المفاوضات الناجحة وفن التحايل
مصعب قاسم عزاوي
وثّقت الصحافية الكندية ناومي كلاين لحظة مصارحة استثنائية أدلى بها دونالد ترامب عام 2011، وصف فيها الاتفاق الذي عقده مع طاغية ليبيا آنذاك معمر القذافي بأنّه كما يلي: «قمت بتأجير قطعة أرض له. وهو قام بدفع تكاليف استئجارها لليلة واحدة، بما يفوق فعلياً ما تستحقه الأرض كلها إن استأجرها لسنة واحدة، أو حتى سنتين، ولكنني بعد ما دفع الإيجار لم أتركه ليستخدم الأرض. هذا هو ما يجب فعله. لا أريد استخدام فعل (خوزق) في كلامي، ولكني فعلاً خوزقته. وهذا ما يجب أن نقوم به دائماً». في إشارة ضمنية للعرب عموماً والأغنياء منهم بثرواتهم الطبيعية الآيلة للنضوب خصوصاً.
وفي موقع آخر من الكتب التي أصدرها ترامب عام 2008 بعنوان: «فكّر بعظمة» شرح ترامب فلسفة فن المفاوضات الذي يتبناه للوصول إلى اتفاقات ناجحة برأيه، بقوله: «تسمع كثيراً من الأشخاص يقولون بأن اتفاقاً عظيماً يكمن في فوز الطرفين بتمامه. هذا هراء بالمطلق، في أي اتفاق ناجح أنت تربح وليس الطرف الآخر. أنت تقوم بتهشيم نظيرك في التفاوض وتخرج بنتيجة فضلى لك». وفي تكثيف غير موارب لفلسفته المتعلقة بالذهب الأسود في أرض العرب، أشار ترامب إبان حملته الانتخابية في العام المنصرم، بأن المنطق يقتضي «بأن تحتل الولايات المتحدة الأراضي العراقية التي تحتوي على النفط، وتستولي على ذلك النفط كله. فالمنتصر يستولي على الغنائم كلها». وهو ما قام بتحليله – بمعنى تحويله حلالاً من الناحية الأخلاقية والقانونية– مستشاره القانوني ومنظّر قانون حظر دخول المسلمين الولايات المتحدة رودي جولياني، بأنه «ليس مخالفاً للقانون، حيث أن كل شيء قانوني ومشروع في الحرب». وهو مضمون الحرب في فلسفة الساسة الأمريكان، الذي طالما تحول وتمطط ليتناسب مع متطلبات الحاجة الراهنة لضمان توطيد كل ذلك «القانوني والمشروع» في وقت الحرب. فهي تارة حرب باردة، وتارة حرب على مهربي المخدرات، وحيناً حرب على ليبيا أو بنما أو نيكاراغوا أو كوبا، أو حتى على تلفيقات الاستحواذ على «أسلحة الدمار الشامل» كما كانت الحال عليه في حكاية العراق المهيض الجناح، و أخيراً مسلسل الحرب على الإرهاب بإصداراته التي لا تنضب، ابتداءً من أولها المعنون «بالحرب على تنظيم القاعدة»، وثانيها عن «النزال مع داعش»، وصولاً إلى آخر تفتقاتها الفانتازية بالحرب على «إرهاب قطر». قد تنطلي على غرّ توليفة «اختلاف التوجهات في الإدارة الأمريكية» بين ترامب الذي احتفى بكونه مهندس فكرة الحصار على قطر لتمويلها «الفكر الأصولي علَّ ذلك يكون بداية نهاية رعب الإرهاب»، ووزير خارجيته ريك تيليرسون الذي ظل يشغل منصب رئيس كبرى شركات النفط أمريكياً وعالمياً «إكسون موبيل» قبل توليه حقيبة الخارجية – وتلك قصة أخرى تستدعي تفصيلاً لها في موضع آخر– وتبني لهجة تصالحية أكثر وميلاً لفظياً فقط للتقريب بين الأفرقاء، ومفاوضاته التي لم تختلف في جوهرها عن فلسفة ترامب في فن مفاوضات «الخوزقة»، فأرسى ركائز اتفاقات سوف تصل قيمتها السوقية إلى 360 مليار دولار، خلال عشر سنوات من المملكة العربية السعودية فقط، بحسب الصحافي المخضرم في صحيفة «الأندبندت» روبرت فيسك، وغيرها من المضمر في كواليس أشقاء الأمس أعداء اليوم، وتمكن من الاستحواذ عليها «بمفاوضات ناجحة» صهر ترامب جارد كوشنر، اليهودي الصهيوني المتزمت، مهندس زيارة ترامب الأخيرة إلى الرياض، وما تمخّض عنها من صفقات مهولة لشراء الأسلحة من الولايات المتحدة بحسب صحيفة «نيويورك تايمز»، وما توازى معها من إبراز للبَرِيِةِ والنَظَّارَةِ في كل أصقاع الأرضين لإحسان العرب المسلمين المنقطع النظير، الذي أفصح عن نفسه من دون مواربة في تبرع السعودية والإمارات متكافلين بمبلغ متواضع قدره 100مليون دولار للمشاريع الخيرية لابنة ترامب وزوجة كوشنر إيفانكا، الذي تفاخر ترامب نفسه بمباركته لاعتناقها اليهودية، كتوثيق على «محبته العميقة للشعب اليهودي». خلال مؤتمره الصحافي الأخير مع نتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني، الذي احتفى مؤخراً باستقبال كوشنر نفسه كمبعوث خاص للرئيس ترامب لشؤون «عملية السلام في الشرق الأوسط»؛ وحال المصلوبين المعذبين المقهورين في غزّة الثكلى تكثيف بليغ لمَوَاتِها قبل أن تولد، التي لا عِتْقَ لها منه إلا بما شاء كوشنر، وهو الموغل في «طهرانية التبرع والإحسان» السخي الذي لم ينقطع لدعم المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية بحسب صحيفة «واشنطن بوست».
ولا يفوتنا في هذا السياق استذكار صورة إيفانكا بنت ترامب نفسها وزوجته ميلانيا اللتين بدتا في ما وصفته صحيفة «لوس أنجليس تايمز» بأنه «مفارقة صارخة» حينما التزمت الأخيرتان بتغطية رأسيهما في لقائهما مع بابا الفاتيكان، في سياق رحلة عودتهما من زياتهما لأرض الحرمين الشريفين، ورفضهما لذلك قاطعاً إبان جولتهما في الرياض، بين طوفان من الذكور لم تكن بينهم امرأة واحدة، في ما بدا وكأنه «رسالة احتقار» لتقاليد البلد المضيف وعقيدته الوَهّابية الراسخة.
المصدر الوحيد للشرعية لأي سلطة هو الشعب نفسه من عهد حمورابي البابلي، وسقراط اليوناني، وكونفوشيوس الصيني، وبوذا الهندي؛ وسوى ذلك من محاولات للالتفاف على تلك الحقيقة المسلّمة بها، التي لخصها إسلامياً عمر بن الخطاب رضي الله عنه سالفاً بقوله «أيّها الناس من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً فليقومني… الحمد لله الذي جعل في رعية عمر من يقوم اعوجاجه بحد السيف»، وهو القول الصدوق الذي يتناقض جوهرياً مع سياسات تكميم الأفواه المنتقدة لاشتباك الأشقاء العرب في ما بينهم، والتهديد بزجها في غياهب السجون إن أبدت تعاطفها مع الشعب القَطَرِيِّ وليس مع كوشنر و»كيانه الصهيوني» و»مفاوضاته» البناءة في منطقة «الشرق الأوسط». الحق أنّ السبيل الأوحد الذي لا سبيل غيره لتوطيد أي سلطة حاكمة هو استقواؤها بشعبها وليس على شعبها، وسوى ذلك فلن نرى سوى مزيداً من انغماس العرب في «مفاوضات ترامب الناجحة وإبداعاته الخازوقية».
كاتب سوري