.... تابع
الحقيقة الرابعة تتعلق بماهية وحقيقة الخلاف بين الفصائل والأحزاب الفلسطينية المعاصرة؟ وما هي أهميتها؟ وإذا كانت كما قيل لنا في حينه من أنها تمثّل مبادئ الحياة والموت التي لا يمكن التنازل عنها ولا التفريط بها، فلماذا يتم التخلي عنها اليوم بهذه السرعة والسهولة؟
لقد استغرق حركة فتح ثلاثين عاماً لقبول التفاوض مع إسرائيل والتوصل إلى اتفاق اسمه "اتفاق أوسلو". حقق ذلك الاتفاق المُختلف عليه أرضية تمكّن الفلسطينيون فيها من إقامة كيانية سياسية، كما نالوا معها اعتراف العالم بوجودهم السياسي. كان ذلك بالنسبة للقيادة الفلسطينية في ذلك الوقت نقطة بداية النضال لتحسين شروط الاتفاق على الأرض. لم تستغرق حركة حماس تلك السنوات الطويلة التي انتظرتها حركة فتح لقبول التفاوض غير المباشر مع إسرائيل، وتوصلت لاتفاق مع إسرائيل بوساطة غربية اسمه "اتفاق التهدئة". من ثم أعلنت مؤخراً عن استعدادها من حيث المبدأ قبول لدولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، بعد حوالي عشر سنوات فقط من تسلمها مسؤولية القيادة في قطاع غزة. وأعلنت حركة حماس ايضاً عن تفكيرها في الانضمام للمجلس الوطني الفلسطيني، أعلى سلطة تشريعية في منظمة التحرير الفلسطينية التي لم تعترف بها حركة حماس حتى الآن. ورغم ذلك فقد فشلت الحركتين الرائدتين لأكثر من ثلاثين عاماً على ظهور حركة حماس على ساحة النضال الفلسطيني، من التوصل لاتفاق بينهما.
في تغيّر جذري لذلك الوضع الذي استمر حوالي ثلاثة عقود طويلة، تشهد الساحة الفلسطينية في المرحلة الحالية تطوّر شجاع وإيجابي وجدير بالاهتمام والتقدير أطلقته حركة حماس من خلال قراراتها الجريئة والمسؤولة حول التوصل إلى مصالحة والتفكير في الانضمام إلى عضوية منظمة التحرير الفلسطينية والمشاركة في المجلس الوطني الفلسطيني، وإعلانها بأنها تدرس الموافقة على قيام دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بما فيها القدس العربية، وتهدئة علاقاتها مع الدول الغربية والأسرة الدولية، وتثبيت ودعم تحالفاتها العربية والإقليمية، واستعدادها للتعاون في سبيل تحسين الأحوال في قطاع غزة، شكّلت هذه المبادرة بداية وليس نهاية لحركة حماس، كما أن خطوات الاستجابة والتجاوب المسؤولة من قبل حركة فتح كانت ايضاً بداية جديدة لحركة فتح المتفتحة لمتطلبات الساحة والزمن. إن نبذ الانقسام والصدام هو في مصلحة ومستقبل الحركتين الفلسطينيتين وليس نهاية لهما أو لأحدهما.
والحقيقة الخامسة هي إدراك الغالبية العظمى من الفلسطينيين في الوقت الحالي، وبعد تجربة الانقسام المؤلمة، بأن الشعوب لا يمكن أن تنتصر إلاّ بتوحد القوى والقيادات والأهداف تجاه الاستعمار والاستيطان والبطش، وتاريخ شعوب العالم واضح في هذا الشأن ولا يقبل تأويل أو تحريف. لم يتم تحرير شعب من شعوب العالم إلاّ باتفاق أحزابه وفصائله على "برنامج سياسي مشترك" يتم وفقاَ لبنوده وأهدافه المتفق عليها طوعاً، النضال المقاوم المسلّح وكذلك الجهد السياسي والتفاوضي الدبلوماسي. إن التوصل للبرنامج السياسي المشترك لا يتم تالياً لتحقيق "المصالحة" أو "حكومات التوافق" اللتان لا يمكن تحقيق نجاح عملهما وفاعليتهما إلاّ بالتوصل مسبقاً لبرنامج سياسي فلسطيني مشترك، إن شعبنا لم ينس بعد فشل حكومتي توافق خلال الفترة الماضية لهذا السبب بالذات.
لماذا لم تنجح أي محاولة خلال العقد الماضي في إطار مفهوم المصالحة والتوافق والشراكة من تحقيق ما يريده الشعب الفلسطيني وتستوجبه ظروف الصمود والنجاح؟، والإجابة تتلخص في أن حركتي فتح وحماس كانتا مصرّتان على التمسك كلّ ببرنامجها السياسي، هذين البرنامجين اللذين ليسا فقط مختلفين في كافة الأوجه ولكنهما أيضًا متعارضين ومتصادمين ومعاديين لبعضهما أيضًا.
إن حتمية التوصل لـ "برنامج سياسي مشترك" تفرض نفسها كأولوية لا بد منها، قبل تشكيل حكومة وفاق أو اتفاق، وقبل الذهاب لانتخابات عامة رئاسية وتشريعية، وقبل العودة لمفاوضات مع إسرائيل أو الخضوع لمفاوضات إقليمية كما يبدو في الأفق. نحن اليوم بالقيادة الجديدة والجريئة لحركة حماس، والاستجابة المسؤولة من الرئيس عباس وحركة فتح، أقرب ما نكون للتوصل لبرنامج سياسي بين كافة التنظيمات والفصائل الفلسطينية.
والحقيقة السادسة هي أننا كفلسطينيين وفصائل سياسية متعددة لن نُعفى من المشاركة، خياراً أو غصباً، من التفاوض مع إسرائيل بشكل مباشر أو غير مباشر. لم يعد هناك وجود اليوم لاتفاقات سلام منفرد بين دولتين متعاديتين، على غرار اتفاقات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو. السيطرة اليوم والاتفاقات هي اختصاص احتكاري لقيادة التحالفات الدولية والإقليمية، وتجميع القوة الموحّدة، السياسية والاقتصادية والعسكرية، لعدد كبير من دول العالم فيما يسمى اليوم بالتوافق الدولي أو التحالفات الدولية، على غرار ما حصل في حرب تحرير الكويت، وتقسيم يوغسلافيا السابقة، وتغيير نظام الحكم في جنوب أفريقيا، وإسقاط نظام الرئيس صدّام حسين والذي تلاه إسقاط نظام العقيد معمّر القذافي. ولو قامت بعض القوى العظمى في حينه بدعم أحد النظامين العراقي أو الليبي، كما تدعم اليوم روسيا النظام السوري، لما كان قد سقط. يجب علينا أن نتذكر دائماً أن شعبنا الفلسطيني كان ضحية مبكرة لمفهوم التوافق الدولي لإنشاء دولة إسرائيل بعيد الحرب العالمية الثانية.
الاتصالات والمفاوضات والاتفاقات لا تفرض حقًا ولا تثبّت تنازلاً لأن ذلك مرتبط بالحتم بتغيّر موازين القوى التي هي في استطاعة الشعوب الحيّة والقادة ذوي الرؤى والإدراك والتصميم وإعمال العقل. إنما الذي يثبّت التنازلات ويقوّيها ويفرض واقعًا من العجز والتخبط هو ضعف وتفرّق وتناحر القيادات والفصائل وضياع الأولويات والتمسك بالرأي والسلطة كما نرى في بلادنا اليوم.
الحقيقة السابعة والأخيرة هي عن تطوّر النظام السياسي والعسكري العالمي، هذا النظام الذي يتجه نحو العودة مرة أخرى لعالم القطبين، مع اختلاف أساسي عن عالم القطبين القديم الذي استمر معظم سنوات القرن العشرين. عالم القطبين الذي نشهد بوادره اليوم في سوريا والعراق وليبيا وإيران وفنزويلا وكوبا والخليج العربي وفلسطين، والذي سيتبلور ويتطور خلال السنوات القادمة في نفس الاتجاه، هو عالم تعاون القطبين الأعظم بديلاً عن عالم المواجهة المباشرة وتصارع القطبين القديم.
على العكس من إشارات تبلور ريادة الدولتين الأعظم فإن قوى الدول الكبرى في العالم تواجه خيارات أو تطورات تحد من قدراتها أو تتفق مع خياراتها في التعامل مع مشاكل العالم الفسيح. فلقد اختارت الصين تطوير قوتها الاقتصادية الهائلة وتنشيط مشاركتها السياسية الدولية والمحافظة على تأسيس علاقات نشطة مع مختلف دول العالم بديلاً عن استعمال قواها العسكرية للحفاظ على مرتبتها الثالثة في تقييم القوى العالمية. ويشهد الاتحاد الأوروبي انشقاقات كبيرة وتضارب في المصالح والتحالفات تؤثر سلباً على أي نشاط مشترك أو منفرد للدول الأوروبية، جاد أو ذو أثر في السياسات الدولية. وتواجه دول الخليج العربي مشاكل ومعارك فيما بينها، ويتقلّص يوميّاً نفوذ وأحلام دول إقليمية في التوسع والسيطرة، وتعتمد سياساتها اليوم على مواجهة التغيّرات في مساحات أراضيها الوطنية.
تفرض هذه الحقائق المتعلقة بالسياسات الدولية وتأثيرها نفسها، سلباً أو ايجاباً، على فاعلية عملنا المقاوم والسياسي لنيل حقوقنا الوطنية الشرعية. تقول تلك الحقائق أن هناك توافق دولي يضم الجزء الأكبر من دول العالم بشكل أو آخر، يؤيد بقاء دولة إسرائيل وسلامتها، ويدعم ذلك بكافة السبل التي تمنع تهديدها أو يدعو لإزالتها. إن معظم دول العالم ايضاً تتمتع بعلاقات قوية، سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية، مع إسرائيل. أمّا الرفض والتهديد بين الدول فلن يتعدى صفحات الصحف وأثير الإذاعات والبرامج التلفزيونية. بالمقابل فإن حقائق الواقع الدولي تبيّن أيضاً أن الغالبية العظمى من دول العالم، بما فيها الولايات المتحدة وروسيا والصين ودول أوروبا، تدعم أو توافق على قيام دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، دولة مستقلة وذات سيادة ومتصلة وقابله للحياة، كما تؤيد أن تكون القدس العربية عاصمة لها، كما أن هناك دعم دولي شامل أيضاً يؤيد من حيث المبدأ عدم شرعية المستوطنات الاستيطانية على أراضي الدولة الفلسطينية. أمام قيادتنا الموحّدة القادمة خيار واضح بين التناغم مع العمل مع الشرعية والتأييد الدولي أو الوقوع مرة أخرى ضحية لهذا التحالف الدولي الجارف.
تبدو السمة العامة في التوجه الدولي نحو التعامل مع القضية الفلسطينية واضحة ومتبلورة في أن أي حل للمشكلة الفلسطينية سيكون طويل الأمد، متدرجا وتراكميّاً وإقليميّاً، كما سيكون هذا الحل خاضعاً لمفهوم حل الدولتين. إن هذه العوامل، الإقليمية والدولية، تحتّم على القيادة الفلسطينية الجديدة العاملة وفق برنامج سياسي مشترك أن تستفيد من الشرعية الدولية وتؤيد قراراتها المتناسقة مع حقوقنا الشرعية الثابتة. كما يتحتم على القيادة الموحّدة لشعبنا العمل نحو علاقات سلمية وهادئة ومتوازنة مع الدول العربية والإسلامية ودول منطقة الشرق الأوسط والعالم. حان الوقت الذي يجب أن نخرج فيه من التحالفات العربية المتنازعة، والتحالفات الإقليمية ذات الأهداف المتضاربة إلى علاقات متعادلة وطبيعية مع كافة الدول العربية بالذات، تتعلق أساساً وعلى وجه التحديد بالمصلحة الفلسطينية.
خلال التاريخ الطويل والدامي لمسيرة الشعب الفلسطيني لاسترجاع حقه المشروع في بلاده وحريته، اقتصرت مشاركة قياداتنا في الجهود الدولية على قبول أو رفض مبادرات سياسية قدمتها دول أخرى أو الأمم المتحدة، أو شخصيات ومنظمات وجمعيات و معاهد بحثية. لم تتقدم القيادة السياسية الفلسطينية بمبادرة أو اقتراح أو خطة تتضمّن رؤيتها، وشروطها وبرنامجها السياسي للعالم أو للأمم المتحدة أو الجامعة العربية أو حتى للفلسطينيين أنفسهم. وقد حان الوقت ليسمع العالم منّا وليس عنّا، حان الوقت لنقول للعالم ماذا نريد، ما الذي نقبله وما الذي نرفضه، بصوت واحد وبرنامج سياسي واحد، وشعب واحد يعيش على جزء من أرض فلسطينية واحدة. نقول للعالم أننا نريد أن نعطى السلام فرصة ولكن ليس على حساب حقوقنا الشرعية.
نقول للعالم أن شعبنا الفلسطيني الموحّد القيادة والأهداف قد عقد العزم على رفع الظلم والقتل والسجن والهدم والطرد ومصادرة الأراضي وسياسات العزل والحصار والحواجز التي مارستها الحكومات الإسرائيلية على شعبنا الصغير والمسالم خلال عقود طويلة. نقول لشعوب وحكومات دول العالم أن شعبنا مصمم لا زال على تحقيق أهدافه الشرعية في إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة، مسالمة ما سلمت من تهديدات وانتهاكات، عاملة مع شقيقاتها العرب لتطوير مستقبل زاهر وآمن لوجودها وشعوبها ومصالحها، منفتحة على العالم بأسره لخير البشر والبشرية. نخاطب العالم حول حقوقنا الشرعية في التصدي للقرصنة الإسرائيلية الاستيطانية في نهب أرضنا وإقامة المستوطنات والقواعد العسكرية خلافاَ لكل المعايير والقوانين الدولية، وأن شعبنا لن يقبل ولو أٌفني عن بكرة أبيه وجود مستوطنة إسرائيلية واحدة على أرضنا الفلسطينية. نتحدث للعالم عن اللاجئين وعودتهم، ومقدساتنا وحمايتها، وعن مياهنا وصيانتها من النهب، وعن حقنا في حرية التنقل إلى الدول المجاورة، ونشتكي للعالم وضمير الشعوب من عذاب أسرانا ومعتقلينا وجرحانا.
نقول للعالم جميعه مباشرة بان شعبنا المُعذب المنهك يريد أن يعطي السلام فرصة أخيرة، فرصة ترعى فيها الأمم المتحدة وفق مبادئ العدل والشرعية الدولية والإنسانية مفاوضات محددة الأساس والزمن والمدة، لتحقيق سلام عادل ودائم يعيد للفلسطينيين حقوقهم الشرعية.
لماذا "البرنامج الفلسطيني السياسي المشترك"، ولماذا الآن؟
لقد تابع الشعب الفلسطيني بترقب وأمل منذ غياب الرئيس الشهيد ياسر عرفات في عام 2004 المحاولات التي تمّت منذ ذلك التاريخ للتوصل لعمل مشترك أوالعودة عن الانفصال، والتي فشلت جميعها لتحقيق أحد الهدفين. اتفاق عام 2005 في ضاحية 6 أكتوبر قرب العاصمة المصرية كان فقط لتمرير الانتخابات التشريعية الفلسطينية بضغوط عالمية ورغبة عارمة من حركة حماس، ونجح في ذلك تماماً. حكومة حماس الأولى التي اقتصرت عليها فقط تركت الساحة لحكومة التوافق الأولى التي كان أهم أنجازتها الإنقسام الفلسطيني. اتفاق عام 2011 الذي يتكرر الحديث عنه حاليّاً قد تمت صياغة بنوده بشكل شامل يسمح للبدء في إجراءات تطوير وتفعيل المؤسسات الفلسطينية السياسية والمجتمعية فيما لو سبق ذلك اتفاق على مبادئ لبرنامج سياسي مشترك. المحاولة الأخيرة لحكومة مصالحة فلسطينية المتمثلة بحكومة التوافق الثانية والحالية لم تضف تقدماُ ملموساُ في مهمتها واستغرقت سنوات عمرها، فيما عدا منذ الشهر الماضي فقط، في خدمة مسؤليات الحكم في الضفة الغربية على وجه التحديد. يبدو فقط ان اتفاق المصالحة الأخير هو الوحيد الذي أعطى الفلسطينيين قبساً من الأمل في إمكانية النجاح.
ساهم مناخ الاحتقان والتوتر الذي ساد الساحة الفلسطينية في العقد الأخير في عدم تحقيق نجاح يسمح ببدء نقاش حول الخروج من الأزمة الخانقة للعمل الفلسطيني. ولكن السبب الحقيقي لفشل كافة تلك المحاولات التي لم يكتب لها النجاح هي تجاهل الوسيلة الوحيدة التي تفتح الطريق أمام التطوير والتفعيل والعمل المشترك، الوسيلة التي تهدف لتحقيق أولاً وقبل كل شيئ إتفاق حول أسس "برنامج سياسي فلسطيني مشترك". ذلك أن القفز لتطوير لتفعيل وتوحيد العمل السياسي والمجتمعي الفلسطيني قبل التوصل لبرنامج سياسي مشترك قد أدخلنا في متاهة لا خروج منها ولا حل لها. يبدو اليوم أن اتفاق المصالحة الأخير يجابه بعض التأخير في تنفيذه، وتتزايد كل يوم التصريحات التي تحمل الانتقادات والاتهامات بين الطرفين المتنازعين، ويتخوف الكثير من شعبنا أن هذا قد يذهب باتفاق المصالحة الجديد إلى نفس مصير اتفاقات المصالحة والتفاهم السابقة في عامي 2005 و 2011.
تكتسب مهمة إعداد مشروع برنامج فلسطيني سياسي مشترك أهمية قصوى سابقة لأي جهد نحو التوصل لاتفاق المصالحة الفلسطينية. ذلك لأن مشروع البرنامج السياسي هو العمود الفقري لمعالجة كافة القضايا الصعبة، الداخلية والخارجية، التي سوف تواجه جهود تحقيق مصالحة وبرامج عمل حقيقية وممكنة. ويتحتم أن تكون أولوية التوصل لبرنامج سياسي مشترك سابقة لإعادة ترتيب وأسس البعد الإداري والاجتماعي والأمني المنشود، كما أن لها أولوية في موضوع تشكيل حكومة توافق أو حكومة حيادية، وهي أيضاً أساس نجاح انتخابات رئاسية وتشريعية، ويجب أن تكون سابقة لأي اتصالات دولية أو مفاوضات إقليمية، مباشرة أو غير مباشرة.
الشق الأول من مضمون اتفاق المصالحة يتعلق على وجه التحديد بترتيبات الوضع الفلسطيني الداخلي، وهذه مهمة الفلسطينيين أنفسهم. هذا الشق يتضمن الاتفاق على تسليم السلطة وتوحيدها، وفتح معابر قطاع غزة ورفع ا لحصار عن أهلها، وتفعيل أسباب الحياة فيما يتعلق بالماء والكهرباء والوقود، والتعامل مع مشكلة الموظفين. إن كل هذه المشاكل تتعلق بنا وبتعاوننا ورغبتنا في تحسين ظروف الحياة لشعبنا الذي عانى لسنوات طويلة من الكبت والإهمال. المهمة الأكثر صعوبة، هي الشق الثاني من مضمون البرنامج المشترك، وهو توحيد موقفنا ومطالبنا ومقاومتنا لإدارة الصراع مع إسرائيل بفاعلية وتأثير، ومخاطبة العالم بصوت واحد، ورفع مستوى تحالفاتنا الإقليمية، وقد تكون الصعوبة المتوقعة حول التوصل لاتفاق فلسطيني مشترك حول هذا الشق ناتجة عن كون معظم متطلباته قد أصبحت في المرحلة الحالية شروط إسرائيلية وبعضها دولية أيضاً.
لقد حان الوقت للاعتراف بأن السبب الأساسي لفشل الاتفاقات والمصالحات الفلسطينية هو تمسّك كل من حركة فتح وحركة حماس كلُ ببرنامجه السياسي، وإصرار كل منهما على الانتماء والولاء للتحالفات الإقليمية والدولية المتعادية والمتصادمة، وأن أولويات واهتمامات الطرفين بعملية المصالحة مختلفة ومتضاربة. السلطة الوطنية مهتمة، فيما يتعلق باتفاق المصالحة، ببسط سلطتها على قطاع غزة وبالبعد السياسي وإدارة الصراع مع إسرائيل استعداداً لاحتمال مخططات القوى الأعظم لجولة مفاوضات جديدة. بينما ترى حركة حماس الأهمية القصوى للاتفاق تكمن في حل مشاكل قطاع غزة المالية والمعيشية وتحميل السلطة الوطنية الأعباء التي يعاني منها سكان قطاع غزة والتي تجاوزت إمكانيات حركة حماس خاصة بعد التطورات الإقليمية والخليجية. من ناحية أخرى تبدو حماس غير مستعجلة لمناقشة البعد السياسي الخارجي لاتفاق المصالحة لأنها تنتمي سياسياً، منذ إنشائها، للفكرالمعارض للمفاوضات. لقد علمتنا تجارب الماضي إن حماية ودعم أي حركة سياسية فلسطينية، بما فيها حركتي فتح وحماس، تتأتى من فلسطين وشعبها ولا تتأتى من دول مجاورة قريبة أو بعيدة.
تريد إسرائيل، في تنفيذ سياساتها الاستيطانية التوسعية، الاعتماد على شروط تبدو شرعية أمام دول العالم، ويجب علينا تفنيد تلك الشروط قبل طرحها من إسرائيل أو أية دولة أخرى. تطالب إسرائيل حركة حماس بشروط تعجيزية عديدة يسقط منطقها وشرعيتها بانضمام حركة حماس لمنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أن اتفاق أوسلو قد تم بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية ولم يشترط على أي حزب فلسطيني أو إسرائيلي التقدم بمثل هذا التعهد. ولكن ربما تتم المطالبة مستقبلاً بتطبيق هذه الشروط الإسرائيلية على رئيس دولة فلسطين القادم في حالة فوز حركة حماس بالانتخابات الرئاسية الفلسطينية.
أمّا موضوع نزع السلاح فهو موضوع قابل للنقاش، ليس بين الطرفين الفلسطينيين بل بينهما مجتمعين في مواجهة إسرائيل والشرعية الدولية. فإذا كان أمن إسرائيل ضرورة لحياة طبيعية وآمنه للإسرائيليين ويوقف تهديد الفلسطينيين لها، فإن أمن الفلسطينيين أيضاً وحياتهم الآمنة يتطلب وقف تهديد إسرائيل لهم. لأن هناك تهديد إسرائيلي ملموس وواقعي يختلف عن التهديد الفلسطيني المحتَمل. إن حصار غزة والاجتياحات الإسرائيلية المتكررة لها وآلاف الشهداء والجرحى والمهجّرين وتهديم المدن والقري ليس تهديداً محتملاً ولكنه تهديد واقعي ملموس. وكذلك رفض إعادة القدس العربية ومصادرة الأراضي في الضفة الغربية وبناء المستوطنات وزرع الحواجز العسكرية على طرقها وآلاف الأسرى والمعتقلين، كلها ليست تهديدات محتمله بل تهديدات واقعية ملموسة تستنزف دماء وأرض وحرية الفلسطينيين في كل يوم. الفلسطينيون لا يحتاجون لأسلحة إلاّ للتصدي للتهديدات الإسرائيلية، ومتى انتهت هذه التهديدات سوف لا يكون هناك مشكلة لتخلى الفلسطينيين عن سلاحهم.
سوف تستمر سياسة إسرائيل التوسعية في المرحلة القادمة ضد الشعب الفلسطيني وأهدافه الشرعية، وكذلك سياستها الاستيطانية ومصادرة الأرض، والتخلي عن مسؤولياتها التي تبنّتها قرارات الأمم المتحدة واتفاق أوسلو، وإفشال عملية المصالحة الوطنية الفلسطينية، عن طريق استراتيجية جديدة تعتمد على افتعال تهديدات ومعارك مع حماس من خلال الشروط التعجيزية التي تتوالى إسرائيل في إطلاقها وتصعيدها كل يوم. يجب على كل الفلسطينيين والفصائل والأحزاب الفلسطينية حماية حركة حماس والوقوف بجانبها في مواجهة التفرّد الإسرائيلي المخطط له ضدها.
إن القرارات والإشارات الأخيرة الشجاعة لحركة حماس في بلورة أهدافها وتطلعاتها وأهمها رغبتها بالانضمام لمنظمة التحرير الفلسطينية والمشاركة في مجلسها الوطني ومؤسساتها السياسية والإدارية، هي جواز السفر المقبول والمرحب به من الأسرة الدولية والتي لا تستطيع إسرائيل تجاهله أو إنكاره وهي التي ارتبطت مع منظمة التحرير الفلسطينية باتفاقات شهدها وأيدها ووثقّها المجتمع الدولي بأسره. تحتاج حركة حماس اليوم تأييد "الكل" الفلسطيني، لأننا جميعاً ربما في فرصة أخيرة، مطالبون بالإجابة على أسئلة صعبة ومؤلمة تحتاج لمسؤولية وشجاعة قيادة شعبنا الجديدة الموحّدة.
سوف يحقق "البرنامج السياسي الفلسطيني المشترك" المبكر، الدخول الآمن لحركة حماس إلى حضن الشرعية الفلسطينية المقبولة والمدعومة من غالبية دول العالم. إن التوصل لبرنامج سياسي فلسطيني مشترك يتضمن انضمام حركة حماس لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتزامها بميثاق المنظمة وأهدافه ووسائلها واتفاقاتها، سوف يصعّب مهام إسرائيل، ويجبّ شروطها المجحفة. إن تحقيق كل ذلك مشروط بالتوصل إلى "برنامج سياسي فلسطيني مشترك" قبل بدء المفاوضات أو القتال بيننا وبين إسرائيل.
ليس من الضروري أن تتوصل الفصائل والأحزاب الفلسطينية في اجتماعهم القادم في القاهرة إلى برنامج سياسي مشترك جامع ومانع لكل التفاصيل والمواضيع. بل المطلوب والمُنتظر من قبل شعبنا هو خطوة ملموسة متقدمة على طريق تحقيق كامل لمصالحة نهائية. خطوة مبادئ محددة ومختصرة تعني الكثير ويمكن البناء عليها وتطويرها، خطوة على غرار مشروع "البرنامج السياسي الفلسطيني المشترك" المرفق.
مشــــروع
البرنامج السياسي الفلسطيني المشترك
الصادر عن مؤتمر القاهرة في 21/11/2017
اولاً: تعتزّ كافة الفصائل والأحزاب الفلسطينية الموقّعة على هذا البرنامج بمنظمة التحرير الفلسطينية، وتشيد بتأكيد حركة حماس للعمل الفوري لاستكمال توسيع عضوية منظمة التحرير لتشمل كافة الفصائل والأحزاب السياسية الفلسطينية، وتؤكد كافة الفصائل والأحزاب التزامها بميثاق منظمة التحرير، والمشاركة في كافة أجهزتها وإداراتها السياسية والاجتماعية، واحترامها لمبادئ اختيار رئيسها ومسؤوليها وانتخاب أعضاء مجلسها الوطني.
ثانياً: تعترف كافة المنظمات والفصائل والأحزاب الفلسطينية الموقّعة على هذا البرنامج بشرعية السلطة الوطنية الفلسطينية ممثلة وحيدة للشعب الفلسطيني، وتؤكد أهليتها التنفيذية لإدارة شؤون الشعب الفلسطيني في مختلف تواجدهم على أراضي دولة فلسطين. وتتعاهد كافة المنظمات والفصائل والأحزاب الفلسطينية بالبدء فوراً في تشكيل اللجان اللازمة لتطوير وتفعيل عمل منظمة التحرير الفلسطينية، وفق المبادئ والأسس الواردة في إتفاق عام 2011.
ثالثاً: تتمسّك كافة المنظمات والفصائل والأحزاب الفلسطينية بحق الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية وفصائله وأحزابه، في المقاومة والتصدي لأي عدوان أو اجتياح خارجي على الأراضي الفلسطينية. ويحتفظ الشعب الفلسطيني وفصائله وأحزابه بحق الرد بكافة الوسائل دفاعاً عن الشعب والأرض الفلسطينية.
رابعاً: تتعهد كافة الفصائل والأحزاب الفلسطينية المنضوية في عضوية منظمة التحرير الفلسطينية بالدخول فوراً في محادثات تتعلق بالتحضير لإجراء انتخابات بلدية وتشريعية ورئاسية في أقرب وقت ممكن، باعتماد صلاحية قانون الانتخابات الرئاسية والتشريعية لعام 2006، وتسليم السلطة في كل أنحاء أراضي دولة فلسطين لحكومة إجراء انتخابات يترأسها أرفع منصب فلسطيني قضائي لمدة ستين يوماً وفق بنود القانون الأساسي في هذا الصدد
خامساً: تتعاهد كافة الفصائل والأحزاب الفلسطينية على الالتزام بمبادئ فصل السلطات، والحفاظ على الحريات العامة وحقوق المواطنين، وحرية المعارضة والتظاهر السلمي، وتطبيق حكم القانون، وقواعد تداول السلطة.
سادساً: تتعهد كافة الفصائل والأحزاب الفلسطينية بالتعاون والعمل الفوري خلال أسبوعين من تاريخ هذا الاتفاق لتشكيل لجان فنية ومهنية متخصصة، تضم في عضويتها عضو من كل من حركة فتح وحركة حماس، لدراسة وإقرار حلول لكافة المشاكل الاقتصادية والإدارية والمعيشية التي تعصف بالمجتمع الفلسطيني في أقرب وقت ممكن.