ما هو مشروع مارشال السري الذي وضعه شمعون بيريز للشرق الأوسط؟
بقلم بن كسبيت أكتوبر 3, 2016
شمعون بيريز الذي توفي الأسبوع الماضي٬ عمل بلا هوادة عندما كان رئيسًا لإشراك إسرائيل والفلسطينيين والعالم العربي وشركات التكنولوجيا المتطورة العالمية في مشروع مارشال في الشرق الأوسط لتحويل المنطقة إلى قوة تكنولوجية سلمية
لو تسنّت الفرصة لشمعون بيريز لسماع خطاب الثناء الذي ألقاه الرئيس الأميركي باراك أوباما على قبره لكان قد أصيب بالإغماء. فقد قضى الرئيس الأميركي 25 ساعة من وقته الثمين أمضى معظمها في السفر لحضور جنازة بيريز بعد أن كان قد ألغى جميع مواعيده ليوم الثلاثين من أيلول/ سبتمبر. وقف أوباما أمام نعش بيريز وقال: "في العديد من النواحي، يذكرني بعمالقة القرن العشرين الذين حظيت بشرف لقائهم... قادة لا يستغلونالمواقف الشعبية لصالحهم، بل يتحدثون بعمق ومعرفة دون الحاجة إلى التسجيلات الصوتية. قادة لا يستغلون استطلاعات الرأي والمواقف التي قد تخدم قناعاتهم... حتّى لو كان ذلك على حساب الآراء الشائعة في وقتها." وقد وجّه أوباما حديثه لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي كان جالسًا إلى جانبه في الصفّ الأمامي. حتّى بيريز نفسه لم يكن ليقول ذلك بشكل أفضل.
خلال العام الماضي، كانت الكآبة الشديدة قد بدأت تسيطر حتى على بيريز المعروف بتفاؤله الدائم. فقد أدرك أنّ حلم السلام الذي سعى من أجل تحقيقه لجيل كامل يتمّ تبديده ودفنه في طيّات التاريخ الأكثر سوادًا. في حديث مع المونيتور في منزله في تل أبيب في 11 كانون الأوّل/ ديسمبر 2015، شرح رجل الدّولة الخطوط العريضة لخطّة السلام النهائية التي كان قد وضعها. قبل ذلك بدقائق، اتّصل بوزير الخارجيّة الأميركي جون كيري متمنّيًا له عيد ميلاد سعيد. قبل ذلك ببضعة أيام، كان كيري قد وجّه خطابًا شديد اللهجة لإسرائيل حذّر فيه من العواقب التي قد تنتج عن سياسياتها في الأراضي المحتلة.
علّق بيريز قائلًا أنّ "كيري قاله له أنّه امتنع عن التعبير عن رأيه كاملًا في هذا الإطار". ثمّ أضاف أنّه "لا حكومة في إسرائيل، بل رئيس وزراء فقط. على مدى السنوات السبع الأخيرة، كان بإمكانه اتخاذ قرارٍ والسير به، لكنّه فضّل عدم القيام بأيّ شيء. حتى أنّه أصبح جمهوريًّا أكثر من الجمهوريين (الأميركيين). فقد استغلّ الجمهوريين من خلال دعمه المثير للسخرية للديمقراطيين. قامت أميركا ببناء شخصيّة نتنياهو على مدى السنوات السبع. أعطته الثقة أشادت به وأثنت على تصرفاته. أمّا أنا فأرى الأمور بشكل مختلف".
وقد تحقق مجمل ما قاله بيريز. فأميركا أكثر حكمة اليوم وهي تدرك أنّ نتنياهو كان يجرّها بخداعه إلى مبتغياته.
وأضاف بيريز "لست أرى أحدًا في إسرائيل لديه ما يكفي من القوّة لإحداث التغيير، كما أنني لا أرى هذا النوع من القوى في الجانب الفلسطيني أيضًا. ليس هناك في إسرائيل اليوم ولا حتى في الجانب الفلسطيني أحدًا لديه الشجاعة الكافية لذلك، على الرغم من أنّ محاربة (الرئيس الفلسطيني) محمود عبّاس المستمرّة لارهاب هو بمثابة معجزة. أعتقد أنّ الاتّفاق (النووي) مع إيران كان نجاحًا هائلًا لكيري. يقولون أنّه ليس ذكيًّا بما فيه الكفاية. لا أدري كيف يتمّ قياس الذكاء، لكني أعرف أنّ التزامه الاستثنائي أوصل إلى هذا الاتفاق. تدعم جميع دول العالم هذا الاتفاق باستثناء اسرائيل. كان على الزعيم الاسرائيلي لو كان جديًّا أنّ يخيف الإيرانيين وليس الاسرائيليين. ففي النهاية، الجميع يعلم أنّه بإمكاننا القضاء عليهم. يعيش نتنياهو في ظلّ الخوف والديماغوجيّة والكذب. لا توجد حروب حاليًّا في الشرق الأوسط. فالحروب لديها أهداف تحاول الأطراف المتقاتلة تحقيقها. أما ما يجري (في الشرق الأوسط) حاليًّا يوضع في خانة الإرهاب الذي يهدف إلى نشر الدمار وزرع الخوف".
يتناول بيريز الجزء الأوّل من خطّته المعهودة. يقول أنّه ثمّة "40 مليون عربي في الشرق الأوسط، وحوالي مليار وثلاثمائة مليون مسلم في العالم. ستون بالمئة منهم تحت سنّ الـ25. ويبدو لي أنّهم لن من الخروج من محنتهم بأنفسهم. ويستخدم حوالي 130 مليون شخص في الشرق الأوسط الهواتف الذكيّة. كما هناك 9 مليون طالب، وهذا ليس بالكثير. المشكلة أنه بعد انتهاء دراستهم، لا تتوفّر لهم فرص العمل لعدم توفّر التقنيّات العالية في سوق العمل. لم يقم أحد من قادتهم باللازم: لا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ولا الملك سلمان في السعودية ولا حتى الملك عبد الله في الأردن".
ويضيف أنّ: "الحلّ يأتي من الجامعات، وذلك باستخدام النموذج الذي تمّ وضعه في إسرائيل. يتعيّن استحداث منشآت حاضنة للطلاب تثني على التكنولوجيا الفائقة وروح المبادرة. ثمّة حاليًّا 13 ألف شركة ناشئة في إسرائيل تمّ تأسيسها من قبل الطلاب. وبعض هؤلاء الطلاب أصبحوا من أصحاب الملايين. يذهبون إلى الجامعة ويصبحون رجال أعمال ثمّ يتلقّون التمويل من المستثمرين ويسدون القروض بعد نجاح أعمالهم. يتعيّن تطبيق هذا النموذج في العالم العربي. تعتبر إسرائيل دولة التكنولوجيا الفائقة، لكن التكنولوجيا عابرة لحدود، فهي عالميّة. ينبغي نشر التكنولوجيا العالية في الشرق الأوسط على أوسع نطاق. وكنت قد سعيت لجلب ثماني شركات كبرى لتنفيذ هذا المشروع. فاحتياطي التكنولوجيا العالية يصل إلى 24 تريليون دولار، منها 6 تريليار مودعة في الولايات المتحدة الأميركية. فصناديق الاستثمار هائلة. أقول لهم، يا أصدقاء، ابدأوا بالتفكير في الحرب على الإرهاب، وإلا فسوف يقضي عليكم. ولا يتعيّن عليكم قتل الإرهابيين، بل قتل الإرهاب فقط.
يجب عليكم تطوير التقنيات العالية وتوفير فرص العمل. نحن بحاجة إلى إشراك المجتمع العربي الاسرائيلي فضلًا عن أكبر الشركات التكنولوجيّة في ذلك الأمر. تكلّمت مع مايكل ديل منذ وقت ليس ببعيد. قام بدمج شركته بشركة كبيرة أخرى. ثمّة مئات المليارات من الدولارات متوفّرة الآن. سألته، ماذا تريد أن تفعل بكلّ هذا المال يا مايكل؟ واتفقنا أن نلتقي في دافوس. أؤكّد لكم أنّنا لسنا بحاجة للحكومات. فهي لا تتسبب إلا بصداع في الرأس ولا تملك الكثير من المال. يتعيّن علينا جذب الشركات العالميّة لذلك أقوم حاليًّا بمحادثات مع شركة كسيسكو وفايسبوك وغوغل وغيرها".
"أقول لهم أنّه ثمّة أربعة أشياء يتعيّن جلبها إلى الشرق الأوسط: الانترنت والبرودباند والسحابة الالكترونيّة والطبّ الرقمي. يتعيّن علينا تقديم خطة مارشال هائلة للحصول على المعلومات وليس الأموال. كما يتعيّن علينا تحويل الجامعات إلى مراكز لريادة الأعمال والتكنولوجيا. يقترف القادة السياسيون في الشرق الأوسط أخطاء كبيرة. السيسي يهدر مليارات الدولارات على قنات السويس وهذا خطأ كبير. لن يدهشني إن استيقظت صباح غد وعلمت أن الدولة المصرية أو السعوديّة قد انهارت. يتعيّن علينا تقديم هذه الخطة في أسرع وقت ممكن. ويمكن لأي كان أن ينضم إلينا."
أما المرحلة الثانية من خطته فكانت على الصعيد السياسي. وقد قال بهذا الخصوص: "جون كيري يعمل باجتهاد لا يوصف لحل الأزمة الإيرانية من دون اللجوء إلى الحرب أو حتى إلى الحرب الباردة ومن دون الحاجة إلى الرجوع إلى الأمم المتحدة. فهو متفانٍ للقضية بشكلٍ كاملٍ من دون أي أثر للسخرية في عمله وهو أمر بغاية الأهمية في العمل السياسي. فهو صادق وقد وضع خيارًا دعمه العالم بأسره ما عدا إسرائيل. والآن يتكلمون عن فرض اتفاق (على الإسرائيليين والفلسطينيين). لما فرضه؟ فنتنياهو قد وافق مسبقًا على حلّ الدولتين مع إبقاء بعض الكتل الاستيطانية تحت السيادة الإسرائيلية. ولكن عباس لا يمكنه الموافقة على عرض نتنياهو بإبقاء الكتل الاستيطانية. فالفلسطينيون يعترفون بثلاثة مستوطنات بينما نتنياهو يريد سبعة أو ثمانية. من هذا المنطلق تبقى قضية تجميد بناء المستوطنات مضيعة للوقت. فالعالم بحاجة لتقديم خطة لإجراء الترتيبات استنادًا لما سبق أن تمّ الاتفاق عليه. يتعين على الجمعية العامة للأمم المتحدة تمرير هذه الخطة وليس مجلس الأمن. يجب أن توضع على الطاولة من دوه فرض أي شيء على الأطراف. ويمكن لمن أراد أن يشارك فيها. ويمكنها أن تكون بمثابة بيان عالمي لإظهار النوايا بهذا الخصوص. فإسرائيل لا تستطيع أن تعمل من دون العالم المستنير على الرغم من وجود بعض الشركات التي بدأت بتجنب التعامل معها بسبب سياساتها. ولا يمكن ترك للفلسطينيين جانبًا أيضًا. فعليهم أن يكونوا جزءًا أيضًا من خطة مارشال. ويكون قبول الترتيبات شرطًا مسبقًا للانضمام. فهذا هو فحوى الفكرة."
وقد سألت بيريز من سيعمل على بدء الخطة وتنفيذها فأجابني: "العالم". وأضاف قائلًا: "خذ كيري على سبيل المثال فهو قادرٌ على التصرف. لقد ذهبت مؤخرًا لرؤية الرئيس الروسي بوتين وقلت له أبلغ من العمر 92 عامًا وأنت 62. ماذا تريد أن تفعل في السنوات الثلاثين المقبلة. احتلال أميركا؟ قال لي لا. هل تعتقد أن أميركا تريد احتلالك فأجابني: يبدو جليًا أنها لا تريد ذلك. وسألته إذا كان يواجه صعوبات في التكلم مع الرئيس باراك أوباما. فقال: لا٬ أوباما رجل لطيف في الواقع. عندها قلت له إنه على الرغم من أنني لا أحب التجسس إلى أنني سوف أقول للأمريكيين عن كلّ شيء تحدثنا عنه. فقال: أعرف ذلك٬ لهذا السبب أن أتحدث إليك الآن. أحب أن أفكر أنه بفضل هذا النوع من الوساطة استؤنفت المحادثات بين أميركا وروسيا. أعتقد أن الروس والصينيين سوف يوافقون والأوروبيين أيضًا بالإضافة إلى المستشارة الألمانية ميركل.
ففي نهاية المطاف٬ العالم بأسره يتفق على حلّ الدولتين الذي لم يتم فرضه على أي أحد. سيكون هذا الحلّ التوافقي الذي قدمه العالم بأسره على غرار القضية الإيرانية. فبدلًا من تبادل التهديدات يمكن للأطراف المعنية الاستفادة من الحوافز. ويمكن لكل من يريد المشاركة وتنفيذ المشروع الانضمام إلى خطة مارشال هذه لمشاركة معلوماتهم للمضي قدمًا على هذا الطريق".
سألته كيف سيقنع نتنياهو وكيف سيقوم بتحييد لجنة الشؤون العامة الأميركية الضاغطة والمؤيدة لإسرائيل وأصحاب الملايين الموالين لنتنياهو. فأجابني: "لا يمكنك شراء كل شيء بالمال". وأضاف: "لا يمكن للمليونير الأميركي شيلدون أدلسون شراء العالم كله فهو لا يملك 24 تريليار دولار. أما نتنياهو فلديه الإنجيليين في جيبه ولكنه خسر الديموقراطيين. روسيا ستوافق على الخطة وأنا واثق من ذلك. واستنادًا للمحادثات الطويلة التي أجريتها٬ أنا على يقين أن الأمريكيين سوف يوافقون أيضًا على الرغم من وجود بعض الأشخاص الذين لا يزالون يصدقون وعون نتنياهو. ففي النهاية٬ نتنياهو قد وافق على إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح وعلى إبقاء ثلاث كتل استيطانية تحت السيطرة الإسرائيلية وعلى حل عادل متفق عليه مسبقًا لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين. أما مشكلة القدس سنحلها في وقتٍ لاحق على مرحلتين وعباس سوف يوافق عليها. تكلّمت معه في هذا الموضوع. في المرحلة الأولى، تكون كلّ ديانة مسؤولة عن مقدساتها. تقوم الجمعيّة العامة للأمم المتحدة بصياغة وإقرار جميع التفاصيل. يتمّ وضع الاتفاقية قبل ذلك كنوع من بيان شامل يمهّد الطريق للخطوات المقبلة. وستكون جميع الدول في العالم شريكة في هذه الاتفاقيّة وستتصرّف وفقًا لذلك. أما المعتكف فيتمّ نبذه. ولا أعتقد أنّه ثمّة أحد مجنون لهذه الدرجة. فكلّ من يرفض الاتفاقيّة يسبقه التاريخ. ستتيح هذه الفرصة المجال أمام إقامة جنّة حقيقيّة يتمّ فيها استثمار مليارات الدولارات في التكنولوجيا والعلم والجامعات والتقنيات العالية. هذا هو المستقبل. والناس لا تريد أن تبقى عالقة في الماضي".
بعد تسعة أشهر من هذه المقابلة، أصيب بيريز بسكتة دماغيّة أدّت إلى وفاته بعد أسبوعين في 28 أيلول/ سبتمبر. أظهرت خطته النهائيّة شعوره بالإحباط العميق من الجانب الفلسطيني والإسرائيلي على حدّ سواء، لكنه رفض الاستسلام. أعرب عن أمله في تسخير حبّه الهائل للعلوم والتكنولوجيا والتقدّم العلمي ووضعه في خدمة شغفه الآخر: السعي من أجل تحقيق السلام. قال أنّه لن يعش ليرى حلمه يتحقق. ومن المستبعد أن يكون قد ترك أحدًا من بعده للسير على خطاه.