الثورة العربية الكبرى: أحداث وعبر ممن خانوا المسلمين طمعًا في الحكم
ثامنًا: بداية الثورة ثم مرحلة الجمود
أطلق الشريف حسين فجر اليوم العاشر من حزيران /يونيو 1916م عدة طلقات من مسدسه باتجاه الحاميات العثمانية معلناً بداية الثورة وكان للعثمانيين مدفعية قوية في القلعة التي احتشد حولها الثوار الذين تم تسليحهم بواسطة الدعم الإنجليزي العسكري.
كانت قلعة أجياد استسلمت بعد قصف أحدث ثغرة في جدارها في الرابع من تموز/يوليو 1916 بعد أن أرسل السير ريجينالد وينغيت نائب الحاكم العام البريطاني في السودان سريتي مدفعية من سرايا الجيش المصري وتم سحب مدفعان منها إلى مكة فكان لهما الأثر الحاسم إلى استسلام الثكنات العثمانية فيها.
وهاجم الأميران فيصل و علي المدينة المنورة، وهاجم الأمير عبد الله الطائف، وهاجم الشريف عبد المحسن البركاتي دار الحكومة وثكنات العثمانيين في مكة، والشريف محسن بن أحمد مدينة جدة التي سقطت كأول مدينة بيد قوات الشريف حسين بمساعدة القصف الجوي والبحري من الطائرات والسفن الحربية البريطانية. وتم تسليم الطائف في 22 أيلول/سبتمبر بعد أن فرض عليها الحصار وكانت قد سقطت كذلك كل المدن الساحلية كرابغ التي أقام الإنجليز فيها مطاراً عسكرياً و ينبع والقنفذة والليث بمساعدة الأسطول البريطاني، وبذلك تكون الغايات العسكرية المباشرة قد تحققت وتكون كل مدن الحجاز قد سقطت بيد قوات الشريف ما عدا المدينة المنورة.
“كان مقر المعتمد البريطاني في القاهرة قد عمل مدة تقرب من 9 أشهر من أجل إشعال شرارة الثورة، وعندما بلغ القاهرة نبأ الثورة في الصحراء قال ويندهام ديدز: إنها نصر عظيم لكلايتون.
لكن الثورة العربية التي كان الحسين يأمل في حدوثها لم تحدث إطلاقاً، فلم تنضم إليه أي وحدات عربية في الجيش العثماني، ولا انضم إليه وإلى الحلفاء أي شخصيات سياسية أو عسكرية من الدولة العثمانية، وبقيت قواته مؤلفة من بضعة آلاف من رجال القبائل غير المدربين الذين يحصلون على دعم مالي من بريطانيا، والعدد الضئيل من الضباط غير الحجازيين الذين انضموا إلى جيشه كانوا إما أسرى حرب أو منفيين سبق أن عاشوا في أراض خاضعة للحكم الإنجليزي.”(19)
أما خارج الحجاز وما جاورها من القبائل فلم يكن هناك أي تأييد منظور للثورة في أي جزء من العالم العربي، “في حين أن السوريين عموماً لم يكونوا راغبين في الثورة على الأتراك واستمر بعض القيادة السياسية في المدن السورية بتعريف نفسه بالأيديولوجيا العثمانوية، واختار بعضهم الآخر عدم اتخاذ موقف بانتظار نتيجة الحرب وحافظ الكثيرون على مناصبهم طوال الحرب ونظروا إلى ثورة الجنوب بحذر وازدراء بل وصموها بالخيانة، وكان الزعماء السياسيين في سوريا لا يثقون بالطموحات الهاشمية السياسية”(20)
واستقر الوضع على هذا الحال خلال عدة أشهر بينما القوات العثمانية يتم تعزيزيها في المدينة المنورة وبدأت تقارير المخابرات الإنجليزية تصل إلى القاهرة بأن ثورة الحجاز كانت تنهار بأسرع مما كان متوقعاً…
تاسعاً: لورنس العرب والانطلاق نحو دمشق
Embed from Getty Imagesأصيب المكتب العربي في مقر المندوب السامي البريطاني في القاهرة بخيبة الأمل لأن زعامة الحسين فشلت في إثبات وجودها وترسيخ مكانتها وانضمام العرب لها بشكل يناسب الدعم الذي قدمته بريطانيا الذي وكما يقول ستورز في مذكراته أنه قد بلغ أحد عشر مليون جنيه إسترليني.
خلال عدة أشهر من انطلاق الثورة استقرت بعثات بريطانية وفرنسية في مدينة جدة لمساعدة ثورة الشريف ثم وصل في تشرين أول/أكتوبر من نفس العام ضابط المخابرات الإنجليزي والعامل في المكتب العربي في القاهرة الكابتن توماس لورنس والذي أصبح فيما بعد مستشاراً حربياً للأمير فيصل واشتهر باسم “لورنس العرب” وقد كان برفقة سكرتير الشؤون الشرقية السير رونالد ستورز.
“يذكر لورنس في كتابه أن القائد العام للقوات البريطانية في مصر السير ارشيبالد مري لم يكن مؤمناً بالثورة العربية ولا ظهر له أن يبذل المال والرجال والسلاح في سبيلها بل كان يعتبرها بشيء من الاستخفاف والتحقير عملاً هامشياً مربكاً، ولاح للناس أن الثورة العربية ماتت في المهد.”(21)
وفي 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1916م أعلن الشريف حسين نفسه ملكاً على العرب وطالب الحلفاء والدول المحايدة الاعتراف بهذا اللقب فكان جوابهم في 3 كانون الثاني/يناير الاعتراف به ملكاً على الحجاز فقط.
سقط ميناء الوجه الواقع ما بين تبوك والمدينة على ساحل البحر الأحمر يوم 25 كانون الثاني/يناير 1917م بيد قوات الشريف المدعوم بالبوارج البريطانية و250 جندي إنجليزي واتخذ منها الأمير فيصل والكابتن لورنس مقراً للعمليات ولضرب العثمانيين في مدائن صالح، وسيطروا بعدها على ضبا والمويلح وبذلك لم يبقى في يد العثمانيين في الحجاز إلا المدينة المنورة والحاميات في محطات سكة حديد الحجاز.
عمل لورنس على تعليم العرب كيفية استعمال المتفجرات لتخريب سكة الحديد والي أدى إلى تضييق الخناق على الجنود المحاصرين في المدينة والحاميات العثمانية في محطات خط الحديد الحجازي.
سقطت العقبة في 6 تموز/يوليو 1917م واتخذها الأمير فيصل ومعه لورنس العرب مقراً لقيادة قواته وتسليحها بحراً من القوات البريطانية في مصر والتي أصبح يقودها الجنرال ادموند اللنبي وحضر إلى العقبة عدد من الضباط الإنجليز والفرنسيين لمساعدة قوات الأمير فيصل.
الملك فيصل الأول بن الحسين وبجواره لورنس العرب في 11 كانون الأول/ديسمبر 1917 سقطت مدينة القدس ودخلها الجنرال اللنبي ماشياً مع القوات الإنجليزية من بوابة يافا وكانت قد سقطت قبل ذلك مدن غزة والخليل ويافا وبيت لحم حيث احتلت القوات البريطانية مع نهاية 1917 كامل سنجق القدس.
وقف أهل معان مع العثمانيين وتطوعوا معهم في صد هجوم جيش الأمير فيصل وبقوا ثابتين كما صمدت كل القوات في الحاميات العثمانية جنوب معان كقلعة الحسا وحامية تبوك وحامية العلا والقوة الأساسية بقيادة فخري باشا في المدينة المنورة، “وفي الأسبوع الأول من نيسان /أبريل 1918 قام العرب بقيادة اللفتاننت كولونيل ألان دوني بتخريب الخط الحديدي جنوب معان وشمالها تخريباً يستحيل إصلاحه وبذلك تكون معان قد عزلت، أي أنه تم تدمير 50 جسراً وقنطرة و3000 مفصلة من خط الحديد الحجازي”(22)
وهزم الأمير عبد الله قوات ابن الرشيد أمير حائل الموالية للعثمانيين قرب منطقة تيماء في شهر حزيران /يونيو 1918م ، ثم اتجه جيش الأمير فيصل مصحوباً بالوحدات البريطانية الحاوية على عربات مصفحة ورشاشات وفصائل إشارة باتجاه الشمال من معان والهدف المرسوم كان مدينة درعا فوصل في 12 أيلول /سبتمبر 1918م إلى مسافة 12 كم من درعا وبدأت مجموعات التخريب في تدمير سكة الحديد شمال درعا وجنوبها لعزل الحامية العثمانية فيها، وذلك لمساعدة القوات البريطانية المتقدمة باتجاه شمال فلسطين والذين احتلوا العفولة وبيسان.
ثم في 25 أيلول /سبتمبر احتل الإنجليز عمّان وانسحب الجيش العثماني منها و من معان باتجاه درعا سيراً على الأقدام بعد أن تم تدمير خط سكة حديد الحجاز، وعلى أبواب مدينة درعا اجتمع جيش الأمير فيصل والجيش الإنجليزي يوم 28 أيلول /سبتمبر ثم توجهوا إلى دمشق ودخلوها في أول تشرين أول /أكتوبر، ثم ما لبث أن تم احتلال سوريا كلها قبل نهاية الشهر وكان آخر منطقة تحتلها قوات الحلفاء شمالاً محطة المسلمية في حلب وهي المنطقة التي تتفرع منها سكة الحديد إلى القسطنطينية و سوريا والعراق حيث وقعت الدولة العثمانية في اليوم التالي هدنة مدروس.
عاشراً: نهاية الثورة
كان صدور وعد بلفور من وزارة الخارجية البريطانية و الذي يتعهد فيه بقيام وطن قومي لليهود على أرض فلسطين و اتفاقسايكس بيكو من الأمور التي حدثت أثناء ما سُمّي اصطلاحاً بالثورة العربية وكان يجب أن يكون لها الأثر الكبير في معرفة طبيعة السياسة الاستعمارية لقوات الحلفاء و للإنكليز خصوصاً. لكن هذا كله لم يؤثر على حُسن ظن الشريف حسين بنوايا الحلفاء “حتى أنه عندما وصلت إليه بعد سبعة أشهر من توقيعها رسائل من جمال باشا فيها تفاصيل اتفاقية سايكس بيكو لم يفعل شيئاً سوى أنه أرسلها إلى المندوب السامي البريطاني في مصر سائلاً عن حقيقة هذه الاتفاقية “(23). أما بخصوص وعد بلفور فكان رد الحلفاء هو رسالة من نائب الملك إلى الشريف حسين أعادت له الهدوء وأيدت الرسالة حقوق عرب فلسطين السياسية و الاقتصادية وقد أذاع منشوراً في جريدة القبلة الناطقة باسمه في 23 آذار/مارس 1918 دعا فيه عرب فلسطين إلى الهدوء والاطمئنان وإلى التعاون مع الجيش البريطاني.
- اقتباس :
كان ثمن الثورة بالنسبة إلى العرب غالياً على المدى الطويل والقصير، دفعوا جميعاً هذا الثمن مع أن أقل من 10% منهم اشتركوا في الثورة. حتى في الحجاز لم يكن الرأي العام وراء الحسين.
وليت الشريف حسين وأنصاره كسبوا حتى فخر هذا العمل الذي قاموا به في نظر الإنجليز والفرنسيين، ذلك أن البطل الحقيقي لهذه المأساة كان في نظر الغرب رجلاً إنجليزياً غريب الأطوار هو الكولونيل لورنس.
وهكذا نجد أنه إرضاء لمطامح حفنة من العرب وأوهام حفنة من الخطباء المتحمسين على منابر دمشق دفع العرب-كل العرب – ثمناً باهظاً وما زالوا يدفعونه، و 10 حزيران /يونيو 1916 كان دون شك يوماً مشؤوماً كان من نتاجه أن أصبحت إسرائيل هي معضلة العرب الكبرى وهي نتيجة مباشرة لهذه الخطوة التي خطاها الشريف حسين بن علي، فقد تقاسمت فرنسا و إنجلترا ميراث الدولة العثمانية في البلاد العربية (عدا الجزيرة) وحولتها إلى مستعمرات تحت أسماء شتى.
وتربع أحد أبناء الحسين على عرش العراق بعد أن طردته فرنسا عن عرش سوريا وأصبح ابنه الثاني أميرا على شرق الأردن وكلاهما تحت الحكم البريطاني “(24) الذي وثق به الحسين وكان مخلصاً له، أما هو فقد تخلت عنه بريطانيا ورفضت الاعتراف به خليفة للمسلمين بعد أن ألغى مصطفى كمال الخلافة العثمانية في 3آذار/مارس 1924م ولم يعد يتلقى أي ردود على رسائله إلى الحكومة البريطانية بل أصبحوا يعدونه هدفاً للسخرية ومثاراً للإزعاج، في حين تقدمت جيوش عبد العزيز آل سعود إلى الحجاز فدخلوا مكة في 15 تشرين أول /أكتوبر 1924م ثم حاصروا جدة لمدة عام تقريباً وتم تسليمها في 17 كانون أول /ديسمبر 1925، وبتسليم جدة انتهى حكم الأشراف في الحجاز.
أما الملك الحسين بن علي فقد كان تنازل عن العرش لابنه علي يوم 4 تشرين أول/أكتوبر 1924 ثم سافر إلى ميناء العقبة بعد بضعة أيام من تنازله وبقي فيها ثمانية أشهر وفيها أعلن نفسه خليفة في 11 آذار /مارس 1924م بعد عدة أيام من إلغاء كمال أتاتورك لمنصب الخلافة لكن هذه الدعوة لم تلق أي صدى أو تجاوب من أي جهة ثم أن الحكومة البريطانية أبلغته أنه غير مرغوب ببقائه هناك فاختار أن يذهب إلى قبرص وأقام فيها إلى 1930 منفياً وبعد أن أصيب بنوبة حادة تم نقله إلى عمّان وهو في الخامسة والسبعين من عمره حيث توفي في 14 من كانون الثاني /يونيو 1931 ودفن في القدس .
خاتمة
كانت نهاية ما أصبح يعرف تاريخياً بالثورة العربية الكبرى أن تمت تجزئة سوريا الكبرى إلى مناطق تحت الحكم الفرنسي قاموا بتجزئتها إلى دويلات حلب و دمشق ودولة جبل الدروز ودولة العلويين على الساحل ودولة لبنان الكبير ثم جمعتها في دولتي سوريا و لبنان الكبير ومناطق تحت الاحتلال الإنجليزي جعلوها ممالك منفصلة تحت رعايتهم وشرعوا ينفذون وعدهم لليهود على أرض فلسطين، بل أن الشريف حسين نفسه خسر الإمارة التي حكمها أجداده الأشراف ألف سنة إلّا أربعة عشر عاماً من سنة 358 هـ / 968م من حكم جعفر بن محمد إلى نهاية حكم علي بن الحسين سنة 1344 هـ / 1924م.
بقيت سيطرة بريطانيا على مشيخات الخليج والجنوب العربي وذهبت أحلام القوميين العرب ومؤسسي الجمعيات السرية الذين فرحوا بخلع السلطان عبد الحميد الثاني وعدوه من أكبر الانتصارات لهم كل ذلك ذهب أدراج الرياح و “تروي الروايات التاريخية الندم الشديد الذي أصاب الشريف حسين في نهاية حياته، وهو أمر طبيعي في ظل ما آلت إليه أحلامه الكبيرة بل وضعه الشخصي، فهل يتعظ الذين يتحالفون اليوم مع الصهيونية ضد إخوتهم ظانين أن نهايتهم ستكون وردية” ؟!! (25)
المصادر
[19] سلام ما بعده سلام ص 267-269.
[20] أعيان المدن والقومية العربية ص 126.
[21] الثورة العربية الكبرى -أمين السعيد ج1/ ص 212 + يقظة العرب ص 314.
[22] يقظة العرب ص 334.
[23] الحجاز في العهد العثماني ص 229.
[24] تاريخ قريش -د. حسين مؤنس ط 1988 ص 783-784 ،787.
[25] السلطان والتاريخ -شعبان صوان ط 2016 ص 547.