دانيال بارنبويم: المايسترو الطيّب يحجب جرائم إسرائيل
عمل للتشكيلي الراحل برهان كركوتلي (1981)تلقّى الرأي العام العربي بارتياح نبأ إلغاء «مهرجان الدوحة للموسيقى والحوار» الذي كان مشرّعاً للاحتلال، تحت غطاء الفنّ. لكن قرار اللحظات الأخيرة تفادياً للإحراجات، في وقت باتت فيه قطر «سبونسور» الربيع العربي، لا يلغي النقاش حول التطبيع الثقافي والموسيقي الإسرائيلي الذي ورّطنا بـ«صداقته» المفكّر الراحل إدوارد سعيد
عمر البرغوثيإنّ
خبر إلغاء قطر لاستضافة موسيقيين إسرائيليين على ضوء «التطورات السياسية الراهنة في المنطقة العربية» ربما كان سيعتبر طبيعياً ولا يستأهل التوقف عنده لولا وجود ملف طويل من مظاهر التطبيع القطري- الإسرائيلي والعربي- الإسرائيلي المستمر في مجالات عدة، حتى في ظل الثورات الشعبية العربية. رغم كل شيء، رحبت «الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل» PACBI بهذا الإلغاء القطري للحدث التطبيعي وحثت الدول العربية على ترجمة موقفها الرسميّ المؤيد لحقوق الشعب الفلسطيني إلى سياسات ملموسة وفعالة لإنهاء مختلف أشكال التطبيع مع دولة الاحتلال والأبارتهايد والمساهمة في «الحملة العالمية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها»، المعروفة بـ
BDS.
لم نفاجأ عندما أعلنت قطر قبل أسابيع استعدادها لاستضافة عازف البيانو وقائد الأوركسترا الإسرائيلي دانيال بارنبويم في «مهرجان الدوحة للموسيقى والحوار» الذي ينطلق الاثنين ويرعاه «الحي الثقافي كتارا» بالتعاون مع «أوركسترا الديوان الغربي ـــ الشرقي» بقيادة بارنبويم.
وهي الأوركسترا التي
تفخر بكونها تضم موسيقيين إسرائيليين وعرباً، مناصفة تقريباً، وتهدف ـ علناً ــ إلى بناء جسور تطبيع بينهم من دون الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ومن دون رفض الاستعمار الاستيطاني والأبارتهايد الإسرائيلي. هذه المرة الرابعة التي تدعو فيها قطر الموسيقي الإسرائيلي المرموق، رغم
مواقفه الصهيونية العلنية التي ترفض احتلال 1967، لكنّها ترفض أيضاً عودة اللاجئين إلى ديارهم التي هُجروا منها إبان النكبة. وبذلك تسعى بذكاء، إلى تجميل صورة إسرائيل عبر تبني بعض الحقوق الفلسطينية مع رفض أهمها.
كيف يمكن لأي دولة عربية تعلن دعمها للشعب الفلسطيني في نضاله العادل من أجل التحرر والعودة وتقرير المصير أن تستقبل السياسيين والرياضيين والأكاديميين والفنانين الصهاينة كأنهم أشقاء؟ وكل هذا في ظل الثورات الشعبية العربية التي تدّعي بعض الحكومات العربية، ومن ضمنها قطر، دعمها (ولو بانتقائية غريبة)؟
كانت حملة المقاطعة قد وجّهت
نقداً صريحاً للسلطات القطرية لاستضافة «الديوان» في 2010 في نفس توقيت الذكرى الأولى لانتهاء العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة المحتل والمحاصر. اعتبرت الحملة تلك الاستضافة بمثابة «تبييض» ولو كان غير مقصود، لجرائم الاحتلال «من خلال مساعدته على إعطاء انطباع زائف بوجود علاقات طبيعية بين العالم العربي وإسرائيل رغم احتلالها وعنصريتها ومخالفتها المستمرة للقانون الدولي ولحقوق شعبنا».
ولا يقتصر الأمر على قطر بالتأكيد، ولا على التطبيع الفني. منذ توقيع اتفاقية أوسلو بين الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1993. خرج التطبيع العربي ــ الإسرائيلي إلى ما «فوق الطاولة»، بعدما كان تحتها لسنين طويلة. وحتى اتفاقية كامب ديفيد باعتراف إسرائيل، لم تنجح سوى في تحقيق «سلام بارد» من دون علاقات «طبيعية» مع الشعب المصري ولا غيره في المنطقة. أما بعد تقديم ورقة التوت الفلسطينية، وهي الأكبر والأثمن والأبقى إلى إسرائيل خلال «عملية السلام» الأبدية، الأقرب إلى سلام العبيد مع أسيادهم، فقد استشرى التطبيع العربي الإسرائيلي من دون حياء في الجوانب الاقتصادية والدبلوماسية والأمنية والأكاديمية والرياضية والثقافية في مصر، والأردن، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين والمغرب، عاديك عن السلطة الفلسطينية طبعاً حتى كاد أن يصبح طبيعياً.
في المجال الأكاديمي، وفي خضم ما أسمته صحيفة «نيويورك تايمز» «سباق الذهب في المجال التعليمي» بين كبريات الجامعات الأميركية لافتتاح فروع لها في منطقة الخليج ومصر والأردن، بات ا
التطبيع الأكاديمي في هذه الدول بالكاد يثير الجدل. تحت ضغط الحركات الصهيونية في الولايات المتحدة، تعهدت فروع الجامعات الأميركية في منطقتنا بألا تستثني الأكاديميين والطلبة الإسرائيليين. مثلاً، يقوم «مركز الدراسات الدولية والإقليمية» التابع لجامعة «جورجتاون» المقام في المدينة التعليمية في قطر باستضافة أكاديميين من جامعة تل أبيب والجامعة العبرية في ورش عمل ومحاضرات. كما قامت الجامعة ذاتها بترتيب قمة الأمم المتحدة الموازية لطلاب المدارس، حيث شاركت أربع مدارس إسرائيلية ضمن المدارس الـ 52 المشاركة.
على الصعيد الرياضي، أثار الفيلم الدعائي الذي أعدته قطر في نهاية 2010 ضمن حملتها الهائلة لاستضافة مونديال 2022 استنكاراً عارماً في المجتمع الفلسطيني بل المجتمعات العربية لاحتوائه على حديث بالعبرية عن تمنيات بوصول إسرائيل ودول عربية إلى النهائيات ولعب الفريق الإسرائيلي مقابل فريق عربي وقيام مشجعين من الطرفين بالتواجد معاً وتشجيع فريقيهما «ليتعارفوا إلى بعضهم بعضاً».
لكن الإمارات تصدرت قائمة الدول العربية المطبعة في المجال الرياضي. استضافت مراراً رياضيين إسرائيليين في بطولات دولية عقدت على أراضيها،
رافعة العلم الإسرائيلي من دون خجل في بعض المناسبات. في أواخر العام الماضي مثلاً، أصدرت «اللجنة الوطنية الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها»، وهي أوسع تحالف فلسطيني،
بياناًتدين فيها توجيه الاتحاد الإماراتي للسباحة دعوة إلى «الاتحاد الإسرائيلي للسباحة» للمشاركة في مباراة دولية تقام في دبي بحجة رغبته «في توسيع التعاون مع منتديات واتحادات أخرى في دول مجاورة في الشرق الأوسط»، كأن إسرائيل دولة جارة طبيعية. وهذا ما اعتبرته حملة المقاطعة «تطبيعاً خطيراً مع دولة الاحتلال والتمييز العنصري، يأتي في وقت نحن في أمس الحاجة فيه إلى الدعم والتضامن العربي والعالمي في ظل استشراس الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية، بالذات في القدس المحتلة وغور الأردن والنقب، وإمعان إسرائيل في عدوانها على شعبنا في مختلف مناطق تواجده، وتماديها في تنفيذ سياساتها الاستيطانية والتوسعية التي تهدف إلى تهجيرنا عن أرضنا ووضع يدها على مواردنا الطبيعية، واستمرار حصارها القاتل على غزة".
لكن ليس غريباً على دبي أن تسعى إلى استضافة سبّاحين إسرائيليين، هي التي تسبح في تطبيع اقتصادي علنيّ مع إسرائيل، فهي تستضيف فرعاً لشركة الماس الإسرائيلية الضخمة «ليفايِف» (Leviev) في «مول دبيّ».
ولا يمكن هنا أن ننسى الجهود الجبارة التي يبذلها مقاومو التطبيع في معظم الدول العربية، ونجاحاتهم الباهرة في لبنان ومصر والمغرب وتونس والجزائر والأردن وغيرها. بطلة الجودو الجزائرية مريم موسى
قاطعت مباراة كانت ستجمعها بمصارعة إسرائيلية في بطولة العالم في روما، مضحية بذلك بفرصة التنافس في أولمبياد لندن هذا العام. وتفخر حملة المقاطعة بموقف اللاعبة التونسية وبطلة إفريقيا في رياضة المبارزة بالسيف، عزة بسباس التي
رفضت مبارزة منافستها الإسرائيلية خلال مباراة الدور النهائي لـ «مونديال كاتانيا» (جنوب ايطاليا) للمبارزة العام الماضي، تأييداً منها لمقاطعة إسرائيل. وهناك الأكاديميون في الجامعة الأميركية في القاهرة الذين
أثبطوا مشاركة أكاديميين إسرائيليين في مؤتمر بجامعتهم. كما نجح نقابيون أردنيون في مناهضة التطبيع في القطاعات المهنية.
و
تصدى نشطاء المقاطعة في الكويت لتسرب بضائع إسرائيلية إلى السوق الكويتية بحزم وبدعم من مكتب المقاطعة الرسمي. ونجح نشطاء المقاطعة مع حركات التضامن في المغرب في إلغاء أنشطة أكاديمية وفنية تطبيعية في الأشهر الفائتة. أما لبنان الذي شهد
حركة نشطة ومبكرة لمناهضة التطبيع ولمقاطعة داعمي إسرائيل، فقد
تمكن نشطاء المقاطعة فيه من إلغاء حفل كل من جاد المليح ولارا فابيان لتورطهما في دعم إسرائيل والتغطية على جرائمها. كما نجح مناهضو التطبيع في فلسطين المحتلة، وهم من جميع الفصائل، في
إفشال عدد هام من المؤتمرات والحفلات التطبيعية التي كانت حتى وقت قريب منتعشة بمباركة السلطة.
لا شك في أنّ تصاعد وتيرة الثورات الشعبية العربية، وتحديداً في تونس ومصر، أدى إلى إنحسار موجة التطبيع نسبياً، حيث عادت في معظم الأحوال «تحت الطاولة» وتحديداً في فلسطين. بل تعالت أصوات جديدة ومؤثرة في البرلمانين التونسي و
المصري تدعو إلى تصعيد المقاطعة العربية والدولية لإسرائيل، مما أعاد الحياة إلى فكرة المقاطعة الشعبية ومناهضة التطبيع كشكلين ضروريين لدعم نضال الشعب الفلسطيني من أجل تقرير المصير. كلما تحررت الشعوب العربية، كلما برز الصوت المعادي للاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلي، لا تضامناً مع الشعب الفلسطيني وحسب، بل تأكيداً على اعتبار إسرائيل عدواً فعلياً ومباشراً للبنانيين والأردنيين والمصريين والعراقيين والسودانيين والتونسيين.
في هذه الأجواء المتغيرة والمبشرة عربياً، قامت السعودية
باستثناء شركة «ألستوم» الفرنسية من عقد قيمته تقارب 10 مليار دولار، وهو المرحلة الثانية من مشروع «قطار الحرمين»، مؤكدة على
لسان سفارتها في القاهرة بأن استبعاد «ألستوم» جاء بسبب تورط الأخيرة في مشاريع إسرائيلية استعمارية تسعى إلى تهويد القدس المحتلة. يذكر هنا أنّ القمة العربية التي أقيمت في الخرطوم عام 2006،
أقرت بالإجماع اتخاذ إجراءات عقابية بحق شركتي «ألستوم» و«فيوليا» لتورطهما في مشروع القطار الخفيف الإسرائيلي المخالف للقانون الدولي لربط القدس بالمستعمرات المقامة فيها وحولها.
أما مفتي الأزهر، بل مفتي البلاط السابق في القاهرة الذي لم يستنشق بعد نسيم الربيع العربي، فقد قام أخيراً
بزيارة تطبيعية مخجلة للقدس تحت حراب قوات الاحتلال الإسرائيلي، بذريعة «زيارة السجين»، ضارباً عرض الحائط مبادئ المقاطعة التي ترفض هذه الزيارات التطبيعية للمدينة المحتلة. لا يسعنا إلا أن نقول للمفتي والحال كهذه إنّ التضامن مع الأسير يكون أولا وأخيراً بمساعدته في كسر قيده لا بمساعدة آسريه على تطبيع أسره وتغطيته.
إن كانت إسرائيل باتت
تشعر بالعزلة إقليمياً وعالمياً بسبب انتشار حملة المقاطعة منذ العدوان على غزة، فهي ستشعر بالاختناق تماماً حين ننجح في تحويل مخزون الدعم الشعبي العربي الهائل والنبيل للشعب الفلسطيني وقضيته من طاقة كامنة إلى حملات ملموسة فعالة ومستدامة لوقف التطبيع ومقاطعة إسرائيل وجميع المؤسسات والشركات المتواطئة في انتهاكاتها للقانون الدولي. هكذا يكون التضامن مع الأسير وإلا فلا!
* عضو مؤسس في
«الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل» PACBIوناشط حقوق إنسان
زيارات سابقةليست هذه المرّة الأولى التي يطرق فيها دانيال بارنبويم باب قطر. فقد زار هذا الموسيقي البلد الخليجي أكثر من مرّة، آخرها مطلع 2010، عندما استضافته الدوحة مع «أوركسترا الديوان الغربي- الشرقي» ضمن فعاليات «الدوحة عاصمة الثقافة العربية 2010» («الأخبار»، الثلاثاء 2 شباط/فبراير 2010).
بعيداً عن الخليج، وفي صيف 2007، تقرَّرت أمسية لبارنبويم وموسيقيّيه في الأردن، لكنها أُلغيَت لاحقاً لأسباب أمنية. كذلك، في عام 2005، رفع الرجل واحداً من أصعب تحدّياته عندما زار رام الله وقدّم حفلةً لم تكن ممكنة لولا جهود صديقه إدوارد سعيد! لبارنبويم أحلام أخرى في ما خصّ جولاته مع الأوركسترا الإسرائيلية/العربية. في آب (أغسطس) 2008، وأثناء تقديمة أمسية في باريس، صرّح أمام الجمهور قائلاً: «لن أشعر بالرضى إلا عندما نتمكّن من تقديم حفلات في بيروت وغزّة وحتى في طهران... ساعدونا» (عرضت «الأخبار» القضية في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2008). من جهتنا، سنساعده طبعاً... على نشر النمط الموسيقي الذي يقدّمه. لكننا سنتساعد على منع قدميْه من أن تطأ أرضنا.