" 2"
في عام 1876 م أفلست مصر، وأصبحت ضحية سهلة للسيطرة الأجنبية، إذ إن الجاليات الأجنبية والبنوك الأجنبية اتصلت بحكوماتها في الخارج، وكانت أكثر الأموال المقترضة من الأموال الإنجليزية والفرنسية، وطالبت هذه الجاليات والبنوك تدخل حكوماتها لضمان الأموال التي اقترضتها الحكومة والخديو، بالإضافة إلى الأموال التي اقترضها الفلاحون المصريون أنفسهم من بيوت الرهن العقاري التي غزت مصر في هذه الفترة، وقد كان الإفلاس نتيجة طبيعية لإسراف الخديو في الاقتراض والإنفاق ببذخ، ولفداحة شروط الاقتراض، ولم تعد مالية مصر قادرة على الوفاء بما عليها لسداد أقساط الفوائد والقروض، واكتمل المخطط الذي وقعت فيه مصر بإغرائها بالاقتراض، وبدت كثمرة طابت لقطفها.
كيف تطورت عملية النهب؟
إن من يتعرض بالدراسة للوسائل التي اتخذها الأجانب معبراً للوصول إلى أغراضهم، يجد أنها كانت تتسم بالعمق المقترن بالحقد والجشع الذي ازداد على طول الأيام مرارة وضراوة، وتلك كانت طبيعة الأوروبيين ومسلكهم مع مصر منذ زمن طويل، فهم يتربصون بمصر مترقبين الفرصة المواتية للانقضاض عليها، فإذا لم تواتهم الفرصة عمدوا إلى خلقها والاستفادة منها، وقد كانت الديون الأجنبية رأس الحربة التي طعن بها الاستعمار مصر، إذ إن الدين الخارجي الذي تفاقم منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان شكلاً خطيراً من أشكال العلاقة غير المتكافئة بين دول الغرب المتقدمة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً من جانب، ومصر التي كسرت محاولتها للنهوض في أواخر عهد محمد علي، وكانت الدول الغربية تسعى إلى توسيع دائرة هيمنتها خارج الحدود، وكانت في مرحلة التوسع في تصدير رؤوس الأموال من أجل مزيد من الأرباح ومزيد من أدوات السيطرة.
وكان الدائنون الأجانب سواء كانوا على هيئة أفراد أو على هيئة مؤسسات مالية منظمة كانت من خلفهم دول تدير وتحمي، والمدين سواء كان دولة أو حاكماً لا يملك قدرة على المواجهة لهذه الهجمة المنظمة.
وبذلك تمكن الغرب من إغراق مصر بالديون، والقول بأن الغرب تعمد إغراق مصر بالديون، لا يعكس أي رغبة في التحامل، فهو استنتاج موضوعي من سياق الأحداث، وهو يستند أيضاً إلى فهم مصالح وسياسات الدول الغربية.
وهذا الاستنتاج يؤيده كثير من باحثي هذه الفترة، إذ إن الأجانب كانوا يشجعون حكام مصر بشتى الطرق والوسائل على الاستزادة منها، إلى حد إنشاء فروع لبعض البنوك الأجنبية التي تخصصت في إقراض الحكام والطبقات الغنية وجشع الممولين اليهود من الفرنسيين والإنجليز والألمان الذين شجعوا بطريقتهم المعهودة الوالي على الإسراف والتبذير، لتمكين أنفسهم من ممتلكاته، وقد ترتب على هذا النهب الذي كان يتم على نطاق عالمي كبير أن أخذ تدخل القناصل المحدود لصالح أصحاب التعويضات يتحول تدريجياً إلى تدخل دبلوماسي تقوم به حكومات الدول لصالح أصحاب القروض الأوروبيين.
ولم يكن أحد من الدائنين يرغب في خروج إسماعيل من الدين، ذلك أن عملية إقراضه قد أثبتت أنها عملية مربحة، وفوق ذلك فقد كانت هناك أرباح أخرى إضافية تأتي من العمولات على طلبات الشراء من الخارج والاستيراد، والتي لم يكن ممكناً أن تستمر إلا إذا كان إسماعيل والخزانة المصرية يتلقيان المال باستمرار من القروض، كما أن تجمع ما كان يسمى بالمالية العليا في باريس قد تآمر رسمياً على سلب الخديو، فكان يظهر في الليلة الواحدة كما يظهر النبات الدنيء مصارف مفتعلة طنانة الأسماء كالمصرف الإنجليزي المصري والمصرف الفرنسي المصري، وغير ذلك، وغرضها الوحيد إغراء الخديو بعقد قروض جديدة فاحشة الربا، وهكذا كان دخول البنوك إلى مصر والتعامل بالفائدة الربوية نذير شؤم على مصر أدى إلى إفلاسها وخرابها وتسليمها في نهاية الأمر إلى الاحتلال.
والنتيجة أنه في الفترة بين 1863 "السنة التي اعتلى فيها إسماعيل الحكم" وبين سنة 1876 "وهي آخر سنة احتفظ فيها إسماعيل بسلطة حقيقة على مالية البلاد"، قدر ما وصل فعلاً إلى الخزانة من القروض بنحو 32 مليون جنيه، في حين كانت قيمة هذه القروض على الورق 53 مليون "أي أن القيمة الاسمية للقروض تقدر بـ53 مليوناً، بينما ما دخل البلد قدر بـ 32 مليونا"، والفرق بين هذين المبلغين كان يذهب مصاريف خصم وعمولات، وطوال الثلاثة عشر عاماً "بين 1863 وحتى 1876"، كانت الفائدة وأقساط الدين تحسب على أساس القيمة الاسمية ودفع مبلغ 35 مليون جنيه، أي أكثر من كل ما حصلته الخزانة من القروض، وعلى الرغم من ذلك فإن رأسمال الدين، بعد استبعاد الديون القصيرة الأجل "نحو 18 مليون جنيه" بلغ عام 1876 نحو 52 مليون جنيه، أي ما يزيد على كل ما تلقته الخزانة المصرية من القروض بـ20 مليون جنيه تقريباً..
ومع ذلك لم يقتصر النهب على هذا الجانب، فقد تعهد المقاولون والموردون بنهب قسم آخر من الموارد، فقد أخذ منه من تعهدوا له بإنشاء مرفأ الإسكندرية نحو 80%، فوق ما يستحقون، وأخذ منه بغير حق من كانوا يمدون له السكك الحديدية أكثر من أربعة أمثال ما يستحقه العمل، وكذلك فعل الذين عملوا له في إقامة معامل السكر وآلات جلب المياه وغيرها، وكان أغلب مستشاريه الفنيين وغير الفنيين يتقاضون أحياناً أجوراً ورشى من هذه الطائفة الخاصة من المرابين الذين لم يقنعهم ما تقدم، فكانوا يتفقون فيما بينهم ويحملون خديو مصر على قبول شروطهم الغريبة.
في ذلك الزمان كانت هناك ديون طويلة الأجل وديون قصيرة الأجل بفائدة أعلى، الديون الأولى اسمها الدين الثابت "وكانت تسمى بذلك الاسم، لأنها كانت بضمان ثابت مثل دخل بعض المصالح الحكومية"، والديون الثانية: الدين السائر وكان هذا الدين مستحقاً على الحكومة المصرية للأجانب من التجار والشركات والمقاولين، وكان النوع الثاني: الدين السائر في تضخم مستمر ومصدر اضطراب مالي كبير، وقد قدر هذا الدين في نهاية عهد إسماعيل بخمسة وعشرين مليوناً من الجنيهات، بينما كانت قيمته الأصلية التي حصلت عليها الحكومة لا تزيد عن العشرة ملايين، والزيادة هذه نتجت عن فوائد أقساط الدين.
ومنذ سنة 1864 ونتيجة للضغوط التي مارسها القناصل الأجانب وحكوماتهم من أجل تسديد الدين السائر المستحق لشركات الجاليات الأجنبية بدأت الحكومة في عقد قروض طويلة الأجل من المؤسسات المالية الإنجليزية الكبرى من أجل تسديد الدين السائر.
إذ إنه في عام 1868 تم عقد قرض مع بيت أوبنهايم قيمته الاسمية 11,9 مليون جنيه إنجليزي "تسلمها الخديو بعد الخصم والعمولة 7 ملايين جنيه"، وكان يتضمن لأول مرة شرطاً يتدخل في السيادة، ويلزم الحكومة ألا تبرم قروضاً أجنبية أخرى بضمان موارد الدولة لمدة خمس سنوات، وبعد انتهاء هذه المدة، وفي عام 1873 تم الاتفاق على قرض جديد مع "بيت أوبنهايم"، وكان مطلوباً أن يكون قرضاً كبيراً يكفي لتسديد الدين السائر كله، والذي كان يقدر بـ28 مليون إسترليني، وتم الاتفاق فعلاً على قرض قيمته الاسمية 32 مليون جنيه، بفائدة 7%، وبلغ صافي ما تسلمه إسماعيل 20,7 مليون جنيه "والفرق 7,3 مليون جنيه خصم وعمولات"، وبلغ قسط القرض الذي رهنت في مقابله إيرادات السكك الحديدية، وعوائد الموارد العامة 2,6 مليون جنيه سنوياً لمدة ثلاثين عاماً، ومع هذا لم يترتب على القرض إنهاء الدين السائر فقط انخفض إلى 14 مليون جنيه، وفى المقابل، أصبح القرض الجديد، قرض 1873، عبئاً إضافياً زاد من صعوبة الأوضاع.
وسرت شائعات بأن الحكومة ليس لديها ما تدفع به القسط النصف سنوي للديون المستحقة، الذي يستحق الدفع في أول ديسمبر/كانون الأول، ويبلغ 3,3 مليون جنيه، ولما كانت الأصول الموجودة في الخزانة التي لم ترهن بعد هي أسهم الحكومة في شركة القناة، فقد بادر الخديو إلى التباحث في شأنها ومعروف ان الحكومة البريطانية علمت بهذا الأمر، وكانت حريصة طبعاً على الإيقاع هذا الجزء الكبير من أسهم القناة في يد فرنسية، فعرضت مبلغ 4 ملايين جنيه إسترليني لشراء الأسهم، وقبل إسماعيل على الفور، وبالتأكيد كانت الصفقة كارثة وطنية، ولكن إسماعيل تمكن من تسديد القسط في موعده.