وقفة مع شخصية المفاوض عتبة بن ربيعة
بعد الحديث عن قصة المفاوضات بين قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن نرى آثار هذه المفاوضات، أُريد أن أقف وقفة مع شخصيَّة الخصم المفاوض عتبة بن ربيعة. في البداية يجب أن نعرف من هو عتبة بن ربيعة: هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، أبو الوليد: كبير قريش وأحد ساداتها في الجاهليَّة. كان موصوفًا بالرأي والحلم والفضل، كان خطيبًا، نافذ القول. نشأ في مكة يتيمًا في حجر حرب بن أميَّة، وتعلَّم القراءة والكتابة والأنساب وأخبار العرب وتاريخ قريش على يد أفضل المعلمين في تهامة، كما تعلَّم الفروسيَّة وفنون المبارزة، وكان في طليعة الفرسان في حرب الفجار، وخاض فيها المعركتين الأخيرتين، وكان عتبة يتميَّز بطول القامة وقوَّة البنية. وأوَّل ما عُرِفَ عنه توسُّطه للصلح في حرب الفجار (بين هوازن وكنانة) وقد رضي الفريقان بحكمه، وانتهت الحرب على يديه. وكان يُقال: لم يسد من قريش مملق إلا عتبة وأبو طالب؛ فإنَّهما سادا قريشًا بغير مال. أدرك الإسلام وطغى، وشهد بدرًا مع المشركين. وكان ضخم الجثة، عظيم الهامة، طلب خوذة يلبسها يوم "بدر" فلم يجد ما يسع هامته، فاعتجر على رأسه بثوبٍ له، وقاتل قتالًا شديدًا، فأحاط به علي بن أبي طالب وحمزة وعبيدة بن الحارث، فقتلوه[1]. ولعتبة عدَّة أبناء وهم: الوليد وهو ما يُكنَّى به وقد قُتِل مشركًا معه في بدر، وبقيَّة أبنائه من الصحابة الكرام، وهم أبو حذيفة بن عتبة وهو من السابقين في الإسلام وهاجر إلى الحبشة ثُمَّ إلى المدينة وشهد بدرًا واستشهد في اليمامة رضي الله تعالى عنه، وكذلك منهم أبو هاشم وأم أبان وهند وفاطمة أبناء عتبة، وقد أسلموا بعد فتح مكة رضوان الله عليهم. وقفة مع شخصيَّة عتبة بن ربيعة: لقد وهب الله عزَّ وجلَّ عتبة بن ربيعة عقلًا راجحًا يستطيع أن يُميِّز به بين الحقِّ والباطل، ووهبه لسانًا بليغًا يستطيع أن يُحاور به ويُناور، ووهبه مكانة تجعل الناس يسمعون رأيه، ويَتَّبعون فكره؛ لكنه للأسف الشديد كان مصابًا بداء خطير نسف كلَّ إمكانيَّاته، وحطَّم كلَّ مواهبه، ألا وهو داء «الإمعية»! لقد ضعفت شخصيَّة عتبة حتى صار يسير بلا إرادةٍ وراء زعماء آخرين لعلَّهم أقلُّ حكمةٍ منه؛ ولكنَّهم أقوى شخصيَّةً؛ وذلك بصرف النظر عن مسألة الحقِّ والباطل؛ فقد أدرك عتبة حقَّ الإسلام؛ ولكنَّه سار مع باطل مكة، وفَهِمَ معجزة القرآن؛ لكنَّه اتَّبَع تفاهات زعماء قريش، ثُمَّ أطلقها صريحةً واضحةً: «خَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرَبِ»! إنَّه يُريد أن ينتظر المعركة بين المسلمين والعرب، فإذا انتصر المسلمون فهو معهم، وإذا انتصر العرب فلا ضير، فسيكون معهم كذلك! وظلَّت فيه هذه الصفة الذميمة إلى آخر أيَّام عمره؛ حيث كان يَنْهَى الجيشَ المكي عن حرب المسلمين في بدر، وقد أدرك بحكمته ورجاحة عقله أنَّ المعركة خاسرة؛ لكنَّه في النهاية اتَّبَع الجموع، وأعرض عن الحقِّ، وكانت النتيجة أن قُتل كافرًا في أُولى لحظات المعركة. وقد أوضحت رواية البيهقي الأخيرة موقفًا مخزيًا لعتبة حين جاءه أبو جهل يَتَّهمه بترك الوثنيَّة للإسلام، فإذا بعتبة يشرح له بالتفصيل روعة القرآن، وقوَّة حجَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُؤَكِّد صدقه التامِّ؛ بل يُبدي رعبه من نزول الصاعقة التي حذَّرهم منها محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد كلِّ هذا رأيناه يُقْسِم بالله! على أيِّ شيء أَقْسَمَ؟! لقد أقسم ألَّا يُكَلِّم محمدًا أبدًا!! أَبَعْدَ كلِّ هذا اليقين في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم يكون البُعد عنه؟ ولماذا؟ هل لأنَّ الجموع الكافرة آنذاك أكثر من المسلمين؟ وهل عندما يكثر المسلمون ستترك الوثنيَّة إليهم؟ أيُّ حماقةٍ تلك التي يعيشها هؤلاء الناس! وكأنَّ رسول الله صل الله عليه وسلم كان يتحدَّث عن عتبة بن ربيعة وأمثاله حين قال: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا»[2]. وعندما سُئل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الإمَّعة قال: «يَجْرِي مَعَ كُلِّ رِيحٍ»[3]. فلْيَحْذَرْ كلُّ عاقل من هذه الخواتيم التعسة؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ وهب الإنسان عقلًا، وهو سائله عنه، وقد يبتليه بتكثير جموع أهل الباطل، فلا يَصُدَّنَّه ذلك عن الحقِّ أبدًا.
عتبة بن ربيعة وجيه من وجهاء مكة، ومن حكماء قريش وزعمائها، استمع إلى رسول الله صل الله عليه وسلم واستشعر حلاوة القرآن الكريم في قلبه،
وعلى الرغم من ذلك لم يؤمن ومات كافرًا، فما الذي منعه عن الإسلام؟ وما الداء في شخصيَّته الذي أوصله لذلك؟