كيف يدير المسلمون اختلافاتهم الدينية؟
الاختلافات الدينية واقعة بين المسلمين لا محالة، لسببين رئيسين أولهما طبيعة النصوص الدينية المحتملة لأفهام متعددة، واختلاف مدارك الأئمة والمجتهدين في فهم تلك النصوص واستنباط الأحكام منها، ومن المؤكد استحالة رفع تلك الاختلافات وتجاوزها بالكلية.
ثمة مسافة بين المعنى الذي يحمله النص في ذاته، وبين المعنى الذي يستخرجه المجتهد الناظر فيه، فقد يوفق المجتهد لإصابة الحق في اجتهاده واستنباطه، وقد يبتعد عنه ولا يوفق لإصابته وموافقته، وهو في كلا الحالين مأجور، فإن أصاب في اجتهاده فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، تماما كما ورد في الحديث "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر".
حينما يُثار الحديث عن الاختلافات الدينية في أوساط المسلمين، فغالبا ما يتم التفريق بين الاختلافات العقائدية والاختلافات الفقهية، بمنع الأولى وتجويز الثانية، مع أن الاختلاف في فروع العقائد وقع بين الصحابة والتابعين، كمسألة رؤية النبي عليه الصلاة والسلام ربه ليلة الإسراء والمعراج، واختلاف العلماء من بعدهم في عذاب القبر هل يقع على البدن أم على الروح، وفي الجنة التي سكنها آدم هل هي جنة الخلد أم جنة في الدنيا.
من هنا يأتي التأكيد على وقوع الاختلاف في فروع العقيدة، وكذلك الاختلاف الواسع في الفقه، وهو ما عُرف بالتنوع الفقهي في دائرة المذاهب الفقهية الأربعة عند أهل السنة، وهي المرجعيات الفقهية المقررة عبر تاريخ الأمة وممارستها الدينية، مع وجود اجتهادات لأئمة خارج تلك المذاهب، بعضها كانت في زمانها مذاهب لها أتباعها، لكنها انقرضت أو ضعفت لعدم قيام تلاميذ أولئك الأئمة بواجب خدمتها ونشرها.
بقيت جماهير الأمة في تيارها الأوسع تتبع المذاهب الأربعة، مع وجود اتجاهات وشخصيات علمية تدعو إلى ما أطلق عليه "فقه الدليل" مع أنها لم تدعُ للتمرد على فقه المذاهب الأربعة، بل كانت تدعو إلى الأخذ بالدليل بعد دراستها المتأنية للمذاهب الأربعة، والتضلع منها، فلم تكن تسعى لإلغاء الفقه المذهبي وتجاوزه، بل كانت تستند إليه ابتداء في تعلمها وتفقهها، من غير أن تتعصب له أو تنحصر فيه، طلبا للدليل الأقوى والأرجح.
لكن مع ظهور الحركات والاتجاهات الإسلامية المعاصرة التي قامت على أثر سقوط الخلافة العثمانية، وسعيها لاستئناف الحياة الإسلامية، وإقامة دولة الخلافة من جديد، ظهرت اتجاهات تدعو إلى التمرد على فقه المذاهب الأربعة، وتسعى لتجاوزه، وتلح في دعوتها للتعامل المباشر مع النصوص الشرعية الأصلية، بتجاوز كل التراث الفقهي للمذاهب الفقهية الأربعة وغيرها، وهو ما يتعسر فعله على عامة المسلمين، حتى طلبة العلم منهم.
ولا يعدو عمل تلك الاتجاهات وهي تلح في اعتماد فقه الدليل، والأخذ من الأدلة الأصلية بشكل مباشر، أنها دعت إلى اتباع مشايخ وعلماء معاصرين بأعيانهم، فباتت أقوالهم واختياراتهم هي المقررة والمتبعة، فبات بعض المشايخ المعاصرين لهم حضور وتأثير في أوساط تلك الدعوات أكثر بكثير من أئمة المذاهب الكبار، وعلمائها المعروفين، وما ذاك في حقيقته إلا لون من ألوان التعصب للمعاصرين، بعد أن ألحوا في الدعوة إلى نبذ التعصب للمتقدمين.
لا يملك العلماء والفقهاء والمفكرون في التعامل مع الاختلافات الدينية (عقائد وفقه..) إلا تربية العقل المسلم على تقبل تلك الاختلافات والتعايش معها، وسلوك منهج البحث والحوار في مناقشة تلك الاختلافات لمن كان أهلا لذلك، بعيدا عن مسالك التضليل والتبديع والتفسيق، وبعيدا عن دعاوى امتلاك الحق المطلق، واحتكار الحقيقة، فكل المذاهب والاتجاهات تسعى لإصابة الحق وتجتهد في ذلك، وقد توفق لموافقة مراد الله وقد تبتعد عنه ولا تصيبه، والأمر لله من قبل ومن بعد