مصنع الخزف في القدس: مئة عام من الفنّ والعزّة
وديع عواودة
الناصرة ـ «القدس العربي»: طيلة سنوات تحاشت إسرائيل استذكار المذبحة الأرمنية التاريخية كي لا تستفز تركيا وتحافظ على علاقاتها معها، لكنها ثابرت دائما على إبراز الهوية الأرمنية لفن السيراميك الفلسطيني في القدس منذ عقود. ورغم أصولها الأرمنية تعتبر عائلة باليان ذاتها فلسطينية في تعريفات أبنائها وبهوية مصنع الخزف والفخار الذي تديره منذ قرن في شارع نابلس داخل الشطر الشرقي من مدينة القدس المحتلة. «القدس العربي» زارت مصنع الخزف المقدسي لرصد ثمرة المزج بين الأصالة والحداثة في أدوات إنتاج تحف فنية نادرة على المستوى العالمي من ناحية جماليتها. القائمون على المصنع اليوم لا يعتبرونه ورشة اقتصادية أو مصدرا للرزق فحسب فقد اهتموا بموضوع بناء متحف إلى جانبه يحتوي على منتوجات تراثية فنية يعود تاريخ إنتاج بعضها للعقد الثاني من القرن العشرين. و«الخزف الفلسطيني» مصنع ومتجر لبيع الخزفيات اليدوية الأصيلة، تديره عائلة بليان، وتفوح منه رائحة تاريخ القدس العتيقة… نوافذه الخارجية محاطة بالسيراميك ومع مرور السنوات والعقود تبقى شاهدة على عراقة زهرة المدائن الفلسطينية.
الهجرة إلى فلسطين
وأصل الحكاية يعود للعام 1919 حينما هاجرت إلى فلسطين ثلاث عائلات من أرمينيا هي باليان، وكراكشيان وأوهينسيان، وبادر المندوب السامي البريطاني الأول ستورز إلى توكيلها بترميم السيراميك الذي يغلف بعض جدران المسجد الأقصى وقبة الصخرة. قبل ذلك لم تشهد فلسطين هذا النمط الفني سوى أنواع من بناء البلاط والأدوات الفخارية غير المزخرفة. هذه العائلات الأرمنية قدمت من مدينة كوتاهية المشهورة بصناعة السيراميك. وبعد الانتهاء من ترميم الحرم القدسي الشريف بالسيراميك أسست عائلتا باليان وكراكشيان مصنع الخزف الفلسطيني في مدينة القدس وربما هو اليوم أعرق مؤسسة فلسطينية.
كان يلقب بـ «الأسطة»
وانفصلت طريق العائلتين في 1964 وبقيت باليان وحيدة في المصنع بعدما بادرت كاراكشيان لبناء مصنع الفخار المقدسي في البلدة القديمة. في المصنع استقبلنا مديره ومهندسه نيشان باليان وقد سمي باسم جده الملقب بالتركية بـ «الأسطة» أي المعلم بفضل مهاراته وحرفيته في مجال السيراميك. نيشان الحفيد ورث حرفية إنتاج السيراميك من والده ستراك باليان ووالدته ماري(94) وهي رسامة أرمنية ـ فرنسية، وعن علاقاتهما يقول مبتسما «كان والدي قد سافر لبريطانيا لدراسة الفنون وفي الطريق وتحديدا في مدينة ليون الفرنسية تعرف على أمي، ولم أكن وحدي ثمرة زواجهما إذ نجم عن اللقاء تعاون فني مثمر وغني بعدما تركت بصماتها الفنية على منتوجات المصنع».
مضامين فن الخزف التركي والفلسطيني
وحول الطراز الفني الخاص بهم يقول بليان إن الخزف التركي الإسلامي كان يتمحور حول الأشكال الهندسية فائقة الدقة والنباتات، في حين مال الخزف الفلسطيني لاستخدام البيئة المحيطة بكل عناصرها وخاصة الحيوانات. لافتا أن ذلك يظهر جليا في الأرضيات السيراميكية التي اشتهرت بها المنازل الفلسطينية القديمة، ليس فقط في القدس، بل في عموم فلسطين. وفعلا ينتشر هذا النمط من الأرضيات والسقفيات في مدن شمال فلسطين وحتى اليوم يمكن مشاهدته في عشرات البيوت التاريخية في مدينة البشارة، الناصرة حيث القصور الجميلة في البلدة القديمة ما تزال كالمتاحف الفنية بحد ذاتها منذ شيدت في العهد العثماني.
جداريات ماري
وداخل إحدى قاعات المصنع القائم داخل مبنى تراثي فلسطيني، تعرض جداريات الأم ماري لوحات فنية مدهشة بدقتها يتجاوز طولها المترين وتحمل رسومات فنية وكافتها منقوشة على الخزف. وكانت هذه الجداريات قد شاركت بعدة معارض فنية دولية وكان إنتاج كل منها قد استغرق شهرا ونصف الشهر من العمل اليومي. الابن نيشان الذي درس هندسة الميكانيك والسيراميك في الولايات المتحدة عاد إلى القدس في ثمانينيات القرن الماضي لاستكمال مسيرة العائلة بدوره مديرا ومهندسا للمصنع بعدما شاخ والده وتوفي لاحقا في 1994. وبالنسبة لنيشان فإن جداريات والدته هي أيقونة منتوجات المصنع منذ يومه الأول لكونها تتميز بنمطها الفني الخاص بوالدته التي ظلت تعمل حتى قبل أربع سنوات رغم تقدمها بالعمر. نيشان الذي ورث الأرمنية والفرنسية من والدته يتقن الإنكليزية، والتركية، والعبرية والعربية أيضا وهو يحرص على استمرارية التراث النادر حيث يعمل إلى جانب نجله كيرام فيما يدرس نجله الثاني ستراك السيراميك في إسبانيا.
اطلب السوق ولو كان في الصين
الابنة الوحيدة نانور ابتعدت عن الاختصاص العائلي وتدرس اللغات في إسبانيا لكنها تختص باللغة الصينية، لكن والدها يصمم على ربطها هي الأخرى بفن السيراميك فيقول متوددا إنه يتوقع منها مساعدة العائلة على بناء علاقات تجارة مع أسواق صينية. نيشان الذي تطل والدته من صورة ضخمة ثبتت خلفه تقديرا لها ولفنها ومقابلها لوحة فنية لوالده رسمتها والدته تكريما لزوجها وشريكها في الفن التراثي الفريد. وتنبعث رائحة التراث في كل جنبات المكان وتقول أماني، وهي فتاة مقدسية تعمل في المصنع منذ عقدين: «أقوم بتلوين الرسومات المخطوطة على القطع الفخارية، لا أحتاج لأكثر من ربع ساعة لأنهي تلوين القطعة، أحب عملي وقد ورثته عن والدتي، الجلوس هنا في حضرة التاريخ أمر ممتع».
الطين… بين جنين وإيطاليا
وبعد فترة طويلة من استحضار الطين من منطقة جنين في الضفة الغربية يستورد المصنع اليوم الطين الإيطالي وبواسطة الدولاب التراثي يتم تصنيع الأدوات المنزلية والتحف الفنية على شكل أطباق، وصحون، وكؤوس وأباريق تزدان برسومات فنية. وإلى جانب المكبس والأفران الحديثة التي تعمل على تصليب المنتوجات بحرارة 1000 درجة يعتمد العمل بالدولاب حفاظا على روح المصنع وعلى نكهته التراثية. ويشير نيشان لتعرض المصنع أحيانا لضائقة اقتصادية نتيجة تأثر الأسواق بالأوضاع السياسية والأمنية خاصة أن أدلاء السياحة هم من يتحكمون بمسار الزائرين إلى لمدينة. ولذا لا يعتمد المصنع على السياحة فحسب بل يتم تسويق هذه الأعمال إلى لفنادق، والمطاعم، ومحال الهدايا والجمعيات والمنظمات والجهات المهتمة بالفن الفلسطيني في البلاد وخارجها. ويقول: نحن مصرون على إنتاج هذا النوع من الخزف رغم كل الظروف، لما يمثله من حفاظ على التراث والهوية الفلسطينية، ولقيمته الفنية. ويتابع «نحن صامدون بسيراميكنا منذ العام 1922، رغم ما عانته القدس من ظروف صعبة منذ نكبة 1948 لم نبرحها ونعود إلى أرمينيا، أو نرحل إلى الولايات المتحدة أو أوروبا كما فعل غيرنا… آثرنا البقاء في هذا المكان، والاستمرار في صناعة الخزف الفلسطيني حتى اليوم».
مزار السائحين
يشير بليان إلى أن للخزف الفلسطيني رونقه وهناك من يقدر ذلك، ولا يأبه بالسعر في مقابل الحصول على قطعة فنية مجبولة بالعرق، غير مصنعة آليا، مبينا أن المتجر «مزار للعديد من السياح الأجانب، وهم يفضلون صناعتنا، بعضهم يأتي بعد أعوام ليبتاع المزيد من القطع وآخرون ينصحون أقاربهم وأصدقاءهم من زائري القدس بزيارتنا، والحصول على قطع فنية كتذكار فلسطيني من المدينة المقدسة، في حين يكتفي بعضهم بزيارة موقعنا الإلكتروني، ليشعر بالتواصل مع عبق التاريخ وعراقته في القدس».
هوية أرمنية لطمس الفلسطينية
ورغم الانتشار الكثيف لمصانع الخزف الآلية في فلسطين والصين وغيرهما، إلا أن بليان مصرّ على مواصلة العمل في المتجر حتى آخر يوم في حياته، لافتا إلى أن «سرّ الصنعة» يبقى محفوظاً لدى أبناء العائلات الثلاث من مزاولي المهنة.
ويوضح نيشان بليان أن السلطات الإسرائيلية تثابر على نزع الصفة الفلسطينية عن المصنع وتتعامل معه بالكتابات والشروحات كفن أرمني. وينوه إلى أن بعض دول الخليج بدأت في الآونة الأخيرة باستيراد منتوجات السيراميك من مصنعه بغية تزيين المساجد قيد البناء.
صناعة الخزف في فلسطين
وفي رأي الباحثين في التراث يعود تاريخ صناعة الخزف في فلسطين إلى فترة لا تقل عن 400 عام حيث كان الأتراك هم أول من أدخل هذه الصناعة إلى فلسطين من خلال عمليات ترميم المسجد الأقصى في القدس الشريف. وكان مصنع الخزف الفلسطيني أول مصنع للخزف يقام في القدس عام 1922. وفي الخليل أنشأ أول مصنع في عام 1962، وازدهرت هذه الصناعة على مدى العقود الماضية حيث ارتبطت هذه الصناعة في هذه المدينة، وازداد عدد المصانع ليصل إلى خمسة وعشرين مصنعاً، فيما تم إنشاء مصنع واحد في مدينة بيت لحم وآخر في مدينة البيرة، إلا أن هذين المصنعين قد أغلقا بعد قيام انتفاضة عام 2000 كما أغلقت عشرة مصانع في مدينة الخليل.
التصدير
وحسب وزارة السياحة الفلسطينية يبلغ عدد العاملين في هذه الصناعة حوالي 100 عامل، بمعدل 4-6 عمال في المنشأة الواحدة ويتم تسويق 30 في المئة من الإنتاج محلياً، و30 في المئة منه يصدر إلى أراضي 48 و20 في المئة يسوق في الدول العربية خاصة الأردن، أما الباقي وهو ما يشكل 20 في المئة فيصدر إلى أوروبا وأمريكا. وتستورد هذه الورشات المادة الخام (الطينة والأصباغ) من هولندا وإسبانيا وقد قامت محاولات من قبل مصنعين محليين لإنتاج المادة الخام محلياً، إلا أن تكاليف الإنتاج كانت أعلى من تكلفة الاستيراد بسبب عدم توفر جميع المواد الطبيعية اللازمة في التربة الفلسطينية.