ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: النزعة الاستيطانية في الفكر اليهودي الغربي (خلال القرن التاسع عشر) السبت 21 سبتمبر 2019, 10:12 pm | |
| النزعة الاستيطانية في الفكر اليهودي الغربي(خلال القرن التاسع عشر)بدأت الاهتمامات اليهودية الجادة بفكرة استعمار فلسطين والاستيطان فيها ابتداء من أواسط الثلاثينات من القرن التاسع عشر، أمَّا قبل ذلك التاريخ فالصلة بين اليهود وفلسطين كانت في غالبيتها مجرَّد صلة دينية عاطفية، ورغبة لدى بعض الفئات اليهودية المتدينة في الإقامة المؤقتة قرب الأماكن المقدسة للتعبد وممارسة الطقوس الدينية، وكان "بعث" الدولة اليهودية في فلسطين مرتبطًا لََديهم بحدوث معجزة إلهية يتمخَّض عنها مجيء (المسيح المنتظر) الذي سيعيد بناء "هيكل سليمان" ويقود العالم نحو "الخير والسلام". ولذلك فلا غرابةَ إذا كانتْ فكرة استعمار فلسطين وإنشاء دولة – يهودية – فيها قد وجدت المنشأ المناسب لها في أحضان الدول الغربية الكبرى، وبالذات فرنسا وبريطانيا كما مر ذكره معنا في الفصل السابق، ففي أثناء انهماكها في بناء إمبراطورياتها الاستعمارية، أخذت هذه الدول تجلب العديد من "المستوطنين البيض" وتُهيِّئ لَهم سُبُل الاستِقْرار في المواقع الحيويَّة من مستعمراتِها؛ كي يكونوا بِمثابة الدّرع الواقي لهذه المستعمرات من أي خطر يتهددها، بالإضافة إلى الاستعانة بهؤلاء المستوطنين في استغلال ثروات هذه المستعمرات الاقتصادية، وخير مثال على ذلك ما حدث في الجزائر وروديسيا وجنوب أفريقيا، وبالنسبة لفلسطين فقد وجدت هذه الدول الغربية أن أفضل وسيلة ممكنة لتأمين السيطرة عليها هي طرح المشاريع الاستيطانية الرامية إلى إنشاء كيان يهودي في فلسطين يكون مرتبطًا بأوثق العلاقات مع الدولة الكبرى صاحبة المشروع، مما يهيئ لهذه الدولة سبل التسرب داخل الدولة العثمانية والحصول على الجزء الذي تطمح إليه من مُمْتلكات الدَّولة العُثْمانيَّة حين تحين الفرصة المناسبة لاقتسام هذه الممتلكات. ومن أجل تحقيق هذا الهدف سعت الأوساط الإمبريالية في أوروبا الغربية إلى إثارة الاهتمام اليهودي بهذه المشاريع الاستيطانية غير أنَّ الاستجابات اليهودية الأولية لهذه المشاريع لم تتخذ طابعًا جماهيريًّا واسع النطاق، وإنَّما اقتصرت على البرجوازية اليهودية ذات المصالح الحيوية المتداخلة مع مصالح الفئات الحاكمة في الدول الغربية الكبرى، ففي فرنسا أخذت البرجوازية اليهودية تقوم بإنشاء وتمويل المستعمرات الزراعية في فلسطين بهدف دعم المصالح الاستعمارية لإمبراطورية نابليون الثالث وأطماعِها التوسعية في منطقة "الليفانت" عن طريق خلق أقلية يهودية قوية تتحالف مع الأقلية المارونية الموالية لفرنسا لخلق مراكز نفوذ قوية للمصالح الفرنسية في المنطقة[1]، وفي الوقت الذي أخذت فيه بريطانيا تسعى جاهدة لمد سيطرتها على منطقة الشرق، كانت البرجوازية الإنجليزية لا تدَّخر وسعًا في دعم مصالح دولتها الاستعمارية، خير مثال على ذلك تمويل آل روتشليد للصفقة التي عقدها رئيس الوزراء البريطاني دزرائيلي Dizzaeli لشراء أسهم قناة السويس من الخديوي إسماعيل، بالإضافة إلى قيامهم بتمويل العديد من المشاريع الاستيطانية اليهودية في فلسطين بغية إيجاد أقلية يهودية قوية يمكن لبريطانيا الاعتماد عليها في تثبيت دعائم مصالحها الاستعمارية في المنطقة. وبالإضافة إلى سعي البرجوازية اليهودية وراء المكاسب المادية، فإنها وجدت في إنشاء وطن يهودي في فلسطين وسيلة للتخلص من عبء فقراء اليهود الذين بدؤوا يفدون إلى دول أوروبا الغربية بأعداد متزايدة، وذلك من روسيا وبعض أجزاء أوروبا الشرقية، لقد أدركت البرجوازية اليهودية أنه من الصعب على هؤلاء المهاجرين الاندماج السريع في المجتمعات الغربية نظرًا للحواجز اللغوية والثقافية مِمَّا أدَّى إلى خشيتها من أن تتولد بين الشعوب الأوروبية موجة من الكراهية العنصرية ضد اليهود بشكل عام، ولذلك فقد لجأت إلى إقامة مؤسسات وجمعيات بهدف تنظيم عملية تهجير فقراء اليهود وتوطينهم خارج القارة الأوروبية في فلسطين أو غيرها خشية أن يؤثر بقاؤهم في أوروبا الغربية على الحقوق والامتيازات التي كان يتمتع بها اليهود الغربيون. ومما زاد من تخوّف البرجوازية اليهودية ما كان يشاع في ذلك الوقت من اشتراك أعداد كبيرة من فقراء اليهود في الحركات الثورية والأحزاب اليسارية المناهضة للأنظمة الرأسمالية الغربية، وبدت هذه الظاهرة، وكأنها تشكك في وطنية وإخلاص اليهود عامة للبلاد التي كانوا يعيشون فيها، وكان هذا في حد ذاته على ما يبدو عاملاً هامًّا في دفع البرجوازية اليهودية للبحث عن "وطن" يهودي خارج القارة الأوروبية تتجه إليه هذه الهجرات. وفي أعقاب ثورات عام 1848 في أوروبا أخذت البرجوازية اليهودية تستعمل المنطق القومي العنصري في دعوتها للاستيطان اليهودي في فلسطين مستعينة بنفس المبررات التي استعملتها الحركات القومية الأوروبية في تبرير نضالها آنذاك من أجل حريتها ووحدتها، بل وأخذت تكيل المديح لليهود كعنصر بشري استطاع المحافظة على نقاوته وتفوقه على العناصر البشرية الأخرى رغم جميع التحديات التي واجهها عبر العصور المتتالية، ولعل الهدف الذي كان تسعى إليه البرجوازية اليهودية من وراء استعمالها لهذا المنطق هو غرس النزعة القومية العنصرية بين الجماهير اليهودية وحثهم على الهجرة إلى فلسطين. وكان من أوائل أقطاب البرجوازية اليهودية الذين ساهموا مساهمة فعالة في إرساء دعائم الاستيطان اليهودي في فلسطين موسى مونتفيوري[2] 1885 – 1784 (Moys Montefiori) الذي قام بدعم من الحكومة البريطانية – برحلات متعددة لوضع مشروع واسع لتوطين اليهود في فلسطين. ويبدو أن مونتفيوري كان يهمه أيضًا كسائر أفراد البرجوازية اليهودية في الغرب تحويل مسار هجرات فقراء اليهود القادمة من أوروبا الشرقية صوب أرض "بعيدة" كفلسطين مثلاً بدلاً من أن تتجه إلى أوروبا الغربية وبريطانيا بالذات وتهدد وضع اليهود الطبقي والحضاري في البلاد التي يعيشون فيها[3]، وقد قام مونتفيوري عام 1839 بمقابلة محمد علي (حكم فلسطين آنذاك) حيث حصل منه على وعد بمنحه امتياز استئجار أجزاء من أرض فلسطين (حوالي 200 قرية في منطقة الجليل) لمدة خمسين عامًا حرة من الضرائب، والسماح بإرسال خبراء لتدريب اليهود على أعمال الزراعة والصناعة، وبالمقابل فقد تعهد مونتفيوري لمحمد علي بإقامة شبكة من البنوك البريطانية في مدن مصر وسوريا وفلسطين الرئيسية، ولكن مونتفيوري اكتفى في النهاية بشراء بعض الأراضي وإقامة مزارع صغيرة في المناطق المجاورة ليافا والقدس وصفد[4]. ومما يسترعي الانتباه هنا أن القوانين العثمانية كانت تنص بصراحة ووضوح على منع بيع الأراضي والعقارات في القدس وضواحيها لليهود، ونظرًا لأن القدس لها "مكانتها المقدسة في التراث اليهودي وتستحوذ على مشاعر اليهود الدينية" فقد رأت بريطانيا في ذلك مبررًا لتمارس ضغطًا شديدًا على الدولة العثمانية لتعديل القانون العثماني بحيث تصبح القدس مدينة مفتوحة لليهود يحق لهم استملاك الأراضي والعقارات فيها، وقد تحقق ذلك في عام 1849 حينما نجح مونتفيوري في الحصول على فرمان من السلطان عبدالمجيد سمح بموجبِهِ لليهود بشراء بعض الأراضي، وتمكن مونتفيوري عام 1855 نتيجة تدخل بريطانيا وفي أعقاب مقابلته للسلطان في الآستانة للمرة الثانية من الحصول على فرمان تسنَّى له بموجبه شراء أول قطعة أرض في القدس خارج سور المدينة القديمة، وبدلا من أن يقيم عليها مستشفى كما ورد في الفرمان، أقام مونتفيوري عليها أول حي سكني يهودي في فلسطين – وفي القدس بالذات – وعرف فيما بعد باسم "حي مونتفيوري"، ولم تمض فترة قصيرة من الزمن حتى تم إنشاء العديد من الأحياء اليهودية في المدينة (بلغت ثمانية أحياء عام 1892)، وكان الهدف الذي تسعى إليه بريطانيا من رواء ضغوطها المستمرة على الباب العالي للسماح لليهود بالتملك وشراء الأراضي في فلسطين، وخاصة في القدس، هو تشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين، وبالرغم من ذلك فإن عدد اليهود في شطين عام 1856 لم يتجاوز 10.600 نسمة[5]. ونشط اليهود بمساعدة القنصليات الغربية في القدس وخاصة القنصلية البريطانية، في البحث عن أراضٍ جديدة لاستصلاحها وشرائها، وقد تمكن ممولان يهوديان عام 1860 من الحصول على قطعتين من الأرض: الأولى حصل عليها شلومو يهودا بمساعدة القنصل البريطاني فين، وكانت تشكل جزءًا من أراضي قالونيا، والثانية حصل عليها اليهودي البرتغالي جوزيف ناس، وكانت تشكل جزءًا من الأراضي الخصبة الممتدة حول بحيرة طبرية حيث أقام عليها مزرعة توت كبيرة[6]. ومنذ بداية الستينات في القرن الماضي بدأ اليهود ينشؤون الجمعيات لتشجيع الاستيطان في فلسطين، ففي عام 1860 تأسست جمعية الإليانس العالمية (الاتحاد اليهودي العالمي) Alliance Israelite Universelle بفرنسا بواسطة مجموعة من اليهود الفرنسيين كان على رأسهم أدولف كريميية Adolphe Cremieux النائب اليهودي في البرلمان الفرنسي، وقد لعب فرع آل روتشليد في فرنسا دورًا بارزًا في توجيه سياسات الاتحاد نحو خدمة المصالح الإمبريالية الفرنسية في منطقة الشرق العربي أيام حكم الإمبراطور نابليون الثالث. وكان الهدف من إنشاء "الإليانس" العمل على تقديم المساعدة لليهود في كل مكان، والدفاع عن "الحريات المدنية والدينية لليهود وتنمية المجتمعات اليهودية المختلفة عن طريق التعليم والتدريب وإغاثة اليهود زمن الأزمات"[7]، وما لبث نشاطها أن تقلص فيما بعد لينحصر في مساعدة اليهود في فلسطين والعمل على زيادة عددهم بكل وسيلة ممكنة، وفي عام 1868 تمكن كريمييه من الحصول على فرمان من السلطان العثماني تم بمقتضاه السماح للإليانس باستئجار 2600 دونم من أراضي قرية يازور القريبة من يافا، وذلك لمدة 99 عامًا، وفي عام 1870 أقامت الاليانس عليها أول مدرسة زراعية لليهود في فلسطين أطلق عليها اسم "مدرسة مكفية يسرائيل الزراعية"[8]، Mikve Israel agricultural School بتمويل من البارون أدموند دي روتشيلد والبارون موريس دي هيرش، وقامت هذه المدرسة بالتعاون مع خبراء صندوق استكشاف فلسطين بدراسات مكثفة للتربة وأنواع المزروعات التي تصلح لها، كما ساهمت المدرسة في تدريب المهاجرين اليهود على أعمال الزراعة التي أصبحت سائدة بين غالبية سكان المستوطنات اليهودية، وقد نجحت الإليانس في إقامة عدة فروع لها في دول أوروبا الغربية، وفي عام 1871 انفصل الفرع الإنجليزي مكونًا جمعيته الخاصة باسم "الجمعية الإنجليزية اليهودية Anglo Jewish association . أما في عام 1878 فقد قامت مجموعة من يهود القدس بشراء 3375 دونمًا من أراضي قرية ملبس التي كان يمتلكها أحد تجار يافا من آل قصار، وتم تسجيل الأرض باسم يوئيل سلومون النمساوي الجنسية الذي كان يتمتع بحق الحماية من القنصلية النمساوية، وفي العام التالي وضع اليهود أيديهم بالطريقة نفسها على قطعة ارض مجاورة بلغت مساحتها 10 آلاف دونم، وقد أقام اليهود على هاتين القطعتين من الأرض مستوطنة بيتح تيكفا (بابل الأمل) petah tikvah التي أطلق عليها لقب "أم المستوطنات".ولم يقتصر دور البرجوازية اليهودية على المساهمة المادية في إنشاء المؤسسات والجمعيات وتمويل بعض المستوطنات الزراعية في فلسطين، وإنما لجأت إلى سلاح فعال وهو تبنِّي كوادر فكرية يهودية تعمل في خدمتها وتعبر عن مصالحها من خلال استثمار قوة الكلمة بأبعادها الدينية والقومية والاقتصادية بين أوساط يهودية فقيرة بائسة لا تعني سوى دلالات الكلمة الظاهرية، وكانت هذه الأوساط بالتالي أول ضحية من ضحايا الوهم الصهيوني الاستعماري. القلعي:من أوائل المفكرين الذين عملوا ضمن إطار البرجوازية اليهودية الحاخام يهودا القلعي[9] 1787 – 1879 (Yehuda Alkalai) ، كان القلعي ينتمي في مطلع حياته إلى الفئة التقليدية المحافظة من اليهود، فولادته ونشأته تمت في كنف أسرة يهودية متدينة كانت تحتل مركز الزعامة الروحية بين يهود الصرب، وقد أمضى القسط الأكبر من صباه في مدينة القدس حيث تأثر هناك بالنزعة الصوفية اليهودية المسماة بالكابلاه[10] Cabala والتي وفرت له دراسة عميقة للتلمود وتفسيراته الباطنية التأويلية، وفي عام 1825 تم اختياره حاخامًا للطائفة اليهودية في سملين عاصمة الصرب آنذاك، ثم انتقل منها فيما بعد ليصبح حاخام الطائفية اليهودية في زيمون بالقرب من يوغسلافيا. مارَس القلعي أول نشاط سياسي له خلال أحداث البلقان حين أصدر نداء للطوائف اليهودية يطالبها بتأييد ودعم الشعوب البلقانية في ثورتها ضد الحكم العثماني[11]، وقد استغل هذه اليقظة القومية في البلقان ليتخذ منها في كتابه "اسمعي، يا إسرائيل" الصادر عام 1834 نموذجًا ليهود العالم كي يقتدوا به ويعملوا بمنتهى "التصميم" و"الجدية" من أجل تحقيق العودة إلى "أرض الآباء" في فلسطين، ودعا إلى البدء فورًا ببناء المستوطنات اليهودية في فلسطين تمهيدًا لإقامة دولة "بني إسرائيل"[12] عليها دون أي انتظار لمجيء المسيح المخلص المنتظر، وقد أشار إلى ذلك بقوله: "...لقد أمر الله تبارك اسمه بأن تتم توبتنا عن طريق يقظتنا؛ لكي نرفع من قيمتنا لديه، وعندما يرى الله رغبتنا في التوبة تمجيدًا لاسمه، حتى ولو تم ذلك بحجم خرم الإبرة، فإنه سيرسل لنا نجدته ويفتح الباب على مصراعيه ثم يزيدنا عددًا وعدة، ولهذا لا يمكننا الانتظار حتى يظهر المسيح، ويعيدنا إلى أورشليم – القدس..." [13]، ونظرًا لأن هذه الفكرة كانت تتعارض مع المفهوم الديني السائد، فقد استغل القلعي مكانته الدينية وأخذ يستعين بواحدة من الأساطير الصوفية التي كانت تنصّ على أن مسيحًا آخر سيسبق المسيح المنتظر ويقود اليهود في حروب "يأجوج ومأجوج" لفتح فلسطين عنوة، وذلك على ما يبدو في محاولة منه للتغطية على هذا التعارض، وقد دعا القلعي إلى قيام هجرات يهودية جماعية إلى فلسطين مشيرًا إلى أن المسيح الآخر سيظهر من بين هؤلاء المهاجرين الرواد، وكان القلعي يطمع من وراء استخدام مثل هذه الأساطير أيضًا إلى كسب تأييد الفئات اليهودية المتدينة المحافظة لدعوته الاستيطانية، وفي نفس الوقت كان يهمه بالطبع إرضاء الفئات اليهودية العلمانية بغية المحافظة على تآلف ووحدة العمل اليهودي "من أجل صهيون". وفي عام 1839 أعلن القلعي أنه توصل – بناء على حسابات أجراها بموجب علماء الكابالاه – إلى نتيجة مفادها أن عام 1840 سيكون عام "الخلاص اليهودي" والعودة إلى "أرض الميعاد"؛ ولذا فإنه أخذ يحث اليهود وخاصة الفقراء منهم في أوروبا الشرقية على الإسراع في الهجرة إلى فلسطين تحت لواء "المسيح الإنسان" استعدادًا لمجيء المسيح المنتظر، ولعله ليس من قبيل الصدفة أن تجيء هذه النبوءة في الوقت الذي بدأ فيه محمد علي يتراجع عن فتوحاته في بلاد الشام أمام ضغوط بريطانيا وحلفائها، وفي الوقت الذي بدأ فيه الاستعداد لعقد مؤتمر لندن – 65 – عام 1840، حيث كان من ضمن البنود المقترحة على جدول أعمال المؤتمر بند يتعلق بإمكانية إنشاء دولة يهودية في فلسطين لحماية الشرق العربي من خطر أي محاولة وحدوية جديدة تنبع من مصر، ومما يسترعي الانتباه أيضًا أن تجيء هذه النبوءة في أعقاب زيارة قام بها القلعي لعدد من دول أوروبا الغربية وفي مقدمتها بريطانيا، حيث حظي بمقابلة بعض المسؤولين فيها وبمقابلة عدد من رجال المال اليهود. ولعل في هذا ما يبرر اتّهام القلعي بأنه كان يستغل المعتقدات الدينية لدى الفئات اليهودية الفقيرة المحافظة بغية تشجيعها على الهجرة إلى فلسطين لخدمة مصالح الإمبريالية الغربية والبرجوازية اليهودية، ولدى انفضاض مؤتمر لندن دون تبنيه لمشروع الدولة اليهودية، وبالتالي فشل نبوءة القلعي بحلول "الخلاص اليهودي" لجأ هذا الحاخام اليهودي إلى تبني فكرة جديدة أسماها فكرة "الخلاص الذاتي التدريجي"، وكان المقصود بهذه الفكرة العمل على بناء كيان يهودي في فلسطين بشكل منظم وتدريجي لا بشكل عفوي ومفاجئ، وقد ألقى بمسؤولية إنشاء وتمويل المستوطنات اليهودية على عاتق أقطاب المال اليهود، في حين يقوم فقراء اليهود بتقديم العنصر البشري اللازم لعملية الاستيطان، وقد أوضح ذلك بقوله: "...يتوجب علينا بناء البيوت وحفر الآبار وزع أشجار الكرمة والزيتون، وإنه لأمر في غاية الأهمية أن يظل أغنياء اليهود يعيشون في أرض الشتات وذلك لإمداد إخوانِهم المستوطنين بِما يَحتاجونه من عونٍ ومُساعدة، إنَّنا لا نستطيع الهجرة على نطاق واسع وذلك كي لا نصبح في النهاية مثل البدو مبعثرين في الخيام في مختلف أرجاء الدّيار المقدسة، الخلاص يجب أن يتم بأناة والأرض يجب أن يتم بناؤها وإعدادها وتحضيرها بالتدريج"[14]، وقد أشار القلعي أيضًا إلى أهمية بقاء أغنياء اليهود في الدول الكبرى لما يمكن أن يقوموا به من دور في توفير الحماية للمستوطنين اليهود مستغلين بذلك نفوذهم لدى الحكومات الأوروبية ومقدرتهم على حثّ هذه الحكومات للتدخل لدرء أية أخطار قد يتعرض لها هؤلاء المستوطنون في فلسطين[15]. أما بالنسبة للبرنامج الذي وضعه القلعي "للخلاص الذاتي التدريجي" فقد اشتمل على البنود التالية:1- الدعوة إلى عقد جمعية يهودية عامة graet Assembly تكون مهمتها إرساء دعائم تنظيم يهودي شامل تتولى إدارته ورعاية شؤونه مجموعة من حكماء اليهود، يتم اختيارهم بواسطة "أولئك الأقطاب الذين يستفيد الجميع من نفوذهم"، يقصد بهم بالطبع الأثرياء اليهود، ويقوم مجلس حكماء اليهود بالإشراف على عملية "استعادة" فلسطين عن طريق القيام باستعمارها وإنشاء المؤسسات الاستيطانية فيها[16]. 2- إنشاء صندوق قومي يهودي لجمع المساعدات والتبرعات المالية من أثرياء اليهود وغيرهم لتمويل إنشاء المستوطنات في فلسطين والبدء بعملية تهجير فقراء اليهود للاستقرار فيها والعمل على شراء المزيد من أراضيها على أن تكون ملكيتها باسم "الشعب" اليهودي بأجمعه، وقد تبنى الصندوق القومي اليهودي الذي تأسس عام 1901 الأفكار الرئيسية التي وضعها القلعي لنشاط هذا الصندوق. 3- إقامة صندوق آخر للإشراف على جمع الضرائب من المستفيدين من عملية الاستيطان كما أشار القلعي إلى ضرورة تَحصيل نسبة معينة من الضرائب من باقي الفئات اليهودية المستقرة في أرض الشتات لقاء الحماية التي يوفرها لهم مجلس حكماء اليهود في مواطن سكناهم.4- الحصول على قَرْضٍ قومي تشارك في دفعه مختلف الفئات اليهودية لاستثماره في إقامة عدد من المشاريع العامة في فلسطين مقابل نسبة مئوية معينة من الفائدة[17]. ولتنظيم عملية استثمار الأرض الفلسطينية، دعا القلعي البرجوازية اليهودية إلى تأسيس شركة مساهمة استيطانية تقوم ببذل محاولات "لشراء" فلسطين من السلطان العثماني أو على الأقل الحصول على حق استغلالها لمدة معينة مقابل أجر سنوي، وما قاله في هذا الصدد ".. أطلب من إخوتنا إنشاء شركة على غرار شركات التأمين ضد أخطار الحريق وشركات السكك الحديدية، وتتوجه هذه الشركة إلى السلطان العثماني لإقناعه بأن يعيد إلينا أرض أسلافنا مقابل مبلغ من المال أو مقابل أجر سنوي، وبمجرد أن يتم إعادة بعث اسم إسرائيل فوق أرضنا فإن اليهود على مختلف مشاربهم سيهبون لمساعدة هذه الشركة بكل وسيلة ممكنة، وبالرغم من أن هذه المجازفة ستبدأ بداية متواضعة إلا أن مستقبلها سيكون بالتأكيد مستقبلاً عظيمًا"[18]، ومن الجدير بالملاحظة أن اقتراح القلعي باستئجار فلسطين لمدة معينة قد جاء مباشرة في أعقاب محاولة بالمرستون، وزير خارجية بريطانيا آنذاك، الحصولَ من الدولة العثمانية على حق حماية اليهود المقيمين في فلسطين لمدة عشرين عامًا، ولعل هذا التجاوب في المواقف بين القلعي ووالمرستون ليس من قبل الصدفة المحضة لا سيما أنها تكررت أكثر من مرة. ركز القلعي اهتماماته في أواخر أيامه على إحياء اللغة العبرية وتوحيد استعمالها؛ لأنه على حد تعبيره ".. لن يكتب البقاء والاستمرار لأية أمة دون وجود لغة مشتركة لديها.." وانطلاقًا من هذا الموقف قام بوضع كتاب لتدريس اللغة العبرية وقواعدها، وفي عام 1874 هاجر القلعي إلى القدس؛ حيث بقي هناك حتى وفاته عام 1878. كاليشر:وفي هذا السياق أيضًا يلقانًا الحاخام تسفي كاليشر، Kalischer Zvi H (1795 – 1874) وهو من أكثر المفكرين اليهود الذين تركت آراؤهم آثارًا عميقة وواضحة في الفكر الصهيوني بالرغم من أن اهتماماته الصهيونية جاءت متأخرة للسيطرة البروسية عام 1793، وقد تلقى دراسة دينية تقليدية في المدارس اليهودية في مدينة بوزن Bosn ثم انتقل منها إلى مدينة ثورن Thorn حيث تولى حاخامية الطائفة اليهودية فيها طيلة أربعين عامًا، كانت المنطقة التي عاش فيها كاليشر مسرحًا للأفكار القومية والثورات التحررية التي كان يقوم بها الشعب البولندي بغية إنقاذ بلاده من السيطرة الأجنبية وإعادة بناء دولته الموحدة، ففي زمنه حدثت ثورتان عنيفتان في القسم الروسي من بولندة: الأولى عام 1830 – 1831، والثانية عام 1863، وسيبدو أثر هذه الأفكار والحركات القومية على آراء كاليشر لدى استعراض أهم معالم فكره الصهيوني. باشر كاليشر نشاطه السياسي مع ظهور الحركة اليهودية الإصلاحية[19] Reform Judaism حيث رفض دعوتها الرامية إلى التخلي عن التقاليد اليهودية المتوارثة وعن حق اليهود في "العودة" على أنه عودة اليهودي إلى تبني القيم الأخلاقية والاندماج في المجتمع الذي يعش فيه، نجد كاليشر يشدد على ضرورة ارتباط اليهودي بأرض فلسطين ويدعو إلى الاستيلاء عليها بالقوة إذا اقتضى الأمر ذلك. إن خلاص اليهود - في رأي كاليشر - لا يمكن أن يتم إلا بعودة اليهود أولاً إلى فلسطين، وهذه العودة لابد أن تسبق مجيء المسيح المنتظر، وكلما تأخرت العودة كلما تأخر مجيئه وبالتالي تأخر الخلاص اليهودي، وقد انتقد كاليشر صراحةً المفهوم الديني الذي كان سائدًا بين غالبية الفقراء اليهود القائل بأن المسيح المنقذ سيظهر لتخليص اليهود من "مِحنَتِهم" طالما حافظوا على تأدية صلواتهم وإقامة الطقوس الدينية المفروضة عليهم، إن مجيء المسيح وخلاص اليهود – كما أوضح كاليشر – رهن بتجميع أنفسهم في "أرض إسرائيل" والعمل بمنتهى الجدية والإخلاص في تطهير أرضها من مختلف الشوائب التي علقت بها عبر القرون الماضية، ومما قاله في هذا المجال: "عزيزي القارئ، ألق جانبًا الفكرة التقليدية القائلة بأن المسيح سينفخ بالبوق العظيم فترتعد منه كل الأرض، إن الخلاص لن يبدأ إلا بمساندة المحسنين وبكسب موافقة الأمم على لَمّ شمل بعض الإسرائيليين في الأرض المقدسة"[20] ويلاحظ هنا حرص كاليشر على تأمين "موافقة الأمم لهجرة اليهود إلى فلسطين وهي تعني بعبارة أخرى تأمين حماية وتأييد القوى الإمبريالية الكبرى التي تصبح موافقتها أمرًا أساسيًّا في هذا المجال، كما يلاحظ أيضًا تكرار تعبير "لَمّ شَمْل بعض الإسرائيليين" وهذا يشير إلى إدراك كاليشر لضرورة استثناء مجموعات يهودية من الهجرة إلى فلسطين لتظل مصدر تموين ودعم للكيان اليهودي، والمقصود بهذه المجموعات بالطبع الفئات البرجوازية اليهودية التي كان بمقدورها توفير التموين والدعم اللازمين. وكعادة غالبية روَّاد الفكر الصهيوني حين كانوا يبدؤون نشاطهم العملي بالكتابة إلى ثري يهودي أو زعيم إمبريالي، فإنَّ كاليشر قام عام 1836 بتوجيه رسالة إلى ميير روتشيلد Meyer Rothschild رئيس فرع أسرته في برلين مقترحًا عليه أن تقوم أسرته بشراء فلسطين من محمد علي حاكمها في ذلك الوقت، لإقامة مستوطنات للمهاجرين اليهود من أوروبا الشرقية، ومما ورد في هذه الرسالة قول كاليشر: ".. إن بداية الخلاص سوف تأتي عن طريق أسباب طبيعية نتيجة للجهد الإنساني وعن طريق إرادة الحكومات لجمع شمل إسرائيل المبعثرة في الأراضي المقدسة"[21]، ولكن كاليشر لم يحظ بأي رد على رسالته، ويمكن تفسير عدم استجابة آل روتشيلد في برلين لطلب كاليشر بسبب عدم وجود مصالح استعمارية لألمانيا في المنطقة آنذاك، فهي كانت لا تزال تعاني من التجزئة السياسية التي لم تنته إلا بقيام الاتحاد الألماني عام 1871 على يد بسمارك، وهذا بالطبع إن دل على شيء فإنما يدل على أن البرجوازية اليهودية لا تقدم على أية مغامرة سياسية أو اقتصادية ما لم تكن واثقة من دعم الدولة التي تعيش في كنفها لمثل هذه المغامرة. توجه كاليشر بعد ذلك صوب بريطانيا حيث دعا زعماء البرجوازية اليهودية فيها لبذل المزيد من الدعم لتوطين اليهود في فلسطين مقابل قيامه هو وزملائه من الزعماء الدينيين للطوائف اليهودية بممارسة الضغوط للتأثير على فقراء اليهود في وسط وشرق أوروبا لتشجيعهم على الهجرة إلى "أرض الميعاد". وفي عام 1862 نشر كاليشر كتابه "البحث عن صهيون" Derishat zion حيث أفرد الجزء الأكبر منه للحديث عن قدسية العمل اليدوي وأهمية الاستيطان الزراعي في فلسطين، وكان لهذه الأفكار أكبر الأثر على جماعة أحبَّاء صهيون فيما بعد، وقد وصف كاليشر في كتابه هذا حالة اليهود في أوروبا الشرقية وصفًا مأساويًّا يمثل منتهى البؤس والشقاء والتعاسة، غير أنه اعتبر ذلك امتحانًا للإيمان وبداية لِحدوث الخلاص الطبيعي عن طريق التطوّع للذهاب إلى فلسطين بقصد الاستيطان والإقامة الدَّائمة فيها، وقد أشار إلى ذلك بقولِه: ".. نعلم جميعًا أنَّ طريقةَ عبادتِنا اللهَ تتمّ بتجارب يمتحننا الله بها، فعندما خلق الله الإنسان زرع بجانبه شجرة المعرفة وأمره بألا يتذوقها، فلماذا وضع الله شجرة في الفردوس وتختبر الإنسان لو لم يقصد الله تجربة الإنسان؟! وعندما غادرت إسرائيل بلاد مصر امتحنها الله بالجوع والعطش، منذ أن تشتتنا ونحن نستشهد في سبيل الله، لقد شردنا من أرض إلى أرض وتحملنا نير النفي عبر العصور من أجل اختبار إيمانِنا"[22]، وفي معرض حديثه عن الخلاص الطبيعي قال: ".. عندما يتطوع يهود كثيرون ورِعون للذَّهاب إلى أرض فلسطين والسَّكن في القدس بدافع الرَّغبة للخِدمة ولرُوح الطَّهارة والقُدُسِيَّة وحينما يذهب هؤلاء أفرادًا وأزواجًا من أطراف الدّنيا الأربعة ويستقرّون هُناك وتتزايَدُ صلواتُهم على جبال القدس، عند هذا فقط يسمح الله لهم ويسرع في يوم خلاصهم"[23]. لقد تعرَّض كاليشر لمعارضة قوية في أوساط المتدينين المحافظين الذين كانوا يرون أن العمل على إقامة دول يهودية قبل مجيء المسيح المنتظر يعتبر كفرًا، فإقامة مثل هذه الدولة وتجميع اليهود فيها يمثلان نوعًا من "الضغط" على المسيح المخلص و"إجباره" على الظهور قبل الأوان الذي حدد له، وبالتالي "الإسراع في نهاية العالم"[24]، غير أن كاليشر شن حملة شعواء على معارضيه مصرًّا على أن العمل في الفلاحة والزراعة هو السبيل الدنيوي والحافز الأول للوصول إلى الخلاص المرتقب والأخير، وكان مما قاله في هذا الصدد: ".. سيؤدي العمل الزراعي اليهودي للوصول إلى الخلاص.. الخلاص الذي وعد به المسيح المنتظر، وإذا ما قدمنا الجهد للأرض بهذه الطريقة الدنيوية فستظهر لنا علامات الخلاص تدريجيًّا، هذه السياسية أيضًا ستعمل على كسب احترام الأمم الأخرى؛ إذ إن أبناءها سيقولون: إن بني إسرائيل لديهم الإرادة أن ينقذوا أرض أجدادهم التي أصبحت مهملة وقاحلة"[25]، ولعل في تركيز كاليشر على العمل الزراعي اليدوي محاولة منه للتخلص من الوصمة التي ألحقت باليهود في أوروبا بأنهم ليسوا "أمة"، نظرًا لأنهم دأبوا على الابتعاد عن العمل اليدوي وبالتالي فإنهم لا يدركون معنى الأرض وقيمة الارتباط بها. وكان من ضمن الآراء التي تضمَّنَهَا كتابُه دعوته إلى عقد مُؤْتَمرٍ عامّ لزعماء اليهود وأثريائِهم بِهدف تأسيس "جمعيَّة استيطان أرض إسرائيل" تكون مهمتها "تشجيع الاستيطان اليهودي في فلسطين عن طريق شراء الأراضي وبناء المستوطنات"[26]، وقد رفع كاليشر شعار "القومية اليهودية" في محاولة منه لإقناع اليهود بالهجرة إلى فلسطين لبناء "الدولة القومية اليهودية"، ومما قاله بهذا الشأن: "لماذا يضحّي شعب إيطاليا وشعوب أقطار أخرى بحياتهم من أجل أرض آبائهم، بينما نحن نتصرَّف كرجال حُرِمُوا من القوَّة والشجاعة لا نفعل شيئًا؟ هل نحن أقلّ شأنًا من جميع الشعوب الأخرى التي لا تعير اهتمامًا للحياة والمال بالمقارنة مع حبها لأرضها وأمتها؟ يجب علينا أن نخجل من أنفسنا لأننا لا نعمل على إحياء ذكرى آبائنا وتمجيد إلهنا الذي اختار صهيون سكنًا له.." [27]. ولم يكن نشاط كاليشر محصورًا في نطاق الآراء والنظريات، وإنَّما تعدَّى ذلك ليشمل نشاطًا عمليًّا في مجال الاستيطان، فقد ساهم عام 1860 بالتعاون مع حاييم لوري Hayyim Luri في تأسيس جمعية استيطان يهودية في فرانفكورت عام 1860 وأخرى في عام 1864 في برلين باسم "جمعية استعمار أرض إسرائيل"، كما نجح كاليشر عام 1868 في التأثير على مجموعة من أثرياء اليهود لشراء قطعة الأرض التي أقيمت عليها "مدرسة مكفية إسرائيل الزراعية"، وقد اقترح كاليشر إنشاء جَماعات حراسة تجمع بين العمل الزراعي والعسكري لحماية المستوطنات اليهودية من أي خطر يتهدَّدُها، خاصَّة من جانب السكان المحليين (وهم بالطبع العرب) الذين وصفهم "باللّصوص" ودعا إلى استعمال السلاح "دفاعًا" عن المستوطنات حتى لوِ اقتضى ذلك إرسال فرق يهودية مسلحة إلى ملاحقة "اللصوص العرب" في العمق العربي خارج حدود فلسطين، والغريب أن هذا المنطق نفسه لا تزال تستعمله "إسرائيل" في تبرير توسعها الاستيطاني، وذلك بشن ما يسمى "الحروب الوقائية" في العمق العربي بحجة القضاء على "المخربين العرب"، وهم في الحقيقة السكان الأصليون الذين شردوا من أراضيهم. وهكذا تتَّضح في آراء كاليشر جميع مظاهر أيديولوجية العمل الصهيوني من تحالف مع القوى الإمبريالية واعتماد على البرجوازية اليهودية لتوفير الحماية اللازمة للوجود الصهيوني في فلسطين بالإضافة إلى تفريغ البلاد من سكانها الأصليين بحجة "الدفاع عن النفس" وإتاحة الفرصة "للشعب اليهودي المتمدن" صاحب "الرسالة الحضارية" أن يستقر في هذه المنطقة "الموحشة المتخلفة، لقد صوَّر كاليشر هذه المنطقة كما صورها القلعي من قبل بأنها أرض خرِبة مقفرة، وأن العناية الإلهية اختارت اليهود ليقوموا "بزراعتها وتَحسينها ونقل الحضارة إليها"[28]، إنه نفس المنطق الإمبريالي الذي استعمل لتبرير احتلال واستعمار أراضي الغير، سواء أكان ذلك في روديسيا أم جنوب أفريقيا أم فلسطين، نفس الاحتلال ونفس المنطق! يعتبر القلعي وكاليشر رائدَيِ الصهيونية الدينية التي نجحت في طرح المفاهيم الصهيونية السياسية الاستيطانية بمفاهيم دينية بُغية استقطاب تأييد ودعم الجماهير اليهودية الفقيرة المتدينة والمتركّزة في روسيا وشرق أوروبا، لمثل هذه المفاهيم؛ ولذلك فلا عجب إذا وجدنا يهود روسيا يشكّلون المادَّة البشرية الفعَّالة لعمليَّة الاستيطان اليهودي في فلسطين، لقد استوعبت هذه الفئات اليهودية فكرة "العودة" إلى فلسطين على أنَّها جزءٌ من الفرائض الدينيَّة لاسيَّما أنَّ تعاليم القلعي وكاليشر كانت تنُصُّ على أنَّ عودة المسيح المنتظر لا تتحقَّق إلا بهجرة أعداد كافية من اليهود إلى فلسطين للعَمَل في أرضِها وبناء المستَوْطنات الزراعيَّة فيها، وكان أن تركت هذه التعاليم آثارَها الواضحة على جَماعةِ أحبَّاء صِهْيون التي لعبت دورًا بارزًا في ازدياد حجم الهجرات اليهودية إلى فلسطين في أواخر القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، وقد كان لآراء القلعي وكاليشر ونشاطاتهما العملية بين فقراء اليهود أكبر الأثر في خدمة أهداف القوتين المتحالفتين الإمبريالية الغربية والبرجوازية الصهيونية من أجل تهيئة السبل لإرساء دعائم النهج الصهيوني الاستيطاني في فلسطين. ...... يتبع |
|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: النزعة الاستيطانية في الفكر اليهودي الغربي (خلال القرن التاسع عشر) السبت 21 سبتمبر 2019, 10:13 pm | |
| .... تابع النزعة الاستيطانية في الفكر اليهودي الغربي (خلال القرن التاسع عشر) هس:أما المفكر اليهودي الذي ترك انطباعًا عميقًا في الفكر الصهيوني فهو بلا شك موزس هس 1812 - 1875 (Moses Hess) ، نشأ هس[29] نشأة دينية تقليدية مثل غالبية من سبقه من المفكرين اليهود، فقد حصل على قسط وافر من الثقافة التلمودية في مدينة بون بألمانيا، ودرس اللغة العبرية على يدي جده الذي كان يعدّه ليصبح حاخامًا لإحدى الطوائف اليهودية الألمانية، غير أنه ما لبث حين بلوغه سنَّ الرّشد أنِ ابتَعَد عن التقاليد اليهودية الدينية وانكب على دراسة العهد الجديد والفلسفة والتاريخ والآداب الفرنسية والإنجليزية، وفي عام 1835 الْتَحَقَ بِجامعة بون حيث أَمْضى معظم وقته في دراسة الفلسفة ونشأت علاقة وثيقة لفترة وجيزة بينه وبني كارل ماركس الذي كان طالبًا في الجامعة آنذاك. كان من جملة المفكرين الذين تأثر بهم هس فيلسوف اليهودي بينيدكت سبينوزا،[30] Benedict Spinoza وقد تبنى الكثير من آرائه خاصة في كتابه الأول الذي أصدره هس باسم مستعار (أحد أتباع سبينوزا) وعنوانه "تاريخ الإنسانية المقدس" The Sacred History of Mankind ، ويلاحظ في هذا الكتاب تمجيد هس للدين المسيحي واعتباره دين العصر الذي سيوحد بين الشعوب، في حين أن الدين اليهودي يسعى فقط لتوحيد "شعب" واحد دون غيره من الشعوب وفي مطالبته بتخلّي اليهود عن "أسطورة شعب الله المختار"، يتضح تأثر هس بفكرة سبينوزا القائلة بأنَّ الإله مرتبط بجميع شعوب الإنسانية، وشعب الله المختار هو هذه الشعوب جميعًا حين تنبذ خلافاتها وأحقادها وتتوحد شعبًا إنسانيًّا واحدًا، وقد دعى هس اليهود إلى الاندماج في الحياة الأوروبية الحديثة كي لا يظلوا تائهين في الدنيا "شعب أشباح" يتجول عبر القرون التاريخية "روحًا بدون جسد".[31] بدأ هس نشاطه السياسي عام 1840 بانضمامه للحركة الاشتراكية الأوروبية حيث أخذ يتعاون مع ماركس وإنجلز في تنظيم الحركات العمالية بألمانيا، غير أنه ما لبث أن اختلف معهما بعد صدور البيان الشيوعي.[32] وقد غادر هس ألمانيا في أعقاب ثورة عام 1848 بعد أن صدر عليه حكم الإعدام نتيجة اشتراكه في الثورة، وأمضى ما تبقى من حياته متنقلاً بين دول أوروبا الغربية متخذًا من فرنسا مركزًا لإقامته. وفي عام 1862 أصدر هس كتابه المشهور بالغة الألمانية تحت عنوان "بعث إسرائيل" The revival of Israel وما لبث الكتاب أن أصبح يعرف فيما بعد باسم "روما والقدس" Rome and Jerusalem ، والغريب أن معظم ما تضمنه هذا الكتاب من آراء وأفكار جاء مناقضًا تمامًا لما كان نادى به هس من قبل، وهذا ما جعل الكثير من اليهود يشككون بادئ الأمر في مدى جدية ما طرحه عليهم من التفسيرات والاجتهادات والأهداف التي كان يسعى لتحقيقها من وراء ذلك. جاء الكتاب على شَكْلِ رسائل وملاحظات موجهة إلى سيدة مجهولة فقدت إنسانها الذي أحبته وتسلل اليأس إلى قلبها فجاء من يواسيها ويبعث الأمل في حياتها، ويبدو أن هس كان يتخذ من هذه السيدة المجهولة رمزًا "للشعب اليهودي"، ومن ذلك الحبيب التائه رمزًا "لأرض الميعاد"، وحصيلة هذه الرسائل والملاحظات كانت البحث في أفضل السبل لإعادة الجمع ين السيدة وحبيبها أو بتعبير آخر "إعادة" الصلة بين اليهود وفلسطين، ولقد تضمنت هذه المعادلة الاستعمارية التي وردت على شكل صورة رومانسية، أهم أسس العقيدة الصهيونية والكثير من الأفكار التي تتبناها فيما بعد المنظمة الصهيونية العالمية. استهل هس كتابه بقوله ".. كانت غربة طويلة استمرت ما يزيد على العشرين عامًا، وعدت بعدها إلى شعبي وأهلي لأشارك من جديد في أفراحهم وأحزانهم، آمالهم وذكرياتهم، تلك المشاعر التي خِلْت نفسي قد نجحت في كبتها عبر السنين الطويلة، بعثت إلى الحياة من جديد.. إنها المشاعر المستمدة من قوميَّتي التي ترتبط بتراث أجدادي وبالأرض المقدسة الخالدة، والقدس".[33] وانتقل هس بعد ذلك إلى الحديث عن الأسباب التي جعلته يتخلى عن غربته إلى "شعبه"، فأشار إلى أن مبعث ذلك هو ازدياد حدة "المعاناة اليهودية" نتيجة اشتداد النزعة (اللاسامية) في ألمانيا، و(اللاسامية) الألمانية في رأي هس كانت تعكس كراهية الألمان لا لليهود كدين فقط وإنما لليهود "كعنصر أو كعِرْق" أيضًا، وبالتَّالي فإن المحاولات التي كانت تقوم بها بعض الفئات اليهودية للاندماج في المجتمع الألماني اعتبرها هس مُحاولاتٍ عقيمةً وعديمةَ الجدوى لن تُنْقِذَ اليهود من "معاناتهم"، ومِمَّا قالَه بِهذا الصَّدد ".. حتى تَخَلِّي اليهودِيِّ عن دينه لن يُخَفّف من وطأة الضغط الهائل الواقع عليه من جراء (اللاسامية) الألمانية، إنَّ كراهية الألمان للعرق اليهودي هي الأساس؛ ولذلك فليس باستطاعة الإصلاح أو التنصّر أو الثقافة أو التحرر أن تفتح أبواب المجتمع الألماني لليهود حتى لو تنكروا لعرقهم.. سيظلّون دائمًا غرباء.. إنَّ الأنوف اليهودية لا يُمْكِن تغييرها، كما أنَّ الشَّعر الأسود المُجعَّد لا يُمكن تحويله إلى شعر أشقر أملس"[34]، وانتقل هس بعد ذلك ليقول: ".. من الممكن أن تتحرَّك المشاعر الإنسانيَّة لدى بعض الشعوب الأوروبية فتحررنا، ولكنَّها لن تَحترمنا طالما ظل مبدؤنا هو أن موطن المرء حيث ينتفع"، وتوصل في النهاية إلى أن لب المشكلة اليهودية هو "اللامأوى"، أي: عدم وجود وطن لليهود كباقي الشعوب الأخرى؛ ولذلك فإنَّ استمرار اليهود بدون أرض سيدفع بهم في النهاية إلى مستوى الطفيليات التي تعتمد في قوتها على الآخرين[35]. ويلاحظ أن معظم معاصري هس من المفكرين الأوروبيين الاشتراكيين كانوا يتحدَّثون عن معاناة مُختلف الطبقات العاملة والفقيرة في شتى المجتمعات الأوروبية الرأسمالية، ولم يعيروا قضية (اللاسامية) اهتِمامًا كبيرًا ولم تشكل بالنسبة إليهم قضية مصيرية، ورأوا أن رفع الظلم عن كاهل جميع هذه الطبقات، سواء أكانت يهودية أم غير يهودية، يتحقق عن طريق الإتيان بحكومات شعبيَّة حقيقة، وأمَّا التركيز على المعاناة التي تعرضت لها فئات فقيرة معينة لكونها يهودية دون الاهتمام بالفئات الفقيرة الأخرى غير اليهودية، فهذا في حدِّ ذاته تشجيع غير مباشر للنزعة (اللاسامية) وتعميقٌ لجذورها في المجتمعات الأوروبية. أما الحل الذي اقترحه هس لمعاناة فقراء اليهود أو ما سمي "بالمسألة اليهودية"، فكان العمل على تَهجير هذه الفئات خارج أوروبا صوب فلسطين، أو بتعبير آخر تبنّي المشروع الصهيوني الذي شجعته البرجوازية اليهودية التي كانت تسعى للتخلص من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن سوء أوضاع الفئات اليهودية الفقيرة التي كانت تفد إلى دول أوروبا الغربية من روسيا وباقي أجزاء أوروبا الشرقية، كما أن نجاح تطبيق هذا الحل بإنشاء كيان يهودي سياسي في فلسطين تحت حماية إحدى الدول الأوروبية الكبرى يهيئ المجال لوجود مستوطنين عملاء لتلك الدولة الكبرى يتفانَوْنَ في خِدْمة مصالحها الاستعمارية ويدرؤون عنها أية أخطار تُحدِق بها، وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا الحل الذي كان يتفق ومصالح الإمبريالية الغربية والبرجوازية اليهودية، تتوفر فيه إمكانية القضاء على مبررات وجود النزعة (اللاسامية) التي كان من الممكن – على حد تعبير هس – أن تؤثر على مصالح الفئات البرجوازية اليهودية، ومما أورده هس حول هذا الموضوع قوله: ".. إن الأمم المسيحية لن تعارض إطلاقًا إنشاء وطن لليهود في فلسطين طالما أنَّ ذلك يضمن لها التَّخلّص من شعب غريب شاذ يسبب لها مشاكل كثيرة".[36] ومن أجل إثارَة اهتمام وحماس الفئات اليهودية الفقيرة للمشروع الصهيوني لجأ هس إلى استغلال أسلحة البرجوازية الاستعمارية التي كانت سائدة في ذلك العصر[37]، وكان من أهم تلك الأسلحة: القومية الشوفينية المتعصبة، وأسطورة الجنس النقي، والرسالة الحضارية التمدينية، فبالنسبة لاستعمال سلاح "القومية اليهودية" فإن هس تصوَّر أنَّه يُمْكِن بواسطته التخلص من أيِّ صراع أو "سوء فهم" قد يحدث بين الفئات اليهودية الفقيرة وتلك الفئات اليهودية البرجوازية، وذلك بما توفره الرابطة القومية من أرضيه مشتركة لهذه الفئات بحيث تفتح أمامها آفاق التعاون المشترك، وقد عبر هس عن ذلك بقوله: "ستجتمع الطبقات اليهودية جميعها على الأرض المشتركة للقومية اليهودية سواء التقليدية منها أم التقدمية، الغنية أم الفقيرة، وبقوله أيضًا: ".. إن تعميق مفهوم الأرض القومية المشتركة يوفر الركيزة الأساسية لإقامة علاقات أفضل وأكثر تقدمية بين الأغنياء والفقراء من اليهود"[38]، وقد استغل هس المعتقدات الدينية خاصة بين يهود أوروبا الشرقية، لحثهم على الهجرة إلى فلسطين واعتبار ذلك بمثابة فريضة دينية، تمامًا كما فعل كاليشر حين أكد أن لا مَجيءَ للمسيح المنتظَر ما لم يبدأ اليهود مسيرة "العودة" إلى فلسطين "لتحريرها" بأيَّة وسيلة مُمْكِنة والإعداد لمجيء المسيح[39]، وتساءل هس: لم لا يكون لليهود الحق في "تحرير وطنهم" كباقي الشعوب الأوروبية؟! وساق تجربة الشعب الإيطالي مثالاً على ذلك، ودعا إلى اتخاذ هذه التجربة التحررية الوحدوية نموذجًا لليهود كي يحتذوا بها[40]. أمَّا بالنسبة للعنصرية فإنَّ هس اعتبر العالم مكونًا من عناصر وأعراق بشرية، كل عنصر أو عرق يتميز عن الآخر بخصائص عقلية وفسيولوجية لا تتغير بتغير الظروف البيئية والتاريخية، وهذه الأعراق مرتبة ترتيبًا تصاعديًّا حسب أفضليتها، وذلك في ضوء محافظة كل عرق منها على نقاوته وذكائه وتفوقه، وقد أشار هس إلى ذلك بقوله: "يعتبر العرق اليهودي من أوائل الأعراق البشرية، وقد حافظ على نقاوته عبر العصور رغم المتغيرات البيئية والتاريخية التي مرت عليه.."[41]، ولعلَّ هس باستعماله هذه النظرية كان ينشد غرس ثقة اليهود بأنفسهم عن طرق إقناعهم "بنقاوة عنصرهم" "وتفوقهم على العناصر البشرية الأخرى". وانتقل هس بعد ذلك ليتحدث عن الرسالة الحضارية "للشعب اليهودي" لتمدين وتثقيف شعوب آسيا وأفريقيا "المتخلفة"، واعتبر هذا "الشعب" بمثابة "شمس الشعوب"، الذي أنيطت به مهمة إنقاذ العالم وإرشاده إلى طريق "الخير والسلام". كما أنَّ "المدينة الخالدة.. القدس" ستصبح مركز الإشعاع الحضاري بالنسبة للعالم، حيث ستدور في فَلَكها جميع المدن الأخرى في مشارق الأرض ومغاربها[42]، ولا شكَّ أن هذا المفهوم يحمل في طياته منطقًا استعماريًّا طالما استعملته الدول الأوروبية الكبرى في تبرير حركاتها الاستعمارية وتسلطها على الشعوب الأخرى خارج القارة الأوروبية، وقد تبنَّت "الدولة الصهيونية" فيما بعد هذا المفهوم لتبرير توسُّعها المستمر على حساب الدول العربية المجاورة. وانطلاقًا من هذه المفاهيم، أخذ هس يهاجم المحاولات التي قام بها الإصلاحيون والمسكيليم: "أتابع موزس مندلسون[43] من "اليهود العصريين" للاندماج في المجتمعات الأوروبية، وأَتَّهمهم بالتخلي عن القيم اليهودية والالتحاق بخدمة الدول الأوروبية بواسطة "إبراز شهادة التنصّر كدبلوم لهم"[44]، ورفض هس الحجج التي استعملتها هذه الفئات بأنها تستطيع عن طريق الاندماج أن تقدّم خدمات جليلة لليهودية، وذلك "بتعليم المسيحيين غير المتسامحين مبدأ التسامح الديني وإعادة الاتصال بين الحياة والأخلاقيات بعد أن افتقد العالم المسيحي مثل هذا الاتصال"[45]، وأشار إلى أنَّ تحقيق هذا الهدف لا يمكن أن يتم إلا عن طريق بناء "الأمة اليهودية" ضمن إطار دولتها، وعندها يسهل التبشير بالمفاهيم الأخلاقية وتطبيقها في العالم المسيحي وغيره. أمَّا بالنِّسْبة لتأسيس "الدولة اليهودية" فقد نادى هس بتحقيق ذلك من خلال تحالف صهيوني فرنسي، ولعل اختياره لفرنسا يعود إلى نفوذها القوى آنذاك في منطقة المشرق العربي، فقد حصلت في عام 1854 على امتياز شق قناة السويس في مصر بالإضافة إلى نفوذها المتزايد في بلاد الشام من خلال طائفة المارونية التي تتدخلت القوات الفرنسية لحمايتها خلال فتنة عام 1860 في المنطقة؛ ولذلك فقد كانت فرنسا أكثر دولة أوروبية مهيَّأة للمساهمة بشكل فعال في توطين اليهود في فلسطين لاسيَّما أنها كانت تسعى للسيطرة على القسم الأكبر من تجارَة الشرق والمواقع الإستراتيجيَّة الواقعة على طريقها[46]، وقد تَحدَّث هس عن ذلك بقوله: ".. بعد أن ينتهي العمل في شقّ قناة السويس فإن مقتضيات التجارة العالمية تتطلب إقامة المستودعات والمستوطنات على طول الطريق التجاري الممتد عبر المشرق العربي شرقًا باتجاه الهند والصين، بحيث تتمكن هذه المستوطنات من القضاء على حالة الفوضى وعدم الاستقرار في البلاد الواقعة على هذا الطريق، وتَحويلها إلى دول متحضرة تؤمن بشرعية القانون، ولم يتم ذلك إلا في ظل حماية عسكرية من جانب الدول الأوروبية، وبالذات فرنسا التي كانت دبلوماسيتها الحكيمة تخطط على الدوام لضم الشرق إلى الأقاليم الحضارية.."[47]، وانتقل هس بعد ذلك ليعبر عن مدى الفائدة التي تعود على فرنسا من وراء إنشاء دولة يهودية في فلسطين، ومما قاله في هذا الصدد".. من مصلحة فرنسا أن يستوطن الطريق التجاري المؤدي إلى الهند والصين شعب موال تمامًا لمصالحها الاقتصادية والحضارية؛ حتى يتسنى لها تحقيق الرسالة الإنسانية التي أرست معالمها الثورة الفرنسية الكبرى"، ويتساءل هس فيما إذا كان هنالك شعب تتوفر فيه هذه الخصائص "أكثر من شعب إسرائيل لتنفيذ تلك الرسالة المشابهة للرسالة الحضارية التي تحملها هذا الشعب نفسه منذ فجر التاريخ؟"[48]. ويبدو أنَّ السياسة الفرنسية في ذلك الوقت كانت تسعى إلى إحكام سيطرتها على المشرق العربي من خلال محاور ثلاثة: المحور الأول كانت تمثله القوة المارونية في لبنان والمحور الثاني كانت تمثِّلُه المُحاولات الفرنسية التي قام بها فرديناند دليسبس لإقناع حكام مصر بمنح فرنسا حق توطين المناطق المحيطة بقناة السويس بمستوطنين أوروبيين يوفرون الحماية اللازمة لهذا المرفق الحيوي، أما المحور الثالث فكان المفروض أن تمثله القوة الاستيطانية اليهودية في فلسطين، غير أن سياسة المحاور الفرنسية هذه لم تنجح نظرًا لانحسار النفوذ الفرنسي عن المنطقة في أعقاب هزيمة فرنسا المنكرة على يد القائد الألماني بسمارك في موقعة سيذان عام 1870. كان هس معجبًا "بالدور الفرنسي الحضاري" خلال فتنة الستين واستعرض – بإطراء – ما كانت تقوم به فرنسا في المشرق العربي "للنهوض بالمستوى الثقافي والاقتصادي" لسكان هذه المنطقة، وبيَّن أهمية مشروع شق قناة السويس وبناء خط سكة حديد بين أوروبا وآسيا عبر المشرق العربي ومنتهيًا بالهند والصين، وركَّز على الدور الحيوي الذي يمكن أن يلعبه المستوطنون اليهود في تقديم المساعدة والعون لفرنسا لإنجاز هذه المشاريع الضخمة وتوفير الحماية اللازمة لها، وقد وجه نداء إلى اليهود دعاهم فيه إلى الانضواء تحت الراية الفرنسية، وكان مما ورد في ذلك النداء: ".. إن بلاد أجدادنا الضائعة سيعاد اكتشافها على الطريق المؤدي إلى الهند والصين والتي يجري بناؤها وإعدادها في هذه المرحلة، فهل ما زلتم تشكون في أن فرنسا ستهب لمساعدة اليهود على تأسيس مستعمرات قد تمتد من السويس إلى القدس ومن ضفاف الأردن إلى شاطئ البحر المتوسط؟ إن كان لا يزال عندكم شك في هذا فعليكم قراءة كتاب (المسألة الشرقية الجديدة) الذي ألفه إيرنست لاهران"[49]. أشار هس في أكثر من موضع في كتابه إلى قيمة المكاسب الاستثمارية التي كان بمقدور البرجوازية اليهودية الحصول عليها من خلال تبنيها لعملية الاستيطان اليهودي متحالفة في ذلك مع الإمبريالية الفرنسية التي كانت تسعى للسيطرة على تجارة الشرق واقتصادياته، كان مما قاله حول هذا الموضوع: "من أجل تحقيق الاستيطان اليهودي في فلسطين على الطريق التجاري المؤدي إلى شرق آسيا فإن هنالك ضرورة لاستغلال رأس المال اليهودي تحت مظلة الدول الأوروبية (والفرنسية بشكل خاص)؛ وذلك كي يتسنى لشجرة الحياة الجديدة أن تنمو في المنطقة ليتم الاستمتاع بثمارها اليانعة، وكي يتسنى أيضًا إنقاذ الأراضي الواسعة من خطر زحف الرمال الصحراوية عليها.. ومتى تحقق ذلك فإن العالم المتمدن سينحني إجلالاً وتقديرًا لأصالة شعبنا العظيم..." [50]. وقد دعا هس إلى إنشاء "جمعية استيطان يهودية" على غرار الجمعيَّة التي سبق أن دعا إليها كاليشر، وحدد مهمتها بجمع الأموال الكافية لشراء المناطق اللازمة لبناء المستوطنات عليها وتنظيم عملية جلب المستوطنين اليهود من كافة أنحاء المعمورة وبشكل خاص من أوروبا الشرقية، وطالب هس بأن يتولَّى الإشراف على هذه الجمعية نخبة من أثرياء اليهود أمثال مونتفيوري وروتشيلد وفود وغيرهم، على أن يكون ما تشتريه الجمعية من أرض ملكًا "للشعب اليهودي" بأجمعه (لا يجوز نقل مِلْكيَّتها للأفراد)، أما بالنسبة لاستغلال الأرض فيتم عن طريق تكوين جمعيات تعاونية تدعمها الدولة وتوفر لها كل ما تحتاج من عون ومساعدة[51]. وهكذا يتَّضِحُ من خلال هذا العرض لأهمّ آراء كل من القلعي وكاليشر وهس أن المصدر الحقيقي للفكرة الصهيونية كانت الرأسمالية الأوروبية، لاسيما في بريطانيا وفرنسا، وأن البرجوازية اليهودية قد تبنت – في مرحلة لاحقة – هذه الفكرة، بعد أن أدركت قيمة المكاسب التي يمكن أن تجنيها من وراء تنفيذها، الأمر الذي شرع يتحقق من خلال التحاف بين الإمبريالية الغربية والبرجوازية اليهودية وذلك حين أخذ دعاة الفكرة الصهيونية من بين كوادر المفكرين، ينشرون الفكرة ويدعون لها، ويعرضون المشاريع المختلفة لها وبخاصة بين الفئات اليهودية الفقيرة، وإن ظلت حركاتهم مقيدة – دائمًا – بالأطر العامة التي حددتها لهم القوتان المتحالفتان: الإمبريالية الغربية، والبرجوازية اليهودية.
[1] شهدت هذه المنطقة في أواسط القرن الماضي صراعًا استعماريًّا حادًّا بين فرنسا وإنجلترا، وكانت منطقة الشرق العربي مجال تنافس شديد بين هاتين القوتين، وقد نجحت فرنسا في الحصول على امتيازات كثيرة في مصر كان أهمها امتياز شق قناة السويس، بالإضافة إلى تقوية نفوذها في جبل لبنان عن طريق صلتها الوثيقة مع الأقلية المارونية، وبالطبع فإن إنشاء وطن يهودي عميل لفرنسا في فلسطين يحقق مكاسب كبيرة للنفوذ الفرنسي في المنطقة.[2] يهودي إنجليزي ولد عام 1784 في ليفورن Levourne ، وكان زعيم الأقلية اليهودية في إنجلترا وأصبح عمدة مدينة لندن، وكان أول يهودي يحصل على لقب "سير" sir ، نجح في إقامة صداقة شخصية متينة مع الملكة فكتوريا، انظر: L.Loewe (ed), diaries of Sir Moses and Lady Montefiore (London: 1952) ، P.165 [3] حدث الشيء نفسه في الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية القرن الماضي ومطلع القرن العشرين، فقد بدت تفد إلى أمريكا في تلك الفترات هجرات يهودية كبيرة قادمة من روسيا وأوروبا الشرقية، مما حدا باليهود الغربيين في أمريكا الذين سبق أن حقَّقوا مكانة اقتصادية واجتماعية متقدمة في العالم الجديد أن يضغطوا على الحكومة الأمريكية لتضييق أبواب الهجرة لأمثال هؤلاء اليهود والعمل على دفعهم للهجرة صوب فلسطين، لقد شعر اليهود الغربيون أن هؤلاء الوافدين الجدد سيشكلون عبئًا ثقيلاً عليهم نظرًا لجهلهم التام باللغة الإنجليزية وأصول الثقافة الغربية، ونظرًا لخشونتهم وفقرهم المدقع مما قد يحيي من جديد نزعة (اللاسامية) ضد اليهود بصفة عامة في أمريكا.[4] أبو عسل ص 146، وانظر أيضًا Ben Halpem, the Ideal of the Jewish state (Cambridge, Mass: 1961 pp ، 114 – 115. [5] Ben Halpem ، Pp ، 108 - 109.[6] محمد سليمان، قانون التنظيمات العثماني وتملك اليهود في أرض فلسطين، صامد الاقتصادي 0بيروت: نوفمبر 1981)، العدد 33 ص 82.[7] عبد الوهاب المسيري، "موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية" (القاهرة: 1975)، ص 858.[8] جريس، ص 67 – 68، أشرف على تأسيسها كارل نيطر Karl Netter أحد مؤسِّسي الاتحاد وقد ساهمت المدرسة فيما بعد في دعم الاستيطان الصهيوني في مناطق أخرى من فلسطين، انظر: ESCO Foundation, p ، 9. [9] بالرغم من أنَّ نشأة القلعي كانت في منطقة البلقان إلا أنَّ منطلقات فكره واهتماماته كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالواقع اليهودي في أوروبا الغربية، وقدِ استغلَّ أوضاع يهود روسيا وأوروبا ليتخذ منها وسيلة لخدمة مصالح البرجوازية اليهودية في أوروبا الغربية، كما سيتضح من مناقشة الأفكار والآراء التي طرحها، وينطبق هذا أيضًا على كاليشر الذي نشأ في الجزء البروسي من بولندا.[10] وتكتب أحيانًا "قبالة kabbalah انظر: المسيري "موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية"، ص 29 ويقصد بالكابالاه علم التأويلات الباطنية والصوفية عند اليهود ومعناها الأصلي في اللغة العبرية "التراث"، وكان يقصد بها في الأصل التراث اليهودي الشَّفوي، وقد أصبحت الكابالاه في القرن السادس عشر تمثل التفكير الأسطوري في اليهودية، البعيد عن العقلانية، وحلت محل الكتب اليهودية الدينية المعروفة، وارتبطت الكابالاه بعدد من العلوم السحرية مثل التنجيم والفراسة وقراءة الكف وصنع الاحجبة وتحضير الأرواح، ويؤمن دعاة هذه العقيدة بأن كل حرف ونقطة وإشارة وردت في التلمود ترمز إلى معنى خفي باطني، وقد انتشرت الكابالاه بين يهود أوروبا الشرقية، وكانت تبلغ ذروتها بينهم أيام البؤس والكوارث لتمنحهم "قوة داخلية" تحميهم من الاندماج في مجتمعات الجويم، انظر المصدر السابق ص 290 – 291.[11] وكان من أهم هذه الثورات ثورة اليونان عام 1821 التي كانت تطالب باستقلالها عن الدولة العثمانية، وقد أثارت هذه الثورة اضطرابات متلاحقة للعثمانيين في منطقة البلقان مما اضطر السلطان إلى الاستنجاد بمحمد علي والي مصر في ذلك الوقت: (انظر: William Yale, The Near East (Ann Arbor: 1958) ، Pp ، 127 – 131. [12] يعتبر القلعي أول مفكر يهودي في القرن التاسع شعر ينادي بإنشاء دولة يهودية في فلسطين.[13] تسفي زهافي، "من هيحاتام سوفير حتى هرتزل" (القدس: 1967) ص 150 نقلاً عن جريس ص 72.[14] Arthur Hertzberg, The Zionist Idea (New York: 1970), p.105 ، انظر أيضًا الترجمة العربية ص 10 – 11، وقد لجأ القلعي هنا إلى المنطق الاستعماري التقليدي، حيث أشار إلى أن هؤلاء المستوطنين اليهود سيستقرون في الأرض الخرِبة ويُحَولوها إلى أرض مزدهرة ينشرون المفاهيم الحضارية الحديثة بين سكانِها "المتخلفين"، وقد استعمل نفس هذا المنطق دعاة الاستيطان اليهودي من الصهاينة الإنجليز أمثال اللورد شافتسبوري وهنري تشرشل وغيرهم، ولمزيد من التفاصيل انظر العظم المرجع السابق.[15] لعلَّ السر في حرص القلعي على توفير الحماية لليهود هو المتاعب التي واجهها يهود دمشق عام 1840 ويورد عبدالكريم غرايبة تفاصيل تلك المتاعب على النحو التالي:".. اتهم اليهود في دمشق بقتل الأب ثوما الكبوشي، وكان الأب قد اختفى في شباط 1840 فاهتمَّ القنصل الفرنسي بالأمر وأقنع السلطات المحليَّة بتفتيش الحي اليهودي والتحقيق مع بعض اليهود لاسيما الحلاق سليمان اليهودي، ووقَّع سليمان على اعتراف بأنه ذبح الأب توما بأمر الحاخاميين، ووجدت بعد ذلك عظام بشرية ولحم بشري في ساقية في حارة اليهود فقويت الأدلة ضد اليهود، وأخيرًا أعلن الحاخام موسى العافية إسلامه واعترف بذبح الأب توما ليصنع من دمه فطيرًا أرسل قسمًا منه إلى بغداد، واعتقل عدد من اليهود، وتضامن اليهود في دمشق وأنحاء العالم لإثبات براءة المتهمين، وأخيرًا قدموا مبلغًا من المال إلى محمد علي باشا كدليل على براءتهم، فأطلق الحاكم المصري شريف باشا سراح المتهمين وأغلق التحقيق وحفظت القضية، ووقف قنصلا بريطانيا وروسيا إلى جانب اليهود خلال هذه الأزمة"، وقد ساهم القلعي في كتابة المقالات دفاعًا عن اليهود خلال هذه الأزمة، انظر غرايبة، ص 124.[16] يلاحظ أن القعلى في دعوته لإنشاء مجلس حكماء اليهود كان متأثرًا على ما يبدو بالسنهدرين اليهودي.[17] يلاحظ أن هذه الأفكار في مجملها كانت قريبة من الأفكار التي تبناها فيما بعد تيودور هرتزل، ويقال: إن جد هرتزل سيمون لوب كان من تلامذة القلعي والمعجبين بآرائه.[18] Hertzberg ، P ، 107 والترجمة العربية ص 15.[19] الحركة اليهودية الإصلاحية ثمرة من ثمار حركة الاستنارة اليهودية التي قادها موزس مندلسون، وقد دعت هذه الحركة منذ تأسيسها إلى القيام بتعديلات أساسية في العقيدة اليهودية وفي مقدمتها التخلي عن جميع الطقوس المرتبطة بالدولة والهيكل والتي لم يعد لاستمرارها – على حد تعبير أعضاء الحركة – أيُّ مبرر، ونادى الإصلاحيون بإعادة تفسير اليهودية على أساس عقلاني وبمنظار علمي يتم من خلاله التركيز على الجانب الأخلاقي للتلمود، وإهمال قسم كبير من المحرمات التي نصت عليها الشريعة الموسوية كالقوانين الخاصة بالطعام وغيرها، كما دعا الإصلاحيون إلى التخلي عن فكرة "الشعب المختار" مؤكدين أن النفي والتشتت اليهوديين يجب أن يكونا حافزين لنشر اليهود للمثل الأخلاقية بين الأمم وبالتالي للتقرب من الآخرين وليس الانعزال عنهم، كما نبذ الإصلاحيون فكرة "العودة" إلى فلسطين وإنشاء "دولة يهودية" فيها، وقد أدى ذلك إلى قيام عداء بني الإصلاحيين والصهاينة غير أن هذه العدائية لم تستمر طويلاً، فبعد قيام "الدولة اليهودية" بدأ الإصلاحيون يتقربون من الصهاينة ويعملون على تغيير مبادئهم المعادية لهم بالتدريج، وفي عام 1968 عقد الإصلاحيون مؤتمرهم الخامس عشر في مدينة القدس حيث اعترفوا بدولة "إسرائيل" وبحدودها الجديدة التي توسعت إليها في أعقاب حرب عام 1967، ولمزيد من التفاصيل انظر: المسيري المصدر السابق، ص 452 – 454 وانظر أيضًا: David philipson The Reform Movement in Judaism (N.Y: 1907). [20] Hetrzberg ، P ، 111 ، الترجمة العربية ص 114.[21] المصدر السابق ص 109.[22] المصدر السابق ص 111.[23] المصدر السابق ص112.[24] انظر جريس ص 75، خشي هؤلاء المتدينون أن تكون دعوى كاليشر حركة مسيائية زائفة أخرى كباقي الحركات التي ظهرت خلال القرنين السابقين؛ ولذلك فقد عمل كاليشر على الاستعانة بالعديد من الصفحات المقتبسة من التلمود ومن أقوال من سبقه من مئات حكماء اليهود بغية تأييد وجهة نظره، وفي النهاية أعلن رأيه بصراحة قائلاً: "إن العقل والشريعة يلزمان كل يهودي بالعمل بمنتهى الشجاعة والقوة والتصميم من أجل الاستيطان اليهودي في أرض إسرائيل، انظر: 112 Hertzberg ..[25] المصدر السابق ص 114ن الترجمة العربية ص 17.[26] المصدر السابق ص 109، الترجمة العربية ص 12.[27] المصدر السابق ص 114، الترجمة العربية ص 17.[28] المصدر السابق، ص 113، الترجمة العربية ص 16.[29] ولد هس في أسرة ثرية، كان والده يهوديًّا أرثوذكسيًّا يعمل في التجارة، أما جده لأمه فقد كان حاخامًا جاء أصلاً من بولندا وكان له تأثير كبير عليه في بدء حياته، تزوج من امرأة مسيحية أميَّة كانت تعمل في الدعارة، ولم يعلن زواجه بها إلا بعد مضي عام كامل على وفاة والده أي عام 1852، وذلك ليضمن حقه في الميراث.[30] فيلسوف هولندي عاش في الفترة ما بين عامي 1632 – 1677، كان أجداده يعيشون في إسبانيا ويعتنقون اليهودية ثم ما لبثوا أن تنصروا، غير أنهم عادوا إلى يهوديتهم إثر مجيئهم إلى هولندا، وقد تأثر سبينوزا بأفكار الفيلسوف اليهودي العقلاني ابن ميمون الذي عاش في القرن الثاني عشر، انتهى المطاف به إلى طرده من حظيرة الدين اليهودي نتيجة ثورته على اليهودية ورفضه فكرة الإله الواحد المرتبط بالشعب اليهودي وأصرَّ على أن الإله الحقيقي هو إله الإنسانية عامة الذي يدعو إلى التضامن والتآلف بين البشر، وللمزيد من الاستيضاح: انظر: إسحق دوبتشر، "دراسات في المسألة اليهودية"، ترجمة: مصطفى الحسيني، بيورت: 1971، ص 17 – 34.[31] Laqueur ، P ، 48.[32] عارض هس فكرة حتمية الصراع الطبقي حيث إنه اعتر العالم مكونًا من عناصر وأعراق بشرية وليس بالضرورة من طبقات، وإذا كان لابد من صارع فالصراع يتم عادة بين العناصر، والعنصر المتفوق هو الذي يكسب الجولة، وبالطبع فإن هس اعتبر العنصر اليهودي في مقدمة العناصر البشرية تفوقًا وذكاء وأنه العنصر الوحيد الذي تقع عليه مسؤولية إنقاذ العالم من البؤس والكوارث، إنه بلا شك منطق أبعد ما يكون عن المنطق الاشتراكي وأقرب ما يكون إلى المنطق القويم الشوفيني المتعصب.[33] Hess ، P.3[34] Hess ، Pp ، 52 – 53.[35] المصدر نفسه، ص 102.[36] المصدر نفسه، ص 142.[37] العظم، ص 96.[38] Hess ، P.145.[39] Isidor Epstein, Judaism (London: 1975) p ، 306.[40] من الواضح أن هس كان متأثرا بالتجربة الإيطالية إلى الحد الذي جعله يختار عنوان كتابه "روما والقدس" من وحي هذه التجربة، ويبدو أنه كان معجبًا بشخصية مازيني الذي كان يحث اليهود باستمرار على إنشاء "وطن قومي" لهم، ومما قاله مازيني في هذا المجال: ".. بدون وطن تبقون بلا اسم، بلا علامة مميزة، بلا صوت ولا حقوق.. أيها الإسرائيليون.. لا تخدعوا أنفسكم بأمل التحرر من ظروف اجتماعية مجحفة ما لم تنشؤوا أولاً وطنًا لأنفسكم؛ لأنه حيث لا يوجد وطن لا يوجد إجماع على رأي يمكنكم اللجوء إليه..." نقلاً عن صادق العظم "دراسات يسارية حول القضية الفلسطينية" (بيروت: 1970) ص 92 – 93.[41] Hess, pp ، 228 – 229.[42] كان هس على ما يبدو متأثرًا "بنظرية روما الثالثة" التي كانت سائدة في روسيا القيصرية خلال القرنين السابقين لعصره، وكان مضمون هذه النظرية يدعو إلى أن تكون موسكو خليفة روما الأولى الحقيقية وروما الثانية (القسطنطينية)، ففي أعقاب سقوط هاتين المدينتين أصبحت موسكو المؤهلة الوحيدة لاتخاذ اسم روما الثالثة، وبالتالي فلها الحق أن تصبح مركز العالم وبؤرة الحضارات، وعليها مسؤولية بسط نفوذها وسيطرتها على مدن العالم، وقد شكلت هذه النظرية أحد العوامل الأساسية التي من بينها الوصول إلى المياه الدافئة وتحرير الشعوب السلافية وضَمِّها.[43] المسكيليم كلمة عبرية تعني دعاة حركة الاستنارة اليهودية ومفردها مسكيل، ومعظم دعاة هذه الحركة من تلاميذ موزس مندلسون (1729 – 1786)، ويعتبر مندلسون من دعاة الاندماج اليهودي في الحضارة الغربية، وقد قام بترجمة العهد القديم إلى الألمانية بالإضافة إلى قيامه بترجمة المؤلفات الألمانية إلى العبرية، وذلك كله بهدف بناء جسور ثقافية بين اليهود والألمان للتهيئة لعملية الاندماج بينهما، وقد طالب القضاء على الجيتو العقلي الذي فرضه اليهود حول أنفسهم مما أدى إلى عزلهم عن المجتمعات الإنسانية الأخرى.[44] Laqueur ، P ، 50.[45] Hess, p ، 145[46] انظر Leonard Stein The Balfour Declaration (London: 1961) p ، 11 [47] Hess, pp, 228 – 229.[48] Ibid ، pp ، 148 – 149.[49] Ibid, p ، 132 ، كان لاهران على صلة وثيقة بالفيلسوف الفرنسي اليهودي الأصل جوزيف سلفادور Joseph Salvador الذي دعا إلى إقامة دولة يهودية على "شواطئ طبرية وكنعان"، وقد كان سلفادور يقول بأن هنالك عنصرين بشريين فقط في الشرق الأدنى بمقدورهما المساهمة في الحضارة الإنسانية، وهما اليونان واليهود.[50] Hess, p, 139.[51] Laqueur, p.51. |
|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: النزعة الاستيطانية في الفكر اليهودي الغربي (خلال القرن التاسع عشر) السبت 21 سبتمبر 2019, 10:17 pm | |
| اليهود ونابليون إن التذكير باتصال اليهود بنابليون ذو أهمية بالغة في السنوات الأخيرة، إذ أننا - منذ فترة - نرى كتابات ممن يُسمون بالمستنيرين تُبعث من جديد، ويروج لها بين المسلمين، وكما هو معلوم أنها تحوي - فيما تحويه - تمجيداً لحملة نابليون على مصر بصفتها - كما يزعمون - السبب الأكبر في انبعاث نهضتنا الحديثة.
فنابليون عند هؤلاء - تصريحاً أو تلميحاً - هو الذي انهض الشرق بعد طول رقاد، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإننا نعيش في زمن أفصح فيه النصارى - ممثلين بكنيسة روما - واليهود في فلسطين المحتلة عن تعاونهم بشكل مكشوف بتوقيع اتفاقية رسمية نشرت أمام أنظار العالم قبل سنوات، وعدَّها وزير الخارجية اليهودي حينها أكبر إنجاز لدولة إسرائيل منذ قيامها، ونحن نعلم أن الولاية بين اليهود والنصارى، والتناصر فيما بينهم، وتعاونهم ضد الأمة المسلمة - سنة ربانية لا تتغير بمرور السنين، ولا تتبدل بتوالي الأيام، وإن كانت تخبو في فترات، وتتجلى كالشمس في فترات أخرى؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51].
فالتعاون بين المغضوب عليهم والضالين - سواء المعلن عنه أو المستتر - لضرب الإسلام وأهله له شواهده السافرة عبر تاريخنا الإسلامي الطويل؛ منها: ما حصل أيام الحملة الفرنسية على مصر.
لقد تعود اليهود - على مدى تاريخهم - على استغلال الأحداث، و عطفها لصالحهم، و ليس كما يقال إنهم - دوماً - هم الذين يصنعون الأحداث، و يخططون لها، فهم - مثلاً - استفادوا من الثورة الفرنسية، ووظفوها لرفع كاهل الاستعباد عنهم الذي طالما أرهقهم عسراً.
فشعار الحرية والمساواة والإخاء الذي رفعه المتظاهرون الفرنسيون خدم اليهود بالذات، فأصبح لهذا الشعار مفهوم خاص عندهم جدوا في تعميمه.
فالحرية استغلوها في كسر التقاليد، ونبذ الأخلاق، والخروج عن المعهود من الحشمة والحياء، أما المساواة والإخاء فنظروا إليها على أنها وسيلة لهم للتسرب إلى أجهزة الدولة ومرافقها المختلفة، ثم التساوي مع غيرهم في العلم بها، ومن ثم تخلصهم من سبة الاحتقار وموجة الازدراء التي كانت تلاحقهم أينما حلُّوا في هذه المعمورة[1].
ولقد كان مفكرو اليهود أيام الثورة الفرنسية وبُعَيْدها يتناقلون الأحاديث فيما بينهم عن مستقبل بني جلدتهم، ويتداولون الآراء والمشروعات حول عودتهم إلى الأرض التي اعتقدوا أن أنبياءهم بشروهم بالعودة إليها، مثال ذلك ما عرضه بهذا الشأن البرنس دي لينيه في سنة 1212هـ - 1797م على إمبراطور النمسا[2].
ثم إنه لما نزل نابليون سواحل مصر في محرم 1213ه- (يوليو 1798) واتجه صوب بلاد الشام لاحتلالها في شهر رمضان من السنة نفسها - فبراير1799[3] - أطل اليهود برؤوسهم وسعوا لاستثمار هذا التحرك الفرنسي لصالحهم.
ففي 17 فبراير 1799 عرض توماس كوربت الضابط في الجيش الفرنسي على عضو حكومة نابليون المسيو بول باراراس Paul Bararas مشروعًا يقترح فيه الاستفادة من اليهود في تحركات نابليون في بلاد الشام، فدعاه - في ذلك المشروع - إلى أن يتصل بكبار اليهود، ويثير في نفوسهم تحقيق تلك الأمنية التي ما برحوا يأملون تحقيقها، ألا وهي اجتماع شتاتهم في فلسطين، ومن ثم يطلب منهم جمع الأموال لابتياع الأراضي هناك من فرنسا، فضلاً عن تجهيز المراكب البحرية، والتدريب العسكري للشباب اليهود للاشتراك في حروب نابليون الشامية، ثم يعود كوربت مرة أخرى في خطابهِ الذي يحمل تفاصيل المشروع إلى باراراس - ليؤكد أهمية الاستعانة باليهود في مخططات نابليون في الشرق، إذ يرى أن مصالح فرنسا تتفق تماماً مع مصالح اليهود في المنطقة، فأموال اليهود - حسب قوله - ستنشط التجارة بين أوربا وآسيا، كما أن اليهود أنفسهم سيوفرون لفرنسا عنصراً بشرياً موالياً يرسخ استعمارها لمصر وبلاد الشام، لأنه ليس من المعقول أن يهاجر الفرنسيون إلى تلك البلاد البعيدة ويُخلون وطنهم الأصلي فرنسا، بل أنه أشار إلى أن اليهود سيقدمون أهم الضمانات لبث الفوضى وإشعال الفتن في إمبراطورية العثمانيين[4].
بادر باراراس بإيصال مشروع كوربت إلى نابليون الذي استصوب الفكرة، واستعان بعلماء يهود مثل فنتور أستاذ اللغات الشرقية بجامعة باريس و المتبحر باللغة العبرية الذي صاغ نداءً إلى اليهود استوحاه من مقترحات كوربت، فأشار فيه إلى أن فرنسا رغم الصعوبات التي تواجهها فهي بحكم رسالتها لدفع الظلم عن الشعوب فإنها مصممة على تقديم مهد إسرائيل لليهود.
ومما جاء في هذا النداء: ".. يا ورثة فلسطين الشرعيين: إن فرنسا تناديكم الآن للعمل على إعادة احتلال وطنكم، واسترجاع ما فُقد منكم... أسرعوا فإن هذه اللحظة لن تعوض قبل آلاف السنين، للمطالبة باسترجاع حقوقكم المدنية بين شعوب العالم"[5].
وقد أُعلن هذا النداء في الجريدة الرسمية الفرنسية يوم 20 أبريل سنة 1799م[6]، وصادف ذلك محاصرة نابليون لمدينة عكا التي كان قد بدأ بحصارها في 16 مارس[7]، وفي هذا إثبات بأن حكومة نابليون آنذاك قد اقتنعت بما عُرض عليها في شأن اليهود، وشرعت - فعلاً - في التعامل معهم على أساس منحهم الأرض التي ما فتئوا يتطلعون إليها لإقامة دولة لهم عليها في فلسطين،خصوصاً وأن ذلك يتضمن تطابقاً في مصالح الطرفين، واتفاقاً في وجهات النظر إزاء المسلمين بتمزيق دولتهم الإمبراطورية العثمانية، وبث بذور الشقاق في أرجائها، بل والعمل على تحطيم الولاء والبراء في وسط المسلمين[8]. وصفوة القول: إن ما تم من خطوات تعاونية بين نابليون واليهود فهو تجسيد لتلك السنة الخالدة في ولاء اليهود والنصارى لبعضهم بعضاً، ومهما قيل عن نابليون بأنه لا يعتقد بدين، أو إنه عدو للأديان بما فيها الدين النصراني، فالسنة الربانية تنطبق عليه، لأنه ليس هو الوحيد حينذاك الذي يدبر شؤون فرنسا، أليس الشعب الفرنسي جله من النصارى؟ ناهيك عن كون الكفار عامة من يهود ونصارى وملحدين من عادتهم الاجتماع على حرب المسلمين: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73]، {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 105]. ــــــــــــــــــــــــــــ [1] انظر: سفر الحوالي: العلمانية، ط، الأولى 1402/1982، ص175. [2] عبدالله التل: الأفعى اليهودية في معاقل الإسلام، ص.الثانية، ص 17. [3] عبدالرحمن الجبرتي، تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار، ط. دار الجيل، 2/180، 251. [4] انظر نص الخطاب في: عبدالله التل. الأفعى اليهودية، ص: 18، 22. [5] المرجع نفسه، ص: 22، 23. [6] عبدالله عزام: حماس، ط. الأولى 1409ه- /1989، ص: 14. [7] إلياس الحويك، تاريخ نابليون الأول، ط. دار ومكتبة الهلال 1/131. [8] التل: الأفعى اليهودية، ص 20، 21، 22 |
|