التعددية الدينية (4)
عماد عبد الرحمن
إن من أهم ما يجب طرحه في فلسفة التعددية الدينية فكرة ما هو الدين؛ هل الدين إلهي؟ بمعنى أنه صادر عن إله هذا الكون، ولا أقصد بالصدور فيوضات روحانية فحسب بل المقصود أن الله هو من يوحي بكل هذه الشرائع والمعتقدات بكل وضوح وقصد إلى النبي المرسل، أم أن الدين مجرد شعور وفيوضات يقوم النبي بتفسيرها بطريقته وحسب فهمه وحسب مخزونه الثقافي بمعنى أوضح نفي مصدرية الدين الإلهية؟
إن بعض الفلاسفة يعتقدون أن النبوة أمر كسبي يأتي عن طريق الترقي في الرياضات الروحية، وليس أمرا وهبيا من الله لرجل من البشر يصطفيه، إن هذه الفكرة تنفي كون الدين من الله أصلا بل هو من عمل بشر مميز من أفراد إستثنائيين روحانيين.
جون هيك عندما يطرح طرق المعرفة البشرية الثلاث وهي كما أشرنا إليها سابقا الطريقة الفيزيائية التجريبية (الطبيعية)، وطريقة التجربة الاجتماعية، وطريقة التجربة الإلهية الروحية؛ فالإيمان هو شكل من أشكال المعرفة التجريبية عند هيك إذا ليس هو أمر وهبي من الله بل يحصل عليه الإنسان عن طريق التجربة واختبار المتعالي بل هو يذهب إلى مدى أبعد من ذلك فيقول "ومن الممكن القول أنه في مرحلة جديدة في التطور البشري ظهر داخل كل الثقافات القديمة المختلفة وبنحو متواز أفراد إستثنائيون شكلوا قنوات عبور نحو وعي ديني جديد وبداية في تشكيل أديان الوحي كنمط جديد من الإستجابة للحق الأعلى" .
فهو يرى أن التطور البشر؛ أي تطور الوعي البشري وبدء نظر الإنسان لنفسه كفرد وتطلع الإنسان إلى الأفضل في العصر المحوري؛ فهيك يقسم العصور بالنسبة للأديان إلى العصر ما قبل المحوري والعصر المحوري والعصر ما بعد المحوري، ففي العصر ما قبل المحوري كان البشر ساذجين وكان الخوف وحب السكون والبقاء هو هاجسهم فكانت الأديان بدائية ناشئة من تخيل الإنسان للإله الغاضب الذي يجب أن نسترضيه.
وفي العصر المحوري تطور فكر البشر تدريجيا وأصبح البشر يتطلعون إلى الأفضل وإلى حياة أفضل مما هم يعيشون فيه فتشكلت أديان تواكب هذا التطور لدى الوعي البشري، وبدأت فكرة الخلاص تتمحور في فكر البشر وهكذا في العصر ما بعد المحوري تشكلت أديان هي استمدت مما قبلها فكان العصر المحوري هو بمثابة التمهيد الفكري لظهور الأديان الكبرى في العالم، وكان العصر ما بعد المحوري هو مبدأ الأحداث الضخمة التي أطلقها أفراد إستثنائيون في جميع الثقافات وبنحو متزامن تقريبا، بحسب تعبيره.
ويقول هيك نحن "لا نتحدث عن انقطاع حاد مع الماضي ولكن عن حركات جديدة هيأت لوعي ديني جديد ومهدت لتشكيل أديان العالم الكبرى مع بقاء الكثير من عناصر الماضي القديم حاضرة بعناد داخل هذه الأديان حتى يومنا هذا".
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه أمام هذا التقسيم للتاريخ, ماذا يقول هيك عن الأديان التي ظهرت في العصر ما قبل المحوري وكانت لديها فكرة الخلاص والحياة الأبدية وأثبتها التاريخ كدين نوح ويوسف في مصر الذي قضى على الرتابة والسكون كما يصفها هيك وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام أظن أنه لا جواب أمام هيك عن هذا السؤال.
إذن فانطلاقا من قول هيك فإن فكرة التعددية أصلا لا تصح ولا تكون فكرة مقنعة بالقول إن الدين هو وحي من الله، لأن الحديث بأنه من الله يجعل الدين الحق واحد وبالتالي فالخلاص لا يكون إلا في هذا الدين الموحى من الله، وإذا كانت الأديان كلها من الله وكلها حق فلماذا هذا التناقض الواضح بينها، فالذي يقول بالتعددية ينبغي عليه القول بأن الأديان نتاج بشري متأثر بالوضع الاجتماعي السائد.
إن فكرة التعددية لكي تستقيم وتنسجم يجب أن يكون الدين هو صنع بشري بامتياز وهو نتاج تفاعل مع المتعالي وإلا كان الحق واحد لأن ما كان من عند الله يكون واحدا؛ وإلا لتناقض الإله ولكن بالقول أن الدين صنع بشري وإنتاج فكر بشري مستمد من أفكار قبله ومن تفاعلات عند الشخصيات المتميزة والأفراد الإستثنائيون بهذا القول فقط تنسجم فكرة التعددية الدينية ويتقبل كل دين من الأديان الآخر على أنه حق ويمكن له الخلاص.
ويقول هيك الأديان الكبرى "لم تأت بشيء جديد ومختلف؛ بل كانت مستندة من ناحية بنيتها الخلاصية إلى التقليد الديني الجديد الذي تأسس في فترة العصر المحوري، فالبوذية جاءت من تيار الهندوسية, والكونفوشوسية والطاوية جاءتا من التقليد الصيني، واليهودية كانت ممهدة للمسيحية ومجموع التقليد اليهودي ــــ المسيحي كان أيضا ممهدا لمجيء الإسلام وهكذا".
يقول الفيلسوف إيرنست تروليش إن "الأديان الكبرى هي تعبير عن وعي ديني يتبع أنماطا ثقافية خاصة ... يعتمد الدين على الشروط الفكرية والاجتماعية وحتى القومية التي يتواجد فيها".
ويقول هيك عن الأديان الكبرى "هي استجابات بشرية متنوعة للحقيقة الإلهية ... وإن الاختلاف في التعبير عن المتعالي هو اختلاف في التجربة؛ والتجربة هي متأثرة بالبيئة التي ينشأ فيها الدين".
ولا أدري إذا كانت الأديان هي مجرد أحداث أطلقها أفراد إستثنائيون وهو مجرد إنتاج بشري هل يبقى لفكرة الخلاص أي معنى؟ برأيي أن فكرة الخلاص لم يعد لها أي معنى ولا داعي أن يكرر هيك مقولته بأن الناجين من البشر ـــ إذا قلنا أن الحق واحد من الأديان ـــ هم فئة قليلة وذلك يتنافى مع رحمة الإله ويسبب مشكلة أخلاقية داخل الأديان ولا ننسى هنا أن نشير إلى أن هيك كان يتصور الإله كالبشر فمعنى الرحمة هي الرقة والعطف والحنان والميل النفساني وهو يؤدي إلى القول بتأثر الإله من البشر وهذا يتنافى مع فكرة الإله فالإله لا يتأثر بل يؤثر فقط فإذا تأثر أصبح لديه ضعف ولكن معنى الرحمة الصحيح هو إرادة الخير والثواب لمن يستجيب لأمر الإله أو هو فعلا الإثابة على فعل الخير الذي يفرضه الإله على البشر.
فلا داعي للقول بالمشكلة الأخلاقية التي صدع بها هيك رؤوسنا، ثم نعود للقول بأن فكرة الخلاص مع القول ببشرية الأديان لا داعي لها، بل أصبح الاعتماد عليها من أجل طرح فكرة التعددية هو مجرد سفسطة لا داعي لها فأي خلاص ومن أين يأتي الخلاص، من بشر فانين ذهبوا ولم يعد لهم وجود وليس لهم تأثير في هذا الكون، أم من فكرة بشرية ...!!!
ولكن هيك يذهب أبعد من ذلك في تفسير الدين فهو يجعل كل فكرة تتمحور حول حقيقة عليا وتسعى لتحقيقها والتكيف معها والاتصال بها هي دين؛ فالعلمانية بل والشيوعية هي أديان لها حق الخلاص، فهيك يعرّف الدين بأنه عبارة عن الموقف والميل تجاه موضوع أو وضعية معينة بعبارة أخرى يصبح الدين فعل تأويل وتفسير من المتدين للموضع "أ" والحكم عليه بأنه "ب" بعد توسيط جملة من مبادئ يعتقد بها والتموضع في وضعيه علائقية معينة مع "أ" .
ويقول "التجربة الدينية تعني تكيف الإدراك وتعديل الوعي بنحو يتناسب مع مبادئ ذات دلالة"؛ وبهذا القول ينحل الدين نهائيا ويصبح جميع البشر ناجين ولديهم حقية الخلاص وبهذا يصبح التدين بدين مرتبط بإله أو عدم إرتباطه بإله واحد بل لا داعي لأن يكون الشخص مرتبطا بدين معين فكل لديه الخلاص ويصبح الدين مجرد ثقافة موروثة تحدد أصل الإنسان الجغرافي والثقافي لا غير وليس له أي دلالة موضوعية.
وبهذا التقرير يتضح مدى خطورة القول بالتعددية الدينية ومدى خطورة هذه الفكرة عندما تطرح على الشباب المسلم في بلادنا الإسلامية من أناس ينتسبون إلى الدين وإلى الملتزمين بالدين وبالتجديد "الشيوخ أو العلماء أو المفكرون"، هم يتسمون بهذه الأسماء فنجد المفكر الفلاني يدعو إلى وحدة الأديان في جبهة واحدة وإلى المساواة بين والمسلم وغيره من أصحاب الديانات الأخرى.
وذاك آخر هو مفكر وعالم يقول بأن اليهود والنصارى في الجنة أو أن الدين هو الحب! الحب للبشرية؛ وهكذا تجري أفكار التعددية الدينية داخل عالمنا الفكري الإسلامي ولكن ببطئ وبتستر حتى لا تُفضح من أول الطريق ولكن على شبابنا المسلم أن يكون واعيا لكل ما يطرح أمامه من أفكار والرجوع في تقيم هذه الأفكار إلى الفهم الصحيح للدين الذي عليه الأمة من مئات السنين.