أزمة أوروبا القديمة
تدفع الانتخابات الفرنسية للتفكير والتأمل العميقين في ما حدث، فهو جزء من ظاهرة أوروبية وعالمية تختمر ولها ما بعدها.
في فرنسا قفز اليمين المتطرف بقيادة ماري لوبين ابنة زعيم الحزب السابق جان لوبين وهو لم يكن أكثر من مجموعة هامشية تعود بجذورها للفاشية والنازية المقبورة، وكان مجرد وجوده العلني في الساحة يستفز الناس الذين يتذكرون التضحيات المؤلمة وحرب المقاومة الشعبية البطولية للفاشية والنازية اثناء الحرب العالمية الثانية الى الواجهة بما يزيد على 20 % من اصوات الناخبين. وهي نسبة ضخمة كانت لوبين تأمل في أن تكون أكبر بفعل انتشار روح النفور والعداء للمهاجرين، خصوصا بعد العمليات الارهابية المتكررة التي تتبناها داعش ويقوم بها متطرفون إسلاميون.
لكن اليمين المتطرف لم يكتسح رغم طروحاته التي تلقى هوى بالنفوس لأن خوف الفرنسيين من الدعوات المتطرفة في الداخل ومن تداعيات الخروج من الاتحاد الاوروبي الذي تمثل فرنسا مع ألمانيا محوره واساسه كان أقوى. لكن ماذا حدث مع الأغلبية من الناخبين؟ هنا نجد الانقلاب المدهش وهو التنكر الواضح للقوتين التقليديتين اللتين تناوبتا على حكم فرنسا لعقود؛ وهم اليمين المعتدل واليسار المعتدل ممثلان بالحزب الجمهوري (الديغولي) والحزب الاشتراكي والذهاب الى بديل ثالث طارئ لم يكن بالحسبان. هناك طبعا عوامل ظرفية سلبية احاطت بالمرشحين، مثل الفضائح التي لاحقت مرشح اليمين الجمهوري والانقسامات حول مرشح الاشتراكيين، لكن الحقيقة الابعد ان الرأي العام لم يعد يؤمن بالحزبين الكبيرين ومل السياسيين المخضرمين بينما واقع البلاد يتردى ومشكلة المهاجرين الذين يأخذون الوظائف ويتحدَّون الثقافة والهوية الفرنسية تتفاقم، بينما يتسرب عدد منهم الى الارهاب، فحصل الحزبان على ادنى اصوات في تاريخهما.
بالمقابل صعد نجم شاب (ايمانويل ماكرون) مستقل ظهر حديثا وتولى مسؤوليات اقتصادية مع هولاند، لكنه ادار الظهر للحزب الاشتراكي وتقدم كمرشح مستقل اسس حركة جديدة ودحر الحزبين الكبيرين التاريخيين وحصل على أكثر من مجموع ما حصل عليه مرشحو الحزبين، وهو لا يطرح اي برنامج ملموس بل فقط لغة جديدة فيها شيء من الشعبوية انما لا تقدم التزامات محددة بل تدعو للحداثة وتنبذ السياسات والمصالح المتكلسة وتطرح طرقَ سبلٍ جديدة ومبتكرة، وهي لم تكن مقنعة للمراقبين السياسيين لكن ميزتها التي جذبت الجمهور هي تجاوز القوى التاريخية وسياساتها.
الطرف الثالث الذي نافس ماكرون ولوبين وحاز قريبا منهما على المركز الثالث هو مرشح اليسار الراديكالي (جان لوك ميلينشون) المعارض للسياسات الرأسمالية ويمثل صوت العمال والفئات الكادحة، وبذلك فإن الساحة السياسية تعدلت بصورة جذرية بين اليسار واليمين الراديكالي والوسط الجديد على حساب يمين الوسط ويسار الوسط القوتين التقليديتين التاريخيتين الحاكمتين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
نستذكر أن الاستفتاء في بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي فاز بالأغلبية رغم انف دعوة الحزبين الأكبر العمال والمحافظين للتصويت لصالح البقاء في أوروبا، وبفعل الأزمة الراهنة دعت رئيسة الوزراء الى انتخابات برلمانية جديدة، لكن الحزب القومي الاسكتلندي استغل الفرصة للدعوة مجددا الى استفتاء انفصالي عن بريطانيا. وهكذا يبدو المستقبل غامضا ومهددا من عدة نواح في بريطانيا. وهناك انتخابات قادمة في ايطاليا وألمانيا قد لا تشهد بروز شخصية او جماعة تحقق الاختراق المذهل الذي حصل في فرنسا، لكن المؤكد ان القوى التقليدية ليمين ويسار الوسط هي في أزمة عميقة لأن خطابها المتوازن المعتدل بشأن كل القضايا ومنها موضوع المهاجرين والجاليات الاجنبية اصبح بعيدا عن مشاعر الجمهور وكل عملية ارهابية تحدث تزيد أزمة هذه الاحزاب وتعزز الميول المتشددة لدى الجمهور وتزيد المشاعر السلبية تجاه الوحدة الأوروبية.
لا نريد المغامرة بأي توقعات حول خريطة اوروبا السياسية للسنوات القادمة، لكن التغييرات حتمية ان لم يكن بولادة قوى جديدة تتجاوز المشهد القديم المستقر منذ الحرب الثانية او بتغييرات عميقة في المفاهيم والسياسات.