أكبر الهموم!
في بريطانيا استنفرت الأحزاب والحراكات الشعبية، من أجل التحصل على قرار يمنع استهلاك “العلكة” في المحافظات والمدن هناك. الموضوع أصله منذ سنوات عديدة حين حاولت بلديات إنجليزية اتباع التجربة السنغافورية التي سبقت الجميع في هكذا قرار عجيب وغريب بالنسبة لنا!
سنغافورة ابتدعت القرار المبني على معطيات متعلقة بالنظافة العامة، والكلف الكبيرة المترتبة على إزالة العلكة من الشوارع ومن على أبواب وسائل المواصلات، والمباني الرسمية وغير الرسمية. وهي تحتاج فعليا لميزانية تعد عالية بالمقارنة مع ثمن العلكة الذي لا يتعدى السنتات، إنما يتسبب بأذى بيئي وأعمال صيانة مضاعفة، وذلك في تسعينيات القرن الفائت.
وبالمثل ترغب بريطانيا بشكل جدي وبمطالبات عالية المستوى الاقتداء بالتجربة التي يعتبرونها مهمة وعاجلة!
في وطني أصبح الخوف مضاعفا ومتراكما بظله الثقيل، من العنف والشدة العابرة لأمزجة بنات وأولاد وفتيات وشباب أصبحت وسيلتهم السهلة والمتاحة في التعبير، هي الكلام الجارح واستخدام الأيدي والأرجل في النقاش أو حتى في المزاح. صار التعاطي مع الحياة التي يجب أن تنمو بالأمل وتترعرع بالطمأنينة، سهلا بل ومستهترا بكل معاني الرغبة في العيش والاستمرار.
في وطني يتجرأ شاب في العشرينيات من مقتبل عمره الربيعي، ويعلق نفسه مهددا بالانتحار بسبب سوء أوضاعه المادية. وتصرخ صبية لم تتخرج بعد من المدرسة على زملائها محفزة إياهم على الإمعان أكثر في تخطي تعليمات الإدارة المدرسية، والقفز فوق كل الأسوار بعد أن يكتبوا عليها عبارات مسيئة وخادشة.
في وطني يكبر بالطول وبالعرض سجال الأولاد ما بين متنمر ومتنمر عليه، ليصل إلى حجرات سجون الأحداث والمخافر وغرف المستشفيات، والبلاغات الكيدية، بدل أن يمضوا أيامهم في غرفهم الصفية مثل أي أطفال في أعمارهم.
هناك حيث الثلوج تغمر الشوارع والساحات، يقف المواطنون في وجه حكوماتهم، لأنها لم تحسب حساب الرياح التي عصفت ببلادهم، رغم أن الحياة تقريبا سائرة بنظام ولو ليس بحيوية، إنما لأنها ربما غفلت عن شعورهم الفائق بالبرد!
ونحن هنا لم نقترب حتى من أرقام البطالة لنزحزحها عن كاهل أبنائنا، ولا على حق الشباب في الزواج والعيش الكريم، ولا على قوت الأسر وحليب الأطفال ودفء البردان ودواء المرضى، مشغولون كثيرا بمؤتمرات صحفية ومسرحياتية، و”هاشتاغات” ماكرة تعرف كيف تفرغ الغضب على الهواء ليظل في الهواء!
نحن هنا نلاحق العربات المغبرة لنرجو صاحبها أن يغسلها، ولا نهتم أن ننفض الغبار عن عقولنا وجوارحنا وكتبنا المدرسية وكراساتنا الجامعية، وألفاظنا ومعاملاتنا مع بعضنا بعضا.
التسامح صار ترفا أخلاقيا ضمن منظومة الضرب والسحل والشتم، وإظهار العضلات كيف ما اتفق ولم يتفق، فالمهم أن تحيا، لا أن تعيش، في غابة يأكل فيها القوي الضعيف، حتى لو اكتشفنا متأخرا أننا كلنا ضعفاء.
التنازل تحول إلى دلع سلوكي يربأ أولو الأمر والقرار والوصاية عن وضعه في خططهم للتخاطب أو التعامل، لأن الأصل في الحوار هو الصوت العالي، والأصح في الخطاب هو العنف.
لا يهمنا بالمطلق أن يسمح للبريطانيين باستهلاك “العلكة” أم لا، فهم أحرار. إنما يستفزنا الخبر بنظافته ولياقته وتفرغ القوم هناك بهموم ليست كباقي الهموم.