هل ماتت الثورة في مصر؟ دروس افريقية للعرب
محمد كريشان
حين وهنت صحة الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة بدأ رفاقه ووزراؤه يتساءلون همسا عن مستقبل البلاد بعد رحيله. كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي وبعد أزمات قلبية عديدة له وفترات علاج في الخارج امتدت لأشهر. لم يكن من السهل وقتها الحديث عن خلافة «المجاهد الاكبر» زعيم الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي وأول رئيس لتونس المستقلة عام 1956 التي حكمها لثلاثين عاما لذلك استغل المقربون من بورقيبة زيارة كان يقوم بها إلى تونس الرئيس السينغالي الراحل ليوببلد سيدار سنغور، الذي حكم بلاده عشرين عاما بعد استقلالها (1960 ـ 1980) وقرر طواعية التنازل عن الحكم لخلفه عبدو ضيوف، فأوعزوا له أن يثير خلال جلساته مع بورقيبة وجاهة تسليم الزعماء المؤسسين الكبار المشعل في لحظة من اللحظات إلى غيرهم ضمانا لاستقرار بلدانهم وإرساء لسنة التداول السلمي على السلطة.
رمى سنغور، الشاعر والمثقف الكبير، بفكرته وكان بورقيبة أذكى جدا من أن لا يلتقطها لكنه فضّل تجاهلها. وحين تعمد وزراؤه لاحقا استثارته بشأنها رد باقتضاب يخفي غيظا شديدا لا يخلو من عنصرية… «إنها تخاريف رجل أسود!!». بورقيبة لم يكن وحده، بين العرب، في هذا النوع من الحكم المزدري والجائر حول إفريقيا والأفارقة مع أنهم، ومنذ ذلك التاريخ، ما انفكوا يقدمون لنا المثل تلو الآخر.
آخر هذه الأمثلة من غامبيا، فقد غادرها أخيرا، بعد عند لم يدم طويلا، الرئيس المنتهية ولايته يحيى جامي البلاد تاركا مقاليد الحكم لآداما بارو الذي اختارته صناديق الاقتراع خلفا له. وقد أكدت كل من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا أنها ستضمن حقوق الرئيس السابق بما في ذلك عودته إلى البلاد مع ضمانات تشمل عائلته وأعضاء إدارته والمسؤولين الحكوميين والأمنيين ومناصري حزبه. ألم يكن هذا ما حصل عليه علي عبد الله صالح بموجب المبادرة الخليجية والقرارات الدولية التي انطلقت منها؟!! ومع ذلك، أنظر ما يفعله صالح الآن ببلده، إنه يدمرها، مع آخرين طبعا، رافضا الاختفاء من المشهد السياسي. ألم يكن هذا ما يمكن أن يحصل عليه معمر القذافي مثلا؟! ألم يكن هذا ما يمكن أن يحصل عليه بشار الأسد، وربما أفضل وحتى دون مغادرة السلطة فورا، لكن جماعته قالوا «الأسد أو نحرق البلد» فحصلوا على الأمرين معا!!.
مثال آخر، الرئيس الكيني الحالي أوهورو كينياتا ونائبه روتو، لم يرفضا المثول أمام محكمة الجنايات الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، حين كانا خصمين لدودين أزهقت في الصراع بينهما أرواح المئات. وعندما اكتملت قضيتهما تمهيدا لإثارتها في تلك المحكمة، التي برأتهما، كانا قد انتقلا من حالة العداء لحالة التحالف وخاضا الانتخابات التي تلت مواجهاتهما الدموية ضمن تحالف واحد كسب تلك الانتخابات وحملهما للسلطة رئيسا ونائب رئيس. أما الرئيس عمر البشير فيرفض المثول أمام هذه المحكمة، صارخا ببراءة لم تثبت، مدخلا بلاده في ورطة عقوبات وعزل يعاني منها الشعب الأمرين. وفي كل مرة يقول إنه لن يترشح إلى الانتخابات المقبلة ويخل بتعهده.
مثال آخر، رواندا التي دخل المتمردون التوتسي عاصمتها عام 1994 منتصرين وقد تشتت جيش الحكومة الذي يسيطر عليه الهوتو، ليجدوا أن البلاد بأكملها وقعت تحت رحمتهم باعتبارهم القوة المسلحة الوحيدة في البلاد. كانت دماء مليون شخص من هذه الأقلية المنتصرة عسكريا لم تجف بعد، وكانت الأمم المتحدة وبقية ما يعرف بالمجتمع الدولي غارقين في خجلهم بسبب العجز والصمت والتواطؤ الذي مارسوه إزاء مجزرة استمرت تحت أعينهم لمدة مائة يوم. في هذا الظرف الذي ما كان أحد يجرؤ فيه على انتقاد أو إدانة قوات التوتسي المنتصرة، اختار هؤلاء التزام القانون واعتماد قانون مصالحة وطنية أساسه الاعتراف والتسامح، وقدمت له الحوافز حتى عبرت البلاد مراراتها وانطلقت بعد ذلك تحقق قفزات تنموية حاسمة، إلى أن باتت المجزرة وفظاعاتها بداية صفحة جديدة للبلاد كلها. أما ليبيا، فهي إلى الآن لم تنهض من كبوتها وما زال أبناؤها يتقاتلون وعاجزين عن تقديم أية تنازلات لبعضهم البعض رغم كل المساعدة الدولية لهم لإنجاز ذلك.
مثال آخر، يتعلق هذه المرة بتسيير الدولة والحكم الرشيد، الرئيس التنزاني جون ماغوفولي الذي يقود حملة لمقاومة الفساد نزل قبل عام إلى الشارع لينضم لآلاف مواطنيه في حملة تنظيف شوارع العاصمة دار السلام في ذكرى استقلال البلاد عوضا عن إقامة احتفالات اعتبرها «أمرا مخزيا» والبلاد وسخة وتعاني وباء الكوليرا. أما في مصر فمن يكشف الفساد هو من يحاكم وتقام المشاريع الدعائية عديمة الجدوى فيما يئن المواطن ويزداد فقرا تحت حكم العسكر الذي لا ينتهي.
هل تريدون أمثلة عديدة أخرى؟؟…. تخاريف من هي إذن؟!!
٭ كاتب وإعلامي تونسي