"أميركا الإسرائيلية" لحسني عايش:
عودة معمقة إلى نشأة فكرة "الدولة اليهودية"
في توطئةٍ لافتةٍ تصدَّرَت كتابه "أميركا الإسرائيلية وإسرائيل الأميركية" الصادر أخيرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، يُشيرُ د. حسني عايش إلى بداية الاكتشافات الأوروبية الجغرافية لأميركا.
وبيَّنَ أنَّ كثيرا من المكتشفين اعتقدوا أنَّ صيادي العالم الجديد ذوي الجلود الحمر هم بقايا القبائل العشر المفقودة في إسرائيل القديمة، التي استحوذ على صورتها التفكير المسيحي في القرون الوسطى، وأنَّ العالم الجديد أرض الميعاد، واكتشافهم له سيخلِّصُ البشريَّةَ من الخطيئة.
ويقول إنَّه بعد الاستقرار النسبيِّ للاكتشافات الجغرافيَّةِ، وبداية الاستعمار للعالم الجديد، وخاصة في أميركا الشمالية، وجَدَ المعارضون السياسيون والدينيون المضطهدون في أوروبا ملاذاً أو ملجأً آمناً يمارسونَ فيه أفكارهم ونظرياتهم الدينية والسياسية، ويُطبِّقونَها على الأرض.
ويزيد أنَّ الحكومات الأوروبية أيضاً وجدت في العالم الجديد حلاً لمشكلة المضطهدين والمعارضين، ومنفى للمساجين وأسرى الحروب، والفارين من الخدمة العسكرية، والأيتام والمخطوفين.
ويتطرق عايش إلى تطلع الفقراء والمعدمين والمدينين إلى ذلك العالم، كفرصة للنجاة من أسر الفقر والدَّيْن، مبيِّناً أنَّه مع نهاية العام 1775 قد بلغ عدد المهاجرين الكلي أكثر من مليونين وبمقدار أربع مرات عددهم في بداية القرن.
ويتوقف عند المتطهرين، مبيِّناً أنَّ الكتابَ المُقدَّسَ أو التوراة كانَ المرشِد الكامل للحياة المسيحية والحاوي- في اعتقاداتهم- لكل الأجوبة والحلول والتعليمات ولكل الأسئلة والمشكلات التي يواجهها الإنسان، وأن مصير الإنسان مقرر سلفاً (الإنسان مسير) لكن الله اختار قلة من الناس ولعن الباقين.
ويسرد عايش قصة الهستيريا الكبرى التي اندلعت في ثمانينيات وتسعينيات القرن السابع عشر، التي نجمت عن اتهام الهنود الحمر بالسحر، حين أخذت فتيات المتطهرين في مدينة سالم يتصرفن بصورة غريبة، فأعدم تسعة عشر من الهنود قبل انتهاء المحاكمات (1692م)، وقبل اعتراف الفتيات بأنَّ التهمة أو القضية مفبركة، ولا أساس لها من الصحة.
ويقول عايش إنَّ التطرف الديني جاءَ كردِّ فعل على عصر النهضة أو التنوير الذي أخَذَ يُطلُّ برأسه في القرن السادس عشر والسابع عشر، ونتيجة للصراع بين النظريات الدينية السائدة في حينه، التي كانت تؤكِّدُ أنَّ الله يتدخل في حياة البشر، والنظريات العلمية الجديدة التي ترى أنَّ الإنسان حر ومستقل، وكانت تجتاحُ أوروبا آنذاك، وتصِلُ رياحها القوية إلى أميركا.
ويُشيرُ عايش إلى حدوث أول اتصال لليهود بأميركا الشمالية العام 1645، عندما نزَلَ ثلاثة وعشرون واحدا منهم (أربعة رجال، وست نساء، وثلاثة عشر طفلا) من سفينة فرنسية للانضمام إلى مستوطنة الأراضي المنخفضة (هولندا) على جزيرة مانهاتن التي كان يستوطنها نحو 750 مسيحيا أوروبيا.
وبيَّنَ أنَّهم قوبلوا بالشك والعداء والتعصب، وألقى راعي كنيستهم وباشمئزاز عظة قال فيها: "إنَّ هؤلاء الناس لا هدف لهم سوى الاستيلاء على أملاككم، وقهر التجار الآخرين والاستئثار بكل أعمال التجارة".
ويعمَدُ عايش إلى الكيفية التي بالَغَ فيها المتطهرون في الترحيب باليهود في انجلترا الجديدة (نيو إنجلند)، لدرجة ربط مصيرهم بمصير الأنجلوسكسون، وكيف تماثلوا مع شعب العهد القديم، ورأوا صورتهم من خلاله، فسموا الأرض الجديدة بأرض كنعان، وقارنوا في وعظهم الصارم بين محن المستوطنين الأوائل، ومحن موسى عليه السلام.
ويضيف أنَّ إسرائيل القديمة أسرت خيال أعضاء الكونجرس العام 1770، إلى درجة اقتراح بنجامين فرانكلين على الكونجرس صورة للختم الأميركي الكبير للاتحاد، تتضمَّن صورة لموسى (عليه السلام)، رافعا عصاه وهي تشق البحر الأحمر، بينما يبدو فرعون في عربته مشدوها من المياه المندفعة نحوه.
ويُقدِّمُ عايش جملة البدائل للتعامل مع "أميركا الإسرائيلية وإسرائيل الأميركية"، تاركاً للقارئ التفكير فيها أو رفضها أو الوقوف عندها، حين يرى أنَّها الأقرب إلى وجهة نظره، منها أن نتعلم لعبتهم ونلعبها ضدهم، أو أنْ نستسلمَ للعدوِّ ونبصم له بالعشرة ونتعامل مع اللوبي الاسرائيلي مباشرة ومن الباب بدلا من النافذة الأميركية العاجزة، ومنها أيضا أن نستسلم له تكتيكيا ونرضي غروره، ثم ننقض عليه حين تلوح الفرصة، كما فعل اليهود الصهاينة أنفسهم بنا.
ويترك عايش خيار أن نقيم أفضل العلاقات مع اليهود في الغرب، وبخاصة في أميركا، المستعمرة الإسرائيلية الكبرى، حيث يشكلون مصدر الحياة والبقاء لإسرائيل، ويمكن أن يفرضوا عليها أو يجعلوها تنصاع للشرعية الدولية.
ويتابع خياراته التي يمكن أنْ تكونَ في الاستمرار بالمقاومة المسلحة لآخر فلسطيني حسب قاعدة: "نموت جميعا ويحيا الوطن أو اللجوء إلى المقاومة السلمية أو المدنية التي لا تنضب ونتحالف مع اليهود والناس الشرفاء في إسرائيل والغرب والعالم".
ويضيف عايش خيار الاكتفاء بالمقاومة الديموغرافية، وترك الموضوع للزمن، لأن المقاومة الديموغرافية كفيلة بإغراق الجدول الإسرائيلي في البحر الفلسطيني أو بالتخلي عن الممثل الشرعي والوحيد والسلطة الفلسطينية، وإعادة القضية (المقدسة) إلى العرب باعتبارهم المسؤولين عن ضياع فلسطين بالكامل.