذي لا يزال غرة في جبين التاريخ"[2]. ثالثًا: غربة الإسلام الأولى:
ولكن مع بزوغ شمس الإسلام للوهلة الأولى وإشراقها على أرض الجزيرة المظلمة القاتمة بالشرك والضلال، وبزوغ رسالة الدعوة الإسلامية لهداية الخلق إلى توحيد خالقهم وإفراده بالعبادة وحده، بدأت الجاهلية الأولى بإعلان العداوة لهذا الدين، وإعلان الحرب الكبيرة على هذه الدعوة الإسلامية الجديدة، التي تريد هدم صرح الجاهلية، وهدم كل معتقداتها وتشريعاتها الباطلة وما تحمله من تصورات وأفكار.
فبدأت قريش أولاً وهم أقرب الناس إلى النبي -صل الله عليه وسلم- بإعلان رفضها وعنادها لهذه الدعوة التي جاء بها ابنها، مع أنهم جميعًا كان بينهم بقايا من الحنفاء ومن أهل الكتاب؛ أمثال: زيد بن عمرو بن نُفيل، وورقة بن نوفل، ولكن هؤلاء ما كانوا يلقون شيئًا من أذاهم ولا عنادهم ومكابرتهم.
لكن الموقف هذا تغير تمامًا تجاه دعوة الإصلاح والهداية دعوة الإسلام، فشعر المسلمون الذي آمنوا بهذا الدعوة واتبعوا رسولها بشيء كبير من الغربة بين هؤلاء القوم، فلم يعودوا لهم أولياءَ ولا أنصارًا، بل تحولت إلى نوع من العداء والاعتداء على الأموال والأبدان بالتنكيل والتعذيب المفرط.
وبدأ المشركون في طريق جديد من الغضب والمقت على دعوة النبي -صل الله عليه وسلم- ومن اتَّبعه وآمن به وبرسالته، لقد سلكوا كل طريق لصد الناس عن الإيمان بالله ورسوله، وما تركوا أسلوبًا ولا طريقًا إلا سلكوه ضد دعوة الإسلام.
فمن ذلك: ما جاء في تاريخ السيرة النبوية وكتبها من السخرية والاستهزاء والتكذيب بدعوة النبي -صل الله عليه وسلم- وبأتباعه وأصحابه - رضي الله عنهم - وتصوَّر معي هذه الغربة الموحشة في قلوب الصحابة؛ حيث السخرية بهم وبنبيهم ورسالته وكتابه، والقرآن ذكر شيئًا كثيرًا من ذلك؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الحجر: 6]، وقوله تعالى: ﴿ وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ [ص: 4]. وقوله تعالى: ﴿ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾ [القلم: 51].
ولا ريب أن كل هذا سُنة من سنن الله تعالى التي وقعت في الأمم الخالية قبلنا؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ﴾ [الأنعام: 10].
ومن ذلك: صد الناس عن سماع القرآن ودعوة النبي -صل الله عليه وسلم- ولما جاء به، واتهام القرآن والرسول بأنه ساحر وكذاب وكاهن وشاعر إلى آخر هذه السلسلة البائسة من التهم العريضة لأهل الإيمان والحق؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26].
ومن ذلك: التعذيب والتنكيل لأصحابه والمؤمنين به المتبعين له، فلقد عذب كثير من الصحابة - رضي الله عنهم - من أمثال سيدنا بلال بن رباح، وعمار بن ياسر وأبيه وأمه الذين قضوا نحْبهم في سبيل الله تعالى، ومصعب بن عمير، وصهيب بن سنان الرومي، وأبو فكيهة أفلح الذي كان مولى لبني عبدالدار، وخباب بن الأرَت، وزنيرة أمة رومية التي أسلمت ثم عمي بصرها، ثم شفيت، فقالوا: سحر محمد، وأبي بكر الصديق - رضي الله عنهم جميعًا، وغيرهم كثير ممن آمنوا في طليعة الدعوة الإسلامية.
ومن ذلك أيضًا: إثارة الشبهات الباطلة الكاذبة حول القرآن والرسول، وأنه ما هو إلا بشر مثلهم، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج وينام؛ كما حكى القرآن عنهم ذلك قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُورا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيما ً* وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرا ً* أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُورا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ﴾ [الفرقان: 4-9].
واتَّهموه بالسحر والشعر والكهانة والجنون، وما كل ذلك إلا ليصدوا عنه الناس وعن أتباعه، وتصديقه في رسالته ونبوته، وكذبوا البعث بعد الموت والخروج من القبور، وغير ذلك مما حكاه الله لنا في كتابه العزيز.
ومنها أيضًا: تقديمهم الإغراء والعروض الرخيصة من تولية الملك والسلطان عليهم، وجلب المال له ولأصحابه وجعلهم من أئمة الثراء والغناء بينهم، وتزويجه بالنساء والتمتع بهن على الفُرش، وشفائه من أمراضه وعلله، إن كان الذي نزل به من الأدواء وأنواع السحر.
حقًّا إنه السفه البشري الذي أضلَّ العقول والقلوب عن هذا النور والحق، وعن هذا البيان الشافي الهادي الواضح، وعن هذا الإعجاز البيِّن القاهر، لقد غلب عليهم الكفر والمعاندة للحق، والجحود والتكذيب مع كمال علمهم بأنه الصادق الأمين، ولكنها السنن الربانية الجارية في الكون لحكمة يريدها الله تعالى، للتمكين لهذا الدين، والتمهيد الرباني لظهوره على سائر الأديان من دونه والنحل الجاهلية المعاندة.
ومنها أيضًا: محاولاتهم المتكررة لقتل النبي -صل الله عليه وسلم- ومطاردته ونفْيه، واجتماع قريش على ذلك؛ بغية الوصول إلى شيء من التصدي لمد هذه الدعوة الجديدة عليهم، الزاحفة إلى قلوبهم، وذلك بما تحمله من عقيدة ساطعة مبرهنة، وأدلة ربانية لا يكابر العقل الرشيد فيها، وقد أثبت القرآن المنزل كل ذلك؛ ليكون لنا العظة والعبرة من أعداء الدعوة وأصحابها في كل زمان ومكان؛ كما قال تعالى في سورة الأنفال: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [3]. رابعًا: عوامل الثبات والتمكين:
ومع تنوع أساليب الجاهلية في مدافعة الحق والغلبة عليه، إلا أن الله ثبت نبيه ورسوله، وثبت الصحابة الذين آمنوا معه، وصدقوا نبوته ورسالته، ثبتهم لا لأنهم أصحاب الثروات والأموال، ولا لأنهم من ذوي الجاه والسلطان، ولكن ثبتهم لعدة عوامل جليلة وجدت في هذا الجيل المؤمن:
وأولها: أنهم أصحاب عقيدة صادقة، وإيمان لا تزعزعه الرياح والأعاصير من الشهوات والشبهات، ولأنهم أيقنوا أن هذا الدين هو فطرتهم التي تصرخ في أعماق نفوسهم أنه لا إله إلا الله وحده، لا يشاركه ولا ينازعه في ربوبيته ولا ألوهيته منازع أو شريك.
ولأنهم جعلوا التوحيد طريقهم إلى الله والدار الآخرة، وجعلوا إفراد الله وحده بالعبادة من الذبح والنذر والطواف وغيرها أحق وأجدر؛ لأنه المعبود المستحق لذلك، فلا شريك له، ولا منازع له، ولا مماثل ولا مكافئ له.
وثبتهم لما رأى الإيمان خالط بشاشة قلوبهم، فأضاء لها الطريق من جديد إلى الله المعبود - سبحانه.
وثانيها: أن الله علم منهم صدق المتابعة والاستجابة لله ورسوله -صل الله عليه وسلم- فلقد آمنوا بالله ورسوله، وصدقوه وتابعوه بمجرد الوقوف معهم، بإثبات حقيقة الباطل الذي عليه أمر الجاهلية، وأنها عبدت من دون الله ما لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، من الأصنام والأحجار والأوثان، وما إيمان أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وإسلامه من ذلك ببعيد.
وثالثها: إعراضهم عن زينة الحياة الدنيا وزهدهم فيها، فلم يكونوا ممن يريدون شيئًا من متاع الدنيا وزُخرفها، ولا مُتعها وقصورها، بل ادخروا ذلك النعيم عند ربهم في الدار الآخرة، وطلبوا رضوانه بذلك، ففتح لهم كنوز الأرض.
ورابعها: الكتاب المُنزل القرآن الذي ملأ قلوبهم معرفة بالله وإجلالاً له، وتعرفًا على أسمائه وصفاته، وبيان وعد الله لهم بما أعده لأولياه وعباده في الدار الآخرة في جنات النعيم، من الثواب العظيم، والنعيم الخالد المقيم، وترغيبهم فيها، وذكر بعض ما فيها من اللذات والفرش والنظر إلى وجه الله - جل جلاله - فقاموا يتلون ويتدبرون هذا الكتاب، وقاموا به ليلهم متهجدين عابدين، حتى تورمت أقدامهم بذلك أول الأمر، وكتب السنة فيها من ذكر القيام والتلاوة شيء كثير.
وخامسها: اليقين القلبي الذي أوقعه النبي -صل الله عليه وسلم- في نفوسهم بأن الله سيمكن لهم، ويبدل خوفهم أمنًا وسلامًا، ويجعل العاقبة لهم.
فبشَّرهم ووعدهم، وجعل الأمل يدب في قلوبهم، فما كذبوا على استضعافهم، ولا نكلوا على قلتهم، بل صدقوا وثبتوا حتى يأتي أمر الله: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾، بشر عمار بن ياسر، وبشر سراقة بن مالك، وبشر خباب بن الأرت وغيرهم، فأيقنوا وصدقوا[4]. خامسًا: البناء والتمكين:
لكل هذه العوامل والمبادئ وغيرها ثبت الصحابة - رضي الله عنهم - ثباتًا ليس له في تاريخ البشرية مثال سابق بهذه الصورة الجليلة الرائعة، ولقد رأينا ثبات بعض الأمم؛ كأمثال القلة المؤمنة من بني إسرائيل مع نبي الله موسى - عليه السلام.
لكن ثبات الصحابة كان له صورة أخرى نشأت عن كمال الإيمان والتصديق بالله ورسوله، فلما ثبت النبي -صل الله عليه وسلم- ومن معه من جيل الدعوة الأول، وصبروا على الكيد والمكر، والصد والاستهزاء، والإعراض والإغراء، وتركوا كل متاعهم وأموالهم، بل ونساءهم وأبناءَهم وعشيرتهم لله ورسوله، وكانوا مثالاً واقعيًّا للثبات على المبادئ والحق، والتضحية الصادقة من أجله ونُصرته.
لما كان هذا حالهم، مكن الله لهم في الأرض، وأذِن لهم بالتمكين الموعود لأهل الحق والإيمان، والتوحيد والمتابعة، فلقد أذِن لهم بالهجرة إلى المدينة ولرسوله، تمهيدًا لعالم ومجتمع إسلامي جديد، مجتمع لا يعرف الجاهلية، ولا يعرف الشرك والوثنية، ولا يعترف بألوهية المخلوقات، ولا بفساد المعاملات، ولا بقيام الحروب والعداوات من أجل لا شيء، ولا يستمد شرائعه وأخلاقه من تصورات بشرية، أو عقائد وأفكار رومانية أو نصرانية، مجتمع لا تتملقه النفوس الدنيئة من أصحاب الشهوات الرخيصة.
لقد أزالت الهجرة كل ذلك، فالهجرة تجبُّ ما قبلها، لقد قام صرح شامخ للإسلام ودعوته بعد عدة محاولات للهجرة والبناء للحبشة، وزالت غربة الإسلام والرسالة الأولى، ولم تعد غريبة على أرض الجزيرة، بل ظهرت كالشمس المنيرة في رابعة النهار، وعلا صوت الحق والإيمان على أبواق الجاهلية الخاوية.
زالت الغربة بهذا التمكين، الذي قام على أكتاف خيرة البشر بعد الرسل، إنهم أصحاب الرسول وأتباعه، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه: ﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23].
وكما جاء في الحديث النبوي: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا؛ فطوبى للغرباء".
لقد كان الإسلام ودعوته غريبًا على عادات وتصورات وعقائد الجاهلية، كان غريبًا في عقيدته وتوحيده: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 5].
وكان غريبًا في نظامه وشريعته: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 161 - 163].
وكان غريبًا في أخلاقه: {﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 103].
وكان غريبًا في كل شؤونه وأحكامه: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].
وكان غريبًا في سياسته وحكمه: ﴿ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ ﴾ [المائدة: 49]، ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].
وكل هذا البناء الشامخ كان السبب في انقلاب الجاهلية بكل مقوماتها وتصوراتها وعقائدها على الدعوة الإسلامية، والوقوف بينها وبين الناس وإيمانهم بها؛ يقول أبو الحسن الندوي - رحمه الله -: "والتَقى أهل مكة بأهل يثرب، لا يجمع بينهم إلا الدين الجديد، فكان أروع منظر لسلطان الدين شهده التاريخ.
وكان الأوس والخزرج لم ينفضوا عنهم غبار حرب بُعاث، ولا تزال سيوفهم تقطر دمًا، فألَّف الإسلام بين قلوبهم، ولو أنفق أحد ما في الأرض جميعًا ما ألَّف بين قلوبهم، ثم آخى رسول الله -صل الله عليه وسلم- بينهم وبين المهاجرين، فكانت أخوة تزري بأخوة الأشقاء، وتبذ كل ما روي في التاريخ من خلة الأخلاء.
كانت هذه الجماعة الوليدة - المؤلفة من أهل مكة المهاجرين وأهل يثرب الأنصار - نواة للأمة الإسلامية الكبيرة التي أخرجت للناس ومادة للإسلام، فكان ظهور هذه الجماعة في هذه الساعة العصيبة وقاية للعالم من الانحلال الذي كان يهدده، وعصمة للإنسانية من الفتن والأخطار التي أحدقت بها؛ لذلك قال الله تعالى لما حض على الأخوة والألفة بين المهاجرين والأنصار: ﴿ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ [الأنفال: 73][5]. هذه إشارات سريعة للوقوف على واقع الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين في بداية العصر الإسلامي النبوي الأول، وكيف استطاع النبي -صل الله عليه وسلم- صياغة جيل الدعوة الفريد، من مرحلة البناء والتكوين إلى مرحلة القيادة والتمكين، إنه منهج فريد حقًّا في كل مقوماته وإنجازاته.
[1] انظر: ماذا خسر العالم؛ لأبي الحسن الندوي (77-87).
[2] انظر: ماذا خسر العالم؛ لأبي الحسن الندوي (82).
[3] انظر: الرحيق المختوم؛ لصفي الرحمن المباركفوري.
[4] انظر: الرحيق المختوم؛ لصفي الرحمن المباركفوري.
[5] ماذا خسر العالم (82).