مارتن لوثر: الحداثة عبر الدين
د. نورالدين ثنيو
Nov 08, 2017
سنة 2017، هي لحظة احتفائية بالمصلح الألماني الفذ مارتن لوثر، بعد مرور خمسمئة عام على بداية،
ما عرف في العصر الحديث بالإصلاح الكبير، الذي بدأه عام 1517، عندما أقدم، في جرأة ملهمة،
بتعليق مبادئ المذهب البروتستانتي (95 أطروحة ) على باب كنيسة Wittenberg.
فقد كان السياق الذي جاء فيه الإصلاح الكبير، سياقا دينيا مكثفا بتعاليم الكنيسة البابوية، أي عصر
سكولاستي، على رأي الفيلسوف هيغل، كل شيء يستند إلى الدين المسيحي ومرجعياته في التراتبيات
البابوية.
انطوى مفهوم الإصلاح الديني على نهاية عصر وبداية عصر آخر، أي لحظة أزمة كبيرة ولجتها
الكنيسة عندما استغلقت عليها العقيدة المسيحية، ولم تعرف كيف تتلمس سبيل الرجاء والانفراج، فقد
كان العصر الذي آل إلى بداية زوال هو العصر الوسيط، أما العصر الذي آل إلى بداية ظهور فهو
العصر الحديث. وكان أبرز وأقوى ملامحه هو الدين عندما صار يكثف في أحشائه السياسي
والاقتصادي والفلسفي الثيوقراطي والفني والجغرافي الدعوي.. ومنذ تلك اللحظة الإصلاحية والإصلاح
يأخذ معاني ودلالات، ويشق لنفسه أوطانا وأمصارا جديدة. وهذا العصر الجديد هو الذي أطلق عليه
مؤرخو القرن التاسع عشر بالعصر الحديث، الذي اتسم بخاصية انفصام عرى الصلة بين الكنيسة
كمؤسسة والدين كصلة روحية بين الخالق والمخلوق، كان آخر تعبيرات هذا الفصل في القانون الذي
أصدره البرلمان الفرنسي، المعروف بقانون الفصل بين الكنائس والدولة، في ديسمبر 1905.
فقد دشّن القس الألماني حقبة اللائكية بما تعني خدمة الله خارج مؤسسة الكنيسة واعتماد كل الأرض (
الكنيسة الواحدة) فضاءً لعبادة وخدمة الله تعالى. وتعد لحظة القرن السادس عشر، لحظة كثفت
وأضمرت عمقا روحيا قويا ما لبث أن عبر عن مظاهره وتجلياته في مراحل لاحقة تمثلت في السياسة
على ما صنعه صاحب كتاب «الأمير» مكيافيللي وصاحب «الكتب الستة للجمهورية» جان بودان،
وتوماس مور، صاحب كتاب «يوتوبيا»، الذي أراده نوعا من الجمهورية الفاضلة، ناهيك عن مظاهر
اللاهوت الجديد، على ما جاء به القس الإنساني ارسموس في مصنِّفه «مديح الجنون»، كذلك أعمال
يوحنا كالفن وزوينغلي.. كما عبّرت طاقة الإصلاح الكبير على مظاهر فلسفية في كوجيتو ديكارت في
القرن السابع عشر «أنا أفكر أنا موجود» وهي مقولة إنسانية تداني مقولة لوثر «التبرير عبر
الإيمان» أي لا يسوغ الذنب الذي يرتكبه الإنسان إلا التوبة النصوحة أمام الله ذي الجلال والاحترام.
أما تجليات الجغرافية للإصلاح اللوثري، فتمثلت في اكتشافات أمصار وأراض جديدة، بدافع أن الحركة
الإصلاحية حركة باتجاه الناس جميعا، وفي أي مكان من معمورة الأرض التي تعد بمثابة الكنيسة
الواحدة لكافة الشعوب والمجتمعات، ولعلّ الاكتشافات الجغرافية التي تمت في سياق عصر مارتن لوثر
وبعده، تؤكد حقيقة انتشار المذهب البروتستانتي في العالم الجديد، أمريكا كما كان يطلق عليها في ذلك
الوقت، بعد الحيوية والنشاط الدؤوب الذي انتاب المذهب اللوثري وسريانه في وجدان معتنقيه
ودعاته… وهكذا راحت جذوة الإصلاح توقظ الحياة السياسية والاقتصادية والفلسفية والدينية والعلمية
كلها تبدع تخصصات جديدة وتوفر فضاءات حديثة. فقد كانت الحركة الإصلاحية الوقود الروحي
والمعنوي والحياتي للعالم الحديث، بل مبدعة الحداثة.
عندما ندرس القرن السادس عشر، أي السياق التاريخي الذي جاء فيه مارتن لوثر، نلحظ حقيقة دينية
ناصعة، أن كل شيء يجري التعبير عنه بالدين الذي يجد مرجعيته في مؤسسة الكنيسة وتراتبية
البابوية، لكن ما بعد تأسيس المذهب البروتستانتي، الذي أتى في أعقاب وفاة مارتن لوثر، بدأت مرحلة
تَبَاهت المقدس، وانْحِسار رجال الدين من مشاهد الدنيا، وانهيار شروحات الكنيسة وتلاشي التراث
وتفكك تراتبية مؤسسة الكنيسة، وكأننا نلحظ خروج الدين عن الدين نفسه على رأي المفكر الفرنسي
مارسل غوشي. وعليه، فالإصلاح، بما ينطوي عليه من وقود دائم الحراك إلى ما هو أفضل، لا يعني
القطيعة الراديكالية ولا إحداث الطفرة في البنية الإجتماعية أو الثورة في عقيدة البشر، بل دائما
مسايرة الحقائق بما تعنيه في أصولها وطبيعتها، أي يبقى الدين دينا ولا تستحوذ عليه شخصية أو
مؤسسة، وتبقى السياسة سياسة دونما احتكار من طاغية أو مستبد.
وبالتواصل التاريخي والتحليل الموضوعي لظاهرة الإصلاح، نجد أن مساره أفضى، خاصة في القرن
العشرين، إلى إدراج العلوم الدينية في كليات اللاهوت، بالقدر الذي تجد حيزا لها ضمن العلوم
الاجتماعية والإنسانية، وتعبر من ثم عن جزء من كل طبيعي وإنساني واجتماعي وعلمي وميتافيزيقي
وفلسفي وأيكولوجي صارت على إثره الدراسات الدينية تخضع لمنظومة معرفية دنيوية، يسري عليها
ما يسري على سائر العلوم، من حيث إمكانية الفهم والتصديق المعقول، على خلاف ما كانت تلقنه
الكنائس من غيبيات وأصوليات لاهوتية وعقائد دوغمائية، وما كانت تحتكره من معنى الله والمسيح
والدين والدنيا والآخرة، فقد تولت الجامعة، بما هي معبد جديد للمعرفة، وفضاء للتعليم البداغوجي
والأكاديمي، مهمة التعليم والبحث الجامعي الذي يأخذ بالموضوعية والنزاهة والتجريد، وإمكانية تعميم
الحقائق المتوصل لها، بما في ذلك شأن الدين المسيحي.
دشن الإصلاح الكبير مرحلة هي من أخصب المراحل التاريخية التي شهدتها الإنسانية قاطبة، عندما بدأ
الوعي بأهمية الاختلاف والتعدد والتنوع، وعدم الإفراط في البحث عن الحقيقة المطلقة، خاصة منها
الدينية، على ما كانت تصنع الكنيسة الكاثوليكية. فالمظاهر والتجليات التي ظهرت بفعل الإصلاح
كمفهوم وإجراء، بينت عدم قدرة الدين لوحده امتلاك ناصية الحقيقة، لأن أي تفكير أو اجتهاد فيه يتم
باللغة البشرية، وأن آلية شرحه والوقوف على معناه هي التأويل ونقد خطابه. ومع الضربات الفلسفية
للدين، على ما فعل نيتشه في القرن التاسع عشر، تصدع جدار الكنيسة، وصارت خاوية من العباد، في
مشهد يذَكِّر بسيادة العقل السكولاستيكي لردح طويل من الزمن الأوروبي قبل عصر مارتن لوثر وبعده.
وهكذا، فعند قراءة تاريخ النهضة الأوروبية، نجد أن الإصلاح الكبير قد عبّر عن إعادة إحياء جديد
لأوروبا، بالمعنى الذي أفصح عن استثمار كل التراث القديم (الحضارات اليونانية والرومانية) والقائم
(الثقافات المعاصرة للعصر الوسيط ولما بعده)، والتطلع الدائم إلى وجود ثروات خارج أوروبا (عصر
الاستعمار الحديث). كما أن الحركة الإصلاحية، كما تجلت في مسارها الحديث، لم تفرط في كل ما هو
موجود ولم ترمه جانبا، لا بل صانته وراعته كشاهد تاريخي، على ما فعلت مع الكاتدرائيات والكنائس
ودور العبادات التي صارت خاوية من المؤمنين وعباد الله العاديين.
كاتب جزائري