الدولة «المدنية» كما يفهمونها..!!
الأحد، 18 سبتمبر/أيلول، 2016
حسين الرواشدةحين تسمع هذه الصرخات التي تطالب بـ» الدولة المدنية «، اول ما يخطر الى بالك على الفور اننا نعيش تحت ظلال دولة دينية تتولى مسؤولية ادارتها حكومة من «المشايخ» واصحاب العمائم، وتطبق حدود الشريعة في الميادين العامة، وتدفع الناس الى الصلاة في المساجد قهرا، وهذا – بالطبع – غير صحيح على الاطلاق، فالدولة الاردنية – منذ نشأتها – دولة تستند في دستورها وقوانينها الى منطق يوازن بين دين الدولة الذي هو الاسلام وبين منطق « المدنية « الذي يتلاقى مع العلمانية المعتدلة .
لكن حين ندقق في خطاب اتباع مذهب «المدنية « في نسخته الاردنية الجديدة نجد انه ينطلق في الاساس من موقف مضاد للدين، يتوارى خلف دعوى المدنية لاقصاء الدين وحذفه من حياتنا العامة او لتحييده وحشره في الشأن الشخصي وفي المساجد فقط، وهو لا يفعل ذلك انتصارا لمبدأ المدنية، التي ينادي بها، وانما لدوافع سياسية محضة، لا علاقة لها بقيم الديمقراطية والعدالة وحكم القانون، ولا بحاجات المجتمع وازدهاره، بقدر ما تعكس نوعا من « الانتهازية « والبحث عن المصالح الشخصية والانتقام من النواميس والقيم التي شكلت ثقافة المجتمع الاردني وقامت على اساسها الدولة الاردنية .
لا خلاف مع دعاة « مدنية « الدولة في المبدأ، فنحن مع الدولة العادلة التي يتولى فيها الناس مسؤولياتهم تبعا لاختياراتهم، استنادا الى التجارب الانسانية التي توافقت على ان الديمقراطية افضل وسيلة للوصول الى السلطة، فالدين لا يحكم من خلال سلطة تفرض على الناس باسم الله، وعلماء الدين لا يتولون الشان العام الا ضمن خبراتهم وتخصصاتهم، ولا يجوز ان يقحموا الدين في السياسة، او ان يمارسوا سلطاتهم الدينية خارج اطارهم الديني والدعوي، وبالتالي لا يوجد منطق سليم يمكن اعتباره لتصديق «كذبة» وجود الدولة الدينية في بلادنا، فهي غير موجودة وليس لها تجربة يمكن انتقادها او التحذير مما فعلته سابقا او ما ستفعله لاحقا .
يمكن ان يقال هنا ان الدعوة المدنية جاءت في سياق المنافسة السياسية بين اليساريين والاسلاميين، خاصة في موسم الانتخابات، وهذا الطرح يبدو صحيحا، فورقة المدنية يمكن ان توظف في مثل هذه المناسبات، لكن اللافت هنا ان الطرفين لا علاقة لهما « بالمدنية « سواء في اطار الفكرة او التطبيق، فكلاهما يستند الى تراث طويل من التحالفات والمواقف والممارسات التي تتطابق مع « اللامدنية « سواء في المجال السياسي او الاقتصادي او الاجتماعي، واللامدينة تعني هنا باختصار الاحتكام الى منطق السلطة والغلبة وعدم الاعتراف بالاخر ورفص الديمقراطية وافتقار اخلاقيات الخصومة السياسية والانحياز الى الانظمة المستبدة والنظر الى الشعوب بازدراء واستهانة، ومن يتابع تجربة اليساريين من دعاة مدنية الدولة سيكتشف على الفور حجم التناقض بين ما يدعون اليه وما فعلوه ويفعلونه، خاصة بعد الربيع العربي الذي كان بمثابة « فضيحة « لكل النخب التي اشبعتنا كلاما عن الحرية والديمقراطية فاذا بها اسوا من الانظمة التي سقطت بارادة الناس في الميادين .
مع ذلك كله، كان يمكن ان اصفق بحرارة لدعاة الدولة المدنية، مهما كانت منطلقاتهم ونواياهم لو كانوا يمتلكون مشروعا وطنيا لا علاقة له بالحسابات الخارجية واجنداته، فانا انحني احتراما لليساري الوطني الاردني، كما انحني احتراما للاسلامي الاردني الوطني بشرط ان تكون هذه «المدنية « و «الإسلامية « نابعة من صميم الاردن و متطابقة مع حاجات الاردنيين وطموحاتهم ومنسجمة مع خصوصية المجتمع الارني وهويته وتراثه وتقاليده، وهدفها خدمة الدولة الاردنية والانحياز للعلم الاردني والوقوف صفا واحدا مع المعلم والجندي والفلاح، هؤلاء الذين يمثلون الاردن الحقيقي الذي لا يجوز ان يختلف عليهم احد .
مشكلة دعاة المدنية انهم يتصورن بلدنا وكانه يسبح بالمريخ ويتصورن الاردنيين وكانهم ينامون على انغام الموسيقى ويصحون على الشواطئ يمارسون متعة السباحة، او كأن الاردنيات لا يشغلهن الا صرعات الموضة والازياء، بمعنى انهم لا يعرفون طبيعة المجتمع ولا اولوياته وحاجاته ولا علاقته بالدين، وبالتالي فانهم يتقمصون المدنية، ( دعك من التوظيف المغشوش لها) للضحك على الذقون، مع انهم كما كشفتهم مواقفهم التي لا تزال في ذاكرة الناس حتى الان اكثر الناس بعدا عنها وكفرا بها.