التنشئة الوطنية في المدرسة والبيت لدى الشباب اليهود أقوى منها لدى نظرائهم الفلسطينيين
بعكس التربية الدينية
الناصرة – «القدس العربي»: تؤكد دراسة اجتماعية جديدة على أهمّيّة الهُويّة بمركّباتها المختلفة (القوميّة، الوطنيّة الدينيّة)على التربية والمناعة النفسيّة لدى الناشئين الفلسطينيّين، مقارَنةً بالناشئين اليهود.
اعتمدت هذه الدراسة الصادرة عن مركز مدى الكرمل للدراسات الاجتماعية التطبيقية في حيفا منهجيّة البحث الكمّيّ، واختير لها طلبة فلسطينيّون ويهود. لفحص متغيّرات الدراسة، اعتمدت خمس استمارات أساسيّة: استمارة لقياس التنشئة؛ استمارة لقياس الهُويّة؛ وثلاث استمارات أخرى لقياس العوامل النفسيّة.وأظهرت نتائج الدراسة أنّ نموذج البحث المقترَح، الذي أُجرِيَ لدى أقلّيّات إثنيّة مختلفة، ملائم أيضًا لدى الناشئين الفلسطينيّين، وكذلك الحال بالنسبة للناشئين اليهود. وحسب النموذج، تبيّن أنّ جميع مركّبات الهُويّة (القوميّة؛ الدينيّة؛ الوطنيّة) تقوم بدَوْر الوسيط بين التنشئة وعوامل نفسيّة مختلفة مع وجود خصوصيّة كلّ مجموعة.
وتستذكر الباحثة يمامة عبد القادر في دراستها هذه أن هبة القدس والأقصى عام 2000 كانت انتفاضة شعبيّة عفويّة أظهرت الدور المحوريّ الذي قام به الشباب فيها. معتبرة أن خروج الشباب في أراضي 48 إلى الشوارع لم يكن فقط احتجاجًا على انتهاك المسجد الأقصى، بل أن كان أبعد وأعمق من ذلك بكثير، حيث عبّر عن غضب محبوس في نفوس الشباب وعن استياء عارم من سياسة إسرائيل. هذه الهبّة كانت قضيّة الشباب ونقطة مفصليّة للجيلين الثالث والرابع بعد النكبة وهو جيل الشباب» منتصب القامة « كما وصفته باحثة أخرى في علم الاجتماع، البروفيسور خولة أبو بكر.
أثبتت نتائج الدراسة الكمية القائمة على مقابلات وإحصاءات أنّ التنشئة والهُويّة الدينيّة لدى الناشئين الفلسطينيّين أقوى منها لدى الناشئين اليهود. كذلك التنشئة الوطنيّة لدى الناشئين اليهود أقوى من التنشئة الوطنيّة لدى الناشئين الفلسطينيّين.
أمّا بالنسبة للهُويّة الوطنيّة الفلسطينيّة، فقد أتت النتائج على العكس ممّا كان متوقّعًا، أي لم تكن الهُويّة الوطنيّة الإسرائيليّة أقوى من الهُويّة الوطنيّة الفلسطينيّة. وهذا يعني أنّ التنشئة الوطنيّة في البيت والمدرسة (التي تكاد لا تُذْكَر) هي ليست العامل الوحيد المسؤول عن بلورة وبروز الهُويّة الوطنيّة الفلسطينيّة لدى الناشئين الفلسطينيّين.
الهوية الوطنية
من أهمّ النتائج التي خَلصت إليها الدراسة بروزُ الهُويّة الوطنيّة – الفلسطينيّة لدى الناشئين الفلسطينيّين، على العكس ممّا كان متوقّعًا، ورغم وَهْن التنشئة الوطنيّة الفلسطينيّة في البيت والمدرسة. ويمكن أن تُعزى هذه النتيجة إلى أكثر من تفسير. أمّا التفسير الأوّل برأيها فهو بواسطة نتيجة البحث التي أظهرت إسهام التنشئة الإسلاميّة في بلورة وبروز الهُويّة الفلسطينيّة. وثمّة تفسير آخر يتعلّق بخصوصيّة الأقلّيّة الفلسطينيّة في إسرائيل كأقلّيّة مضطهَدة وهُويّتُها الجماعيّة معرَّضةٌ للطمس والتهميش. بحسب أبحاث عديدة، الهُويّة الإثنيّة لدى الناشئين الذين ينتمون إلى أقلّيّات مضطهَدة تكون على المحكّ، ممّا يحفّز الناشئين على البحث عنها وتجذيرها.
وقد أظهرت نتائج الدراسة التي نشرت بكاملها في مجلة «جدل» الصادرة عن «مدى الكرمل» أنّ الناشئين الفلسطينيّين يهتمّون بهُويّتهم الفلسطينيّة، ويبحثون عن مصادر للتعرّف عليها على غرار أبناء الأقلّيّات الأخرى التي تعاني التمييز والاضطهاد. وتتابع «هم ينخرطون في أُطُر اجتماعيّة وسياسيّة ويشاركون في فعّاليّات مختلفة لتعزيز هُويّتهم الفلسطينيّة، يفتخرون بانتمائهم إلى وطنهم وشعبهم، رغم محاولات الطمس والتهميش لهُويّتهم في المدرسة وتجاهلها في البيت». معتبرة أن هذه السيرورة تؤدّي إلى تعزيز وبلورة الهُويّة على نحوِ ما وصفت خولة أبو بكر في كتابها الصادر عام 2002»
«جيل منتصب القامة»
أبناء أسيل عاصلة أحد شهداء هبة القدس والأقصى عام 2000 الذين أجريت معهم مقابلة في آخر سنة 2000، رأوا في مقتل أسيل نقطة تحوُّل بلورت هُويّتهم السياسيّة. كثيرون منهم أشاروا الى أنّهم إلى ما قبل مقتل أسيل لم يعيروا أيّ اهتمام للصورة التي يعرّفون بها أنفسهم: فلسطينيّون، عرب، إسرائيليّون مسلمون مسيحيّون. منذ القتل، جميعهم يعرّفون أنفسهم كفلسطينيّين قبل كلّ شيء».
والتفسير الأخير تنسبه الباحثة يمامة عبد القادر إلى أُطُر أخرى أسهمت في تطوُّر وبروز الهُويّة الفلسطينيّة لدى الناشئين الفلسطينيّين ولم تُبحث في الدراسة الحاليّة (كالأطر السياسيّة والاجتماعيّة، وشبكات التواصل الاجتماعيّ، والأصحاب…).
أمّا بالنسبة للمناعة النفسيّة، فقد جاءت النتائج على العكس ممّا هو مفترَض ولم تَظهر فروق بين المجموعتين، اليهوديّة والفلسطينيّة. وتتوافق هذه النتيجة مع وتيرة نتائج الأبحاث الأخيرة، التي تشير إلى تدنّي الفروق بين المجموعتين بالنسبة لعوامل المناعة النفسيّة. وتبرز نتائج الدراسة هذه أنّ الوتيرة العامّة أتت حسب ما أُثبت لدى أقلّيّات كثيرة؛ حيث وُجِد أنّ التنشئة القوميّة /الدينيّة أو الوطنيّة القويّة تؤدّي إلى بروز مركّبات الهُويّة، والأخيرة بدَوْرها تعزّز المناعة النفسيّة لدى الناشئين.
بالإضافة إلى ذلك، تلاحظ الباحثة أنّ خصوصيّة كلّ مجموعة تبرز أيضًا في النموذج، فقد برزت خصوصيّة الناشئين الفلسطينيّين بالتنشئة الدينيّة العميقة والهُويّة الدينيّة القويّة، بينما ظهرت التنشئة الوطنيّة العميقة والهُويّة الوطنيّة الإسرائيليّة القويّة لدى الناشئين اليهود. وممّا هو لافت للنظر بحسب الباحثة عبد القادر أنّ الدراسة أظهرت وجود علاقة قويّة بين مركّبات الهُويّة المختلفة، حيث برز إسهام التنشئة الدينيّة والتنشئة القوميّة لجميع مركّبات الهُويّة. لذا، ورغم خصوصيّة كلّ مركّب من هذه المركّبات، فإنّ الفصل التامّ بينها غير ممكن، وذاك يعود إلى تشابكها حضاريًّا وتاريخيًّا وثقافيًّا، بالإضافة إلى عامل اللغة. الباحثة يمامة عبد القادر التي تعالج موضوع الدراسة هذه ضمن أطروحة دكتوراه تقترح إجراء بحث مستقبلي يدمج بين جزء كمّيّ وجزء كيفيّ، لضمان الموضوعيّة والدقّة بواسطة الجزء الكمّيّ من جهة، وتفادي الخطورة في التطبيق الميكانيكيّ للنظريّات من جهة أخرى. كذلك ترى أنه يمكن للجزء الكيفيّ أيضًا إضافة عمق وشموليّة أوسع للمفاهيم المراد بحثها، وخاصّة مفهوم الهُويّة.