"العلمانية" جذورها التاريخية وبنيتها المعرفية.. هل نحن علمانيون حقا؟ (1)
عماد عبد الرحمن
العلمانية "secularism" هي المذهب الدنيوي؛ أي عدم المبالاة بالدِّين أو العبارات الدِّينيَّة، هكذا تترجم الكلمة في القواميس، ولكن توجد في المعجم العربي ترجمات مختلفة، فبحسب الدكتور عبدالوهاب المسيري، فإن كلمة "سيكولار" و"لائيك" (المصطلحين الإنكليزي secularism والفرنسي laïcité): تعني "العِلمانية" (بكسر العين) نسبة إلى العِلم، "العَلمانية" (بفتح العين) نسبة إلى "العالم" أي "الدنيوية" و"الزمنية"؛ أي الإيمان بأنها هي الحياة الدنيا ولا يوجد سواها، و"الزمنية" بمعنى أن كل الظواهر مرتبطة بالزمان وبالدنيا ولا علاقة لها بأية ماورائيات، أي الماوراء الطبيعة المتافازيقا، وتستخدم أحيانا كلمة "لائيك" ("لائيكي" و"لائيكية")، خصوصا في المغرب ولبنان، دون تغيير بمعنى العلمانية.
ولكن قبل الحديث عن كلمة العلمانية كمصطلح نريد الرجوع إلى الوراء لنرى أصل الفكرة عند الفلاسفة، فربما كان أول ظهور للفكرة وهي عدم تدخل الإله أو الآلهة في الحياة الدنيا كان عند الفيلسوف اليوناني "إبيقور" 341ــــ270 ق.م، وهو صاحب مدرسة فلسفية سميت باسمه (الإبيقوريّة)، فهو ينكر تدخل الآلهة في شؤون العالم، لأن لهم وجودا سعيدا لا يعكره واجبات متعبة، وهو ينكر العناية الإلهية ويقول إنها وهم من الأوهام، ولا تتفق مع مقام الألوهية.
ثم تلاه باروخ سبينوزا (بالهولندية: Baruch Spinoza) هو فيلسوف هولندي من أهم فلاسفة القرن 17. ولد في 24 نوفمبر 1632 في أمستردام، وتوفي في 21 فبراير 1677 في لاهاي، إذ أشار إلى فكرة العلمانية، فقال إن الدين يحوّل قوانين الدولة إلى مجرد قوانين تأديبية، وأشار أيضًا إلى أن الدولة هي كيان متطور وتحتاج دومًا إلى التطوير والتحديث على عكس الشريعة الثابتة الموحاة، فهو يرفض اعتماد الشرائع الدينية مطلقًا في قوانين الدولة، مؤكدًا أن قوانين العدل الطبيعية والإخاء والحرية هي وحدها مصدر التشريع.
أما الفيلسوف الإنكليزي جون لوك (29 أغسطس 1632 ــــ 28 أكتوبر 1704) (بالإنجليزية: John Locke) هو فيلسوف تجريبي ومفكر سياسي إنجليزي كتب في فكرة العلمانية فقال: "من أجل الوصول إلى دين صحيح، ينبغي على الدولة أن تتسامح مع جميع أشكال الاعتقاد دينيًا أو فكريًا أو اجتماعيًا، ويجب أن تنشغل في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط، لا أن تنهك نفسها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذلك التصرف. ويجب أن تكون الدولة منفصلة عن الكنيسة، وألا يتدخل أي منهما في شؤون الآخر. هكذا يكون العصر هو عصر العقل، ولأول مرة في التاريخ البشري سيكون الناس أحرارًا، وبالتالي فهم قادرون على إدراك الحقيقة".
ثم جاء الفيلسوف الفرنسي الطبيعي فرانسوا ماري أرويه (FrançoisــــMarie Arouet) المعروف باسم فولتير (بالفرنسية: Voltaire) من مواليد (21 نوفمبر 1694) ووفيات (30 مايو 1778)، الذي يقول بالعناية الإلهية ولكنها عناية كلية لا تتناول الجزئيات، أي أن تدبير الكون لا يرجع إلا إلى القوانين العامة في الكون، بمعنى "أن الله صانع الساعة لا مخلص الإنسان، فقد كان فولتير مؤلها ينكر الوحي، ويعتبر أن الديانات التاريخية مجرد خرافات ويجب أن تستبدل بديانة عقلانية تحبذ الأخلاق.
ثم جاء توماس جفرسون Thomas Jefferson (1743 –1826م)، هو أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، والكاتب الرئيسي لاعلان الاستقلال (1776م) وثالث رئيس للولايات المتحدة (1801–1809م)، الذي قال "إن الإكراه في مسائل الدين أو السلوك الاجتماعي هو خطيئة واستبداد، وإن الحقيقة تسود إذا ما سُمح للناس بالاحتفاظ بآرائهم وحرية تصرفاتهم"، وهو بهذا القول أسس لفكرة العلمانية على نطاق واسع في العقل الجمعي للشعب الأمريكي والشعوب عامة.
يعد أول ظهور لكلمة العلمانية كمصطلح مستقل في عام 1648م عندما انتهت حرب الثلاثون عاما في أوروبا، وفي ذلك الوقت وبعد توقيع صلح "وستفاليا" بدأ ظهور الدولة القومية الحديثة وعندها بدأ يتشكل مفهوم العلمانية، وهو نقل سلطة الحكم من الكنيسة إلى الدولة؛ وهي الدولة القومية الحديثة، وكانت الكنيسة تعتبر ذلك مصادرة غير شرعية على ممتلكات الكنيسة في حين كان الفلاسفة يعتبرونها مصادرة شرعية.
وقد اتسع المجال الدلالي للكلمة على يد جون هوليوك (1817ــــ1906م) الذي عرف العلمانية بأنها: "الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض"، وهو بهذا التعريف يقصي الدين عن الجانب الإصلاحي والدين في الأساس جاء ليصلح حال الإنسان سواء في الدنيا أو في الآخرة، ولكن هوليوك يحاول في تعريفه هذا عدم التصادم مع الدين بشكل مباشر.
وهل إصلاح الإنسان يكون من الجانب المادي وحده؟ لكن أين الجانب القيمي للإنسان، بأي أخلاق يمكن إصلاح الإنسان وهل هناك أخلاقا مادية يمكن من خلالها إصلاح حال الإنسان؟ وهل يمكن إصلاح حال الإنسان دون منظومة معرفية تفسر علاقة الإنسان بالكون ومفهوم الإله إن كان موجودا أو لا؟ كل ذلك بحاجة إلى جواب من هوليوك فما هي البنية المعرفية المادية التي سيتم إصلاح حال الإنسان من خلالها.
ألا يدل ذلك أيضا على أن هذا التعريف الذي قدمه هوليوك يتنافى مع الدين ومع مفهوم الدين ومع البنية المعرفية للدين، إن أي مناداة للعلمانية هي في الحقيقة تعني إقصاء أي بنية معرفية دينية، لأن أساس الفكرة، أي فكرة العلمانية جاءت لكي تقصي الدين عن الجانب العملي للحياة، وهي تعطي نظرة معرفية فلسفية لوجود الدين في حياة البشر، سواء كانت هذه العلمانية مضادة للدين أو غير مضادة له وهذا ما سيتبين من خلال بحثنا.
ثم أصبح تعريف العلمانية هو "فصل الدين عن الدولة" وهو ترجمة للكلمة الإنجليزية "separafion of church and stata" ولكن ترجمة هذه الجملة حرفيا هو فصل الكنيسة عن الدولة فكلمة " church تعني الكنيسة"، ولأمر ما ترجمة وشاعة الكلمة بمعنى الدين لتشمل كل دين. وهذ التعريف يعد من أشهر التعريفات في العالم كما يشير إليه الدكتور عبد الوهاب المسيري.
علمنة بنيوية كامنة
ثم تطور هذا المصطلح ليصبح له دلالة شاملة، فهو يمثل بنية معرفية شاملة للكون والحياة وعلاقة الإنسان بالإنسان وسياسات الحكم، فهذا المفهوم تطور متأخرا ولكنه هو المفهوم الصحيح للعلمانية في نظرنا، فيعرفها الدكتور والفيلسوف عبد الوهاب المسيري بقوله "رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي (كلي ونهائي) تحاول بكل صراحة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات (الميتافيزيقية) بكل مجالات الحياة وهي رؤية عقلانية مادية تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية، التي ترى أن مركز الكون كامن فيه، غير مفارق أو متجاوز له، وأن العالم كله مكون من مادة واحدة لا قداسة لها وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف".
بهذا التعرف تصبح العلمانية هي دين العالم الجديد المتفرد الذي لا يقبل غيره، والذي يحاول تصفية كل الديانات بطريقة كامنة وبطيئة ولكنها أكيدة المفعول، وبالفعل هذا ما عليه العلمانية في العصر الحديث ولتوضيح ذلك نقول:
إن العلمانية بالمفهوم السابق تنتشر بشكل شمولي في العالم، فهي تخاطب العقل الباطن للإنسان وتخاطب العقل الجمعي للشعوب وللبشرية جمعاء، بل هي تعيد تشكيل العقل بطريقة تجعله يقبل هذا الدين الجديد وهذه النظرة الشمولية وهذه البنية المعرفية.
والوسائل المستخدمة في ذلك كثيرة جدا منها الدولة والنظام الدولي؛ فالدول في كل العالم هي دول علمانية بما في ذلك الدول العربية وغيرها، والنظام الدولي العالمي هو نظام علماني، وفي المجال الاقتصادي هناك علمنة ممنهجية تحدد حركة المال في العالم ولا تسمح لأحد بتغيير المسار لارتباط الاقتصاد العالمي بعضه ببعض بطريقة لا تسمح لأحد بالتغريد خارج السرب.
وعلى الجانب المعرفي والنظم المعرفية؛ فالمناهج المدرسية في العالم كله لا أقول في الوطن العربي أو الإسلامي بل نظام التعليم العالمي هو نظام علماني قائم على المعرفة التي لا مرجعية دينية لها، ولا تنطلق من منطلقات ميتافيزيقية دينية، بل إن النظام التعليمي العالمي ينطلق من نظرة علمانية متفازيقية كامنة وتتسلل ببطئ إلى عقول الأجيال الصاعدة.
وفي المجال الإعلامي؛ فالإعلام في العالم كله علماني بوضوح وهو يروج للعلمانية، البرامج التلفزيونية التي تمثل إطارا دارويني أو فرويدي أو برجماتي وبخاصة الأفلام والمسلسلات، وهي تقتحم أفكارنا وتقتحم بنيتنا المعرفية وتمارس الهدم بخفاء وتعيد تشكيل العقل الباطن للإنسان بحسب هذه الأفكار الأمر الذي سينتج مجتمعا علمانيا وأفكارا علمانية يمارسها الكل بل ويدافعون عنها دون وعي منهم.
حتى على مستوى تشجيع فريق كرة قدم فأنت تقوم بتشجيع هذا أو ذاك لا على أساس الدين وتقوم بالدفاع عنه ومحبته وتقليده فهذه علمنة من الناحية العملية ولكنا كامنة ومبطنة وغير ظاهر بسفور أمام العيان.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري ولنضرب لذلك مثالا من برامج الأطفال والتي تشكل عقل الصغير منذ بداية حياته "توم وجيري الذي يصوغ وجدان أطفالنا كل صباح حيث يقوم الفأر اللذيذ الماكر باستخدام كل الحيل (التي لا يمكن الحكم عليها أخلاقيا فهي لذيذة وذكية وماكرة) للقضاء على خصمه القط الغبي ثقيل الظل، ولنلاحظ أن القيم المستخدمة هنا هي قيم نسبية نفسية وظيفية برجماتية لا علاقة لها بالخير والشر، قيم تشير إلى نفسها وحسب، كما أن الصراع بين الاثنين يبدأ ولا ينتهي يبدأ ببداية الفلم ولا ينتهي بنهايته فالعالم حسب رؤية هذا الكرتون الكامن إن هو إلا غابة دارونية مليئة بالذئاب التي تلبس ثياب القط والفأر توم وجيري"، والتي تستخدم وسائل برجماتية في تحصيل اللذة فلا مفهوم للخير والشر واضح أي لا يوجد قيم الخير والشر وهذا نموذج مما نتلقاه ونصنع به عقول أطفالنا بشكل كامن.
هكذا نرى العلمانية تغزونا بوسائل شتى بمفهومها النهائي الشامل الذي يخرج لنا بنية معرفية جديدة تشكل عقول الناس في الخفاء.