الفصل الرابع
تطور الأزمة وتصعيدها
الأزمة ومجلس الأمن
سعت الدول الغربية المعنية بالأزمة، للتأثير على مجلس الأمن لإصدار أكثر من قرار، يتضمن فرض العقوبات الاقتصادية والسياسية والمعنوية ضد ليبيا، وبما يؤثر على الأمن القومي الليبي، حتى بلغ إلى حد تقليص الروابط الدبلوماسية مع الجماهيرية الليبية وتم تشديد هذه العقوبات في ديسمبر 1993 ويتم مراجعة هذه العقوبات في مجلس الأمن كل 120 يوماً.
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، إلاّ أن التشدد الحاصل مع بعض أطراف التحالف الغربي، ضد ليبيا، ولا سيما من الولايات المتحدة الأمريكية، ظهر واضحاً في تصريحات المندوبة الأمريكية، مادلين أولبريت، في ذلك الوقت، التي خالفت القواعد الخاصة بمجلس الأمن، وناقشت قضية تجديد العقوبات قبل موعدها لكي تتم أثناء رئاستها للدورة الحالية لمجلس الأمن. وأكدت أن أي اقتراحات بديلة لحل الأزمة، لن تكون مجدية. وهذا يعني ببساطة، سد الطريق أمام كل جهود دبلوماسية، أو مقترحات للتسوية، تقدمها أي من دول العالم أو المنظمات الإقليمية.
تأتي هذه الأزمة في أعقاب أزمة الخليج الثانية، وما ترتب عليها من نتائج على المستوى العربي والإقليمي والدولي، وفي مرحلة تشهد تشكيل نظام دولي جديد، يستند إلى توازنات وتحالفات جديدة، ويسعى إلى بلورة مجموعة من القواعد الجديدة المنظمة للعلاقات، بين الدول. ومن ثم فهذه الأزمة تعد بمثابة أول مواجهة بين العرب والواقع الدولي الجديد.
تم تكثيف التحرك الغربي للأزمة، من خلال إيفاد مندوبين لإجراء اتصالات على مستوى العواصم، أو في إطار الأمم المتحدة، وذلك لتمرير قرار من مجلس الأمن. ولقد تمكنت الدول الغربية، من إصدار القرار الرقم 731 (انظر ملحق قرارات مجلس الأمن المتعلقة بأزمة لوكيربي)، بالإجماع، وتحت ضغط شديد من الولايات المتحدة الأمريكية حتى آخر لحظة قبل التصويت (كان احتمال كبير أن تمتنع الصين والهند والمغرب وزمبابوي) عن التصويت، وصدر القرار في 21 يناير 1992، ويتلخص في البنود الآتية:
1. إدانة تدمير الطائرة الأمريكية، والطائرة الفرنسية.
2. عدم استجابة الحكومة الليبية بصورة فعالة وكاملة لمطالب الدول الغربية.
3. حث ليبيا على الاستجابة الفورية والكاملة للمطالب، وبما يساعد في القضاء على الإرهاب الدولي.
4. يطلب من الأمين العام للأمم المتحدة، أن يلتمس من ليبيا التعاون.
5. حث جميع الدول على تشجيع ليبيا، للاستجابة للمطالب.
التحليل القانوني والسياسي لقرار مجلس الأمن
1. جاء اعتماد القرار بالإجماع، تأكيداً لسطوة وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على مقاليد الأمور في مجلس الأمن، وعلى قدرتها على حشد جميع أعضاء المجلس لتأييد الموقف، الذي تنادي به، سوء كان يدخل ضمن الإطار التقليدي لصلاحيات المجلس، أم لا؛ وهو ما يعكس قواعد التعامل الدولي في الظروف الراهنة.
2. لم يكن اعتماد القرار بالإجماع أمراً سهلاً، على الرغم من التعاطف الدولي العام، من الناحيتين السياسية والإنسانية مع ضحايا الطائرتين، الأمر الذي يشجع على اتخاذ موقف جدي ضد الإرهاب، الذي يتعرض له الطيران المدني. وذلك أن الجوانب القانونية المحيطة بالموضوع، دفعت عدة دول لإبراز أن ما جاء في القرار، لا ينبغي أن يشكل سابقة يمكن استخدامها في المستقبل، لأن هناك احتمال امتناع الدول عن التصويت.
3. يمثل صدور قرار مجلس الأمن الرقم 731 خطورة كبيرة، للأسباب الآتية:
إعطاء سلطة للدول للتصرف الفردي لحماية مواطنيها من أعمال الإرهاب (الفقرة الثانية من القرار)، وهذا يفتح الباب على مصراعيه، للتدخل في أمور تمس سيادة الدول.
أ.
مطالبة الدول المتهمة والمتهمين من مواطنيها، بالاستجابة لنتائج تحقيقات أجرتها سلطات الدول، التي توجه الاتهام.
ب.
تحويل مجلس الأمن إلى أداة لاتخاذ موقف قانوني وقضائي، في حين أنه جهاز سياسي في المقام الأول، يخضع لأحكام الميثاق، التي تنص صراحة على ضرورة إحالة الجوانب القانونية للمنازعات، إلى محكمة العدل الدولية للبت فيها.
ج.
وقد مضت ليبيا تنفي الاتهامات الغربية بشدة، وترفضها رسمياً. كما أعلنت عن ضرورة تحويل ملفات التحقيق، إلى جهات قضائية أخرى محايدة للنظر فيها. وهو الأمر الذي اعتبرته الدول الغربية نوعاً من التشدد، واستمراراً لسياسة دعم الإرهاب ومساندته.
بذلت ليبيا جهوداً مكثفاً على كافة الأصعدة، وتعاملت مع الأزمة، بنوع من عدم الانفعال والتعقل، رغماً عن الضغوط المتزايدة من قبل الدول الغربية، مما يساعد ليبيا في حشد رأي عام عربي وإسلامي وأفريقي، ضد اتهامات الدول الغربية. وبما يدعم موقفها ويخفف من حدة الأزمة. ولكن جانب القيادة الليبية حسن التقدير، من خلال رفضها الرسمي تسليم المتهمين، حيث أتاحت مناخاً مناسباً لباقي أطراف الصراع لتصعيد الموقف، على الرغم من أن طلب تسليم المتهمين، لم يكن مقيداً بفترة محدودة.
موقف الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا وفرنسا
1. استمرار الضغوط وتزايدها، على ليبيا لحثها على الاستجابة للقرار الرقم 731، الصادر من مجلس الأمن.
2. التلويح بإصدار قرار جديد من مجلس الأمن، يشتمل على العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية.
3. إصرار كل من بريطانيا وفرنسا، على ضرورة تسليم المتهمين ورفضهما لأي حل وسط.
4. تحرك دبلوماسي واسع للدول الغربية الثلاث، لإقناع مجلس الأمن بضرورة إصدار قرار ينص على عقوبات لإجبار ليبيا على تنفيذ قرار مجلس الأمن الرقم 731، وتسليم المتهمين. وجرى ذلك خلال اتصالات على مستوى العواصم، وفي إطار الأمم المتحدة، ولقاء بين السفراء.
5. مارست الدول الغربية الثلاث، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ضغوطاً شديدة على أعضاء مجلس الأمن، وخاصة الدائمين (الصين خاصة)، لحثها على عدم استخدام حق الفيتو، ويمكن الامتناع عن التصويت.
6. تعاملت الدول الثلاث مع الأزمة ككيان واحد، بهدف تحقيق أكبر قدر من المطالب من النظام الليبي، وهي باختصار:
أ. نبذ الإرهاب وعدم التدخل لزعزعة الاستقرار، في الدول، وخاصة الأفريقية.
ب. الامتناع عن إرسال أي دعم مالي أو أسلحة أو تدريب إلى تلك الدول.
ج. قبول التفتيش على نشاطاته، في مجال أسلحة الدمار الشامل.
7. نجحت الدول الثلاث، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، في إصدار قرار مجلس الأمن الرقم 748 في 31 مارس 1992، والمتضمن فرض عقوبات جوية وعسكرية ودبلوماسية على ليبيا، يتم تنفيذها اعتبارا من 15 أبريل 1992 (انظر ملحق قرارات مجلس الأمن المتعلقة بأزمة لوكيربي).
8. وقد امتنعت خمس دول عن التصويت، هي (الصين، والهند، وزيمبابوي، وجزر الرأس الأخضر، والمغرب) ويتلخص القرار في الآتي:
ضرورة امتثال ليبيا لقرار مجلس الأمن الرقم 731، وتسليم المتهمين، مع التزام ليبيا بوقف دعمها للإرهاب، واتخاذها إجراءات ملموسة لذلك.
أ.
فرض حظر جوي من وإلى ليبيا، مع إغلاق جميع مكاتب شركة الطيران الليبية في العالم، ومنع الدول من تقديم أي دعم (فني ـ قطع غيار) للطائرات الليبية.
ب.
حظر توريد أي نوع من الأسلحة، أو تقديم معاونة فنية، أو تدريبات عسكرية، مع سحب جميع المستشارين العسكريين الأجانب من ليبيا.
ج.
تخفيض البعثات الدبلوماسية الليبية في الخارج، وتقييد ومراقبة الباقي منهم، واتخاذ الخطوات المناسبة لمنع دخول أو طرد المواطنين الليبيين، الممنوع دخولهم لأي دولة أخرى، أو سبق طردهم منها، بسبب أنشطة إرهابية.
د.
يستعرض مجلس الأمن، هذه القرارات كل 120 يوم، أو في وقت أقرب من ذلك، طبقاً لتطورات الموقف، في ضوء امتثال ليبيا للقرار الرقم 731.
هـ.
يمكن الموافقة على رحلات جوية للأغراض الإنسانية، أو عند الحاجة لها، بقرار من مجلس الأمن.
و.
موقف ليبيا
1. أعلن القذافي في 5 أبريل 1992 رفضه لقرار مجلس الأمن الرقم 748، والإصرار على عدم تسليم المتهمين.
2. قدمت ليبيا عرضاً جديداً أوضحت فيه، أنها مستعدة لتسليم المتهمين إلى دولة محايدة لمحاكمتهما، واستعداد ليبيا للتعاون مع فرنسا.
3. عرضت ليبيا تسليم المتهمين إلى مالطة، لإجراء المحاكمة، ووافقت مالطة بعد زيارة عبدالسلام جلود لها يوم 12 أبريل 1992.
4. هدد القذافي الدول، التي تطبق القرار بحرمانها من البترول الليبي، ومن أي عقود مع بلاده.
5. طلبت السلطات الليبية رسمياً يوم 21 أبريل 1992 من الصحفيين الأجانب الموجودين في ليبيا، وقف نشاطهم ومغادرة البلاد، مع السماح ببقاء الصحفيين العرب.
6. صرح القذافي في يوم 12 أبريل 1992، أن ليبيا أعلنت مجدداً موافقتها بأنه يمكن للمتهمين الليبيين أن يسلما نفسهما طوعاً لأي دولة محايدة، إذا أرادوا ذلك، وأنه لا تفريط في السيادة الليبية.
7. صدر بيان من الخارجية الليبية في 15 أبريل 1992، حول قرار محكمة العدل الدولية، أشارت فيه إلى أنّ ما صدر عن المحكمة هو استشارة قانونية، ولا تؤثر على سير الدعوة الرئيسة. وأنّ المحكمة لا زالت مستمرة في نظر المطلب الليبي، بتفسير معاهدة مونتريال بشأن المتهمين، الأمر الذي يعكس الإصرار على عدم تسليم المتهمين.
8. اقتراح ليبي آخر في 29 أبريل 1992، بأن تجرى محاكمة المتهمين في حادث الطائرة الأمريكية في ليبيا، على أن يكون القضاء من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، في إطار محاولة الخروج من مأزق تسليم المتهمين إلى أي منها.
9. صرح وزير الخارجية الليبي في 27 أبريل 1992، بأن مئات الليبيين قد توفوا لتعذر نقلهم للعلاج في الخارج.
10. في إطار أسلوب المعاملة بالمثل، الذي اتخذته ليبيا منذ تنفيذ قرار مجلس الأمن الرقم 748، طردت القيادة الليبية وأنذرت عدد (41) دبلوماسياً من (16) دولة، كانت قد طردت مؤخراً دبلوماسيين ليبيين من أراضيها.
وقد برز التحرك الليبي، لاستمرار سياسة الاعتدال، من خلال الآتي:
1. حرص ليبيا على تنمية وتطوير العلاقات مع مصر من جهة، واستمرار التشاور والتعاون لإيجاد حل للأزمة، من جهة أخرى، خلال الزيارات المتبادلة بين الرئيس حسني مبارك، والعقيد الليبي معمر القذافي.
2. حرص ليبيا على دعم العلاقات وتطويرها مع السودان (استكمال إجراءات التكامل)، ومع سلطنة عُمان، لدعم التعاون الثنائي.
3. زيارة رئيس الوزراء الليبي لمالطة يوم 27 أبريل 1992، في إطار التنسيق مع الحكومة المالطية، لدعم وتطوير العلاقات بين البلدين، ومحاولة التخفيف من انعكاسات تنفيذ القرار الرقم 748.
4. زيارة رئيس الوزراء الليبي للفاتيكان يوم 28 أبريل 1992، من أجل توطيد الروابط وتنمية العلاقات وتطويرها، وكسب مساندة الكنيسة في الأزمة الحالية.
برز من الدول الغربية الثلاث (أمريكا ـ إنجلترا ـ فرنسا) أثناء إدارة الأزمة الآتي:
1. عدم اقتناع الدول الثلاث بتوقف الجانب الليبي، عن مساندة الإرهاب.
2. هناك تشدد واضح تجاه المطالب، خاصة ما يتعلق بتسليم المتهمين.
أن هذه الدول الثلاث تعمل في إطار يصعب تجزئته، أو اختراقه (حاولت ليبيا التأثير على فرنسا لكي تنفرد عن أمريكا وإنجلترا، وفشلت في ذلك).
3. تسعى الدول الثلاث إلى تحقيق أغراضها السياسية، أو فرض الأمر الواقع، بتوظيف الأمم المتحدة (مجلس الأمن)، ومن خلال الأغلبية التابعة للتوجه الغربي داخل مجلس الأمن، خاصة في ضوء ما أبدته الحكومة الليبية من مرونة نسبية، للبحث عن حل وسط لهذه الأزمة.
تصعيد الأزمة خلال عام 1993
صدر قرار مجلس الأمن، بتمديد العقوبات لمهلة أخرى يوم 13 أغسطس 1993، تنتهي أول أكتوبر، وهو ما يعد أداه حقيقية للضغط على النظام الليبي، لكسر حاجز التردد والتحسب تجاه قرار تسليم المتهمين، خاصة وأنه أعقب هذا القرار إعلان من جانب الدول الغربية المعنية، بأنه سيتم تصعيد العقوبات بانتهاء هذه المهلة، التي تعد الفرصة الأخيرة أمام ليبيا لتنفيذ قرار مجلس الأمن الرقم 731.
ولقد جاء هذا القرار ليشير إلى اتفاق الدول الغربية، على شكل ونوع العقوبات، التي ترى فرضها كتصعيد ضد ليبيا، بعد أن شهدت الفترة الماضية والسابقة لصدور هذا القرار، نوعاً من التباين والاختلاف، في تحديد هذه العقوبات ارتباطاً بالمصالح والتوجهات.
حرصت الولايات المتحدة الأمريكية على اتخاذ الموقف المتشدد تجاه ليبيا، في ضوء وعود الإدارة الأمريكية الحالية للرأي العام الداخلي في الولايات المتحدة الأمريكية، بالقصاص من مرتكبي الحادث، وما يمثله مطالبة عائلات الضحايا من ضغط على الحكومة الأمريكية لتنفيذ تلك الوعود، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تأكيد مصداقيتها في ظل النظام الدولي الجديد، خاصة فيما يتعلق بقضايا الإرهاب.
مواقف أطراف الأزمة
1. الموقف الليبي
ارتكزت المعالجة الليبية لإدارة الأزمة على عدد من المحاور، لتحقيق أهدافها، ويمكن إبراز ذلك من خلال الآتي:
أ. تأثير عنصر الزمن بزيادة مساحته على صعيد الأحداث، خاصة تجاه محاولات الاقتراب الليبية نحو الأزمة الغربية، من خلال إبداء مزيد من مظاهر المرونة والاعتدال في القضايا المختلفة (نبذ الإرهاب/ التقارب الغير مباشر لإسرائيل، وذلك من خلال الكف عن مهاجمة إسرائيل في وسائل الإعلام الليبية، وسماح الحكومة الليبية بقيام وفد ليبي كبير بالحج إلى بيت المقدس، خلال عام 1993)، فضلاً عن اتخاذ إجراءات داخلية عديدة ذات توجيهات اقتصادية غربية (الانفتاح الاقتصادي ـ اقتصاد السوق ـ بيع القطاع العام وتشجيع القطاع الخاص).
ب. دفع العديد من القوى الإقليمية والدولية، لبذل الجهود والوساطات وتكثيف الاتصالات والمشاورات عبر بعض الدول العربية والغربية، ذات العلاقات المتميزة بالدول المعنية بالأزمة، لتوضيح وشرح الرؤية الليبية لتلك الأزمة، بما يساعد على إيجاد أرضية يمكن انطلاقاً منها، لإيجاد حلٍ للأزمة.
ج. الاستفادة من القدرات الذاتية الليبية، المتمثلة في مواردها النفطية وإمكانياتها الاقتصادية، وتوظيفها لربط بعض مصالح الدول الغربية بليبيا، في محاولة لتوسيع الخلاف في الرأي بين تلك الدول، في مسألة تصعيد العقوبات ضدها، فضلاً عن اتخاذ إجراءات تقلل من فاعلية هذا التصعيد (حالة حدوثه)، من خلال تحويل أرصدتها إلى حسابات شخصية، بطريقة قانونية (يصعب تجميدها)، والتعاقد مع بعض المصارف الأوروبية على شراء الخام الليبي، من دون المرور على السوق البترولية (يحقق مميزات مادية للدول الأوروبية).
د. استثمار الصراعات الإقليمية والظروف الدولية (قضية البوسنة والهرسك ـ الصومال ـ العراق ـ مفاوضات السلام في الشرق الأوسط ـ ...)، وانشغال دول الأزمة الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بمعالجتها، إلى جانب تحسب الدول الغربية من أن تتهم بازدواجية المعايير، في تعاملها مع القضايا العربية والإسلامية.
هـ. سعت ليبيا إلى تكثيف الجهود والاتصالات على مختلف الأصعدة، وأيدت مزيداً من المرونة (الاستعداد لاستقبال لجنة دولية للتفتيش والتأكد من نبذ الإرهاب/ الاستعداد لدفع تعويضات لأسر الضحايا ـ استئناف التعاون مع بريطانيا حول الجيش الجمهوري الأيرلندي ـ …) فضلاً عن بيان القذافي في يوم 20 أغسطس 1993، الذي طالب فيه الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع بلاده، مؤكداً أن ذلك سيساهم في حل الأزمة.
و. تقدمت ليبيا إلى كل من الأمين العام للأمم المتحدة وبريطانيا، ببعض الإيضاحات وإثبات بعض الضمانات حول مسألة التسليم، بما يساعدهم على اتخاذ القرار في هذا الشأن، وكان أبرزها الآتي:
(1) يتم التحقيق بواسطة جهات قضائية، وليست أجهزة أمنية.
(2) حضور المحامين، الذين يوكلهما المشتبه فيهما.
(3) حضور مراقبين محايدين من الأمم المتحدة.
(4) عدم محاولة الضغط على المشتبه فيهما أو اكراهمها، على قبول (صفقات) معينة لتخفيف الحكم إذا لم تكن هناك أدلة دامغة.
(5) عدم تسليم أي من المشتبه فيهما، إلى دولة ثالثة.
(6) الالتزام برفع العقوبات، فور تسليم المشتبه فيهما.
(7) توضع ضمانات صريحة بعدم التفكير في المطالبة بتسليم أفراد آخرين، أو تقديم مطالبات أخرى، أو أن يكون هناك اتهامات أخرى توجه إلى ليبيين آخرين في المستقبل، تخرج عن قرارات مجلس الأمن، وتخضع للمبادئ العامة للتسليم وفقا للقانون الدولي.
(
اقتصار دور مجلس الأمن في الموضوع بعد التسليم على رفع العقوبات، وعدم تدخله في متابعة سير التحقيق، أو معاودة المطالبة بأشياء أخرى، لأن الموضوع لا يهدد السلام والأمن الدوليين.
2. الموقف الأمريكي
أ. استمرار تشدده تجاه محاولات الاقتراب الليبية، والرفض لأي حل وسط خاصة في مجال تسليم المتهمين، في ضوء الضغوط التي تمارسها عائلات الضحايا على الإدارة الأمريكية، ورفض الرأي العام الداخلي إبداء أي مرونة مع النظام الليبي.
ب. استمرار الضغط على القيادة الليبية، من خلال المتابعة الدقيقة لتنفيذ قرار مجلس الأمن الرقم 748، واتهام ليبيا باستمرار أنشطتها العسكرية، في مجال الأسلحة فوق التقليدية (النشاط الكيماوي ـ الصواريخ أرض/ أرض).
ج. مواجهة التحرك الليبي، الذي يسعى إلى توزيع استثماراته في الخارج، أو ربط المصالح الاقتصادية الليبية بالمصالح الأوروبية، حتى لا يسفر ذلك عن تشكيل عقبات أمام الدول الغربية المعنية بالأزمة في طريق حركتها، لفرض مزيد من العقوبات على ليبيا.
د. ممارسة نوع من الضغوط على كل من الجانبين البريطاني والفرنسي، لدفعهما إلى التجاوب مع الموقف الأمريكي بتصعيد العقوبات على ليبيا، في ظل تحسبهما من الانعكاسات السلبية لمردودات القرار على مصالحها المتميزة مع ليبيا من ناحية، واستثمار تأثيرها على باقي دول المجلس لتوفير الأغلبية اللازمة لتمرير قرار التصعيد في حالة طرحه.
هـ. إجراء اتصالات مع مختلف الدول، ذات العلاقات مع ليبيا، للعمل على دفعها للتجاوب مع قرارات مجلس الأمن، وتسليم المتهمين لمنع تصعيد الموقف.
و. إعطاء الموافقة لبريطانيا للاتصال مع النظام الليبي، للاتفاق معها على كل ما يتعلق بتوضيح أسلوب وإجراءات محاكمة المتهمين حالة تسليمهما إلى اسكتلندا وإعطائهما الضمانات الممكنة، التي لا تمس حرية القضاء، بما يشجع ليبيا على التسليم.
3. الموقف البريطاني
أ. يتوافق الموقف البريطاني مع الرؤية والتحرك الأمريكي، وأن كان بصورة أقل تشدداً، حرصاً على الحصول على معلومات تخص الجيش الجمهوري الأيرلندي، لِما يمثله ذلك من أهمية، خاصة لاستقرار الموقف الأمني في بريطانيا.
ب. إعطاء ليبيا بعض الضمانات في محاكمة المتهمين، لتشجيعها على تسليمها إلى القضاء الإسكتلندي، انطلاقاً من إصرار ليبيا على عدم تسليم المتهمين إلى الولايات المتحدة الأمريكية تحسباً من احتمال استغلال الإدارة الأمريكية لذلك، في محاكمة النظام الليبي وإسقاطه.
ج. تشجيع بعض الشخصيات البريطانية، لإجراء اتصالات غير رسمية مع النظام الليبي، للتعرف على الرؤية الليبية عن قرب، وحث ليبيا على تنفيذ المطالب الغربية.
د. عدم الممانعة في اتصال بعض مكاتب الاستشارات القانونية، الخاصة بمثل هذه القضايا والاتفاق مع ليبيا، وتقديم المشورة القانونية إلى النظام الليبي، للتغلب على قلقه وتحسبه من التأثيرات السلبية، التي قد تنتج عن المحاكمة.
هـ. عدم التجاوب مع المطالب الأمريكية بفرض حظر بترولي، أو تجميد للأرصدة الليبية في الخارج، حرصاً على مصلحة بريطانيا ومصالح بعض الدول الأوروبية، التي يمكن أن تتأثر بذلك، تمشياً مع أهدافها في تبوء دور ريادي على الساحة الأوروبية.
4. الموقف الفرنسي
أ. تأثر الموقف الفرنسي، بمجموعة من العوامل والاعتبارات أبرزها الآتي:
(1) استمرار الاتصالات الدبلوماسية المباشرة (على مستوى السفارة)، بينها وبين ليبيا.
(2) حرص الإدارة الفرنسية على استقلالية القرار، بعيداً عن التبعية الأمريكية، فضلاً عن دور فرنسا، الذي تسعى إليه على الصعيد الأوروبي.
(3) المصالح التي تربطها بدول المنطقة، بصفة عامة، ودول المغرب العربي، بصفة خاصة، وما تتميز به فرنسا من قدرة على إدارة حركتها مع الدول العربية، في ضوء تفهمها لطبيعة حكام المنطقة وشعوبها.
ب. تشير طبيعة العلاقات الفرنسية ـ الليبية، وأسلوب معالجة الحكومة الفرنسية للأزمة، إلى عدم رغبة فرنسا في تصعيد الموقف مع ليبيا، وإن كان التجاوب الفرنسي مع الإجراءات، التي اتخذتها كل من أمريكا وبريطانيا في توثيق وإيداع وثائق الاتهام ضد ليبيا في مجلس الأمن، قد جاء في إطار من الضغط من منطلق تأكيد الشرعية الدولية، ومتطلبات التحالف التقليدي للدول الغربية، وفي ظل النظام الدولي الجديد.
العقوبات ومواقف الدول منها
صدر يوم 11 نوفمبر 1993، قرار مجلس الأمن الرقم 882 بتصعيد العقوبات ضد ليبيا، لعدم تسليمها المتهمين، وقد صوت لصالح لهذا القرار 11 دولة، وامتنعت أربع دول عن التصويت (الصين، والمغرب، وجيبوتي، وباكستان)، في حين لم تعارضه أي دولة (اُنظر نص القرار في ملحق قرارات مجلس الأمن المتعلقة بأزمة لوكيربي). ويعد أبرز ما جاء في قرار تصعيد العقوبات الرقم 882 الآتي:
1. تجميد جميع الأرصدة الحالية، التي تمتلكها الحكومة الليبية في الخارج، مع استثناء الأموال، التي ستحصل عليها ليبيا من مبيعات النفط، أو المواد الزراعية.
2. حظر استيراد ليبيا لبعض المعدات، الخاصة بصناعة البترول وتكريره.
3. إحكام تنفيذ العقوبات المفروضة على ليبيا، المنصوص عليها في القرار الرقم 748.
4. تُنفذ هذه العقوبات اعتباراً من أول ديسمبر 1993، ما لم تسلم ليبيا المتهمين.
5. إذا سلمت ليبيا المتهمين خلال تلك المهلة فأنه يتم تعليق جميع العقوبات لمدة 90 يوماً.
6. لإلغاء العقوبات يشترط مجلس الأمن، أن يقدَّم الأمين العام للمنظمة (خلال فترة تعليق العقوبات) تقريراً يفيد بأن ليبيا قد امتنعت بشكل كامل عن دعم الإرهاب، ونفذت مطالب كل من أمريكا وإنجلترا وفرنسا.
1. موقف ليبيا من القرار الرقم 882
أ. وصفت الخارجية الليبية القرار بأنه غير عادل، ويعكس سيطرة الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، على مجلس الأمن.
ب. سبق صدور القرار، إعلان مندوب ليبيا الدائم في مجلس الأمن، استعداد المتهمين للمثول أمام محكمة في دولة ثالثة (سويسرا)، وأشار لرفض الدول الغربية لذلك.
ج. أعلنت الخارجية الليبية، أنها مازالت تحاول إقناع المتهمين، للمثول أمام محكمة في اسكتلندا، ولكن في الوقت نفسه أعلن القذافي رفض تسليم المتهمين، ودعوته لمحاكمتهما في ليبيا.
2. موقف الدول المعنية بالأزمة
أ. الموقف الأمريكي
رحب المتحدث الرسمي للبيت الأبيض بصدور القرار، وعدم رفضه من أي من الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وذلك في إطار الالتزام الدولي لمجابهة الإرهاب، مع الإشارة إلى أن الإدارة الأمريكية، مصممة على تقديم المسؤولين عن عمليات القتل الجماعي، إلى العدالة.
ب. الموقف البريطاني
(1) اعتبرت العقوبات الجديدة كافية لحمل ليبيا على تسليم المتهمين، ودعتها إلى التعاون مع القضاء الفرنسي، في حادث تفجير الطائرة الفرنسية.
(2) أعلن سفير بريطانيا في الأمم المتحدة عن استعداد بلاده، لتقديم الضمانات للسلطات الليبية من أجل محاكمة عادلة، في اسكتلندا.
ج. الموقف الفرنسي
(1) أكد سفير فرنسا في الأمم المتحدة، على أن صدور القرار كان ضرورياً، بعد أن فشلت ليبيا في تنفيذ مطالب الدول الغربية الثلاث.
(2) أعلنت الحكومة الفرنسية عن أملها، في أن تستفيد ليبيا من المهلة، التي منحها لها مجلس الأمن لتنفيذ مطالب القضاء الأمريكي والبريطاني والفرنسي.
تطورات الأزمة خلال عام 1994
قدمت ليبيا اقتراحاً بمحاكمة المتهمين أمام محكمة العدل الدولية بلاهاي (لقاء وزير الخارجية الليبي مع الأمين العام للأمم المتحدة في جنيف يوم 15 يناير 1994) وهو ما رفضته الدول الغربية المعنية بالأزمة، التي طالبت بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، وصياغة التعليمات الاسترشادية الخاصة بأسلوب تنفيذ قرار العقوبات الجديد الرقم 882، تمهيداً لتنفيذه من جانب المجتمع الدولي.
ظهور مؤشرات تشكك في الاتهام الموجه لليبيا (تراجع شاهد الإثبات الرئيسي عن أقواله، تصريح مدير المخابرات الأمريكية السابق بأنه توجد أهداف سياسية وراء الاتهام، دعوة المدعي العام البريطاني لأي شاهد بالتقدم لتقديم ما لديه من أدلة) وفي مقابل ذلك، أكد جون ميجور رئيس الوزراء البريطاني في 12 يناير، أنه لم يتوفر أي دليل حتى الآن على تورط أي جهة أخرى خلاف ليبيا، بما يعكس الحرص علي تحجيم ما تردد مؤخراً عن تورط إيران وسورية في الحادث، واستمرار الضغوط على القيادة الليبية.
في 17 فبراير، رفضت الدول الغربية المعنية بالأزمة المقترحات الليبية في شأن تسليم المتهمين ومحاكمتهم أمام محكمة إسلامية. كما تصاعدت موجات الاتهام لدور ليبيا في مساندة الإرهاب. (تصريحات الرئيس كلينتون أمام الكونجرس، اتهام الأردن بأنها تأوي عناصر متورطة في اغتيال الدبلوماسي الأردني في لبنان) فضلاً عن تصريحات وزير الدفاع البريطاني من أن لدى ليبيا، إمكانيات لامتلاك أسلحة نووية خلال عشر سنوات، هو الأمر الذي حرصت ليبيا على نفيه، وسلامة موقفها من جميع الاتهامات.
في 13 فبراير، صدر قرار محكمة العدل الدولية لصالح تشاد، فيما يتعلق بالنزاع حول أحقية إقليم أوزو، الذي قابلته ليبيا بنوع من المماطلة (التشكيك في نزاهة المحكمة، المطالبة بعودة 500 أسير ليبي، معظمهم في الولايات المتحدة الأمريكية، لتسليم الإقليم.
في 22 مارس، قدمت ليبيا مقترحاً، بمحاكمة المتهمين أمام محكمة العدل الدولية، بقضاة من اسكتلندا، ورفضت بريطانيا هذا الاقتراح. وفيما يخص الأزمة الليبية التشادية، أرسلت ليبيا وزير خارجيتها إلى أنجمينا يوم 4 مارس 1994 لبحث ترتيبات وآليات تنفيذ قرار الانسحاب من إقليم أوزو، بما يعكس اعتدال ليبيا ومصداقيتها أمام المجتمع الدولي.
في 8 أبريل صدر قرار مجلس الأمن بتمديد العقوبات لمهلة أخرى (حتى نهاية يوليه 1994) وهو ما يعكس ثبات طرفي الأزمة على موقفهما، من دون تغيير أو قبول حل وسط.
رفضت الدول الغربية المقترح الخاص بمحاكمة المتهمين في إحدى الجزر البريطانية، التي تتمتع بالحكم الذاتي (تشانل ايلانوز)، أو المقترح الخاص بتسليم المتهمين إلى مصر، على ألاّ تسلمهما مصر إلى أمريكا أو بريطانيا، مع ضمان تسليمهما، عند موافقة الأطراف الغربية في لاهاي.
في 5 أغسطس صدر قرار مجلس الأمن، بتمديد العقوبات المفروضة على ليبيا، لتنتهي في ديسمبر 1994.
رفضت الولايات المتحدة الأمريكية مقترح ليبيا، بتسليم المتهمين لأمين جامعة الدول العربية، أو اللجنة السّباعية لحين الاتفاق على مكان المحاكمة. مع الاستعداد لقبول محاكمتهم في مقر الأمم المتحدة، أو محكمة العدل الدولية.
في 30 نوفمبر تم تمديد العقوبات من قبل مجلس الأمن على ليبيا، من دون تعديل الفترة، لتنتهي في مارس 1995.
توجيه دعوة تبناها عضو مجلس العموم البريطاني، لزيارة وفد ليبي رسمي إلى بريطانيا، يضم كلاً من محامي المشتبه فيهما. وبالفعل كان هناك أعداد وترتيبات للزيارة خلال شهر ديسمبر 1994، ولكن السلطات البريطانية رفضت أخيراً إعطاء تأشيرة الدخول.
ذكرت صحيفة "ذي ديلي ريكورد" الإسكتلندية، أن وثائق صادرة عن أجهزة الاستخبارات الجوية الأمريكية تؤكد أن إيران هي المسؤولة عن تفجير طائرة لوكيربي، وليست ليبيا. وأن مسؤولاً إيرانياً كبيراً، هو آية الله محتشمي وزير الداخلية السابق، دفع عشرة ملايين دولار نقداً وبالذهب، إلى منظمة "أبو نضال"، ومنظمات أخرى، للقيام باعتداءات تستهدف بلداناً غربية، من بينها عملية لوكيربي. وذلك لأن طهران أرادت الانتقام رداً على إسقاط طائرة مدنية إيرانية، فوق مياه الخليج في يوليه 1988، بواسطة صاروخ أطلقه الطيران الأمريكي "يو. أس. أس فنس"، عن طريق الخطأ، حسب الرواية الأمريكية.
خلال شهر أكتوبر 1994، شهدت المشكلة تطوراً إيجابياً ملحوظاً تجاه الشق الفرنسي، حيث تمت مقابلة بين القاضي الفرنسي (الخاص باستكمال التحقيقات حول تفجير طائرة يوتا)، مع القاضي الليبي بمدينة جربة في تونس. ولم يتم التوصل إلى حل يرضي الطرفين، حيث طلب القاضي الفرنسي استكمال التحقيقات في باريس، ورفض القاضي الليبي هذا الطلب. وظهرت مؤشرات عن إعلان القاضي الفرنسي بمحاكمة المتهمين غيابياً، وفي حالة إدانتهم يمكن لجوء أسر الضحايا لمطالبة الحكومة الليبية بالتعويضات. وبذلك ينتهي الشق الفرنسي من الأزمة، وبما يعود بالإيجاب على الموقف الليبي، ويزيد من تفكك التكتل الثلاثي الغربي تجاه تصعيد العقوبات.