ذكر يوم الرجيع في سنة ثلاث
مقتل خبيب وأصحابه
قال : حدثنا أبو محمد عبدالملك بن هشام ، قال : حدثنا زياد بن عبدالله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي ، قال : حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة ، قال : قدم على رسول الله صل الله عليه وسلم بعد أحد رهط من عَضَل والقارة .
نسب عضل والقارة
قال ابن هشام : عضل والقارة ، من الهون بن خزيمة بن مدركة .
قال ابن هشام : ويقال . الهُون ، بضم الهاء .
النفر من المسلمن الذين ذهبوا لتعليمهم
قال ابن إسحاق : فقالوا : يا رسول الله ، إن فينا إسلاما ، فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين ، ويقرئوننا القرآن ، ويعلموننا شرائع الإسلام ، فبعث رسول الله صل الله عليه وسلم نفرا ستة من أصحابه ، وهم : مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، حليف حمزة بن عبدالمطلب ؛ وخالد بن البكير الليثي ، حليف بني عدي بن كعب ، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ، أخو بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس ؛ وخبيب بن عدي ، أخو بني جحجبى بن كلفة بن عمرو بن عوف وزيد بن الدثنة بن معاوية ، أخو بني بياضة بن عمرو بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غصب بن جشم بن الخزرج ؛ وعبدالله بن طارق ، حليف بني ظفر بن الخزرج بن عمرو بن ملاك بن الأوس .
غدر عضل والقارة بمن أرسلهم الرسول
وأمَّر رسول الله صل الله عليه وسلم على القوم مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، فخرج مع القوم ، حتى إذا كانوا على الرجيع ، ماء لهذيل بناحية الحجاز ، على صدور الهدأة غدروا بهم ، فاستصرخوا عليهم هذيلا فلم يرع القوم ، وهم في رحالهم إلا الرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم ، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم ، فقالوا لهم : إنا والله ما نريد قتلكم ، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة ، ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم .
من قتل منهم
فأما مرثد بن أبي مرثد ، وخالد بن البكير ، وعاصم بن ثابت ، فقالوا : والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا ؛ فقال عاصم بن ثابت :
ما علتي وأنا جلد ونابل * والقوس فيها وتر عنابل
تزل عن صفحتها المعابل * الموت حق والحياة باطل
وكل ما حم الإله نازل * بالمرء والمرء إليه آئل
إن لم أقاتلكم فأمي هابل
قال ابن هشام : هابل : ثاكل .
وقال عاصم بن ثابت أيضاً :
أبو سليمان وريش المقعد * وضالة مثل الجحيم الموقد
إذا النواجي افترشت لم أرعد * ومجنأ من جلد ثور أجرد
ومؤمن بما على محمد *
وقال عاصم بن ثابت أيضاً :
أبو سليمان ومثلي رامى * وكان قومي معشرا كراما
وكان عاصم بن ثابت يكنى : أبا سليمان . ثم قاتل القوم حتى قتل وقتل صاحباه .
حماية الدبر عاصما
فلما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه ، ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد ، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد : لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر ، فمنعه الدبر ، فلما حالت بينه وبينهم ، قالوا : دعوه يمسي فتذهب عنه . فنأخذه فبعث الله الوادي ، فاحتمل عاصما ، فذهب به . وقد كان عاصم قد أعطى الله عهدا أن لا يمسه مشرك ، ولا يمس مشركا أبدا ، تنجسا ؛ فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : حين بلغه أن الدبر منعته : " يحفظ الله العبد المؤمن " كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ، ولا يمس مشركا أبدا في حياته ، فمنعه الله بعد وفاته ، كما امتنع منه في حياته .
بيع خبيب وابن الدثنة وقتل عبدالله بن طارق
وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي ، وعبدالله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة ، فأعطوا بأيديهم فأسروهم ، ثم خرجوا إلى مكة ، ليبيعوهم بها ، حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبدالله بن طارق يده من القران ، ثم أخذ سيفه ، واستأخر عنه القوم ، فرموه بالحجارة حتى قتلوه ، فقبره ، رحمه الله ، بالظهران ؛ وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة .
قال ابن هشام : فباعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة .
قال ابن إسحاق : فابتاع خبيبا حُجير بن أبي إهاب التميمي ، حليف بني نوفل ، لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل ، وكان أبو إهاب أخا الحارث بن عامر لأمه لقتله بأبيه .
قال ابن هشام : الحارث بن عامر ، خال أبي إهاب ، وأبو إهاب أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم ؛ ويقال : أحد بني عدس بن زيد بن عبدالله بن دارم ، من بني تميم .
من قوة إيمان ابن الدثنة
قال ابن إسحاق : وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه ، أمية بن خلف ، وبعث به صفوان بن أمية مع مولى له ، يقال له نسطاس ، إلى التنعيم ، وأخرجوه من الحرم ليقتلوه . واجتمع رهط من قريش ، فيهم أبو سفيان بن حرب ؛ فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل : أنشدك الله يا زيد ، أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه ، وأنك في أهلك ؟ قال : والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه ، وأني جالس في أهلي . قال : يقول أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمدٍ محمدا ؛ ثم قتله نِسطاس ، يرحمه الله .
دعوة خبيب ومقتله
وأما خبيب بن عدي ، فحدثني عبدالله بن أبي نجيح ، أنه حُدّث عن ماوية ، مولاة حجير بن أبي إهاب ، وكانت قد أسلمت ، قالت : كان خبيب عندي ، حبس في بيتي ، فلقد اطلعت عليه يوما ، وإن في يده لقطفا من عنب ، مثل رأس الرجل يأكل منه ، وما أعلم في أرض الله عنبا يؤكل .
قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبدالله بن أبي نجيح جميعا أنها قالت : قال لي حين حضَره القتل : ابعثي إلي بحديدة أتطهر بها للقتل ؛ قالت : فأعطيت غلاما من الحي الموسى ؛ فقلت : ادخل بها على هذا الرجل البيت ؛ قالت : فوالله ما هو إلا أن ولى الغلام بها إليه ؛ فقلت : ماذا صنعت ، أصاب والله الرجل ثأره بقتل هذا الغلام ، فيكون رجلا برجل ، فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال : لعمرك ، ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إلي ، ثم خلى سبيله .
قال ابن هشام : ويقال : إن الغلام ابنها .
قال ابن إسحاق : قال عاصم : ثم خرجوا بخبيب ، حتى إذا جاءوا به إلى التنعيم ليصلبوه ، قال لهم : إن رأيتم ان تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا ، قالوا : دونك فاركع ، فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما ، ثم أقبل على القوم فقال :أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة . قال : فكان خبيب بن عدي أول من سن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين . قال : ثم رفعوه على خشبة ، فلما أوثقوه ، قال : اللهم إنّا قد بلغنا رسالة رسولك ، فبلغه الغداة ما يصنع بنا ، ثم قال : اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم احدا . ثم قتلوه رحمه الله .
فكان معاوية بن أبي سفيان يقول : حضرته يومئذ فيمن حضره مع أبي سفيان ، فلقد رأيته يلقيني إلى الأرض فرقا من دعوة خبيب ، وكانوا يقولون : إن الرجل إذا دعي عليه ، فاضطجع لجنبه زالت عنه .
قال ابن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير ، عن أبيه عباد ، عن عقبة بن الحارث ، قال سمعته يقول : ما أنا والله قتلت خبيبا ، لأني كنت أصغر من ذلك ، ولكن أبا ميسرة ، أخا بن عبدالدار ، أخذ الحربة فجعلها في يدي ، ثم أخذ بيدي وبالحربة ، ثم طعنه بها حتى قتله .
قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أصحابنا ، قال : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي على بعض الشام ، فكانت تصيبه غشية ، وهو بين ظهري القوم ، فذكر ذلك لعمر ابن الخطاب ، وقيل : إن الرجل مصاب ، فسأله عمر في قدمة قدمها عليه ، فقال : يا سعيد ، ما هذا الذي يصيبك ؟ فقال : والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأس ، ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدي حين قتل ، وسمعت دعوته ، فوالله ما خطرت على قلبي وأنا في مجلس قط إلا غشي علي ، فزادته عند عمر خيرا .
قال ابن هشام : أقام خبيب في أيديهم حتى انقضت الأشهر الحرم ، ثم قتلوه .
ما نزل في سرية الرجيع من القرآن
قال ابن إسحاق : وكان مما نزل من القرآن في تلك السرية ، كما حدثني مولى لآل زيد ابن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس .
قال : قال ابن عباس : لما أُصيبت السرية التي كان فيها مرثد وعاصم بالرجيع ، قال رجال من المنافقين : يا ويح هؤلاء المقتولين الذي هلكوا ، لا هم قعدوا في أهليهم ، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم ، فأنزل الله تعالى في ذلك من قول المنافقين ، وما أصاب أولئك النفر من الخير بالذي أصابهم ، فقال سبحانه : " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ": أي لما يُظهر من الإسلام بلسانه ، " ويشهد الله على ما في قلبه " وهو مخالف لما يقول بلسانه ، " وهو ألد الخصام " أي : ذو جدال إذا كلمك واجعك .
تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام : الألد : الذي يشغب ، فتشتد خصومته ، وجمعه : لُدّ . وفي كتاب الله عز وجل : " وتنذر به قوما لدا " . وقال المهلهل بن ربيعة التغلبي : واسمه امرؤ القيس ، ويقال : عدي بن ربيعة :
إن تحت الأحجار حدا ولينا * وخصيما ألد ذا معلاق
ويروي : " ذا مغلاق " فيما قال ابن هشام . وهذا البيت في قصيدة له ؛ وهو الألندد .
قال الطرماح بن حكيم الطائي يصف الحرباء :
يوفي على جذم الجذول كأنه خصم أبر على الخصوم ألندد
وهذا البيت في قصيدة له .
قال ابن إسحاق : قال تعالى " وإذا تولى ": أي خرج من عندك " سعى في الأرض ليفسد فيها ، ويهلك الحرث والنسل ، والله لا يحب الفساد " أي : لا يحب عمله ولا يرضاه " وإذ قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد . ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد ": أي قد شروا أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله ، والقيام بحقه ، حتى هلكوا على ذلك ، يعني تلك السرية .
تفسير ابن هشام لبعض الغريب
قال ابن هشام : يشري نفسه : يبيع نفسه ، وشروا : باعوا . قال يزيد ابن ربيعة بن مفرغ الحميري :
وشريت بردا ليتني * من بعد برد كنت هامة
برد : غلام له باعه . وهذا البيت في قصيدة له . وشرى أيضاً : اشترى .
قال الشاعر :
فقلت لها لا تجزعي أم مالك * على ابنيك إن عبد لئيم شراهما
من اجتمعوا لقتل خبيب
قال ابن إسحاق : وكان الذين أجلبوا على خبيب في قتله حين قتل من قريش ، عكرمة بن أبي جهل ،وسعيد بن عبدالله بن أبي قيس بن عبد ود ،والأخنس بن شريق الثقفي ،حليف بني زهرة ، وعبيدة بن حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمي ، حليف بني أمية بن عبد شمس ، وأمية بن أبي عتبة ، وبنو الحضرمي