التاريخ المظلم لإسبانيا .. عندما أبادوا المسلمين وشرّدوهم
-أحد الأحداث المأساوية في التاريخ الإسلامي هو فقدان الأندلس أو إسبانيا المسلمة , فعندما غابت شمس الأندلس عن بلاد المسلمين , وسقطت قلاعهم في تلك الأرض الأوروبية بعدما كنت صامدة لثمانٍ قرون .. لم يكن الأمر هيّناً على جموع المسلمين في كل أرض في ذلك الوقت .فقد كانت شبه الجزيرة الإيبيرية أرضاً مسلمة وهي التي ضمت إسبانيا والبرتغال وأندورا ومنطقة جبل طارق , وفي أوج عظمتها كان لدى إيبيريا أكثر من 5 ملايين مسلم - أي معظم سكانها - وحكمها خيّرة الحكام المسلمين , الذين أقاموا حضارة متطورة تقوم على الإيمان والمعرفة .
وفي القرن التاسع عشر الميلادي , كانت عاصمة إسبانيا هي مدينة قرطبة , وعمل حكامها على تمهيد الطرق وبناء المستشفيات , وإنارة الشوارع في جميع أنحاء المدينة , وفي ذلك الوقت كانت أكبر مكتبة في أوروبا تحتوي على 600 كتاب فقط , بينما كان خطاطو قرطبة ينتجون 6000 كتاب سنوياً .
كان المجتمع الأسباني خليطاً سلميّاً من الثقافات الأوروبية والأفريقية , فقد تعايش المسلمون واليهود والمسيحيون في وئام ٍ جنباً إلى جنب .
ولكن هذا المجتمع اليوتيوبي لم يدم طويلاً , وذلك حين أراد الملوك الكاثوليك إسترداد إسبانيا من المسلمين , وبالفعل في عام 1492 , سقطت آخر دولة إسلامية في إيبيريا وهي " غرناطة " , وبعدها واجه مسلمو إسبانيا واقعاً جديداً : الإبادة الجماعية .
فكان سقوط الأندلس نصراً عظيماً بالنسبة للأسبان المسيحيين الذين أرادوا أن يطفئوا النار التي تأججت في قلوبهم عندما قامت حضارة المسلمين على أرضهم يوماً ما .. فجاء الإنتقام بأبشع صوره , ليس على المسلمين فحسب بل على أياً ممن خالف الكنيسة من يهود أو غيرهم .. ومحاكم التفتيش كان لها دوراً رئيسياً في تلك الفوضى .
فلك أن تعلم أن محاكم التفتيش الأسبانية كانت جزءاً من ثالث أكبر إبادة جماعية في التاريخ , فأكبر إبادة في التاريخ هي إنقراض الأمريكيين الأصليين في كل من أمريكا الشمالية والجنوبية , والثانية هي أكبر محرقةلليهود في الحرب العالمية الثانية . بعد سقوط غرناطة في عام 1492 توقع معظم المسلمين أنها نكسة صغيرة , وظنوا أن جيوش المسلمين من أفريقيا ستأتي قريباً لإستعادة غرناطة , ولكن فشلت حروب الإسترداد التي قام بها المسلمون , ووقّع ملوك إسبانيا مرسوماً يجبر فعلياً كل يهودي على الخروج من البلاد , وبالفعل أُجبر مئات الآلاف من اليهود على الخروج , وقبلت الإمبرواطورية العثمانية العديد منهم , فأرسل السلطان بيازيد الثاني حاكم الإمبراطورية العثمانية وقتها أسطوله البحري بالكامل إلى إسبانيا لنقلهم وإحضارهم إلى أسطنبول , من أجل تجنب تعرضهم للقتل الجماعي الذي ينتظرهم في إسبانيا , ولم يختلف الأمر بالنسبة إلى المسلمين الذين هاجروا إلى بلاد إفريقيا هرباً بدينهم وأنفسهم من الإبادة الجماعية , بينما بقى الكثير منهم أيضاً .
ومع إستعادة الملوك الأوربيين سيطرتهم على إسبانيا بعد هزيمة المسلمين , فرض الحكام الأسبان الديانة المسيحية فرضاً إجبارياً على جميع سكان إسبانيا , وفرضت بعض القيود القانونية علي غير المعتنقيين للمسيحية الكاثوليكية بموجب مرسوم ملكي , فكانت الحقوق القانونية وحقوق الملكية الأخرى تعتمد على المعمودية , مثل دخول المدارس والمكانة الإجتماعية والخدمات وغيرها .
كان هناك حوالي 500000 مسلم في جميع أنحاء إسبانيا في عام 1492 , وجعلت الكنيسة الكاثوليكية من أولوياتها هو تحويل جميع هؤلاء المسلمين إلى المسيحية قسراً .
وكانت المحاولات الأولى لتحويل المسلمين إلى المسيحية عن طريق الرشوة , وإهدائهم المال والأرض , ولكن عندما وجدوا انّ هذا النهج غير مجديّ , لإن معظم هؤلاء "المتحولين " عادوا بسرعة إلى الإسلام , إتبع مسيحيو الكاثوليك نهجاً جديداً , وهو نهج محاكم التفتيش !
كانت محاكم التفتيش الإسبانية محاكم قانونية تم تشريعها بواسطة البابا سيكستوس الرابع , ونفذت تحت حكم الملك فرديناند والملكة إيزابيلا
فعندما أصبح واضحاً في السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر , أن المسلمين في إسبانيا كانو أكثر إرتباطاً بمعتقداتهم أكثر من رغبتهم في الثراء , قام حكام إسبانيا بتطبيق قوانين محاكم التفتيش , وتم إرسال "فرانسيسكو خيمينيز دي سايسيروس " - وهو كاردينال في الكنيسة الكاثوليكية وكبير مفتشي محاكم التفتيش - إلى جنوب إسبانيا , لتسريع عملية تحويل المسلمين إلى مسيحيين , وكان منهجه في ذلك هو مضايقة المسلمين حتى يرغمهم على ذلك , وقام بحرق جميع المخطوطات باللغة العربية " بإستثناء المخطوطات الطبية " , والمسلمون الذين رفضوا تحويلهم تم إرسالهم بشكل تعسفيّ إلى السجن , وتعرضوا لأسوء أنواع التعذيب , وتمت مصادرة ممتلكاتهم , وكل ذلك في محاولة لإقناعهم بالتحوّل إلى المسيحية . وسرعان ما كان لهذا الظلم والمضايقة عواقب غير مقصودة على ملوك إسبانيا المسيحيين , فبدأ المسلمون في إسبانيا , بتمرد مفتوح لمقاومة الإضطهاد , وإحتج مسلمو غرناطة بشكل خاص علناً في الشوارع , وهددوا بالإطاحة بالحكم الكاثوليكي وإستبداله بدولة إسلامية جديدة , ولكن سرعان ما تدخل الملك الإسباني والملكة وأعطوا المتمردين في غرناطة خيارين لا ثالث لهما : التحول إلى المسيحية - أو الموت !
إختار معظم مسلمي غرناطة تقريباً التحول إلى المسيحية ظاهرياً فقط , بينما حافظوا سراً على الإسلام كدين حقيقيّ
وفي الريف الإسباني , تأججت ثورات المسلمين فيها , ولجأوا إلى جبال البشرات Alpujarras الوعّرة في جنوب إسبانيا , مما جعل من الصعب على السلطات المسيحية تتبعهم , ولكن لم يكن لدى المتمردين المسلمين خطة واضحة , ولا قائداً مركزياً واحداً , وإنما كانوا متحدين في إيمانهم بالإسلام ومقاومة الحكم المسيحي لإسبانيا .
وبما أن معظم سكان غرناطة كانوا مسلمين , فإن التمرد في المدينة إتخذ شكلاً دفاعياً , وكان الجنود المسيحيون يهاجمون بإنتظام مدن المسلمين في محاولة لإجبار سكانها على ترك الإسلام , ولكن لم يكن المتمردون المسلمون مجهزين أو مدربين بشكل جيد كالجنود المسيحيين , لذا لم يكونوا قادرين على مقاومة تلك الهجمات , فتعرضت القرى بإستمرار إلى المجازر , والتحويلات القسرية إلى المسيحية , وإستمر بطش محاكم التفتيش الإسبانية , وممارسة فظائع يندي لها جبين الإنسانية ..
ومن طرق تعذيب المسلمين في إسبانيا على يد محاكم التفتيش كما جاءت من كتاب " دفتر الذكريات الاندلسيّة
وبحلول عام 1502 , تلاشى التمرد , وأعلنت الملكة إيزابيلا ملكة إسبانيا عدم الإعتراف بالإسلام رسمياً في البلاد , وتم منع إستخدام اللغة العربية , وتحويل جميع المساجد الباقية إلى كنائس وبالتالي كان على جميع المسلمين أن يتحولوا رسمياً إلى المسيحية أو يتركوا إسبانيا أو يموتون !
في الواقع , فرّ العديد منهم إلى شمال إفريقيا أو قاتلوا حتى الموت , ومع ذلك تحول معظم المسلمين إلى المسيحية , في حين إحتفظوا بالإسلام سرّاً , وتمت تسمينهم بالـ الموريسكيين Moriscos
على الرغم من الجهود الكبيرة لتي بذلها الموريسكيين , لإخفاء ممارستهم للإسلام , إلا أن الملوك المسيحيين إشتبهوا في إستمرار تمسكهم بالإسلام , لذا في عام 1609 , أي بعد 100 عام من إختفاء الإسلام من إسبانيا , وقّع الملك فيليب - ملك إسبانيا - مرسوماً يقضي بطرد كل الموريسكيين من إسبانيا , ولم يمنحهم سوى ثلاثة أيام لحزم أمتعتهم , واللحاق بالسفن المتجهة إلى شمال أفريقيا أو الأراضي العثمانية .
وخلال هذه الفترة تعرّض الكثير منهم إلى المضايقة بإستمرار من قِبل المسيحيين , حيث نهبوا ممتلكاتهم , وخطفوا أطفالهم لتربيتهم كمسيحيين , كما تم قتل العديد منهم بإستهتار شديد في الشوارع وفي أثناء طريقهم إلى الساحل من قِبل الجنود والأشخاص العاديين , حتى عندما وصلوا إلى السفن التي ستأخذهم إلى أراضيهم الجديدة , تعرضوا للمضايقات , فكان عليهم أن يدفعوا ثمناً باهظا لرحيلهم عن أرضهم إلى المنفى , فتعرض العديد من البحارة إلى التعذيب , والقتل , والخطف من السفن التي كانوا يحملون عليها المسلمين , فقد أوضحت الحكومة الإسباية تماماً رغبتها في مضايقة مسلمي إسبانيا وجعل حياتهم بائسة وهم حتى في طريقهم للخروج من وطنهم .
ولكن على الرغم من تلك الظروف القاسية .. إلا أن ذلك لم يمنع الموريسكيين من ممارسة الإسلام من جديد بإنفتاح في إسبانيا للمرة الأولى بعد 100 سنة من إخفاء عقيدتهم , ورنّ الآذان في جبال وسهول إسبانيا مرة أخرى , داعياً مسلمي الأندلس للصلاة على هذه الأرض التي عاشوا فيها قروناً عديدة للمرة الأخيرة , حيث كانوا في طريقهم للخروج من وطنهم الذي طالما عاشوا فيه .
تمنى معظم المسلمين الراحلين عن إسبانيا البقاء في وطنهم , لإنهم لم يعرفوا وطناً غيره , ولا يعرفون كيف سيعيشون في أراضٍ أخرى , وحتى بعد نفيهم , حاول العديد منهم التسلل إلى إسبانيا والعودة إلى منازلهم السابقة , ولكن باءت جميع تلك الجهود بالفشل .
بحلول عام 1614 , إختفى الإسلام من شبه الجزيرة الإيبيرية , ولم يتبقى أحد من الـ 500000 مسلم خلال 100 عام .. فكانت إبادة جماعية , ولكن في المقابل كانت الآثار على إسبانيا خطيرة , وعاني إقتصادها بشكل كبير , حيث رحل جزء كبير من القوى العاملة , وإنخفظت إيرادات الضرائب .
وفي شمال إفريقيا , حاول الحكام المسلمون توفير المأوى لمئات الآلاف من اللاجئين , ولكن في حالات كثيرة لم يتمكنوا من فعل الكثير لمساعدتهم , أمضى مسلمي إسبانيا في شمال أفريقيا قروناً يحاولون الإندماج في المجتمع , ولكنهم حافظوا دوماً على هويتهم الأندلسية الفريدة , وبقيت قلوبهم تتوق دوماً إلى تلك البلاد الأوروبية البعيدة .. التي طالما عاشوا فيها وعاش فيها أجدادهم