قصة المستثمرين مع «الرقابة» في الأردن
بسام البدارين
نصيحة وزير داخلية أردني سابق ينتمي للتيار العروبي القومي كانت بسيطة ومباشرة لأحد المغتربين عندما سأله عن أيسر الطرق لتجديد وثيقة سفر بدون الخضوع للتعقيدات البيروقراطية والأمنية والزمنية.
فرد الوزير : عندما تدخل دائرة الجوازات والأحوال المدنية تجد رجلا طويل القامة يرتكي دائما على طرف الكاونتر .. توجه إلى هذا الرجل وقدم له معاملتك برفقة 20 دينارا فقط.
فهم السائل بأن هذه أقرب وأسهل وصفة لتجاوز عقدة انتظار الدور الطويل وأي عقبة بيروقراطية، مقابل هذه الرشوة الزهيدة سيحصل السائل المراجع على مبتغاه.
من الواضح أن الرجل الطويل المقصود يعمل في وظيفة مراسل إداري وبالتالي يستطيع تقديم الخدمة مقابل هذا المبلغ الصغير جدا بدون المرور لا على الحواجز ولا على النوافذ ولا على الموظفين وبدون المرور، وهذا الأهم، حتى عما يسمى في عالم الوثائق الرسمية وتجديدها باللجنة الامنية التي غالبا ما تكون لجنة غامضة لا احد يعرفها حتى يناقشها.
بكل الأحوال لا تشكل مثل هذه المفارقة البيروقراطية الصغيرة سرا لدى عامة الأردنيين .
المفارقة تتجلى بهيبتها ووقارها عندما يعتبر وزير داخلية سابق بأن تلك الوصفة الأفضل.
في المشهد الثاني يقف مستثمر سوري كبير في إحدى مناطق شمالي الأردن بعدما أقام منذ عامين مصنعا ضخما لصناعة المعلبات الغذائية يشتغل فيه آلاف السوريين والأردنيين. يقف المستثمر أمام نخبة من الزوار القادمين لتفقد أحوال المنطقة من العاصمة عمان ثم يخطب في القوم مظهرا كل تلك المجاملات المعلبة أيضا التي يمكن أن يطلقها صاحب رأسمال أجنبي أمام نخبة عريضة من موظفي ومواطني البلد الذي يضع فيه أمواله.
خلال الخطبة يشتكي الضيف السوري ولكن بلغة دبلوماسية وناعمة جدا تشبه لغة أهل التجارة العريقة في الشام.
محور الشكوى يتمثل في إعاقة العمل في مصنعه من قبل مجموعات لا تكل ولا تمل تتحرك للتفتيش والمراقبة باسم الدولة الأردنية.
نعرف كأردنيين تمام المعرفة ما الذي يتحدث عنه المستثمر فلو كنت صاحب مطعم أو مصلحة أو مصنع في أي مدينة أردنية لقضيت الوقت الأكبر من نهار العمل في استقبال زوار الرقابة فما إن يخرج موظف البلدية مثلا حتى يحضر المعني بوزارة الصحة، وما إن يزورك مدقق معاملة رخصة المهنة قد يحضر بعده مباشرة فريق يمثل وزارة العمل.
مفتشون من كل صوب وحدب .. مرة باسم البيئة ومرة باسم الاشجار الحرجية .. ثالثة باسم الغذاء والدواء ورابعة باسم المجلس القروي أو البلدي وخامسة باسم بعض الأجهزة الأمنية وسادسة باسم الحاكم الإداري .. الجميع يراقب في الحالة البيروقراطية الأردنية.
ودليلي على مأساة المراقبين وهم في الاغلب موظفون صغار في الميدان هو أن الحكومة مؤخرا فقط اعترفت بزحام الرقابة وزحمة المفتشين فأقرت تشريعا وأرسلته للبرلمان يسعى إلى توحيد العسس والمراقبين باسم الدولة ومؤسساتها.
وحسب تصريح من وزير في الحكومة فأن عدد المؤسسات الرسمية التي تتيح تشريعاتها لها إرسال مراقبين ومفتشين قد يصل إلى 18 جهة. نعود للمشهد هنا وللمستثمر السوري والد صناعة معلبات الغذاء فقد اشتكى الرجل مبتسما وبنعومة من كثرة المراقبين وانشغاله مع الإدارة بهم والوقت الكبير المهدور رغم أن منتجاته حاصلة، كما قال، على الحق في التصدير لأسواق أوروبا وأمريكا وملتزمة بكل المواصفات والمعايير الدولية وليس الأردنية فقط .
الأهم وما أريد الوصول إليه هو التعليق التلقائي الذي صدر بعد الاستماع لشكوى الرجل الصناعي عن شخصية بارزة جدا حضرت اللقاء واستعملت عبارة ساخرة بسيطة وفي التعليق وبلغة عامية مع ابتسامة ..« يا حاج .. ليش ما تعطيهم شوية كراتين يا أخي ».
ضحك الحاج وأقسم إنه يفعل ولكن دون فائدة مسترسلا في شرح تفاصيل إعاقة عمله بسبب زحام المشاهدين.
مشهدان مؤلمان جدا ويفجران مأساة الوضع الإداري البيروقراطي الأردني ويختصران إلى حد كبير مؤشرات التشتت والفوضى التي تمنح موظفين صغارا في الميدان الحيوي والإداري صلاحيات واسعة تنحصر وظيفتها في إما تجاوز المتطلبات القانونية أو مضايقة وإقلاق وإزعاج من منحه الله سبحانه وتعالى القدرة على الاستثمار.
يحصل ذلك فيما تتسرب أنماط الرشوة الصغيرة إلى الواقع الاقتصادي والاستثماري والإداري وبشكل خطير. في مقدمة أرى سياسيا أنها لا تنذر بالخير لأن منظومات متكاملة في دول مجاورة بدا انهيارها عندما انحرفت سلوكيات واخلاقيات بعض الموظفين الصغار في الميدان أو عندما أخفق القانون في ترسيم وتحديد طبيعة العلاقة بين أي مستثمر أو مواطن صاحب حاجة وبين المعنيين بتقديم الخدمة أو الحاجة أو حتى المراقبة والتفتيش باسم أجهزة ومؤسسات الدولة.
ويحصل ذلك في الوقت الذي ينشغل فيه قائد البلاد شخصيا، وبصفة دائمة لا بل يومية، بالدعوة إلى إصلاح الإدارة والعمل على تحفيز النمو الاقتصادي وجذب الاستثمارات.
مرة أخرى ثمة زحام في منطقة المراقبين والمفتشين وثمة شللية ومجموعات يمكنها أن ترهق أي مواطن أو مستثمر وبكل القطاعات بدون استثناء ولا أحد يقاوم هذه المجموعات التي تعتدي عمليا بدون طرح سؤال بعنوان من يراقب الرقابة على مستقبل الأردنيين وليس حاضرهم فقط .
جديد فعلا علينا انتشار المحسوبية والوساطة والرشوة الصغيرة، ومستجد تماما أن تقر بذلك نخبة من علية القوم وعلى نحو ساخر كما حصل فعلا في الحالتين المؤسفتين اللتين ذكرتهما أعلاه.
إعلامي أردني من أسرة «القدس العربي»