التصوف بين السنة والبدعة.. نظرة عن كثب (1)
عماد الدين الزرقان
كثيرا ما نسمع عن التصوف وكثيرا ما يقال فلان من العلماء المسلمين الكبار صوفي كالغزالي مثلا، فما هو التصوف، ومن أين جاءت التسمية، وهل التصوف ينطبق مع مفهوم الإسلام الصحيح، وما هي أقوال كبار الصوفية عن التصوف، وهل واجه التصوف انحرافا وهل يمكن القول إن التصوف منه ما هو صحيح ومنه ما هو مزيف، أو منه ما هو سني ومنه ما هو بدعي، وما موقف علماء أهل السنة من التصوف؟
ولنبتدأ القول في اسم التصوف من أين ظهرت هذه التسمية وما هو أصلها، فقد اختلف الباحثون وعلماء الصوفية في مصدر الاسم، فالبعض يقول هو من الصوف، ولهذا يقال: تَصوَّف إذا لبس الصوف، كما يقال: تقمص إذا لبس القميص، وقيل إنه مشتق من الصفاء، فاشتقاق الصوفي من الصفاء وأن الصوفي هو من صفا فصوفي حتى قيل..
ولست أنحل هذا الاسم غير فتى *** صافى فصوفي حتى سمي الصوفي
وقالوا إنه مشتق من الصف، فكأنهم في الصف الأول في معاملة القلوب، وقيل هو من الصُفّة؛ وهي المكان الذي كان يجلس فيه فقراء الصحابة زمن النبي صلـى الله عليه وسلم في مسجد المدينة.
وقيل من قال إنه من (الصُوفَة)؛ لأنه مع الله كالصوفة المطروحة لا تدبير له، وقيل أنه من (صُوفَة القفاـــ وهي خصلة الشعر على مؤخرة الرأس) للينها، فالصوفي هين لين كهي، وفي قول أنه من (الصِفَةِ) إذ جملته اتصاف بالمحامد وترك الأوصاف المذمومة.
ويرى شيخ الصوفية، أبو نصر السراج الملقب بطاووس الفقراء في كتابه "اللُمع" وهو أقدم كتاب يصل إلينا في التصوف 378ه في باب الكشف عن اسم الصوفية، ولمَ سمو بهذا الاسم، ولمَ نسبوا إلى هذه اللبسة فقال:"نسبوا إلى ظاهر اللبسة، لأن لبسة الصوف دأب الأنبياء عليهم السلام وشعار الأولياء والأصفياء"، إذن فهو يرجّح أن لبس الصوف هو سبب تسميتهم صوفية.
وهذا ما رجحه الباحث الفيلسوف البروفيسور عبد الرحمن بدوي حيث يقول إن اشتقاق اسم الصوفية من لبس الصوف أرجح الآراء.
ولكن يرى إمام الصوفية عبد الكريم بن هوازن أبو القاسم القشيري في كتابه الرسالة القشيرية أنه ليس اسما مشتقا بل هو لقب على هذه الطائفة، فقال:" ليس يشهد لهذا الاسم من حيث العربية قياس ولا اشتقاق. والأظهر فيه: أنه كاللقب ... ثم هذه التسمية غلبت على هذه الطائفة؛ فيقال: رجلٌ صوفي، وللجماعة صوفيَّة، ومن يتوصل إلى ذلك يقال له: متصوف، وللجماعة: المتصوفة ... ثم إن هذه الطائفة أشهر من أن يحتاج في تعينهم إلى قياس لفظ واستحقاق اشتقاق".
ورد على القائلين بأنه نسبة للبس الصوف فقال:" لكن القوم لم يختصوا بلبس: الصوف!!" ولكن ذهب الفقيه المالكي الصوفي أحمد بن أحمد البرنسي الفاسي المعروف بـزرّوق إلى أنه منقول من "الصِفَة" فالتصوف هو وصف من ناله سمي صوفي، وقال:" وهذا هو الأصل الذي يرجع إليه كل قول فيه، والله أعلم".
وأول ما ظهر هذا اللقب في القرن الثاني الهجري، وهذا ما يذهب إله السرّاج، لأن هذا الاسم كان يعرف في زمن الحسن البصري رضي الله عنه، فقد روى السرّاج أن الحسن البصري قال :"رأيت صوفيا في الطواف فأعطيته شيئا فلم يأخذه، وقال: معي أربعة دوانق فيكفيني ما معي" كما يروى عن سفيان الثوري أنه، قال:"لولا أبو هاشم الصوفي ما عرفت دقيق الرياء".
ويرى الصوفي عبد الرحمن الجامي من مشاهير شعراء فارس وكتابهم في القرن التاسع الهجري في كتابه نفحات الأنس؛ أن أول من حمل اسم صوفي هو أبو هاشم الكوفي الذي عاش في النصف الأول من القرن الثاني، ويقول القشيري إن هذا الاسم انتشر قبل سنة مائتين للهجرة.
لكن الذي رجحه الأستاذ بدوي أنه اشتهر في النصف الثاني من القرن الثالث حيث يقول:"ليس لدينا روايات كتابية وثيقة من القرنين الأول والثاني ورد فيها اسم الصوفي ولعل أقدم ما وصلنا من المؤلفات ذكرت اسم الصوفي والصوفية هو كتاب "البيان والتبيان" للجاحظ المتوفى سنة 250 أو255 ه، إذ يذكر الصوفية النساك ويورد أسماء من عرف بالفصاحة منهم".
ولكن كل من كتب في التصوف وتاريخه حتى الجاحظ يذكر أبا هاشم الصوفي ـــــ وهو في زمن سفيان الثوري المتوفى سنة 161ه ـــــ، أي كانت هذه اللفظة وهذا الاسم معروفا في القرن الثاني الهجري.
ولكن لم لم يعرف هذا اللقب عند الصحابة والتابعين؟
يقول القشيري في ذلك:"أن المسلمين بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: لم يتسمّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم، سوى صحبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، إذ لا فضيلة فوقها، فقيل لهم: الصحابة.
ولمَّا أدركهم أهل العصر الثاني سمى من صحب الصحابة: التابعين ورأوا في ذلك أشرف سِمة ثم قيل لمن بعدهم: أتباع التابعين، ثم اختلف الناس، وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس مِمَّن لهم شدة عناية بأمر الدين: الزّهاد والعُباد، ثم ظهرت البدع، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادَّعوا أن فيهم زهاداً.
فانفرد خواصُّ أهل السُّنة المراعون أنفسهم مع الله تعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الفعلة باسم التصوف".
ونشير أخيرا إلى أن الصوفية قد سموا أنفسهم وعرف عنهم اسم آخر وهو "الفقراء" وهو اسم مشهور في كتبهم وإن ذهب الأستاذ عبد الرحمن بدوي إلى خلاف ذلك، يقول السراج :"إن أهل الشام يسمون الصوفية بالفقراء".
ما هي حقيقة التصوف؟
إن الأمر الآخر الذي سنتناوله بالبحث هو حقيقة التصوف ومعناه، وقد حد التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ نحو الألفين، كما قال الإمام زروق، قال الإمام أبو حامد الغزالي:"أما التصوف فهو عبارة عن تجرد القلب لله تعالى واستحقار ما سوى الله، وحاصله يرجع إلى عمل القلب والجوارح، ومهما فسد العمل فات الأصل".
وإليك طائفة من أقوال القوم في تعريفه، قال النوري، رحمه الله التصوُّف:"ترك كل حظ للنفس"، وسئل أبوعمرو بن نجيد عن التصوف فقال:"الصبر تحت الأمر والنهي"، قال الكتاني:"التصوف خُلق، من زاد عليك بالخلق، فقد زاد عليك في التصوف"، قال الأستاذ أبو سهل الصعلوكي:"التصوف الإعراض عن الاعتراض"، وقال الجريري:"التصوف مراقبة الأحوال، ورومُ الأدب"، وقال المزين:"التصوف الانقياد للحق".
قال زروق في قواعده:"وكل هذه التعريفات ترجع إلى صدق التوجه إلى الله تعالى، وإنما هي وجوه فيه، فأشعر كلامهم أن من له نصيب من صدق التوجه، له نصيب من التصوف، وأن تصوف كل أحد صدق توجهه، فافهم".
فتعريف التصوف قد تبين لنا وهو صدق التوجه إلى الله وإخلاص القلب وتجريده عما سوى الله وتزكية النفس عن كل خلق ذميم، وهذا هو تصوف أهل السنة، وما ذكرناه هو التصوف النقي الصافي عن الكدورات الذي لم يتغبش بشيء يخرجه عن مقصوده الأول، وقد طرأ على التصوف بعض الكدر بل كثير حتى قيل إن شيخ التصوف لا تكاد تجده فهو كالكبريت الأحمر.
لذلك كثر المنتقدون له وما علموا أن التصوف الحق يجب اخراجه وإظهاره للناس وتنقيته كما فعل مجددوا التصوف كالقشيري والغزالي وزروق وغيرهم، قال الواسطي رحمه الله: كان للقوم إشارات.. ثم صارت حركات.. ثم لم يبق إلا حسرات!!
وبسبب هذا قال الإمام الغزالي رحمه الله، إن كثيرا من الناس تفسد عقيدته في أهل التصوف كافة ويظن أن جميعهم من جنس هؤلاء الذين كدروا التصوف، فيطوّل اللسان في الصادقين من أهله وكل ذلك من شؤم المتشبهين وشرهم، وقال الغزالي أيضا عن هؤلاء؛ أنهم ليسوا من الصوفية وإن تشبهو بهم كيف وهم لم يكلفوا أنفسهم بالعمل ومجاهدة النفس والرياضة ومراقبة القلب وتطهير الباطن والظاهر من الآثام الخفية والجلية، وكل ذلك من أوائل منازل التصوف، ولو فرغوا عن جميعها لما جاز لهم أن يعدوا أنفسهم في الصوفية، كيف ولم يحوموا قط حولها ولم يسوموا أنفسهم شيئا منها.
ومن أنواع الكدورات بل الانحرافات عن منهج التصوف السني هو الخروج عن قول الفقهاء المعتبرين، قال الإمام زروق:"قاعدة صدق التوجه مشروط برضا الحق .. ولا تصوف إلا بفقه"، ومن الانحرافات التي طرأت على التصوف الخروج عن قول أهل السنة في العقائد، قال زروق:"صدق التوجه مشروط بكونه من حيث يرضاه الحق تعالى وبما يرضاه ولا يصح مشروط بدون شرطه {ولا يرضى لعباده الكفر}، فلزم تحقيق الإيمان"، وقد ذكر الإمام القشيري عقائد الصوفية من أهل السنة في رسالته، وذكر الإمام الغزالي عقائد أهل السنة التي يجب أن يعتقدها المتصوف في إحيائه وسوف نتكلم عن هذه الكدورات والانحرافات في مقالات تأتي والله الموفق.