القضية الفلسطينية: لماذا يعجز القانون الدولي؟
د. مدى الفاتح
أهم ما نجحت فيه الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة، أو ما بات يعرف بثورة السكاكين، كان التذكير بعجز التشريعات الدولية ومنظومة القوانين عن علاج المأساة الفلسطينية الفريدة في التاريخ الحديث.
أعادت هذه الأحداث إلى الواجهة السؤال الذي ظل مطروحاً لقرابة السبعين عاماً وهو: كيف يعجز العالم عن إيجاد حل لمسألة يبدو التعدي فيها واضحاً كالمسألة الفلسطينية؟ المفارقة التي سيكتشفها ببساطة أي باحث لإجابة حول هذا السؤال هي، أن هذه التشريعات الدولية هي التي ساندت الاحتلال البريطاني الذي ساهم بدوره في تسليم الأرض للمهاجرين الغرباء من اليهود لإنشاء دولتهم. هي التشريعات ذاتها التي تعقد الوضع الآن بحجة الالتزام بالمواثيق الدولية التي يجب على الجميع تقديسها والتحاكم إليها، على عجزها، من أجل أن يصبحوا أعضاء في «الأسرة الدولية».
لكن فلسطين، وتتساوى في ذلك الضفة وغزة، تبدو رغم كل شيء خارجة عن سياق تلك القوانين الدولية، التي تشدد بقوة على حماية الأفراد والمجموعات والشعوب من جور القهر والطغيان. قوانين توضح بشكل لا يحتمل الكثير من التأويل حقوق الشعوب في ظل الاحتلال ومسؤوليات السلطة المحتلة. إلا أن الواقع هو أن تلك القوانين الصارمة تظهر فقط حين يدافع الفلسطيني عن أرضه ومقدساته بحجر أو سكين، حيث يسارَع لاتهامه بالإجرام والإرهاب، أما في الحالات الأخرى حينما يقوم الصهاينة بإعدامه ميدانياً أو اغتصاب أرضه، أو هدم بيته وتجريف مزارعه، فلا أحد يتحدث عن إرهاب الاحتلال، بل يصبح الاحتلال الذي هو، نظرياً، خطيئة كبرى في عرف الأمم المتحدة مجرد «تجاوز» يمكن التغاضي عنه في سبيل تسهيل «انطلاق عملية الحوار بين الجانبين».
المشكلة هنا هي أننا إذا استسلمنا للقانون الدولي ولقواعد لعبته، ونحن مستسلمون له بالفعل، منذ أن اقتنعنا بألا خيار أمامنا سواه، فإننا يجب ان نتعامل بما شرعته تلك القواعد وذلك «المجتمع الدولي»، فلا يمكن أن ندخل في منتصف الطريق مبادئ من عندنا تراثية كانت أو عقدية أو غيرها.
شئنا أو أبينا فإن هذا الاستسلام المبني في مجمله على الواقع المفروض من قبل «النظام الدولي» يتأسس على ثوابت وركائز، بات من الصعب جداً الالتفاف عليها. أهم هذه الثوابت هي أن للعدو الصهيوني دولة قائمة بالفعل، صحيح أنها دولة متعاظمة بلا حدود معروفة، إلا أنها موجودة ومعترف بها منذ عام 1948 في حين يبقى «الكيان» الغامض الفلسطيني في مرحلة ما بين الدولة والإقليم التابع لدولة «إسرائيل» الأم.
هذا هو، وبدون مجاملة أو لياقة، المنظار الذي ينظر به إلى القضية، حتى غير المنحازين من الغربيين، فلا أحد يمكن أن يتعاطف معك، بحيث يرجع إلى فترة الانتداب البريطاني وما قبلها لتقرير حقك على تلك الأرض، خاصة وهذا هو الحال، إذا لم تكن تملك وسائل ضغط تفرض بها تعاطفاً ما مع وجهة نظرك وروايتك للأحداث. هكذا يبدو مفهوم «الدولتين» نفسه مفهوماً فيه تغرير واضح، حيث أن إحدى الدولتين المفترضتين قائم بالفعل، في حين لا يوجد مكان لدولة أخرى إلا على أطراف بقعة متصاغرة من الأرض، هذا إن وجد. وفي حين لا يكف المجتمع الدولي، بمن فيه العرب والمسلمون، عن الصراخ والتعبير عن الاستنكار والرفض، يتابع الصهاينة مشروعهم الذي يهدف للتغول على كل فلسطين، تنفيذاً لوصية غولدا مائير التي تلخص كل شيء: «لا يوجد شيء اسمه فلسطيني». في ظل الاكتفاء بالاستنكار والشجب الدبلوماسي من قبل من يدعون مناصرة الحق الفلسطيني، أصدر الكنيست في فبراير الماضي القانون الذي سيسمى بقانون تبييض المستوطنات، والذي يهدف باختصار إلى إضفاء الشرعية على الأراضي المغتصبة واعتبارها جزءاً مما يطلق عليه في الخرائط الدولية «دولة اسرائيل». مر هذا القانون بسلام كغيره، ولم تستطع حتى السلطة الفلسطينية التحرك ضده دبلوماسياً، أو رفع شكوى للمحكمة الجنائية الدولية كما كانت تهدد. لعل السبب الظاهر لذلك كان تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحازم بإيقاف دعمه للسلطة في حالة القيام بأي شكوى جادة. على ذكر ترامب، لعل من المهم التذكير بأنه كان منذ البداية مناصراً للصهيونية. هذا يتناقض بشدة مع ذلك الوهم الذي روّج له البعض، إبان الانتخابات الأمريكية، والمبني على أن الرئيس الجديد، وبما أنه ملياردير ورجل أعمال، فإنه لن يكون خاضعاً للضغط الصهيوني وسيكون أكثر حياداً. في منطقتنا يجد انتقاد دونالد ترامب قبولاً عند الناس، لكن الاكتفاء بنقد الرجل ولومه ليس كافياً، فهو لم يكن أبداً السبب الرئيس في تعقد القضية. يكفي أن نتذكر أن الاستيطان والتوسع في اغتصاب الأراضي، بلغ مراحل تاريخية في عهد الرئيس «المحبوب» السابق باراك أوباما.
ما أريد أن أقوله هو أن المشكلة لم تبدأ مع ترامب ولا مع غيره من الرؤساء الأمريكيين، رغم تأثير دعمهم للاحتلال على مسار القضية الفلسطينية، بل بدأت مع استسلام المفاوض العربي ورضائه بالتخلي عن الجزء في سبيل تحقيق السلام، وهو ما سيعرف بمبادرة الأرض مقابل السلام. تلك المبادرة التي لم يستفد منها الجانب الفلسطيني شيئاً، سوى تقديم اعتراف غير مباشر بشرعية الاحتلال. هذا الاعتراف الذي منح الاحتلال شرعية والمغتصبين أراضي ودولة، قاد لأن تكون فكرة معاداة «إسرائيل» نفسها بلا معنى، ولأن يكون كل من يرفض وجود هذا الكيان الغاصب هو من المتشددين والمتطرفين الذين يخربون بيوتهم بأيديهم. أصبح الكيان تبعاً لذلك مجرد دولة جارة وسقطت شعارات عدم الاعتراف، وابتلع القوميون أبياتهم وخطبهم الحماسية تحت ضغط الواقع الجديد. كل شيء أصبح بلا معنى، حتى المبادرات المتواضعة كمساعي مقاطعة البضائع أضحت غير متسقة مع الواقع الجديد.. ما عدا طبعاً إذا تم الاقتصار على البضائع المصدرة من داخل أراضي 1967.
أين سيقود قبولنا وسيرنا مع «المجتمع الدولي» وثوابته؟ إلى أشياء من قبيل الرضا بالوقوف عند حدود 1967 واتفاق أوسلو، الذي تبين الآن حتى لمن كانوا متحمسين له حينها، أنه لم يكن سوى خدعة كبرى. ذلك الاتفاق الخطير لم تعد مشكلته تتلخص في أنه أفضى إلى سلطة بلا سيادة على بعض أرض فلسطين، وإن كان ذلك بحد ذاته كارثة وطنية وقومية، بل في أنه صار بلا معنى في ظل الخروقات والتمدد الصهيوني، الذي لم يكف عن فرض سياسات الأمر الواقع، كإعلان يهودية الدولة وقانون تبييض المستوطنات وغيره من التشريعات التي تتنافى مع قواعد القانون الدولي العاجز نفسها. هناك عدة أسئلة تواجه الباحثين عن القانون الدولي في المسألة الفلسطينية كأسباب إفلات المسؤولين الصهاينة من العقاب، رغم جرائمهم المعروفة والموثقة، ومحاولة إيجاد تفسير منطقي لبقاء قطاع غزة محاصراً ومخنوقاً لسنوات. هي أسئلة ستكون لوقت طويل بلا إجابة، أما قطاع غزة فسيظل وصمة عار ومثالاً واضحاً على عبثية تلك «الشرعية الدولية» وفراغها من محتواها. شرعية كل ما أسلمت لها نفسك أكثر تخلت عنك أكثر، وكل ما آمنت بها قللت من شأنك. شرعية تقنن الحصار وتتفرج بصمت على شعب ممنوع من مياهه وموانئه. شعب حر ومستقل لكن بلا مطار. حر ومستقل لكن بلا ضرائب ولا جمارك ولا عائدات، إلا ما تصادق عليه الدولة التي يفترض أنه قد استقل عنها.
كاتب سوداني