|
| الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي الأحد 07 يونيو 2020, 1:31 am | |
| |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي الأحد 07 يونيو 2020, 1:31 am | |
| الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية (1) جميل أبو بكر من الفتنة الكبرى إلى "الربيع العربي"
كتاب كأنما جاء تلبية لضرورة حقيقية، فسد فراغًا كبيرًا في الفقه السياسي، او في الفلسفة السياسية الاسلامية، او في كليهما، كما يصنفه صاحبه الدكتور محمد المختار الشنقيطي.
وهو كما يقول المؤلف في مقدمته: ".. فإن هذه الدراسة تعتمد النص الاسلامي معيارًا، والتجربة التاريخية الاسلامية موضوعًا، وخروج المسلمين من أزمتهم السياسية غاية.
والمقصود بالأزمة الدستورية في الحضارة الاسلامية تلك المفارقة بين المبدأ السياسي الإسلامي، والواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون سياسيًّا وما يزالون يعانون تبعاته حتى اليوم.
إن ايجاد حل للأزمة الدستورية في المجتمعات ذات الغالبية المسلمة أصبح اليوم ضرورة إسلامية وإنسانية أكثر من أي وقت مضى؛ فهو ضرورة اسلامية من حيث الحاجة اليه في وقف نزيف الدم الحالي في العالم الاسلامي، وبناء الحد الادنى من التوازن في المجتمعات الاسلامية التي أضناها التمزق، والصراعات الوجودية بين الحكام والمحكومين.
وهو ضرورة إنسانية من حيث حاجة البشرية الى قيم الاسلام لتجديد نضارة الحضارة الانسانية التي نخرتها الفلسفات الذرائعية، والنسبية، والعدمية المعاصرة.
وأي سعي لإخراج الحضارة الاسلامية من أزمتها الدستورية لن يفلح إلا بشرطين: أن يكون مقنعًا للضمير المسلم المتعلق بالقيم السياسية الاسلامية، وبتجربة الاسلام السياسية الاولى. وهذا يستلزم أن لا يكون حلًّا علمانيًّا مُنْبَتًّا عن وجدان الشعوب.
وان يكون منسجما مع منطق الدولة العقارية المعاصرة لا خارجًا عنها او عليها، وهذا يستلزم ايضًا أن لا يكون سلفيًّا مستأسرًا للصورة التاريخية المستمدة من ذكرى الإمبراطوريات الاسلامية الغابرة".
أما الأستاذ راشد الغنوشي فيقول في توطئته للكتاب: ".. تقديرنا أن هذا العمل الضخم يمثل إجابة مؤمنة جريئة واثقة، صادرة عن دارس جاد، قد تسلح بأدوات العلم ذات الصلة بموضوع بحثه الخطير الكبير.
وباقتدار، وُفِّق الشنقيطي في طرح الاسئلة الكبرى عن طبيعة الحكم الاسلامي، وعن القيم السياسية الاسلامية الاساسية، وعلاقتها بأنماط الحكم التي عرفها التاريخ السياسي عند المسلمين وغيرهم قديمًا، وفي العصر الحديث.
إن هذا الجهد الناهل من منابع المعرفة -في كل الحقول التي ارتادها المؤلف- لا يستغني عنه عالم او متعلم، وخصوصًا دعاة الاسلام؛ فهم في أشد الحاجة لمثل هذا التثقيف السياسي المُؤصَّل، الكفيل بنقل معركة الأمة الى ساحتها الرئيسية: إصلاح السياسة والحكم".
الكتاب يقع في ما يقارب 600 صفحة، تفيض سطورها بالفائدة، والمعرفة المكثفة. وسنحاول تقديم مقتطفات، او خلاصات للتعريف بالكتاب الثمين جدًّا في عشرة أجزاء ستنشر تباعًا.
وللفائدة مع اليقين أن مثل هذا الجهد لا يغني بحال عن مطالعة الكتاب.
الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية (2): إمكان يأبى النسيان
المقصود بالازمة الدستورية للحضارة الاسلامية تلك الهوة الاخلاقية العميقة بين القيم السياسية التي جاء بها الاسلام في مجال بناء السلطة السياسية وادائها، والتجربة الامبراطورية الاسلامية التي ابتعدت كثيرا عن تلك القيم.
كما أن لفظة "دستور" في العنوان لا تعني ما هو شائع في القانون الدستوري والعلوم السياسية المعاصرة؛ باعتباره وثيقة محددة تنظم شؤون الحكم، وتوزع السلطات والصلاحيات، بل المقصود "طريقة بناء المجتمع والدولة" بشكل عام .
فالازمة الدستورية في الحضارة الاسلامية –التي تتناولها هذه الدراسة كما يؤكد المؤلف– هي ظاهرة الخروج المبكر في تاريخ المسلمين عن مقتضيات القيم الدستورية الاسلامية المنصوصة في الكتاب والسنة، وما تركته تلك الظاهرة من فجوة وتوتر دائم بين معايير الحق السياسي في النص الاسلامي كما تشربه الضمير المسلم، وممارسة السلطة في تاريخ المسلمين وواقعهم. ثم ما ترتب على ذلك من إخلال الحكام بمسؤولياتهم تجاه الامة، وما أدى ذلك الى صراع استنزف الحضارة الاسلامية.
تشير العلوم السياسية المعاصرة الى ان ازمة الشرعية السياسية في اصلها ذات طبيعة بنائية، وقد تكون ذات طبيعة أدائية احيانا؛ فـ"البنائية" تتعلق بانعدام التراضي السلمي، وعجز القوى الاجتماعية عن التواضع على صيغ عملية سلمية لتداول السلطة ابتداءً. و"الأدائية" تتعلق بعجز السلطة القائمة او خيانتها أمانة الحكم بعد ان تتقلده.
فالاولى سببها نقص الاجماع على القيم السياسية التأسيسية، والثانية سببها الغدر بتلك القيم المعترف بها ميثاقا اخلاقيا وقانونيا بين الحاكم والمحكوم.
ويرى مالك بن نبي أن سبب انحطاط الحضارة الاسلامية يرجع الى ازمتها الدستورية المزمنة التي بدأت بانهيار الشرعية السياسية في الفتنة الكبرى منتصف القرن الاول الهجري. يعني ان الانحطاط الذي اكتمل بعد ثمانية قرون -حسب تقديره- كان حصاد تراكمات بذرت بذرتها في معركة صفين.
ان مجمل القيم السياسية الاسلامية تنصب في مسار واحد، وتتجه وجهة واحدة هي "التأمر بالأمير"؛ أي: تحكم الامة في حكامها من حيث اختيارهم ابتداء بكل حرية، والمشاركة معهم في صناعة القرار بعد ذلك، ثم محاسبتهم إن قصروا، وعزلهم إن انحرفوا او عجزوا.
و"التأمر" من غير إمرة، عدم التأمر بالامير هو ما يمكن ان يحدث في ظرف استثنائي وبحكم الضرورة المؤقتة، كما حدث في معركة مؤتة بتولية خالد بن الوليد، فيتم التنازل عن الشرعية السياسة؛ حفاظًا على وحدة الامة في ظرف غير طبيعي واستثنائي، ولابد ان تعود الامور بعد ذلك الى المسار الطبيعي وهو: حق الاختيار والمحاسبة والعزل.
لكن تاريخ المسلمين كان بعد الخلافة الراشدة حتى الآن هو التأمر في غير إمرة (كما ورد في الحديث عن غزوة مؤتة)؛ فأصبح الاستثناء هو الدائم، والمطالبة بحق الامة في الاختيار فتنةً! والحكام المستبدون يسعون دائمًا الى تأييد حالة الضرورة؛ تسويغًا لبقائهم في السلطة. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي الثلاثاء 09 يونيو 2020, 9:02 pm | |
| الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية (3): الإمكان السياسي
كان التحول من الخلافة الراشدة الى الملك سريعا في التاريخ الاسلامي، وقد حاول عدد من المفكرين المسلمين وغير المسلمين من امثال ابن خلدون ومحمد إقبال والكواكبي والسنهوري وفوكوياما وهنتنغتون وانتوني بلاك وآخرون تسليط الضوء على تلك الظاهرة، والتنقيب عن أسبابها، فكان إجمال ما توصلوا إليه:
1- طبيعة العرب البدوية ورفضهم للسلطان والأنفة في الخضوع اليه، وتشبثهم بالحرية الى درجة الفوضى. وعلى الرغم من نجاح الوحي والرسول صل الله عليه وسلم من تبديل تلك القيم وإحلال قيم الاسلام مكانها، إلا أنها سرعان ما عادت الى قطاعات واسعة من المسلمين لم تتعرض لتلك الجهود التربوية المكثفة وهدي الوحي، ووجدت بيئة مناسبة للنمو والازدهار عندما انفصلت القيم الخليفية السياسية الراشدة، وتقدمت امامها قيم المُلك السياسية بعد معركة صفين.
2- سرعة الفتوحات الاسلامية، وعجز العرب -وهم طليعة الاسلام الاولى- عن استيعاب القوة البشرية والمساحات الجغرافية الهائلة التي أخضعوها لسلطانهم خلال اندفاعات الفتوح الاسلامية الاولى.
3- غلبة العسكرة على الفكر السياسي وإمكاناته القيمية، وتجاوز الامة للحظة تأسيسها؛ فقد حول الاسلام العرب الى امة، ثم تجاوز بأمة العرب الى آفاق إنسانية أرحب في اللحظة ذاتها، وتلك قفزة لم يشهد لها تاريخ الديانات والحضارات الاخرى مثيلًا، لكنها قفزة كان لها ثمنها الداخلي.
4- هشاشة مؤسسية مزمنة؛ إذ كان حرص الفقه الاسلامي الحفاظ على وحدة الامة والخوف من الفتنة، وتقديم ذلك على الشرعية السياسية المتمثلة بحق الامة بالاختيار والمشاركة بصنع المصير والقرار. وبالتالي عزف الفقهاء عن الخوض في مسائل الخلافة وتطوير المؤسسية؛ خشية على وحدة الامة في ظل استئثار في الحكم وظلم.
5- تأثر المسلمين بالانظمة الامبراطورية من حولهم، وبخاصة الساسانية وقيمها السياسية وأعرافها في الحكم.
وفي ظل الصراع الامبراطوري السائد في المحيط والعالم لم يكن امام المسلمين من بد من المنافسة، ولو لم يدخل الاسلام هذا الصراع الامبراطوري لربما بقي دينا ثانويًّا.
لقد ولدت الحضارة الاسلامية بإمكانات عظيمة من القيم الاسلامية المنصوصة في القرآن والسنة، لكن الإمكان السياسي للحضارة الاسلامية كان اقل إمكاناتها تحققًا، وأولها تعطلًا.
وربما يكون الحديث الشريف الذي تنبأ بانتقاض عرى الاسلام يشير الى ذلك :"لتنقضن عرى الاسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضًا الحكم، وآخرهن الصلاة". والمقصود بعرى الاسلام "حدوده واحكامه واوامره ونواهيه".
لقد ظل النموذج الاول الذي تجسد فيه النص السياسي الاسلامي على الارض خلال دولة النبوة والخلافة الراشدة تاريخا ملهما وذاكرة محفزة للضمير المسلم؛ مما جعل الإمكان السياسي الاسلامي ممتنعًا على النسيان. وليس التاريخ الملهم خصوصية اسلامية؛ فكل الشعوب التي تحمل في ذاكرتها الجمعية ماضيا حرا تكتسب مناعة ضد الاستبداد.
ومن بين الحضارات الانسانية الكبرى امتازت الحضارة الغربية والحضارة الاسلامية بوجود ذاكرة متعلقة بماض سياسي حرهو في الحالة الغربية: ديمقراطية اليونان والرومان، وفي الحالة الاسلامية: حقبة الدولة النبوية والخلافة الراشدة. وظل استدعاء ذلك الماضي ملهمًا في كل من الثقافتين حقبا متطاولة.
وان الناظر المتمعن في ادبيات الثورات الانجليزية والامريكية والفرنسية يجد الاستلهام التاريخي واضحا جليا.
وقد لاحظ ميكافيللي ان ذاكرة الحرية السياسية مانعة من الخنوع للعبودية السياسية. وحيث إن الذاكرة السياسية الاسلامية ليست مجرد تعلق بتاريخ ملهم هو تاريخ الخلافة الراشدة، بل هي ايضا تعلق بنص مقدس ملزم هو نص القران والسنة الذي ظل يضغط على الضمير المسلم عبر القرون، ويذكره بمعاني الشورى والعدل وغيرهما من القيم السياسية الاسلامية المنصوصة، فقد كانت الذاكرة السياسية الاسلامية ذاكرة صلبة، وكان الإمكان السياسي الاسلامي إمكانًا يأبى النسيان.
وعلى عكس ما يذهب اليه بعض الناس من ان تعلق الضمير المسلم بدولة النبوة والخلافة الراشدة تعلق بمثال طوباوي لا يقبل التحقق، فإن تلك التجربة تجربة عملية تجسدت في التاريخ. وحتى لو افترضنا ان ما ذهب اليه هؤلاء صحيح، فإن وجود طوبى الحرية في مجتمع ما مهمًا جدا؛ لأنه يدل على ان المجتمع مستعد لقبول الدعوة الى الحرية.
لقد قامت في القرن الاول الهجري ثورات شعبية لإسقاط منظومة حكم وبناء منظومة اخرى اكثر عدالة، ورغم أن أيًّا من تلك الثورات لم تفلح في الالتزام الكامل بالقيم السياسية الاسلامية، او استعادة روح الدولة النبوية والخلافة الراشدة، فإنها عبَّرت عن رفض الحاسة الاخلاقية الاسلامية للقهر السياسي، وإباء من الامة الاسلامية عن السير في ركاب الحكام الظلمة.
وربما كانت ثورات "الربيع العربي"، والانتفاضة التركية ضد الانقلاب العسكري الاخير تعبر عن تلك الروح التواقة للحرية، وبداية للخروج من الازمة الدستورية في الحضارة الاسلامية.
وحتى تتحق النهضة والخروج من الازمة لابد من شرطين: تخلص الامة وفقهائها من الخوف المضني من الفتنة خشية على الوحدة والتوجه نحو الثورة، وتحويل القيم الى إجراءات ومؤسسات. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي السبت 13 يونيو 2020, 9:29 am | |
| الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية (4): أمهات القيم السياسية إعداد وعرض: جميل أبو بكر
سؤال قديم قديم طرحه أرسطو: “ما الأنفع للدولة؟ أن يحكمها رجل فاضل جدا أم قانون جيد جدا؟”، فرجح القانون الجيد على القائد الفاضل. وكان مصيبا في ذلك؛ فأعمار الدول لا تقاس بأعمار القادة، والحضارة الإنسانية حصاد تراكم الجهود التي تبنيها الأجيال وتتوارثها، والدولة المرتبطة بالشخص لا تراكم فيها، ولا مستقبل لحضارتها.
وأهم ما يضمن تراكم البناء الحضاري:
1- القيم السليمة.
2- القوانين المنصفة.
3- المؤسسات الثابتة.
وبذلك تتعالى الدولة على هوى الحاكم والفرد، وتتجاوز أُفقه الضيق، وحياته العابرة.
لذا لم ينص الإسلام على سلالة حاكمة، ولم يعين النبي صل الله عليه وسلم خليفة من بعده. وجاءت تشريعات الإسلام السياسية مرنة للغاية؛ فقد اتسمت بما يكفي من التعميم والتجريد ليضمن لها الصمود في وجه حركة الزمان، وبما يكفي من التخصيص والتفصيل للإجابة عن القضايا الكبرى التي تطرحها الفلسفة السياسية على المجتمعات البشرية.
فأوضح النص الإسلامي بجلاء التوصيف الأخلاقي والقانوني للمنصب السياسي، وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وغير ذلك من قيم سياسية جوهرية، ثم ترك مساحة المؤسسات والإجراءات لاجتهادات الناس وتقديراتهم ومصالحهم في كل زمان ومكان، ضمن الأسس الأخلاقية والتشريعية الإسلامية.
ويرى المؤلف بعد البحث والتنقيب في النصوص والاجتهادات والتاريخ ان مجموع القيم السياسية الإسلامية يبلغ الثلاثين، ويرجح العدل كقيمة كلية عليا في الإسلام؛ فهو قيمة القيم والجذر الذي ترجع إليه جميع القيم؛ ولذلك جعله القرآن الكريم غاية إرسال الرسل”، وإنزال الكتب.
أما عند ترتيب القيم السياسية البحتة، “فإن الشورى في بناء السلطة” هي أُمُّ القيم السياسية الإسلامية وجذرها.
وقد تم تصنيف القيم السياسية الإسلامية صنفين: قيم البناء السياسي، وقيم الأداء السياسي، وبينهما بعض تداخل أحيانا.
إن أمهات القيم السياسية الإسلامية هنا تجيب إجابة مباشرة عن الأسئلة التي سعى فلاسفة السياسة لإيجاد أجوبة عنها منذ فجر التاريخ، والتي سماها المفكر السياسي الأمريكي غلين تيندر “الأسئلة الأبدية”؛ لحضورها الدائم في التفكير البشري.
ويمكن إجمال تلك “الأسئلة الأبدية” كالآتي:
* هل من حاجة أو ضرورة في الاجتماع البشري لوجود سلطة سياسية ابتداءً؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب: فكيف تتحقق العدالة السياسية التي تضمن الإنصاف لجميع الأطراف؟
* وما طبيعة المنصب العام: أَهو هبة إلهية، أم أمانة مشروطة، أم ملكية شخصية، ومَن له الحق في تقلد السلطة وفي الإكراه الشرعي؟ وما مصدر هذا الحق؟ وما الطريقة الشرعية لتقلد صاحب المنصب العام منصبه؟
* وما مصدر إلزام الناس بطاعة القانون وطاعة السلطة؟ وهل لهذه الطاعة من حدود؟ واذا كانت لها حدود فما هي؟
* ومتى تتعين طاعة السلطة، ومتى يتعين عصيانها؟
وقد انتبه الكواكبي للمعاناة في الإجابة عن تلك الأسئلة، فقال: “.. وتقرير شكل الحكومة هو أعظم وأقدم مشكلة في البشر!”.
وقد اعتمد المؤلف في الإجابة عن هذه الأسئلة من منظور إسلامي على ثلاثة مصادر؛ هي: نص القرآن الكريم، وسنة النبي صل الله عليه وسلم القولية والعملية، وما أجمع عليه الخلفاء الراشدون وأقرهم عليه جمهور الصحابة.
ورغم ان مرجعية الوحي القرآني والنبوي هي المرجعية الوحيدة الملزمة في الإسلام، فإن سيرة الخلفاء الراشدين لها مكانة خاصة لدى السواد الأعظم من المسلمين منذ فجر الإسلام.
إن كل نظرية في الفلسفة السياسية تستبطن فهمًا ضمنيًّا للطبيعة الإنسانية؛ ذلك ان “الفكر السياسي تخطيط لإدارة شؤون الإنسان ولرعاية مصالحه، مما يتضمن ادعاءً تلقائيًّا بمعرفة خصائص هذا الإنسان الذي يخطط له”.
كما انبثقت نظرية العَقْد الاجتماعي المعاصرة من افتراضات فلسفية عن الطبيعة البشرية، وافتراضات تاريخية عن اصل الاجتماع الإنساني في فجر التاريخ. فهناك نظريات تأسست على ان الإنسان “ذو طبيعة شريرة” كما هي عند توماس هوبز، وأخرى تأسست على ان الإنسان “ذو طبيعة خَيِّرة” كما هي عند جان جاك روسو.
وللإسلام نظريته السياسية وفلسفته في النظر للطبيعة البشرية. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي الإثنين 15 يونيو 2020, 9:48 pm | |
| الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية: أمهات القيم السياسية (5) عرض وإعداد: جميل أبوبكر
وفي المفهوم الإسلامي تشتمل النفس البشرية على نوازع الخير والشر معًا, وكلاهما جزء أصيلٌ من تكوينها “وهديناه النجدين”. فهي كائن مركب لا يصلح اختزاله في بعد واحد, وإذا كان ثمة صراع بين العدل والظلم, بين الإسلام والاستكبار, فهو صراع يوجد في النفس الإنسانية الواحدة. كما نجد في الإسلام ربطا وثيقا بين وظيفتي الإنسان الدنيوية والأخروية, وهما عبادة الله والقيام بالقسط “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”, هذا تعليل الحكمة من الخلق, كما ورد القيام بالقسط تعليلا لإرسال الرسل وإنزال الكتب: “لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط”,
ووردت الغايتان متلازمتين أحيانا “قل امر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد”. فالقيم السياسية الإسلامية تتأسس على أن الخالق هو الذي حدد للإنسان الأول مكانته ووظيفته على الأرض, وزوده بالهداية لشؤون حياته الفردية والجماعية. وفلسفيا فان الأصل الإسلامي يتلخص في مبدأي التكريم والاستخلاف.
فمبدأ التكريم يقضي بان الإنسان يحتل اعلى السلم بين المخلوقات شرفا ونبلا, بحكم صلة العبودية الاختيارية التي تربطه بالخالق “ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا”. كما يقتضي مبدأ التكريم ان ما سوى الإنسان من مخلوقات أرضية خادمة له ومُسخّرة “وسخر لكم ما في السماوات والأرض جميعا منه”.
وأما مبدأ الاستخلاف فيضع الإنسان موضع النائب عن الخالق سبحانه في تدبير الشأن الأرضي, بما يرعى صلاح الإنسان نفسه والخليقة المحيطة به. وللاستخلاف مدلول سياسي وهو ان الإنسان سياسي بفطرته, وهذا امر ادركه ابن خلدون فلاحظ ان “الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”. فالأصل في الإنسان انه قائد لا مقود, وسيد لا مسود ,مما يعني ان إنسانية الإنسان تتنافى مع أي قهر ديني أو سياسي. وهذا يعني ان الحقوق التي ينبغي ان يتمتع بها الإنسان, كحق الحياة وحق الحرية, وحق التملك, وحفظ الكرامة, والتي تعتبر في الغرب حقوقا إنسانية طبيعية , هي في الإسلام حقوق إنسانية ذات مصدر الهي مقدس.
ومن الأسس الفلسفية والنظرية للقيم الإسلامية ما يترتب على مفهوم التوحيد الإسلامي من نبذ الوثنية السياسية, المتمثلة في عبادة المحكومين للحكام, وإضفاء قدسية عليهم, أو طاعتهم طاعة عمياء. وقد شن الإسلام حربا شاملة على الوثنية السياسية حتى في لغتها ومصطلحاتها, فقال النبي صل الله عليه وسلم”لا قيل ولا ملك إلا الله عز وجل”. كما استبشع صلى عليه وسلم لقب “ملك الملوك”. ويقول الكواكبي” فالتوحيد الإسلامي مناقض لأي وثنية سياسية, لأنه لا يدع مجالا لمشاركة الخالق في عظمته, والمستبدون ينازعونه فيها”.
ولم يتوقف الإسلام عند هدم الوثنية السياسية في النفوس ,بل قلب نظام الحكم القهري الهرمي الذي كان سائدا في الامبراطوريات العتيقة راسا على عقب, وسن نظاما للحكم في شكل هرم مقلوب, يجعل الأمة هي الأصل والمرجع, ويجعل الحاكم أجيرا لديها وخادما لها.
ولعل الحكمة من تكرار قصة موسى عليه السلام في القران اكثر من أي قصة أخرى هو أنها تجسد الصراع مع الهرمية الفرعونية التي كانت تحكم مصر, وهو صراع انتهى بهدم تلك الهرمية. التي تمثل تاله الحاكم واستعباد الرعية ,والانفلات من أي قانون حقيقي, وتوزيع الناس إلى طبقات أو شرائح تستخدم في تحقيق العبودية للحاكم وتأكيد سطوته وتفرده.
ومن خصائص الفلسفة السياسية الإسلامية المؤسسة للقيم السياسية الإسلامية, الجمع بين العدل والفضل. ويقول ابن تيمية “الشرائع ثلاثة: شريعة عدل فقط , وشريعة فضل فقط , وشريعة تجمع العدل والفضل, فتوجب العدل وتندب الفضل, وهذه اكمل الشرائع الثلاثة, وهي شريعة القران”. ولعل ابن تيمية هنا يستلهم الآية القرآنية “ان الله يأمر بالعدل والإحسان”. وقد ترتب على هذا الجمع بين العدل والإحسان في الإسلام ضرورة الجمع بين الحق والقوة, بين الدين والدولة.
لقد تميز الإسلام بين الرسالات السماوية في مسألتين: أولهما منحه مساحة واسعة من تعاليمه وتشريعه ونموذجه الإنساني لمسالة السلطة بما لا يقارن بالمساحة السياسية في الرسالات السابقة, والثانية نقله المسؤولية السياسية إلى يد الجماعة المؤمنة باعتبار ختم النبوة مانعا من انتظار أي نبي جديد يقود الأمة على طريق الحق والعدل ,كما انتقلت العصمة إلى الأمة بعد ان كانت للنبي, فالأمة لا تجمع على ضلالة. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي الإثنين 15 يونيو 2020, 9:50 pm | |
| الأزمة الدستورية بالحضارة الإسلامية (6): وجوب السلطة السياسية إعداد وعرض: جميل أبو بكرإ 1- وجوب السلطة السياسية
إن أَوْلى القيم السياسية بالبيان هي مسألة وجود الدولة وقيام السلطة. وقد جاءت النصوص الاسلامية -قرآنا وسنة قولية وعملية- متعاضدة على اقامة نظام سياسي للجماعة. كما استدل بعض فقهاء السياسة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم. وذهب آخرون الى ان الامر يرجع الى الوجوب العقلي.
أ. الأساس النصي (سواء كانت نصوصا صريحة بالامر أم الفعل أم تعاملت معه باعتبارها مسلمة ضمنية): أول هذه النصوص هي الاحاديث النبوية الآمرة بلزوم اتخاذ إمام؛ أي القائد السياسي للجماعة، مثل قوله صل الله عليه وسلم: "من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية"، و"ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية".
فهذا الصنف من النصوص لا يتحدث عن طاعة سلطة قائمة بل تحدث عن تأثيم من مات بلا امام او بيعة؛ أي عن وجوب تأسيس الدولة ابتداءً، ووجوب انضواء المسلم تحت سلطة سياسية، وعيشه جزءًا من جماعة سياسية.
وقد سن النبي صل الله عليه وسلم لأمته اتخاذ قائد لهم حتى في اصغر تجليات اجتماعهم، وفي اقل امور حياتهم شأنًا، فقال: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا احدهم". وقد ادرك ابن تيمية الدلالة السياسية لهذا الحديث فقال: "يجب ان يعرف ان ولاية امر الناس من اعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا الا بها....". وهناك نصوص كثيرة تحض على لزوم جماعة المسلمين وامامهم او تأمر بطاعة السلطة الشرعية ونصحها.
وأما النوع الثاني من النصوص فهي التي لم تتعامل مع أمرالسلطة بصورة آمرة ومباشرة، وإنما باعتباره مسلمة ضمنية، ورتبت على هذه المُسَلَّمة أمورًا شرعية وعملية كثيرة، لا يُتَصور تحقيقها دون وجود الدولة وقيام السلطة.
يقول ابن تيمية: "إن الله تعالى أوجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة. وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل واقامة الحج والجمع والاعياد ونصر المظلوم واقامة الحدود".
أما النوع الثالث من النصوص الاسلامية في وجوب السلطة فهو السنة السياسية العملية، المتجسدة في فعل الرسول صل الله عليه وسلم في كل ما اشتملت عليه سيرته من عمل سياسي.
لقد جاء محمد صل الله عليه وسلم برسالة جامعة بين "العدل والفضل" كما عبر ابن تيمية، وعاش حياة ملآى بالصراع، وواجه كثافة المادة وبطشها بقوة الروح والمادة معا، وقَهَرَ القوة الغاشمة بسلطان الحق والقوة معًا، وألجم الظلم بلجام الكتاب والسيف معًا.
ولم يختلف الاسلام عن المسيحية في التصور السياسي فقط، بل اختلف عنها في الانجاز السياسي في بواكير كل من الرسالتين. ولا ينكر الباحثون الغربيون هذا الاختلاف.
فقد "حقق الاسلام –بخلاف المسيحية– نجاحا سياسيا باهرا منذ بداياته" كما لاحظت لويز مارلو، و"ومحمد -مثل موسى ولكن بخلاف بوذا والمسيح– أوجد دولة" كما يقر مايكل كوك.
وبينما رحل المسيح عليه السلام عن هذا العالم وأتباعه لا يزالون قلة مضطهدة، "حَوَّل محمد قبائل العرب الضعيفة الى أمة عزيزة" كما لاحظ غوستاف لوبون.
وبينما لم تتحول المسيحية الى دولة إلا بعد ثلاثة قرون وثلث قرن، "فإن الدولة قامت في زمن النبي صل الله عليه وسلم"، وهذا ما لا يختلف فيه أي باحث جاد مع رضوان السيد.
ولذلك كانت السياسة في عمق رسالة الاسلام منذ البداية؛ ابتداءً من تأسيس الدولة في المدينة المنورة بعد الهجرة، ثم ما تلا ذلك من تأمير للأمراء، وتعيين القضاة، وتسيير الجيوش، ومراسلة الملوك، وتنفيذ العقوبات، وتوقيع المعاهدات، والتصرف بالمال العام بحقه، وإدارة المصالح العامة للجماعة.
والسنة السياسية جزء أصيل من البيان النبوي لمعاني الوحي بيانًا تطبيقيًّا، وجانب أساسي من حياته التي أمر الله تعالى المؤمنين بالتأسي بها.
ب. الأساس الإجماعي: تتعضد النصوص النبوية في هذا المجال بالسوابق الاجماعية في عصر الصحابة، خصوصًا في مرحلة الخلافة الراشدة.
فالخلافة الراشدة كانت امتدادًا لدولة النبوة؛ فهي ذات قيمة تأسيسية أخلاقية وتشريعية لا توجد لدى غيرها من الدول التالية في التاريخ الاسلامي.
وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على ضرورة استمرار السلطة في المجتمع المسلم بعد وفاة الرسول صل الله عليه وسلم، وتصرفوا انطلاقًا من التسليم الشرعي بهذا الامر، رغم أن تاريخ عرب الحجاز وعُرفهم لا يدفعانهم الى هذا التوجه.
وقد ذهب ابن خلدون الى ان إجماع الصحابة أصل شرعي في وجوب إقامة السلطة، او "نَصْب الإمام" حسب الاصطلاح القديم. والصحابة لم يختلفوا قط في وجوب إقامة السلطة، او "نصب الإمام"، وإنما اختلفوا في الاشخاص المؤهلين لتقلدها.
ج. الأساس العقلي: اكتفى بعض علماء الاسلام ومفكريه من الاقدمين والمعاصرين بالدليل العقلي على وجوب وجود الدولة؛ فهو واجب عقلي وضرورة مصلحية. ولم يهتموا بالاستدلال النصي على وجوب اقامتها شرعًا؛ باعتبار ان الواجب عقلًا واجب شرعًا، وأن "الضرورة الاجتماعية" ضرورة شرعية. ومن هؤلاء المفكرين: ابن الأزرق، والسنهوري، وأحيانا ابن خلدون.
ومع تضافر النص والإجماع والمصلحة على وجوب إقامة الدولة، فلم تخل الحضارة الاسلامية من أصوات شاذة نَحَتْ منحى الفوضوية السياسية في تفكيرها السياسي؛ فقالت بـ"عدم وجوب الدولة شرعًا"، أو ضرورتها عقلًا. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي الإثنين 15 يونيو 2020, 9:50 pm | |
| الأزمة الدستورية بالحضارة الإسلامية (7): الحرية والعدل
إعداد وعرض: جميل أبو بكر
2- الحرية إمكان ومسؤولية
الحرية في الاسلام هي جوهر انسانية الانسان، رغم ان مصطلح"الحرية" –بالمعنى المتداول اليوم– لم يتردد كثيرا في النصوص الشرعية، فإن غياب المصطلح لا يعني غياب المفهوم.
وقد احسن عبد الله العروي إذ لاحظ ان "التجربة الاسلامية في مجال الحرية أغنى بكثير مما يوحي القاموس العربي الذي سجل استعمال الفقهاء والمتأدبين".
والمهم هنا هو الحرية بمعناها المعياري في الوحي الاسلامي، وفي المرحلة النبوية التأسيسية. فأول مظاهر الحرية في الوحي الاسلامي أنها مناط المسؤولية والتكليف الشرعي، ومنبع إمكانية الانسان.
والاسلام كما كل الاديان السماوية كما عبرالعلامة عبد الله دراز "يقف الى جانب الامل والإمكان والحرية والاختيار في مبدأ الاشياء"؛ فالدين يُعلِّم الانسان المسؤولية، والمسؤولية تستلزم الحرية.
والإلزام الأخلاقي الذي جاءت به الاديان التوحيدية لا يمكن ان يكون قهريًّا؛ لأنه بذلك يفقد صفته الأخلاقية -حسب العلامة دراز- إذ لا يوصف العمل بالأخلاقي إلا إذا كان لدى الانسان الخيار في فعله وتركه.
أما في موضوع الرِّق، فان الوحي –بعيدًا عن ملابسات التاريخ– قد جعل خيارين اثنين في التعامل مع اسرى الحرب: (فإما مَنًّا بعدُ وإما فداءً)، والمعلوم أن اساس الاسترقاق هو الحرب.
ويقول الشيخ محمد رشيد رضا: ".. ولما كنا مخيرين فيهم بين إطلاقهم بغير مقابل، والفداء بهم، جاز ان يعد هذا أصلًا شرعيًّا لإبطال استئناف الاسترقاق في الاسلام". وهناك تفاصيل كثيرة في الشرع الاسلامي في التعامل مع الرق، وتأكيد الحرية، ويبقى الوحي هو الحجة على التاريخ وليس العكس.
وتتجلى الحرية في اغلب أمهات القيم السياسية الاسلامية؛ فبعض الحريات الفردية مندرجة ضمن مبدأ التكريم الإلهي، والاستخلاف في الارض. وبعض الحريات العامة متضمنة في مبادئ العدل والشورى، ومنع الإكراه في الدين، وغيرها من قيم سياسية منصوصة.
ومن منظور معياري إسلامي يبدو لنا أن لا فرد بمعناه الكامل دون حرية، ولا مجتمع -بمعناه الحق– دون عدل. وأن المثال السياسي الذي يمكن استخلاصه من الوحي الاسلامي ومن تاريخ فجر الاسلام فيه شيء من دولة الحد الادنى من السلطة، لكنه نموذج تَهُمه العدالة قبل أي شيء آخر.
كما أنه نموذج يعتمد فكرة الدولة المحدودة، والإدارة السياسية السمحة الطليقة التي تتجنب التدخل في حياة الناس الفردية والجماعية إلا لضرورات الخير العام، لكن الاسلام لا يقبل تخلي السلطة السياسية عن مسؤولياتها الاجتماعية، بل يُلزمها برعاية العجزة، ومَن لا راعي لهم من الضعفاء؛ تحقيقًا للأخوة الاسلامية والانسانية؛ وتطبيقًا لمبدأ التضامن الاجتماعي امتثالًا لقول الرسول صل الله عليه وسلم: "من ترك مالًا فلأهله، ومن ترك دينًا او ضياعًا فإلي وعليَّ".
3- العدل في الحكم والقَسْـم
العدل هو جذر القيم الاسلامية والنبع الذي يتفرع منه ما سواه من قيم ومبادئ. وقد عبرت النصوص الاسلامية عن هذا المبدأ أحيانًا بتعبيرات: "القيام بالقسط" و"القيام بالحق". ولهذه التعبيرات دلالة خاصة تتعلق بالجهد البشري الايجابي لتحقيق هذه الفكرة على الارض؛ فـ"القيام بالقسط" و"القيام بالحق" يحمل معنى الحركة والفعل، بينما "العدل" مفهوم ساكن مجرد.
وقد جعل الله تعالى القيام بالقسط غاية كل الرسل والرسالات: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). وألزم المؤمنين بالقيام بالحق: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ..).
وما جاء به الاسلام من جعل العدل جذر كل القيم، خصوصًا القيم السياسية، منسجم مع ما أدركته خيرة العقول السياسية منذ القدم. فقد جعل الفيلسوف اليوناني سقراط محور تفكيره في مسألة "الدولة" البحث في "كيفية نشوء العدل والظلم السياسيين".
وعندما سئل: أين يضع العدل في سلم قيم الخير؟ أجاب سقراط بأنه يضع العدل في "الطبقة الأعلى بين تلك الخيرات".
والعدل في الإسلام مبدأ مطلق شامل للعدو والصديق: (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ان لا تعدلوا)، وللمسلم وغير المسلم: (وأُمِرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا اعمالنا ولكم اعمالكم".
يقول ابن تيمية: "ان العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال. والظلم محرم مطلقًا لا يباح قط بحال". ويقول: ".. وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه اشتراك في انواع الاثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وان لم تشترك في اثم؛ ولهذا قيل: ان الله يقيم الدولة العادلة وان كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وان كانت مسلمة".
وينقل الماوردي عن بعض الحكماء: "الأدب أدبان: أدب شريعة، وأدب سياسة. فأدب الشريعة ما أدى الفرض، وأدب السياسة ما عَمَر الارض. وكلاهما يرجع الى العدل الذي به سلامة السلطان وعمارة البلدان؛ لأن من ترك الفرض فقد ظلم نفسه، ومن خرب الارض فقد ظلم غيره".
ما ينبغي التركيز عليه هنا هو العدل السياسي، المعبر عنه في الشريعة الاسلامية: "العدل في الحكم والقَسْم".
ويتفرع من العدل السياسي العدل في التقاضي باعتبار القضاء مرتبطًا بوجود سلطة سياسية قادرة على إلزام بأحكامها.
وقد ورد في العدل السياسي قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى اهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل".
واعتبر ابن تيمية أداء الامانة والحكم بالعدل الواردين في الاية هما: "جماع السياسة العادلة، والولاية الصالحة".
وكان من وصية عمر رضي الله عنه للصحابة قبل موته: "إني قد تركت فيكم ثنتين لن تبرحوا بخير ما لزمتموهما: العدل في الحكم، والعدل في القَسْم". |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي الأحد 21 يونيو 2020, 5:19 am | |
| الأزمة الدستورية بالحضارة الإسلامية 8 إهدار التفاضل الاجتماعي
إعداد وعرض: جميل أبو بكر
4- إهدار المراتب الاجتماعية
لا تتحقق الحياة السياسية العادلة إلا على أساس من مبدأ المساواة الاجتماعية.
وقد جاء الاسلام بهذه المساواة، ونهى القرآن الكريم عن "العلو في الارض"، وهو نقيض المساواة بالمفهوم الاسلامي: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًّا في الارض ولا فسادًا ..)، فأساس التفاضل بين الناس في الدنيا والآخرة هو اختلاف كسبهم وجهدهم، وهو أساس التراتبية الاجتماعية.
ولقد اهتم النص الاسلامي بمسألة التراتبية الاجتماعية –حتى بمعناها السياسي الضيق– اهتمامًا واضحًا، وسعى إلى محوها محوًا، وبخطاب صريح كما ورد في خطبة الوداع: "أيها الناس، ألا ان ربكم واحد، وإن أباكم واحد (..) ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على اسود، ولا اسود على احمر إلا بالتقوى".
جاءت السنة النبوية -قولًا وفعلًا- حاسمة في هدر المراتب الاجتماعية المتوارثة.
ونظرًا الى التحيز الاجتماعي والعرقي الذي كان سائدًا لدى اهل الجزيرة العربية يومها ضد السود والمَوَالي والعبيد وذوي الاعاقة، وأنفة العرب من الخضوع لسلطة هؤلاء، جاءت احاديث الطاعة السياسية مُهْدِرة أي تفاضل اجتماعي إلا على أساس الكسب الشخصي، بعيدًا عن الاعتبارات العرقية والعرفية والجسدية.
ومن ذلك قوله صل الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة".
واستمر هذا المنحى المُهْدِر للتفاضل العرقي والاجتماعي مُطَّرِدًا في السنة السياسية الى ختام الحقبة النبوية، فقد عين صل الله عليه وسلم زيد بن حارثة وابنه أسامة بن زيد قائدين، وهما من الموالي الذين رفعهم الاسلام، رغم أن معايير النسب والحسب السائدة يومذاك تنظر لهم نظرة دونية.
ولا تتضمن لائحة أُمراء النبي صل الله عليه وسلم قادة من الموالي فقط، بل تتضمن قادة من مختلف القبائل، في تجاوز لضيق الانتماء القبلي السابق على الاسلام، بل تتضمن رجلًا أعمى هو عبد الله بن أم مكتوم الذي كان يستخلفه النبي صل الله عليه وسلم على المدينة حين يخرج الى الغزو، وحدث ذلك ما يقارب ثلاث عشرة مرة؛ فضمان حقوق المعاقين أمر لم تهتم به الامم الا في العصر الحديث.
وهكذا يتضح ان بعض شروط الأهلية السياسية التي أَلَحَّ عليها الفقهاء في الماضي ضعيفة الاساس النصي، ومن هذه الشروط شرط الحرية الذي تكفي في نقضه الاحاديث الواردة في إمارة العبد الحبشي.
ومن هذه الشروط التي تستحق توقفًا عندها ايضا شرط الذكورة، وهو شرط أخذه الفقهاء من حديث: "لن يفلح قوم وَلَّوا أمرهم امرأة". وهذا الحديث من العام الذي أُرِيد به الخصوص؛ فالعبرة فيه بخصوص السبب لا بعموم اللفظ؛ بمعنى أنه وصف لحال فارس لَمَّا جاء الخبر بتمزق دولتهم، وتَوْلية نبلائهم بنت الملك لأمرهم، وليس حكمًا شرعيًّا عامًّا.
والدليل على ذلك (أي: عدم كونه حكمًا شرعيًّا عامًّا) أن ظاهر القرآن يدل على أن المرأة مُؤهلة لتولي كل المناصب العامة، بما فيها منصب رأس الدولة.
فقد وردت قصة ملكة سبأ في القرآن في مَوْرد الثناء، وقد كانت مَلِكة تامة السلطة على قومها، واسعة النفوذ عليهم، فإمارتها عليهم كانت إمارة عامة كما يدل عليه التعبير القرآني: (إني وجدتُ امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ..).
قال صاحب تفسير المنار في قوله تعالى: (وأُوتيت من كل شيء): "عام في كل ما يحتاج اليه الملوك". وإيراد القرآن الكريم لذلك في سياق إيجابي دون اعتراض، رغم اعتراضه على ما لَابَسَ حياة أهل سبأ يومها من أمر مناقض للدين الحق؛ وهو عبادتهم الشمس: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون. ألا يسجدوا لله ..).
ولو كانت إمارة المرأة حرامًا -كما يقول جمهور الفقهاء الاقدمين– لاستنكرها القرآن الكريم في سياق استنكاره شِرْكهم.
ولو قلنا إن إمارة المرأة حرام –كما قالوا– لكان سكوت القرآن عن هذا الأمر من تأخير البيان عن وقته، وهو أمر مستحيل شرعًا باتفاق علماء الأُصول.
وفي السُّنة السياسية العملية ما يُزكي المشاركة الكاملة للمرأة في الشأن العام دون قيد او شرط؛ فبيعة العقبة الثانية التي هي العقد التأسيسي للدولة الاسلامية في العصر النبوي شاركت فيها امرأتان، وهما: نسبية بنت كعب المازنية، وأسماء بنت عمرو. وكانت نسبية ممن حضر بيعة الرضوان أيضًا.
وفي كل ذلك دلالة صريحة على مشاركة المرأة في الشأن السياسي خلال العصر النبوي من البَدْء الى الختام، وعلى حقها الشرعي، بل واجبها الشرعي في المشاركة السياسية في مجتمعها. وهو يكفي ردًّا على قول الجويني: "ما نعلمه قطعًا أن النسوة لا مَدْخل لهن في تخير الإمام وعقد الإمامة".
ولم يختلف العلماء في دخول النساء تحت مدلول "لفظ الناس" المتردد في النصوص الشرعية، وهو لفظ كثيرًا ما استعمل في أحاديث المشاورة: "أَشِيروا عليَّ أيها الناس".
وقد برهنت أم سلمة رضي الله عنها أنها من خيرة "الناس"، وأحسنهم حصافة في الرأي، وحكمة في السياسة كما تدل عليه حادثة صلح الحديبية.
وكان عمر رضي الله عنه يستشير الصحابية الشفاء بنت عبد الله، "وكان يُقدِّمها في الرأي ويفضلها" حسب تعبير ابن عبد البر.
ويتضح من كل ذلك أن ما ذكره أبو الأعلى المودودي من أن "السياسة والحكم خارجان عن دائرة المرأة" تعميم خاطئ، وتَحَكُّم في غير محله؛ لأنه لا يسنده الدليل من الوحي الإسلامي. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي الخميس 25 يونيو 2020, 5:28 am | |
| الأزمة الدستورية بالحضارة الإسلامية (9): الانحراف عن شرعية الأهلية بقلم: إعداد وعرض: جميل أبو بكر
5- المساواة في الأهلية السياسية امتدادًا لهدر التفاوت في المراتب الاجتماعية، جعل النص الاسلامي القوة والامانة معياري الكفاءة السياسية، وحرر شروط الاهلية السياسية من اعتبارات العرق والقبيلة.
وقد أطبق جمهور الفقهاء على شرط القرشية في الإمامة! وهذا من أخطر أنماط الانحراف عن مبدأ المساواة في الاهلية السياسية، وهو ما يحتاج الى وقفة متاملة هنا.
وقد أطنب ابن خلدون في التفلسف حول ما دعاه "الحكمة في اشتراط النسب القرشي ومقصد الشارع منه" فقال: "وذلك ان قريشا كانوا عصبة مضر وأصلهم، وأهل الغلب منهم، وكان لهم على سائر مضر العزة بالكثرة والعصبية والشرف،,وكان سائر العرب يعترف لهم بذلك، ويستكينون لغلبهم.
ولا يقدر غيرهم من قبائل مضر ان يرد العرب عن الخلاف الذي يمنع التنازع والشتات بينهم. فاشترط نسبهم القرشي في هذا المنصب -وهم اهل العصبية القوية- ليكون أبلغ في انتظام الملة، واتفاق الكلمة، واذا انتظمت كلمتهم انتظمت بانتظامها كلمة مضر أجمع؛ فأذعن لهم سائر العرب، وانقادت الامم سواهم الى أحكام الملة، ووطئت جنودهم قاصية البلاد كما وقع في ايام الفتوحات، واستمر بعدها في الدولتين الاموية والعباسية الى ان اضمحل امر الخلافة، وتلاشت عصبية العرب".
لقد تاثر ابن خلدون بالرأي الشائع في مسألة القرشية دون تمحيص، وانجراره مع نظرية العصبية، والتغلب التي تهدر الاساس الاخلاقي التعاقدي للسلطة كما أرادها النص الاسلامي، وتحصر القيم الانسانية التي جاء بها الاسلام في نطاق اجتماعي ضيق هو المعادلات القبلية في الجزيرة العربية، وفي زمان ضيق هو زمن قوة قريش وشوكتها، تلك القبيلة التي توصل ابن خلدون نفسه بالمشاهدة الحسية في ايامه الى أنها "قد تلاشت من جميع الآفاق، ووجد أمم آخرون قد استعلت عصبيتهم على عصبية قريش".
والحق ان النص الاسلامي لم يشترط اي انتماء قبلي او عرقي في من يكون خليفة للمسلمين. ورغم ان حديث القرشية كثير الطرق متواتر الإسناد، لكن أيًّا من روايات هذا الحديث لم ترد بصيغة الامر الصحيح، بل جاءت كلها بصيغة الخبر، وبعض رواياته يستحيل حملها على الامر الشرعي مثل رواية: "الناس تبع لقريش في الخير والشر"، و"قريش ولاة الناس في الخير والشر"، و"الناس تبع لقريش في هذا الشأن: مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم"، و"الائمة من قريش، أبرارها أمراء أبرارها، وفجارها أمراء فجارها".
فهذه الروايات يستحيل حملها على الامر بمنطق العقائد والقيم الاسلامية؛ إذ مقام النبوة يمنع أن يأمر النبي صل الله عليه وسلم الناس باتباع قريش في الشر او الكفر او الفجور! فتَعَيَّن هنا "معنى الخبر".
وقد قال ابن الأثير معلقًا على الحديث: "هذا الحديث على جهة الإخبار عنهم، لا على طريق الحكم فيهم".
كما رفض الباقلاني شرط القرشية في الخلافة.
وحتى في ليلة السقيفة، فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يَحْتجَّ بأي نص قرآني او نبوي يُشرِّع لقريش احتكار الخلافة!
إن تحويل حديث القرشية من "الخبر" الى "الأمر"، وتبني جمهور الفقهاء هذا المنحى في تفسير الحديث، يدل على قوة الثقافة القبلية لدى اهل الجزيرة العربية، وأثرها في فهم الناس الدين، كما يعبر عن مصلحة سياسية للنخبة القرشية في العصر الاموي والعباسي.
والعجب ان يصل التشبث بشرط القرشية حد التضحية بالشروط الاخلاقية والعملية المنصوصة في الكتاب والسنة، حتى قال ابو حامد الغزالي: "لم يرد النص من شرائط الإمامة في شيء إلا في النسب"!! والغزالي هنا يتجاهل عددًا من الآيات القرآنية التي تنص على شروط الكفاءة السياسية، كما يتجاهل احاديث وافرة تنص على شرائط الإمامة؛ وأهمها: رضا الامة عن إمامها، واتصافه بصفتي الأمانة والقوة.
كما فَرَّط جمهور فقهاء المسلمين في شروط الكفاءة السياسية المنصوصة في الكتاب والسنة؛ تشبثًا بهذا الشرط القبلي الغريب عن روح الاسلام، حتى قال ابن خلدون: ".. وبَقي الجمهور على القول باشتراطها، وصحة الإمامة للقرشي، ولو كان عاجزًا عن القيام بأمور المسلمين!!".
وقد لاحظ ابن تيمية تأثير الجاهلية العربية والفارسية في فهم النصوص الشرعية؛ فقال ضمن رده على قول الشيعة بحصر الإمامة في اهل البيت النبوي: ".. وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية، أو فارسية، بأن بيت الرسول أحق بالولاية؛ لكون العرب كانت في جاهليتها تقدم أهل بيت الرؤساء، وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك".
ويرى المؤلف ان الفقهاء والمفكرين قد تأثروا بثقافة عصورهم، وربما كانت بعض انعكاسات هذا التأثر مقبولة او مبررة في زمانها، وإن كانت مختلفة مع النص أحيانًا كما تبين لاحقًا. ولابد من الاطلاع على ثقافة العصر عند تحديد الفهم من النص دون مخالفته، او التصادم معه.
6- الشورى في بناء السلطة
من أصعب الاسئلة السياسية الأبدية سؤال شرعية السلطة؛ بمعنى من يحق له ان يتقلد قيادة الدولة ابتداء. وقد لاحظ أرسطو صعوبة هذا السؤال فكتب: "من الامور المُشكلة معرفة مَن يجب ان تفوض اليه السلطة العليا في الدولة". لقد أسفر مسار التاريخ الانساني عن ثلاثة سبل للوصول الى السلطة؛ أولها: القهر العسكري الذي يجعل السلطة من حق مَن يملك القوة ويستخدمها، وهذا السبيل يهدم الاساس الاخلاقي للاجتماع البشري؛ لأن القوة لا تُكْسِب حقًّا!
وثانيهما: الوراثة العرفية التي تحصر السلطة في اسرة او عشيرة، ويُسلم المجتمع بذلك بقوة الاعتياد، او "خلق الانقياد" -بتعبير ابن خلدون- دون مساءلة لحق تلك الاسرة او العشيرة في الحكم.
وثالثها: التراضي والتعاقد المتأسس على اختيار حر من الجماعة لمن يحكمها، وتداول حر ينتهي بقرار لا خضوع فيه لقوة قهرية، او عُرف مسيطر.
وقد قدم الاسلام رؤية واضحة للجواب عن السؤال: من له الحق في أن يحكم؟ وهو جواب يتبنى الخيار الثالث: خيار الاختيار الحر للحكام عبر التداول والتراضي والتعاقد، دون إكراه ولا إجبار.
وجاءت الرؤية الاسلامية لجواب هذا السؤال بمصطلح اسلامي اصيل هو "الشورى". وقد ورد مبدأ الشورى في قوله تعالى في وصف المؤمنين: (وأمرهم شورى بينهم).
وخلاصة مبدأ الشورى في مدلوله الاصلي –قبل أن تعبث به الأهواء– هو أن لا شرعية لحاكم من غير اختيار المحكومين له، وأن الحكم من غير اختيار المحكومين افتئات وغَصْب لحق الامة في حكم نفسها.
فالشورى السياسية تتضمن ثلاثة عناصر حسب ما يفهم من قول لابن خلدون: 1- أن يختار القوم ابتداءً من يحكمهم بكل حرية. 2- أن يكون هذا الاختيار من عامة الناس دون احتكار له من فئة او طبقة اجتماعية بعينها. 3- أن يكون لمن اختاروا الحاكم الحق في مراقبة أدائه وعزله إن عجز أو خان.
والشورى هي التي تحقق الانسجام بين إرادة الحاكم والمحكوم، وتضمن وحدة الوجهة في الامة بما يعزز قوتها ومناعتها، وهذا من اعظم غايات الشرع الاسلامي واهدافه.
وقد أحسن قدامة بن جعفر إذ جعل السلطة القائمة على التراضي، والطاعة العفوية هي "الرئاسة" الحقيقية، أما السلطة التسلطية القهرية فليست رئاسة حقيقية حيث يقول: "الرئاسة إنما هي رئاسة عفو الطاعة، لا رئاسة الاستكراه والقهر. والمملكة هي مملكة الرضا والمحبة، لا مملكة التسلط والقهر".
وقريب منه قول الماوردي: "السلطان إن لم يكن دينًا تجتمع به القلوب حتى يرى اهله الطاعة فيه فرضًا، والتناصر عليه حتمًا، لم يكن للسلطان لُبث، ولا لأيامه صَفو، وكان سلطانَ قهرٍ، ومَفْسدة دهر".
وللشورى مسوغان: أخلاقي وعملي. فمسوغها الاخلاقي هو تحقيق العدل في مسألة بناء السلطة ابتداءً؛ ذلك ان السلطة السياسية أمر عام يمس حياة جمهور الناس، ولا يحق لفرد ان يتصرف في حياة الناس دون رضا منهم .
وأما المسوغ العملي للشورى فهو أن الحكمة الجماعية أعظم واقرب الى الصواب من الحكمة الفردية.
وما ورد في القرآن الكريم من الامر بالشورى مجملًا ورد في الاحاديث والآثار مفصلًا.
وقد حرص الرسول صل الله وسلم على أن يترك لأمته حق اختيار قادتها، ورغم ما جهد لها واجتهد نصحًا، فإنه لم يلزمها باختيار شخص بعينه قائدًا لها.
وقد ورد عنه صل الله عليه وسلم: "قيل يا رسول الله: من نُؤَمِّر بعدك؟ قال: إن يكن أبا بكر تجدوه أمينًا زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة، وإن تؤمروا عمرًا تجدوه قويًّا أمينًا لا يخاف بالله لومة لائم، وإن تؤمروا عليًّا –ولا أراكم فاعلين- تجدوه هاديًا مهديًّا يأخذ بكم الى الطريق المستقيم".
وما ورد من النبي صلى الله عليه وسلم بشأن ابي بكر فلم يكن سوى اشارات ارشادية، او إخبار بالغيب، وليس فيه شيء على صفة الإلزام، وما كان للرسول صل الله عليه وسلم أن يخالف القرآن.
وقد تعاضت الآثار عن الخلفاء الراشدين في اعتبار الشورى مصدر الشرعية السياسية، وكثرت الآثار عن عمر بن الخطاب خصوصا بذلك.
ولأقوال عمر هنا قيمة تأسيسية مهمة لسببين؛ أولهما: أن خلافته هي أول دولة اسلامية مستقرة بعد الدولة النبوية. والثاني ان ما قاله عمر كان على رؤوس الأشهاد، وقد أقره عليه الصحابة؛ فأصبح إجماعًا سكوتيًّا.
ومن هذه الآثار قول عمر: "مَن بايع رجلًا عن غير مشورة من المسلمين؛ فلا يُبايَع هو، ولا الذي بايعه".
ولا يشترط الإجماع في اختيار الحاكم؛ لِتَعَذُّره عادة، وإنما يكفي حصول الاغلبية.
الخلاصة: إن ثمرة مسارالشورى هو وحدة الإرادة بين الحاكم والمحكوم. والى هذا اشارالحديث النبوي: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم، وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم". وهذه الوحدة هي أهم مصدر لقوة الدولة. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي الخميس 25 يونيو 2020, 5:29 am | |
| الأزمة الدستورية بالحضارة الإسلامية (10): عقد المراضاة بقلم: إعداد وعرض: جميل أبو بكر
7- وجوب التمثيل السياسي
ورد النص على الشورى عامًّا لا مخصص له؛ وهو ما يعني حق الجميع في الإسهام في اختيار الحكام، فاحتكار قلة او نخبة لها من دون الآخرين لا يجوز.
وأدق معيار لتحديد مَن تشملهم الشورى هو التعبير القراني ذاته: (وأمرهم شورى بينهم)، فكل من كان الامر أمره -بمعنى أنه يتاثر بنتائج القرار- سواء كان اختيار قيادة للجماعة التي يتشكل منها الشعب، أم قرارًا سياسيًّا آخر له الحق في إبداء رأيه في ذلك الاختيار، ولرأيه هذا قيمة مساوية لآراء غيره.
ولكن ممارسة الشورى والمشاورة المباشرة من الكل أمر مُتعذِّر، كما ادرك بعض منظري "الديمقراطية المباشرة" أن هذا النوع من الديمقراطية قد يؤدي الى انهيار البناء السياسي، وفتح ابواب الفوضى.
ولدرء الفوضوية الهدامة للاجتماع السياسي سن الاسلام مبدأ النيابة عن الأمة، ووردت في ذلك نصوص وتطبيقات نبوية كثيرة. وأول ذلك كان في بيعة العقبة الثانية التي هي العقد التأسيسي لدولة النبوة، فقد نظم النبي صل الله عليه وسلم الوفد الانصاري الذين حضروا البيعة تنظيمًا تمثيليًّا دقيقًا؛ فاختار منهم إثني عشر نقيبًا، ثم جعل على رأس النقباء قائدًا هو نقيب النقباء.
وقد راعى بهذا التنظيم التناسب الكمي بين مجموعتي الأنصار (الأوس والخزرج)، فكان من بين النقباء الإثني عشر تسعة من الخزرج؛ لأنهم القبيلة الكبرى، وثلاثة من الأوس لأنهم القبيلة الصغرى.
وعُرِف ممثلو القوى الاجتماعية في العهد النبوي باسم "العرفاء" ايضًا كما ورد في قصة تحرير سبي قبيلة هوازن بعد غزوة حنين .
فمسألة التمثيل السياسي أصيلة في الاسلام، والتمثيل نيابة عن صاحب الحق الأصيل، وليس بدلًا عنه.
وقد تحول الصحابة المقيمون في المدينة خلال الحقبة الراشدة نوابًا عُرفيين عن الأمة المشتتة في الاقطار الاخرى؛ لِمَا كان لأولئك الصحابة من الثقة عند المسلمين، والسابقة في الاسلام، فكانوا يتولون اختيار الخليفة الراشد حين فرغ المنصب، فتتبعهم الاقطار الاخرى.
وقد أدخل اهل المدينة غيرهم في عملية اختيار الخليفة كلما أسعفتهم الظروف بإشراك اهل الأمصار في ذلك، كما حدث في اختيار عثمان بن عفان. كما أوصى عمربن الخطاب الستة المشرفين على الأمر باستشارة أمراء الأجناد الذين كانوا في الحج يومذاك.
وقادة المدينة من الصحابة كانوا يتصرفون بصفتهم نوابَ الامة وممثليها، وهو أمر كانت الامة تُقِر لهم به يومذاك.
وقد أدرك الماوردي أن استئثار اهل المدينة المنورة باختيار الخليفة خلال فترة الخلافة الراشدة كان أمرًا عُرفيًّا عمليًّا، ولم يكن تشريعًا نصيًّا؛ إذ النصُ صريح بعموم الشورى. قال الماوردي: ".. وليس لمن كان في بلد الإمام على غيره من اهل البلاد فضلُ مَزِية تقدم بها عليه، وانما صار من يحضر ببلد الامام متوليًا لعقد الإمامة عرفًا لا شرعًا؛ لِسُبوق علمهم بموته؛ ولأن مَن يصلح للخلافة في الاغلب موجود في بلده".
8- عقد البيعة السياسية
تشكل الشورى قاعدة الاختيار، وأرضية التداول والتراضي لإيصال اهل الامانة والقوة الى قيادة الامة. لكن التعبير الإجرائي عن ثمرة هذا الاختيار والتداول يتم عبر مبدأ سياسي آخر هو البيعة.
والبيعة تجسيد للعقد الاجتماعي الاسلامي، وبيان للطبيعة التعاقدية في العلاقة بين الحاكم والمحكوم في هذا الدين. وليس المقصود هنا العقد الاجتماعي الافتراضي الذي قال به بعض فلاسفة السياسة الغربيين، وإنما نقصد عملية التعاقد الفعلي الذي يمنح الحاكم شرعية الحكم.
وقد توصل الفكر الغربي بعد معاناة طويلة الى نظرية شبيهة بفكرة التعاقد السياسي الاسلامية، وهي نظرية العقد الاجتماعي.
والعقد الاجتماعي شأنه شأن البيعة الاسلامية تنازلٌ إجرائي من الافراد عن صلاحياتهم في أخذ حقوقهم بأنفسهم، وعن الانتقام لأنفسهم، وليس تنازلًا منهم عن حقوقهم ذاتها، بل هو سعي للحصول على تلك الحقوق بطريقة أكثر انضباطًا؛ ولذلك كان من خصائص الدولة احتكار الاستعمال الشرعي للقوة.
أما الاستبداد فهو يجرد البشر من حق الانتصاف المباشر من الظالم، ثم لا ينتصف لهم، فهو أسوأ من حالة الفوضى الطبيعية كما لاحظ الفيلسوف السياسي جون لوك.
وأول شرط من شروط البيعة السياسية في الاسلام هو ان تنبني على حرية الاختيار شأنها شأن أي عقد آخر؛ ففكرة التعاقد تتنافى مع أي نوع من الإكراه، وقد عبر الحديث النبوي عن ذلك تعبيرًا بليغًا حبث قال صل الله عليه وسلم: "من بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع".
فالتعبير بـ"صفقة اليد"، و"ثمرة القلب" في هذا الحديث دليل دامغ على ان البيعة لا تتم إلا بالرضا النابع من القلوب، وبالتعاقد الصريح الذي لا لَبْس فيه.
ثم من شروط البيعة أيضا –شأن بقية العقود- أن لا يُلابسها تضليل، او تدليس من جهة أحد المتعاقدين؛ فالتضليل والتدليس يجعل العقد غير مستوف شروط التعاقد الشرعي، وغير ملزم للطرف الذي مُورس التضليل او التدليس في حقه. ومثال ذلك أن يكذب المترشح للموقع السياسي على الناس، فيقدم معلومات مضللة عن كفاءاته وخبراته، بل إن ذلك يستوجب العقوبة.
ولأن البيعة عقد مراضاة؛ فإنه يمكن فسخها طبقًا لطبيعة العقد وشروط المتعاقدين. ويقول الشيخ حاكم المطيري: "لا يوجد عقد في الشريعة يستلزم الاستدامة، ولا يمكن فسخه (..) فعقد الإمامة كغيره من العقود التي يجوز فسخها". كما أنه يجوز تقييد البيعة زمانيًّا؛ بحيث تحدد الامة لحكامها مدى زمنيًّا لحكمهم قابلًا لتمديد او غير قابل.
والنصوص الواردة في البيعة –شأنها شأن النصوص الواردة في الشورى– نصوص عامة، لم تُخصِّص حق البيعة بنخبة دون عامة المجتمع. أما ما ورد في كتب التراث السياسي والفقه من ازدراء للعوام وإقصائهم من الشورى والبيعة، فلا تُسنده النصوص الشرعية، بل خروج على عموم النصوص بلا دليل.
ومن أمثلة تلك الآراء قول الجويني: "ما نَعْلمه قطعًا أن النسوة لا مَدْخل لهن في تَخَيُّر الإمام، وعقد الإمامة (..) وكذلك لا يناط هذا الامر بالعبيد، وإنْ حَوَوا قصب السبق في العلوم، ولا تَعَلُّقَ له بالعوام الذين لا يُعدون من العلماء وذوي الاحلام، ولا مَدْخل لأهل الذمة في نَصْب الامام؛ فخروج هؤلاء عن منصب الحل والعقد ليس به خفاء".
وربما غاب عن الجويني ان النظام السياسي السليم يحتاج إلى عقول النخبة وقلوب الجماهير، كما تدحض السنن السياسية ما ذهب اليه هنا. ويكفي النظر في بيعة اول خليفة في الاسلام ابي بكر الصديق؛ إذ لم يكتف ببيعة الصحابة في اجتماع السقيفة، بل أردفها ببيعة عامة في المسجد في اليوم التالي.
كما يشترط في البيعة ان يكون المُبَايِع والمُبَايَع له كلاهما ممن يملكون الاهلية الشرعية للتعاقد؛ فلا تكون البيعة الشرعية من غير العاقل، ولا من الصبي، ولا ممن ثبت عليه جُرم أفقده أهليته الشرعية.
وإذا كان الصبي غير مؤهل ليُبَايِع غيره؛ فمن باب أَوْلى ان لا يكون مؤهلًا لأخذ البيعة لنفسه، واستلام أمانة الشأن العام. وما تكرر في التاريخ الاسلامي من بيعة للصبيان أحيانًا -حفظًا لتوارث السلطة في أسرة بعينها- عَبَثٌ بأمر الامة! وخضوع ذليل لأعراف اجتماعية لا صلة لها بالقيم السياسية الاسلامية! وهو أمر وَرِثه المسلمون ضمن ما ورثوه من الثقافة السياسية "الساسانية".
لقد كانت أول بيعة سياسية في الاسلام هي بيعة العقبة الثانية التي يمكن اعتبارها العقد التأسيسي لدولة الاسلام؛ إذ بمقتضاها هاجر النبي صل الله عليه وسلم الى المدينة؛ وبمقتضاها أصبح قائدًا سياسيًّا وعسكريًّا للدولة الجديدة، رغم أن الأنبياء لا يكتسبون شرعيتهم السياسية من الخَلْق، بل من الخالق، ولكن البيعة تأكيد من الخَلْق على التزامهم بما ألزمهم به الخالق من طاعة الأنبياء؛ أيْ تحويل هذا الالتزام من الحيز الأخلاقي وسلطة الضمير الى الحيز القانوني وسلطة الدولة.
وقد أدرك المبايعون في العقبة المدلول السياسي لبيعتهم، وما يترتب عليها من مخاطر سياسية وعسكرية، فَقَبِلوها عن طيب خاطر، ثم صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي السبت 27 يونيو 2020, 8:20 pm | |
| الأزمة السياسية في الحضارة الإسلامية: لزوم الجماعة وإمامها (11) إعداد وعرض: جميل أبوبكر
قيم البناء السياسي
9- لزوم الجماعة وإمامها:
نشأ الإسلام من أول يوم دينا جماعيا اجتماعيا, لا يقف عند حدود خلاص الفرد في الآخرة, بل يسعى إلى خلاص الجماعة في الدنيا ايضا, والى بناء حياتها الجماعية على أسس صحيحة. ففي فجر الدعوة التام المسلمون الأولون في مكة في جماعة قليلة العدد, تتلاقى سرا في دار الأرقم بن أبي الأرقم لعبادة ربها, ومدارسة شانها العام. وفي المدينة كان أول ما فعله النبي صل الله عليه وسلم إعلان المؤاخاة بين المهاجرين والانصار, وهي مؤاخاة صهرت العناصر المكونة لجماعة المسلمين من أهل مكة ويثرب في كيان واحد. وعند مراجعة الحوارات بين المسلمين والمواقف ,يتبين مدى التغيير السياسي الذي ادخله الإسلام على حياة العرب.
وقد أسس دستور المدينة- الذي امر به الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابته بعيد الهجرة- وحدة الجماعة, فنص في صدره على ان” المؤمنين والمسلمين من قريش واهل يثرب, ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم…..أمة واحدة دون الناس” . وظهر مصطلح “جماعة المسلمين” في وقت مبكر جدا من تاريخ الإسلام, وفي احاديث عديدة للرسول صل الله عليه وسلم وفي تعبيرات الصحابة رضوان الله عليهم. ومن ذلك ما ورد في وثيقة عهد بعث بها النبي عليه الصلاة والسلام إلى ال مرحب, وهم قوم من حضرموت: “وان نصر ال ذي مرحب على جماعة المسلمين, وان أرضهم بريئة من الجور. “كما ورد في ختام رسالة معاذ بن جبل إلى عمربن الخطاب عند وفاة أبي عبيدة ” فجزاك الله عن جماعة المسلمين, وعن خاصتنا وعامتنا, رحمته ومغفرته ورضوانه وجنته “.
وقد تضافرت الاحاديث النبوية الحاضة على لزوم الجماعة, المرغبة فيه وفي ثمراته. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ” سيكون بعدي هنات وهنات, فمن رأيتموه فارق الجماعة, او يريد ان يفرق بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأمرهم جميع, فاقتلوه ,كائنا من كان, فان يد الله مع الجماعة, وان الشيطان مع من فارق الجماعة يرتكض”. كما تضافرت احاديث أخرى بالنكير الشديد على من شذ عن الجماعة, وفرق كلمتها, وخرج على نظامها. منها قوله صلى الله عليه وسلم: “أنا أمركم بخمس, الله امرني بهن : بالجماعة, والسمع , والطاعة , والهجرة , والجهاد في سبيل الله . فان من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا ان يرجع, ومن دعا بدعوى الجاهلية , فهو من جثاء جهنم .قالوا: يارسول الله وان صام وان صلى؟ قال وان صام وان صلى وزعم انه مسلم……”. ومنها قوله صل الله عليه وسلم لحذيفة حين استفسره عن واجب المؤمن وقت الخلاف والفتن السياسية: “تلزم جماعة المسلمين وأمامهم, قلت ان لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها”. فلزوم الجماعة لزوم قيادتها الشرعية, حتى وان بدا من هذه القيادة ما يخالف راي الفرد في الأمور الاجتهادية المصلحية.
وفي حديث اخر:”من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبرعليه, فانه من فارق الجماعة شبرا فمات, آلا مات ميتة جاهلية”. وفي رواية: “من كره من أميره شيئا فليصبر, فانه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية”.
ولا تخفى دلالة التطابق في المعنى بين “الخروج من السلطان” و”مفارقة الجماعة” في روايتي الحديث, لان السلطان الشرعي الذي الزم الشرع المسلم بلزومه والصبر عليه هو سلطان الجماعة, أي السلطة الشرعية النابعة من اختيار الجناعة وتراضيها وتعاقدها, وليس السلطة القهرية المتغلبة .
ولابد من تأكيد ان جماعة المسلمين او الأمة السياسية – في معناها الإسلامي – لا تقتصر على المسلمين .بل تشمل كل من ضمه مع المسلمين ولاء سياسي وعقد اجتماعي, كما هو الحال في الطوائف غير المسلمة التي عاشت ضمن المجتمع المسلم اكثر من اربعة عشر قرنا من تاريخ الاسلام . والمتامل في دستور الدولة النبوية يجد سعة في مفهوم الامة, فهو يؤسس للامة بكل ابعادها وظلالها المتعددة ومن ذلك: الامة الاعتقادية التي ينتمي اليها كل المسلمين داخل المدينة وخارجها, حيث نص دستور المدينة على ان” المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس”. الأمة السياسية التي يدخل فيها المسلم وغير المسلم على قدم المساواة, لذلك نصت الوثيقة على أن” يهود بني عوف أمة مع المؤمنين, لليهود دينهم, وللمسلمين دينهم”, ثم عممت الوثيقة هذا الوضع ليشمل جميع القبائل اليهودية بالمدينة المنورة.
فدستور المدينة جعل كلا من المسلمين واليهود أمة بالمعنى الاعتقادي , لكنه دمجهما في أمة سياسية واحدة تجمع بينها الجغرافيا والحقوق السياسية. ومن هذه الحقوق والواجبات السياسية ان “اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين” , وان “بينهم النصر على من دهم يثرب”.
وحتى مفهوم الأمة بالمعنى الجغرافي – الذي لم يعرف بصيغته الواضحة إلا في العصر الحديث – فإننا نجد له أساسا في دستور المدينة , فقد نص ذلك الدستور على ان” المؤمنين والمسلمين من قريش واهل يثرب, ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم …..أمة واحدة من دون الناس”. فكون المسلم – اينما كان – عضوا في تلك الأمة الاعتقادية , لا يعني انه عضو في الأمة الجغرافية السياسية التي تأسست في المدينة آنذاك , اذ الانتماء بالمعنى الجغرافي يستلزم تحيزا مكانيا, وهذا معنى “ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم”. وللامة بهذا المعنى الجغرافي شاهد من القران الكريم يتضمن اشتراط الهجرة, وتقديم المواثيق مع الدول غير المسلمة على نصرة المسلم غير المهاجر: “والذين امنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولا يتهم من شيء حتى يهاجروا, وان استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق”.
فلزوم الجماعة مبدأ سياسي إسلامي يشمل الجماعة بكل أبعادها الواردة في دستور المدينة النبوية , ويشمل هذا المبدأ الجماعات غير المسلمة التي تشكل جزءا من التجربة التاريخية, والنسيج الاجتماعي, والتعاقد السياسي لجماعة المسلمين .
10 – طاعة السلطة الشرعية :
يتفرع عن مبدأي الشورى والبيعة مبدأ ثالث من أمهات القيم السياسية الإسلامية, وهو طاعة السلطة الشرعية .فللسلطة الشرعية حق الطاعة على الناس في كل ما يحقق مصلحة عامة, ولا يناقض بنود العقد بين الطرفين. والطاعة هي الشق الثاني من العقد السياسي بين الحاكم والمحكوم بعد الأمانة والعدل, فقد امر القران الكريم الحكام بأداء الأمانة والحكم بالعدل, ثم امر الرعية بطاعة السلطة الشرعية, تأكيدا على تلك المعادلة ذات الشقين, التي تجمع بين واجبات الحاكم وواجبات المحكوم: “إن الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات إلى أهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل ان الله نعما يعظكم به ان الله كان سميعا بصيرا. يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”.
ان ربط الطاعة بأداء الأمانة وبالحكم بالعدل فيه دلالة صريحة على ان متولي السلطة بغير رضا المحكومين لا طاعة له, اذ هو يتصرف خارج مفهوم الأمانة ,وداخل مفهوم الغصب في الشريعة الإسلامية.
واذا تمت البيعة بشروطها كانت عهدا وميثاقا غليظا يجب الالتزام بمقتضاه, ولا يجوز التحلل منه. وقد ورد النكير الشديد في الاحاديث النبوية على من ينقضون البيعة الشرعية دون مسوغ شرعي, ومن ذلك قول النبي صل الله عليه وسلم :”من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له”. لكن الطاعة لا تكون واجبة إلا لمن كانت بيعته ملزمة بشروطها الشرعية. واهم تلك الشروط هوان تكون البيعة اختيارية, ليست فيها شبهة إكراه. وهي ليست طاعة مطلقة على النمط الامبراطوري الذي يجعل إرادة الحاكم قانونا, بل هي “طاعة مستثناه” بتعبير الإمام الشافعي, أي في غير معصية.
وقد نحا الفكر الديمقراطي الغربي المعاصر هذا المنحى في مسالة الطاعة, فكتب جون لوك- وهو رائد الديمقراطية المعاصرة- ان” الولاء السياسي ليس إلا الطاعة وفقا للقانون. فاذا خرقه الحاكم لم يكن له حق بالطاعة , أو بالمطالبة بها”.
وكثر التأكيد على طاعة السلطة الشرعية في الاحاديث النبوية, بسبب ضمور تقاليد الدولة وثقافتها في الجزيرة العربية عند ظهور الإسلام, مما جعل العرب آنذاك يأنفون من طاعة أي سلطان عموما, ويأبون طاعة القادة الذين لا ينتمون إلى قبائلهم أو قومهم على وجه التخصيص.
وهكذا فان الطاعة السياسية في الإسلام مقيدة بقيدين اثنين: قيد الشرعية وقيد الشريعة. فلا طاعة لسلطة ليست نابعة من اختيار الناس , ولا طاعة فيما يخالف الشريعة حتى وان كانت السلطة الآمرة به كاملة الشرعية السياسية. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي الإثنين 29 يونيو 2020, 5:02 pm | |
| الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية: منع الحرص على الإمارة (12) إعداد وعرض: جميل أبوبكر
قيم البنـــــاء السياسي
11- منع الحرص على الإمارة :
ولان المنصب العام أمانة, كان الحرص عليه مظنة الخيانة. فإغراء السلطة وإغواؤها مما يوجب على المجتمع اليقظة الدائمة، وسوء الظن بالطامحين الطامعين في المناصب السياسية, خصوصا مع ما انتبه إليه ابن خلدون ونبه عليه من ان” الملك منصب شريف ملذوذ, يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية، والشهوات البدنية، والملاذ النفسانية, فيقع فيه التنافس غالبا”.
وحري بموقع هذا إغراؤه وإغواؤه ان لا يمنح للحريصين المتلهفين. ولذلك جاءت السنن النبوية محذرة من الحرص على الإمارة, ومنها قول النبي صل الله عليه وسلم: “أنكم ستحرصون على الإمارة, وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة “.
وقد سن الإسلام سنة سياسية لا مثيل لها في فلسفات الأخلاق السياسية, وهي منع كل حريص على المنصب من تولي المنصب. فقد رفض النبي صلى الله عليه وسلم تأمير من طلبوا إمارة أو اظهروا بين يديه حرصا عليها, وجعل ذلك مبدا ثابتا في سياسته وسنة ماضية في امته: “عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من قومي, فقال احد الرجلين: أمّرنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله, فقال: إنا لا نولي هذا الأمر من سأله, ولا من حرص عليه”. وبدلا من تأمير هذين الطامحين الحريصين امّر النبي صل الله عليه وسلم على اليمن اثنين من عظماء الصحابة الزاهدين في الأمرة, وهما : ابوموسى الأشعري ومعاذ بن جبل.
لكن قول يوسف عليه السلام لملك مصر: “اجعلني على خزائن الأرض اني حفيظ عليم”, يدل على ان منع طلب الإمارة ليس منعا مطلقا, إذ قد تظهر ظروف استثنائية تجعل طلب الإمارة مقبولا، وربما متعينا شرعا. قال الطرطوشي:
“يستفاد من الاية ان من حصل بين يدي ملك لا يعرف قدره، أو أمة لا يعرفون فضله، فخاف على نفسه, لو أراد إبراز فضله جاز له ان ينبه إلى مكانته وما يحسنه, دفعا للشر عن نفسه، وإظهارا لفضله, فيجعل في مكانه. وفيه فائدة أخرى وهو انه اذا رأى الأمر في يد الخونة واللصوص ومن لا يؤدي الامانة, ويعلم من نفسه أداء الأمانة والكفاية، جاز له ان ينبه السلطان
على أمانته وكفايته,….”.
وهكذا يدل الجمع بين الاحاديث النبوية المانعة من سؤال الإمارة والحرص عليها, وما ورد في قصة يوسف -عليه السلام – من طلب المنصب, على ان النص الإسلامي جمع بين المبدئية والروح العملية هنا, فحرم المتلهفين إلى تولي المنصب العام من الحصول على مبتغاهم، لما في تلهفهم من مظنة الطمع والطموح الشخصي, لكنه فتح الباب لأهل الأمانة والقوة في طلب الإمارة في حالة الفراغ من أهل الكفاءة.
12- المدافعة ضد الفساد :
من اعظم الظواهر في القران الكريم ذلك التوتر الدائم بين العدل والظلم في قصص الأنبياء وفي ثنايا النص القرآني كله. وقد بين الله عز وجل في القران الكريم ان المدافعة هي التي تعصم من الفساد:” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين “. فهذه الآية درس بليغ في ان السياسة مواقف وموازين قوى،لا مجرد مواعظ ونيات حسان, فما يعصم من الفساد ليس التزام الحاكم الفرد بالقيم السياسية, بل الزامه من خلال المدافعة الاجتماعية. فلا يحصل العدل وتتحقق الحرية بوعظ الظالم ان يترك ظلمه، بل بإقناع المظلوم ان ينتزع حقه.
وقد ورد الترخيص في القتال في القران الكريم- أول ما ورد – ضمن الحديث عن مبدأ المدافعة. فالقتال في الإسلام مجرد أداة لتحقيق المدافعة الضرورية لتحرير البشر وصيانة الأرض من الفساد. فالسلم مقصد من مقاصد الإسلام الكبرى, ومظلة شرعية يجب على كل المؤمنين الدخول فيها والاستظلال بظلالها: “يا أيها الذين امنوا ادخلوا في السلم كافة”. لكن لا سلم ولا حاجز أمام الاستبداد إلا بمدافعة. وما سوى ذلك أحلام زاهية وأقاصيص وردية, لا قاعدة عملية للحياة.
وقد حصر الإسلام مسوغات القتال في الإسلام في ثلاثة أمور: أولها حق الدفاع عن النفس ورفع الظلم عنها، قال تعالى: “أذن للذين يقاتلون بانهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير. الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق إلا ان يقولوا ربنا الله “. وفي ختام هاتين الآيتين جاء مبدأ المدافعة مفسرا حكمة القتال في الإسلام: “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا”.
وثاني مسوغات القتال في الإسلام هو نصرة المستضعفين العاجزين عن الدفع عن انفسهم :”وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا.”
وثالثهما ضمان حرية العبادة للجميع،:”وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله”.
• ولا تخلوا النفوس البشرية من الشر, فتطبيقا لسنة المدافعة, ودرءا للشر الكامن في النفوس المتحررة من أي رادع، سن الإسلام الجهاد لرفع الظلم, فقال صل الله عليه وسلم :”من قتل دون ماله فهو شهيد, ومن قتل دون أهله, أو دمه, أو دون دينه, فهو شهيد, و”من قتل دون حقه فهو شهيد”, و”من قتل دون مظلمته فهو شهيد”.
على ان المدافعة في الإسلام مفهوم واسع يتجاوز القتال, ليشمل كل توازن في القوى المادية والاجتماعية والمعنوية يحول دون الاستبداد بالقرار والفساد السياسي. وهنا أهمية هذا المفهوم في دلالته السياسية والدستورية. ويقتضي مبدأ المدافعة – بمعناه السياسي والدستوري – وجود تعددية حزبية ونقابية وإعلامية وغيرها، مما يضمن التوازن ويحول دون أي استبداد بالراي أو استفراد في بالقرار في الدولة والمجتمع.
وبهذا المعنى يمكن القول ان الفكر الدستوري الغربي المعاصر طبق مبدأ المدافعة عبر آلية “توزيع السلطات ” التي نظر لها الفيلسوف القانوني الفرنسي مونتسكيو, وآلية “التوازن والتضابط ” التي صاغها منظرو الثورة الأمريكية في الأوراق الفدرالية, وترجموا بها نظرية مونتسكيو إلى نصوص دستورية وصيغ إجرائية عملية. وكان المسلمون اجدر بان يكونوا السباقين إلى ذلك لوجود هذا المبدأ في نصوص دينهم. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي الجمعة 03 يوليو 2020, 6:17 am | |
| الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية: قيم الأداء السياسي (13) قيم الأداء السياسي
إعداد وعرض: جميل أبوبكر
لازال الموضوع هو أمهات القيم السياسية الإسلامية، والجزء الثاني منها وهو المبادئ ذات الصلة بالأداء السياسي، وهي اقل تجريدا من قيم البناء السياسي التي تم استعراضها، لأنها تتجاوز الأسس والمعايير الأخلاقية والقانونية التي يقدمها النص الإسلامي لعملية بناء السلطة، إلى القيم والمعايير الخاصة بأداء السلطة بعد قيامها ،وصناعة القرار فيها. وتوجد مساحة تداخل كبيرة أحيانا بين قيم البناء وقيم الأداء، لأن بعضها يشمل الأمرين، ولكن التصنيف كان حسب المعنى الغالب بناء أو أداء.
1- الرد إلى الله والرسول:
هذا من اعظم المبادئ السياسية الإسلامية، لما يشتمل عليه من دلالات اعتقادية وقانونية. ولولا انه ورد في القران الكريم في سياق الحديث عن سلطة قائمة ورعيتها لتم أدراجه ضمن قيم البناء السياسي، لما له من وزن تأسيسي. وقد ورد الرد إلى الله والرسول في القران الكريم في سياق الحديث عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وواجب كل منهما اتجاه الآخر، وعند الخلاف لابد من الاحتكام إلى الله والرسول، أي الاحتكام إلى القران الكريم وسنة النبي صل الله عليه وسلم، بدل الاحتكام إلى منطق القوة وقانون الغاب.
فالمبادئ الأربعة (أداء الأمانة، والحكم بالعدل، وطاعة السلطة الشرعية، والرد إلى الله والرسول) مبادئ مترابطة، يعضد بعضها بعضا، ولذلك وردت في سياق واحد في قوله تعالى للأمراء: “ان الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات إلى أهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل ان الله نعما يعظكم به ان الله كان سميعا بصيرا”. ثم قال مخاطبا الرعية في الآية التالية:” يا ايها الذين امنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير واحسن تأويلا”. قال الإمام الشافعي مفسرا قوله تعالى “فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول”: فان تنازعتم: يعني -والله اعلم- هم وأمراؤهم الذين امروا بطاعتهم. فردوه إلى الله والرسول: يعني – والله اعلم – إلى ما قاله الله والرسول”. وقد ورد الأمر بالرد إلى الله والرسول بعد الأمر بالطاعة مباشرة ، إشارة إلى ان حدود الطاعة كثيرا ما تكون مصدر تنازع بين الحاكم والمحكوم، وان حل هذا التنازع يكون بالاحتكام السلمي إلى القران والسنة.
ولمبدا الرد إلى الله والرسول مدلولان: مدلول دستوري ومدلول مرجعي. أما المدلول الدستوري فهو المساواة بين الحاكم والمحكوم أمام القانون، وهو مرادف لمفاهيم “حكم القانون” و “سيادة القانون” و”المساواة أمام القانون” في الاصطلاح الدستوري المعاصر. والمساواة أمام القانون بين القوي والضعيف، وبين الحاكم والمحكوم، هي التحدي الأكبر في السياسة. فان ضاعت هذه المساواة اذعن الحق للقوة، وضاعت كل المعايير الأخلاقية والقانونية، وجعل الطغاة إرادتهم قانونا. كما جاء الإسلام بالمساواة بين الحاكم والمحكوم أمام القانون بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ الفكر السياسي البشري، حتى ان النبي صل الله عليه وسلم عرض على احد أصحابه ان
يقتص منه، عندما وخزه سهم كان بيده بغير قصد. وتأكيدا للمساواة بين الحاكم والمحكوم أمام الشرع قبل النبي صلى الله عليه وسلم حق جماعة من رعيته في القود من احد أمرائه ضرب رجلا بغير حق، وظل صل الله عليه وسلم يسترضيهم حتى قبلوا تعويضا ماليا يرضيهم بديلا عن العقوبة الجسدية. وعلى ذلك سار الخلفاء الراشدون.
لكن المسلمين أضاعوا في جل مراحل تاريخهم مبدأ الرد إلى الله والرسول، بهذا المعنى الدستوري الذي يضمن المساواة بين الحاكم والمحكوم أمام القانون.
لقد جعل بعض الفقهاء الخليفة\السلطان فوق القانون، لأنه فرض لنفسه هذه المنزلة، واصبح من المتعذر تغييرها دون فتنة يخشاها العقل الفقهي اكثر مما يخشى أي شيء آخر.
أما المعنى المرجعي للرد إلى الله والرسول، فهو يتعلق بمصدر الالتزام الأخلاقي والإلزام القانوني ذاته. فالمساواة أمام القانون لا تكفي مهما حققت من عدل ، بل يجب ان يكون هذا القانون قانونا مستخلصا من نصوص الشرع، أو من مقاصده العليا وقيمه الكلية . فمرجعية الوحي هي ما يميز النظام السياسي الإسلامي عن غيره من الأنظمة السياسية. ومهما تحقق الأنظمة ذات المرجعية البشرية المحضة من عدل، فلا يمكن تسميتها نظاما إسلاميا، إلا اذا استندت إلى مرجعية صريحة من القران والسنة.
ان شؤون السياسة والحكم – مهما تضمنت من غايات المصالح الدنيوية – لها في الإسلام معنى تعبدي لا يتحقق إلا في ظل التزام الدولة بمرجعية الوحي. فقضية الرد إلى الله ورسوله بمعناها المرجعي هي اهم فارق بين النظام الإسلامي والنظام العلماني اليوم، وهي مربط الفرس في الصراع اليوم بين القوى السياسية الإسلامية الساعية إلى ربط الفضاء العام بمرجعية الإسلام، والقوى السياسية العلمانية الداعية إلى اعتماد مرجعية بشرية منبتة عن هدي السماء. والمقصود بالإسلاميين والعلمانيين أولئك المؤمنين منهم بالكرامة الإنسانية والعدالة السياسية. أما الداعمون للاستبداد فليس لهم مرجعية أخلاقية أصلا، لا إسلامية ولا إنسانية |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي الأحد 05 يوليو 2020, 5:50 am | |
| الأزمة الدستورية بالحضارة الإسلامية (14): السلطة التأويلية للنص جميل أبو بكر
2- التزام السواد الأعظم
ان لزوم الجماعة او الاجماع بمعناه السياسي هو التجسيد لختم الرسالة. فختم الرسالة ايذان بنقل امر القيادة من يد الفرد المعصوم الى يد الامة المعصومة, ولذلك كانت عصمة الامة تغني عن عصمة الائمة، كما لاحظ ابن تيمية – بعمق ونفاذ بصيرة – في جداله مع النظرية الشيعية القائلة بضرورة وجود امام معصوم يحفظ للناس الوحي ويبينه لهم.
قال ابن تيمية: "لا نسلم ان الحاجة داعية الى نصب امام معصوم؛ وذلك لأن عصمة الامة مغنية عن عصمته، وهذا مما ذكره العلماء في حكمة عصمة الامة؛ لأن من كان من الامم قبلنا كانوا اذا بدلوا دينهم بعث الله نبيا يبين الحق، وهذه الامة لا نبي بعد نبيها, فكانت عصمتها تقوم مقام النبوة".
وبناء على هذا التحليل حسب ابن تيمية " يجب ان تكون الامة حافظة للشرع". فهي صاحبة السلطة التأويلية للنص الاسلامي، وهي المسؤولة عن نقله من الالتزام الى الإلزام في شكل قوانين تصون الحقوق بين الناس. ولعلي عزت بيغوفيتش قول قريب من هذا عند مقارنة عصمة الامة في الاسلام بعصمة البابا في المسيحية.
فالجماعة في الاسلام هي المعصومة من الضلالة، وهي السد المنيع وخط الدفاع الاخير عن الملة، ولا يوجد فرد معصوم يتولى هذه المهمة، كما هو الحال في الكاثوليكية، وفي التشيع بمختلف مشاربه. وقد ورد في عصمة الامة قول النبي صل الله عليه وسلم: "إن الله قد أجار أمتي ان تجتمع على ضلالة".
واهم معاني الاجماع – في مدلوله السياسي الاصلي— هو الالتزام بشرعية السلطة التي تختارها الامة, وعدم الخروج عليها بالقوة , مما قد يمزق لحمة الجماعة ويبدد قوتها . وقد اهدر النبي صل الله عليه وسلم دماء الذين يفعلون ذلك فقال: "من أتاكم وامركم جميع على رجل واحد يريد ان يشق عصاكم او يفرق جماعتكم فاقتلوه". فأساس اجتماع الجماعة وإجماعها هو الشورى والتراضي ثم التعاقد. وهذا المعنى السياسي هو المدلول الاصلي للاجماع في النصوص الشرعية, قبل ان يضيق الاصطلاح الفقهي من مدلوله، فيحوله الفقهاء مفهوما قانونيا، ويحتكروه لأنفسهم.
ومن لزوم الجماعة الالتزام بقراراتها في شأنها العام, والنزول عند رأي سوادها الاعظم عند الخلاف السياسي، سواء اتفق معها الفرد ام لا. ويتفرع عن لزوم الجماعة لزوم امامها, اي الوقوف مع سلطتها الشرعية المعبرة عن اختيارها وروحها الجمعية في وجه البغاة الخارجين عليها. وكان امر الرسول صل الله عليه وسلم حاسما في هذا الامر فقال: "إنه ستكون هنات وهنات, فمن اراد ان يفرق امر هذه الامة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائنا من كان".
وقد افاض فقهاء المسلمين الحديث في باب "قتال البغاة " من كتبهم عن مقاتلة الخارجين على اجماع الجماعة وسلطتها الشرعية، الا انهم ايضا لم يطلقوا يد السلطة في التعامل مع الخارجين عليها ,وهذا مما يحمد لهم ,حتى لا توغل بالانتقام بدوافع الانانية السياسية.
3 – الأخذ على يد الظالم واذا كان النص الاسلامي قد سن سنة المدافعة؛ لتكون درعا دون الظلم الاجتماعي والسياسي عموما؛ وحاجزا دون احتكار ثمرات السلطة والثروة، فقد نال ظلم الحكام قسطا من مساحة هذا النص الداعي الى مقاومة الظلم. ومن اجمع نصوص السنة النبوية في ذلك: عن عطاء بن يسار وهو قاضي المدينة قال: سمعت عبدالله بن مسعود وهو يقول: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: سيكون امراء من بعدي يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن, ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ,لا ايمان بعده ..............الى آخر الحديث.
وقد اطنب فقهاء السياسة الشرعية في تذكير الحكام بوجوب منع الرعية من التظالم، والاخذ على ايدي الظالم من الرعية, ولا شك ان ذلك من اوجب واجبات الحكام. لكن السنن النبوية الواردة في هذا الباب لا تقتصر على صغار الظلمة الذين يجب على السلطة ان تاخذ على ايديهم، بل المقصود الاول بتلك السنن السياسية هو كبار الظلمة من الامراء والحكام الذين يجب على الامة الاخذ على ايديهم، ووقفهم عند حدهم.
ولذلك ورد الامر بالاخذ على يد الظالم في السنة النبوية خطابا موجها الى "الناس" والى "الامة" لا الى الحكام فقط. ومن امثلة ذلك قول النبي صل الله عليه وسلم: "ان الناس اذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه اوشك ان يعمهم الله بعقاب". وجاء هذا الحديث في سياق يرفض اي انعزال للمسلم عن الشأن العام، واي استقالة للامة من مسؤولياتها الجماعية.
ان الامم التي لا ينتصر المظلوم فيها من الظالم ولا يأخذ الضعيف حقه من القوي لا تستحق نصر الله وتسديده. وفي ذلك يقول النبي صل الله عليه وسلم: "ان الله لا يقدس امة لا يأخذ الضعيف حقه من القوي وهو غير متعتع".
وعموم العقاب على الامة بسبب سكوتها على الظالم حقيقة شرعية وقانون اجتماعي. اما كونه حقيقة شرعية فهو واضح من نصوص الاحاديث النبوية فالامة تستحق العقوبة العامة حين تسكت على المظالم الخاصة، وما نعيشه اليوم من اقتتال وخراب في امة الاسلام ترجع جذوره الى سكوتها على الظلم السياسي.
واما كون العقاب العام للامة بسبب سكوتها على الظلم قانونا اجتماعيا فهو امر ادركه علماء الاجتماع وفلاسفة السياسة منذ ايام ابن خلدون حتى اليوم. وقد جعل ابن خلدون عنوانا لذلك في مقدمته في الفصل الثالث والاربعين "في أن الظلم مؤذن بخراب العمران".
ومن الاخذ على يد الحاكم الظالم مواجهته بكلمة الحق والتضحية في سبيل ذلك. وجاء في الحديث: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر، او امير جائر".
والنص الاسلامي في مواجهة الظلم السياسي اقرب الى التراث الديمقراطي الغربي القديم في اثينا وروما – الذي يدعوالى مقاومة الطغيان السياسي – منه الى التراث الامبراطوري الشرقي في الهند وفارس الذي يسوغ الخنوع في مواجهة الظلم السياسي.
وقد ادرك الفقيه السياسي عبد الرحمن الكواكبي ما يترتب على الاخذ على يد الظالم من صيانة لحقوق الناس، ووقاية من الظلم، فلاحظ ان "المستبد يتجاوز الحد ما لم ير حاجزا من حديد. فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفًا لما اقدم على الظلم".
واذا انحرف الحاكم الشرعي عن منطق العدل والمصلحة, وضعه الاسلام امام خيارين: اما الاعتدال واما الاعتزال. لكن الترتيب الشرعي للامور- كما شرح الكواكبي- هو البدء بتحقيق الاعتدال، واذا لم تنجح خطة الاعتدال انتقلت الامة الى خطة الاعتزال، وهي ارغام الحاكم على التخلي عن المنصب بعد ان ثبت عدم اهليته .
اما الحاكم غير الشرعي فهو من غليظ المنكر الذي يجب تغييره –بغض النظر عن أدائه السياسي- لأنه مغتتصب استلم السلطة وهي امانة عن طريق الغصب. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي السبت 11 يوليو 2020, 6:20 pm | |
| الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية (15): المال العام
4- المال العام مال الله ان المال مصدر من مصادر الطغيان السياسي,وباعث من اعظم بواعثه,وما اكثر ما يستبد المستبد بدافع من الجشع والطمع في ثروات الامة,والحرص على الاستيلاء عليها بمنطق الجمع والمنع,او لارواء غروره في التصرف في اموال الناس على هواه .وقد شخص الكواكبي داء الاستبداد في العالم الاسلامي ,ووجد ان الحرص على المال هو اعظم دوافعه واسبابه فقال:"الاستبداد لو كان رجلا واراد ان يحتسب وينتسب لقال: انا الشر,وابي الظلم,وامي الاساءة,واخي الغدر,واختي المسكنة,وعمي الضر,وخالي الذل, وابني الفقر,وبنتي البطالة, وعشيرتي الجهالة,ووطني الخراب,اما ديني وشرفي فالمال المال المال".
وقد استخدمت النصوص الاسلامية مصطلح "مال الله "توصيفا للمال العام .وهو مصطلح يحمل مدلولا اخلاقيا عظيما,من حيث الفصل بين المجال العام والمجال الخاص في شؤون المال,والتأكيد ان المال العام – شأنه شأن المنصب العام – ملك للامة, وهو امانة بيد الحاكم وليس ملكية شخصية له اولذويه.والذي سمى المال العام "مال الله"هو النبي صلى الله عليه وسلم,وهو الذي اعلن ان الاعتداء على المال العام من عظائم الجرائم وكبائر الاثام, وذلك في قوله صل الله عليه وسلم:"ان رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق, فلهم النار يوم القيامة".وفي تعبير"مال الله" اضفاء قدسية خاصة على ثروة الامة المشتركة,وتنبيه على الموقف الشرعي الصارم ممن ينتهك حرمتها.
وهذه التسمية تنسجم مع منطق اسلامي عام يجعل حقوق الامة من حقوق الله ,تعظيما لحرمتها من تطاول ايدي الطغاة . وقد سن النبي صلى الله عليه وسلم سنة الفصل الصارم بين المال العام والمال الخاص,وبين ان تصرفه في المال العام ليس تصرف المالك في ملكه, او تصرف المستبد في ثروة امته , بل هو تصرف المستامن النزيه في امانته ,وضمن الحدود الشرعية التي امر الله بها,فقال صل الله عليه وسلم:"انما انا قاسم وخازن والله يعطي",وفي رواية:"ما اعطيكم ولا امنعكم, انما انا قاسم اضع حيث امرت".
وقد سار الخلفاء الراشدون على منهاج النبي صل الله عليه وسلم في التصرف في المال العام بمنطق المستامن,فاكتفوا منه بنفقة عيالهم, ثم وضعوا الاخر حيث يجب ان يوضع من مصالح الامة. ومن منظور العدالة التوزيعية بالمعنى المعاصر يظهر من النصوص الاسلامية حرص على وضع المال العام في خدمة الفقراء, والحيلولة دون احتكاره بايدي الاغنياء,كما يدل عليه قول الله عزوجل عن الفيء:"ما افاء الله على رسوله من اهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لايكون دولة بين الاغنياء منكم".
كما سن النبي صلى الله عليه وسلم لامته التعامل مع الامراء بمنطق الأجراء ,فجعل لامرائه من المال العام اجرة معلومة, تكفيهم للعيش دون اسراف,فقد قال صل الله عليه وسلم:"من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا, او ليست له زوجة فليتزوج ,او ليس له خادم فليتخذ خادما,او ليست له دابة فليتخذ دابة,ومن اصاب شيئا سوى ذلك فهو غال".
ففي هذه الاحاديث حصر لاساسيات الحياة الكريمة في العصر النبوي,وهي المسكن والزوجة,والخادم , والدابة. وتتغير هذه الامور من زمان لاخر ومن مكان لاخر,حسب ثروة الامة وحاجة قادتها,وحسب القوانين والانظمة التي تضعها الامة في علاقاتها بإجرائها من امرائها.
والمؤسف حقا ان جل التاريخ السياسي الاسلامي لم يلتزم بهذا الفصل الواضح في الاسلام بين المال الخاص والمال العام,ولم يقدر حكام المسلمين وفقهاؤهم مفهوم "مال الله".
5 – منع الغلول والرشوة وتحقيقا لمفهوم "مال الله" حرم النص الاسلامي الاعتداء على المال العام,سواءفي صيغة غل,او رشوة ,او تمول سياسي غير شرعي ناتج عن سوء استغلال المنصب العام. فقد ورد في الغل قوله تعالى:"وما كان لنبي ان يغل ومن يغلل يات بما غل يوم القيامة".والغل هو اختلاس قسط من المال العام بعيدا عن اوجه الصرف الشرعية المنصوصة, او المتفق عليها في الجماعة,وهو يشمل الحاكم والمحكوم.وتكرر التحذير في السنة النبوية من تجاوز الحد المالي الذي تمنحه الامة بالاخذ من المال العام ,فقال النبي صل الله عليه وسلم:"من استعملناه منكم على عمل,فكتمنا مخيط فما فوقه,كان غلولا ياتي به يوم القيامة".
واما الرشوة فقد ورد تحريمها في قوله تعالى:"ولا تاكلوا اموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها الى الحكام لتاكلوا فريقا من اموال الناس بالاثم وانتم تعلمون". وقال االرسول صل الله وسلم:" لعنة الله على الراشي والمرتشي".
وبالغ النبي صل الله عليه وسلم في التشديد في هذا المقام حتى حرم على الامراء قبول الهدايا من رعاياهم ,تجنبا لشبهة الرشوة, واستغلال هيبة السلطة العامة استغلالا سيئا.وفي قصة ابن اللتبية مثال . وبلغ تشديد النبي صلى الله وسلم في شان الغلول والرشوة ان اصبح بعض الصحابة يتورعون من تقلد اي منصب عام خوفا من تحمل تبعاته,حتى ولو كان النبي صل الله عليه وسلم هو الذي يوليهم ذلك المنصب.
كما وصل الحد ببعض الصحابة ان تعففوا عن اخذ اجرتهم الشرعية التي استحقوها من خدمتهم للامة في المناصب العامة .
وهكذا وضع الوحي سياجا منيعا امام الاعتداء على المال العام ,من خلال توصيفه بصفة" مال الله " بما تحمله من هيبة وتوقير في الضمير المؤمن ,والفصل بينه وبين المال الخاص فصلا واضحا,وتحديد اوجه انفاقه طبقا لمصلحة الجماعة لا طبقا لهوى الحاكم ,ومنع الغلول والرشوة والتمول السياسي الناتج عن سوء استغلال المنصب العام.
قيم الأداء السياسي: الأمانة والكفاءة العملية (16) إعداد وعرض: جميل أبوبكر
6- الأمانة أو الأهلية الأخلاقية:
من الأسئلة المحورية في الفلسفة السياسية سؤال عن طبيعة المنصب العام: أهو هبة الهيئة أم أمانة مشروطة أم ملكية شخصية؟ وقد كان من اهم معالم ثورة القيم التي أحدثها الإسلام في مجال السياسة توصيف المنصب العام أخلاقيا وقانونيا بأنه أمانة من المحكومين عند الحاكم، وليس ملكية شخصية يتم توارثها أو الاستيلاء عليها بالقوة، والمحافظة عليها بالقهر. كما ان المنصب العام في الإسلام ليس هبة الهيئة، إلا ما كان من توليه الله سبحانه بعض أنبيائه قادة للناس، بحيث يستمدون شرعيتهم السياسية من الخالق لا من الخلق. ومع ذلك كانت للإسلام خصوصية في هذا المضمار أيضا، كما سيتضح في الحديث عن الشورى والمشاورة.
وللأمانة في الاصطلاح السياسي الإسلامي معنيان: فهي تستعمل توصيفا أخلاقيا وقانونيا للمنصب العام، كما تستعمل صفة لمتقلد المنصب، وشرطا من شروط الكفاءة القيادية. فالأمانة بالمدلول الأول تعني ان المنصب العام وديعة بيد متقلده ،لا ملكية شخصية له. والأمانة بالمدلول الثاني تعني ان متقلد المنصب يجب ان يكون أمينا في نفسه، فهي تشمل الصفات الأخلاقية التي تكبح جماح الحاكم، فتكون وازعا له يمنعه من إساءة استعمال السلطة.
وقد ورد مفهوم الأمانة بالمعنى الأول في قوله تعالى: “إن الله يأمركم ان تؤدوا الأمانات إلى أهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل”. واعتبر ابن تيمية الأمانة والعدل الواردين في الآية هما لباب العلاقة السياسية بين الراعي والرعية من المنظور الإسلامي، فقال:” واذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة “.وقد ورد في الحديث النبوي عن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وانها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وادى الذي عليه فيها”. فيقتضي أداء الأمانة- بمعناها السياسي – بذل الحاكم غاية الجهد في خدمة المحكومين.
ومما يترتب بداهة على كون المنصب العام أمانة ان للامة استرجاع تلك الأمانة من يد الحاكم متى شاءت، فهي صاحبة الحق الأصيل في ذلك، وذلك حسب صيغة التعاقد بينها وبين الحاكم ،وان لم تكن هناك صيغة تعاقدية منصوصة، فإن الاسترجاع يبقى خاضعا لإرادة الأمة ورغبتها، ولا يسأل صاحب الأمانة عن تعليل لاسترجاع أمانته.
وقد توصل الفكر الدستوري الغربي- منذ أيام جون لوك – إلى هذا المبدأ الإسلامي العظيم تأذي يجعل المنصب العام أمانة، فتحدث لوك عن ان المنصب العام “سلطة ائتمانية”، وان من حق المستأمن ان يستردها متى شاء من المستأمن عليها، أو طبقا لشروط متفق عليها بينهما وخصوصا اذا تبين ان المستأمن (عليها) غير جدير بحمل الأمانة.
أما المعنى الثاني للأمانة، أي باعتبارها شرطا من شروط الأهلية القيادية، فقد ورد في القران الكريم على لسان يوسف عليه السلام لما طلب من ملك مصر ان يوليه امر الخزائن فقال: “اجعلني على خزائن الأرض اني حفيظ عليم. “قال النيسابوري: “حفيظ للأمانات وأموال الخزائن ،عليم بوجوه التصرف فيها على وجه الغبطة والمصلحة”.
وجاء هذا المعنى للأمانة في حديث عندما طلب نصارى نجران من النبي صلى الله عليه وسلم – بعد المعاهدة معهم – ان يبعث معهم رجلا مسلما يتولى إدارة شؤونهم، فقالوا: “يا رسول الله ابعث الينا رجلا أمينا، فقال: لأبعثن إليكم رجلا أمينا، حق أمين، حق أمين”. ووقع اختياره صل الله عليه وسلم على أبي عبيدة بن الجراح، ولقبه بأمين الأمة.
ويقتضي أداء الأمانة من الأمة ان لا تسلم المنصب العام الا لمن هو اهل له، ولا تسكت على من يستلمه دون اهلية له.
ويترتب على كون المنصب العام امانة، ان متولي المنصب العام أجير لدى رعيته، فهو مستأمن مقابل اجر. فالعلاقة بين الأمة وحكامها علاقة أجير برب العمل.
7 – القوة أو الكفاءة العملية:
ورد مصطلح القوة في النصوص الشرعية مرادفا لمصطلحي الكفاءة والخبرة في لغتنا المعاصرة. وكثيرا ما اقترنت القوة بالأمانة في النصوص الإسلامية، على نحو ما ورد في القران الكريم من قول ابنة الرجل الصالح من مدين لأبيها: “ان خير من استأجرت القوي الأمين”. وقول النبي صل الله عليه وسلم عندما سألوه عمن يؤمروا بعده:” ان تؤمروا عمر تجدوه قويا أمينا لا يخاف في الله لومة لائم.” فالقوة تشمل كل الصفات الفطرية والمكتسبة التي تمكن متقلد المنصب العام من الاضطلاع بمهمته على الوجه الأكمل والأصلح للامة بما في ذلك الخبرة السياسية والعسكرية والدبلوماسية. وتشمل هذه الصفات العلم والأهلية الجسدية، وقد وردت إشارة إلى هاتين الصفتين في قول يوسف عليه السلام: “آني حفيظ عليم “، وفي وصف ملك بني إسرائيل من بعد موسى:” ان الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم.”
وعد الماوردي من شروط الإمام” العدالة على شروطها الجامعة” و”العلم المؤدي إلى الاجتهاد “و” سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها” و “سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض” و” الراي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح” و”الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو.”
على ان العلم النظري لا يعني بالضرورة الجدارة السياسية، وربما كان ذلك ما قصده هارون الرشيد اذ قال للأصمعي:”يا عبد الملك، انت اعلم منا ونحن اعقل منك.”
اما عن الأهلية الجسدية، فلا بد من التنبيه هنا إلى ان الحديث النبوي لا يمنع من لديهم علة جسدية ان يتولوا المناصب العامة، سواء كانت تلك العلة خلقية او طارئة، ما لم تتعارض علتهم مع طبيعة ذلك المنصب بخصوصه. ففي الحديث “عن أبي ذر قال: ان خليلي أوصاني ان اسمع وأطيع وان كان عبدا مجدع الأطراف”. ومعنى” مجدع الأطراف” مبتور اليدين والرجلين.
ويختلف مفهوم القوة(بمعنى الكفاءة العملية) بحسب طبيعة المنصب، فهي في المناصب العسكرية الشجاعة والخبرة والتجربة العسكرية، وفي المناصب العلمية سعة الباع العلمي، وفي السفارات تكون الكفاءة في الخبرة بالبلاد وأهلها، وحسن المظهر ولطف الحديث…الخ. فالقوة مفهوم سياقي نسبي.
وقد ادرك ابن تيمية نسبية القوة وتناسب نوعها مع نوع المنصب السياسي، فكتب:” القوة في كل ولاية بحسبها، فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، والى الخبرة بالحروب والخديعة فيها ، فان الحرب خدعة ،والى القدرة على أنواع القتال…..والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، والى القدرة على تنفيذ الأحكام “.
ويقول في موقع آخر “الواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها. فاذا تعين رجلان، احدهما اعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم انفعهما لتلك الولاية، واقلهما ضررا فيها”. وعندما سئل الإمام احمد:عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، واحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف، مع أيهما يغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر.
وان الأمانة والقوة صفتان هما حاصل شروط الكفاءة القيادية في الإسلام ،كما لاحظ ابن تيمية بحق فقال: “الولاية لها ركنان: القوة والأمانة”.
الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية: الحكمة السياسية (17) إعداد وعرض: جميل أبوبكر
قيم الأداء السياسي
8 – المواءمة أو الحكمة السياسية:
والمقصود بالمواءمة مناسبة الشخص للمنصب في سياق زمان ومكان بعينه، بسبب ظروف خاصة، أو سعيا إلى رضا الرعية المتأثرين بما يصدر عن ذلك المنصب من سياسات وقرارات. فرغم ان الأصل في معيار الكفاءة السياسية هو الأمانة والقوة – على ما اسلفنا – فان مجرد توفر هذين الشرطين لا يجعل الشخص ملائما للمنصب في كل الظروف. فقد يكون صاحب الأمانة والقوة غير مرغوب فيه من جهة الرعية الداخلين ضمن ولايته، أو يكون غيره انسب للمنصب منه لظروف خارجية لا علاقة لها بالكفاءة الشخصية في ذاتها. ومن أمثلة الموائمة إقرار النبي صلى الله عليه وسلم عددا من قادة القبائل الذين اسلموا على قيادتهم لقبائلهم، رغم انهم قريبو عهد بالإسلام، ويوجد من هم احسن كفاءة منهم. فمن بين أربعين أميرا عملوا للنبي صلى الله عليه وسلم، كان سبعة من شيوخ القبائل أبقاهم النبي صل الله عليه وسلم قادة لقبائلهم كما كانوا قبل الإسلام.
ورغم ان القائد الشرعي للامة من حقه اختيار ولاته وموظفيه، فليس من الحكمة السياسية- طبقا لمبدا الموائمة – ان ينصب على أهل ناحية من لا يرضونه، حتى وان كان من أهل الأمانة والقوة. وهذا ما نجد له أصلا في فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فعندما اشتكى قادة المجتمع في البحرين العلاء بن الحضرمي الذي عينه النبي صلى الله عليه وسلم واليا عليهم “فعزله صل الله عليه وسلم، وولى أبان بن سعيد بن العاص وقال له: استوص بعبد القيس خيرا واكرم سراتهم”. ويظهر من سياق القصة هنا ان العلاء بن الحضرمي لم يحسن التعامل مع قادة المجتمع في البحرين، ولم ينزل الناس منازلهم كما تقتضيه الحكمة السياسية، رغم انه من أهل الأمانة والقوة.
واستلهاما لهذا الهدي النبوي عزل عمر بن الخطاب أميره على الكوفة سعد بن أبي وقاص، بعد تواتر الشكوى منه، رغم انه من أكابر الصحابة، ومن العشرة المبشرين بالجنة، ومن القادة العظام في فتح العراق وفارس. وقد شهد عمر لسعد بانه من أهل الأمانة والقوة، وكان يراه أهلا لخلافة المسلمين أجمعين وليس لولاية الكوفة فحسب.
ان منطق الموائمة هو الذي دفع أبابكر الصديق إلى التشبث بخالد في وقت ارتداد العرب ورميهم الإسلام عن قوس واحدة، رغم انه كانت لدى الصديق مأخذ على خالد. لكن بسالة الرجل وتجربته الحربية لم تكن لتسمح للصديق بعزله وهو يواجه مازق الردة. وعندما أشار عمر عليه لعزله قال ابوبكر: “فمن يجزئ عني جزاء خالد”؟.
ومن الموائمة ان يكون الحاكم صادقا مع الله ومع الأمة، مدركا جوانب القوة والضعف في نفسه، فيبحث في رعيته عمن يستكمل به نقصه، ويتدارك به قصوره، حتى ولو كان هو نفسه من أهل الأمانة والقوة، لان التوازن المطلق بين الأمانة والقوة، كمال مطلق غير متاح لاحد من البشر. يشرح ابن تيمية ذلك في تحليله لتولية الصديق خالدا وتولية الفاروق اباعبيدة، فيقول: “ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان شديدا في الله فولى أبا عبيدة لأنه كان لينا، وكان ابوبكر لينا وخالد شديدا على الكفار، فولى اللين الشديد، وولى الشديد اللين، ليعتدل الأمر، وكلاهما فعل ما هو احب إلى الله تعالى في حقه”.
فمبدأ الموائمة السياسية مبدأ مهم، يكمل شرطي الأمانة والقوة لتحقيق الكفاءة السياسية، ويعكس الحكمة السياسية العملية في الإسلام.
9 – المشاورة في صناعة القرار :
لا يكفي ان يكون الحاكم شرعيا ابتداء ليكون طليق اليدين فيما بعد. فاختيار الناس حاكمهم – طبقا لأعمال مبدأ الشورى – يشرع تقلد الحاكم المنصب ابتداء، لكنه لا يشرع طريقته في الحكم فيما بعد. ولكي تكون طريقة الحكم شرعية نحتاج مبدأ اخر مكملا للشورى، وهو مبدأ المشاورة. ومقتضى الأمر بالمشاورة انه لا يجوز للحاكم – حتى ولو كان تام الشرعية – ان يستفرد بالقرار أو يستبد به. فالمشاورة إكمال للشورى، حيث بالشورى تختار الأمة اصلح الناس لحكمها، ولا يفرض عليها خيار مسبق بالوراثة أو الغلبة. وبالمشاورة تستحث الأمة الحاكم الضعيف، وتلجم الحاكم القوي، وتحقق المشاركة واليقظة الدائمة في شانها العام.
وردت الشورى في القران الكريم – كما تبين سابقا – في سياق الحديث عن المؤمنين:”وأمرهم شورى بينهم”، أما المشاورة فقد وردت في القران الكريم في سياق الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم:” وشاورهم في الأمر”. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالشورى، وإنما امر بالمشاورة، أما المؤمنون فهم مأمورون بالشورى نصا، ومأمورون بالمشاورة ضمنا، اقتداء بالنبي صل الله عليه وسلم.
وأهمية التمييز القرآني بين الشورى والمشاورة هي ان الأنبياء لا يستمدون قيادتهم من الأمة، فهم ليسوا بحاجة إلى الشورى ذات الصلة ببناء السلطة وشرعيتها، لان شرعية الأنبياء السياسية مسالة اعتقادية، فطاعتهم طاعة لله متعينة في ذاتها:” ان الذين يبايعونك إنما يبايعون الله”، “من يطع الرسول فقد أطاع الله”. فليس للمؤمن خيار ان لا يبايع نبيا أو يطيعه، بينما هو بالخيار في مبايعة الأخرين وطاعتهم. وما ورد في السنة النبوية من مبايعة الناس النبي صلى الله عليه وسلم تأكيد من المسلمين لالتزامهم بما الزمهم به الخالق من طاعته صل الله عليه وسلم، وسن لسنة البيعة لمن يأتي من قادة المسلمين من بعده.
وبذلك يتضح ان نظرية ” التفويض الإلهي” أو ” الحق الإلهي” – القائلة بان الحاكم يستمد شرعيته من الخالق لا من الخلق، وانه مسؤول أمام الخالق فقط لا أمام الخلق – لا مكان لها في الإسلام. فالأنبياء وحدهم في الإسلام هم الذين يستمدون شرعيتهم السياسية من الخالق، أما غير الأنبياء فهم يستمدون شرعيتهم المباشرة من الناس بتشريع من الخالق، وكل ادعاء منهم باستمداد الشرعية السياسية من الخالق مباشرة فهو تضليل للخلق، وافتراء على الخالق سبحانه.
وقد كان النبي صل الله عليه وسلم اكثر الناس مشاورة لأصحابه، ولم يكن يجد غضاضة في تغيير رايه حين يتبين الصواب السياسي أو العسكري عند غيره. ومن ذلك مشاورة الصحابة في غزوات بدر واحد والخندق وغيرها.
وكثيرا ما دار الجدل حول إلزامية الشورى واعلاميتها، ويمكن بيان ذلك كما يلي: فالشورى ذات الصلة ببناء السلطة لابد ان تكون ملزمة، والا فقدت مدلولها الشرعي وثمرتها المصلحية. وكل نصوص السنة في الموضوع تدل على وجوبها ابتداء وإلزاميتها انتهاء.
أما المشاورة ذات الصلة بأداء السلطة وتسييرها، فهي واجبة ابتداء، لكن نتيجتها قد تكون ملزمة للقائد المستشير، أو مجرد استمداد للخبرة وتمحيص للراي، قبل اتخاذ قراره بنفسه حسبما تخوله الأمة من صلاحيات، وما تقيده من قيود. وتدل السنة السياسية ان النبي صل الله عليه وسلم التزم بنتيجة المشاورة في الأمور العامة إلا في حالتين، كان عنده امر أو توجيه من الوحي، وكان ذلك في صلح الحديبية، وفي احد بعد ان أراد ان يتراجع المسلمون عن رايهم الأول.
ومهما يكن، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على التمييز بين الوحي الإلهي والسنة النبوية اللذين لا سبيل في التعاطي معهما غير القبول والإذعان، تعبدا لله تعالى وخضوعا، وبين اجتهاد النبي صل الله عليه وسلم المنبثق من خبرته البشرية وتجربته في الحياة دون اصل من الوحي، وهو امر يخضع للنقاش والتداول، ومن حقهم مناقشته فيه، وإبداء آرائهم التي قد تكون اقرب إلى الصواب السياسي أو العسكري.
أما في الأمور الشخصية التي يتحمل الفرد مسؤوليتها ونتيجتها حصرا، فالمشاورة غير واجبة، ونتيجتها غير ملزمة، ولكنها مستحبة للمسلم تأسيا برسول الله صل الله عليه وسلم، الذي استشار في أمور عائلية خاصة بعض أقاربه وأحبته. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي الأربعاء 15 يوليو 2020, 5:18 pm | |
| الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية (18): الحاكم والمحكوم
10- النصح من الحاكم والمحكوم
يترتب على التوصيف الاخلاقي والقانوني للمنصب العام بأنه امانة وجوب التعامل مع كل ما يتعلق بهذا المنصب بنصح واجتهاد من طرف الحكام والمحكومين على السواء,وتجنب الغش والخيانة في ذلك. ففي الحديث: "ما من وال يلي رعية من المسلمين,فيموت وهو غاش لهم,الا حرم الله عليه الجنة". وفال معقل بن يسار وهوفي سرير موته لاحد الجبابرة :"سمعت النبي صل الله عليه وسلم يقول: ما من عبد استرعاه الله رعية, فلم يحطها بنصيحة, الا لم يجد رائحة الجنة".
لكن مبدأ النصح في القيم السياسية الاسلامية مبدأ مشترك بين الحاكم والمحكوم. فكما يجب على الحاكم ان يبذل غاية جهده وان ينصح لرعيته قولا وفعلا فيما استودعوه من امانة المنصب العام ,يجب على افراد الرعية النصح لحاكمهم الشرعي قولا وفعلا, فيما يسنده الى كل منهم من جزيئات تلك الامانة , سواء كان منصبا دائما, او مهام ظرفية محدودة بحدود انجازها. ففي الحديث عن تميم الداري عن النبي صل الله عليه وسلم قال:"الدين النصيحة – قالها ثلاثا – قلنا لمن يارسول الله؟ قال: لله, ولكتابه, ولرسوله, ولائمة المسلمين, وعامتهم ."
ولتحقيق واجب النصح لأئمة الله المسلمين، حذر النبي صل الله عليه وسلم من تصديق الامراء في كذبهم واعانتهم على ظلمهم، فقال:"ستكون بعدي امراء من صدقهم بكذبهم واعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه, وليس بوارد علي الحوض. ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وانا منه، وهو وارد علي الحوض".
ومن اهم مظاهر النصح للحكام ان لا يجاملهم الناس، ولا يتملقوهم بمدح او تصويب لأخطائهم وخطاياهم وتقصيرهم فيما ائتمنوا عليه من امانة. لذلك نبه النبي صل الله عليه وسلم على اهمية البطانة الصالحة الدالة على الخير,وحذر من بطانة السوء الدالة على الشر.
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من اشد الناس انكارا لتملق الحكام والتعامل معهم بوجهين، وكان يعتبر ذلك نفاقا؛ نظرا الى ما فيه من مناقضة مبدأ النصح لأئمة المسلمين وعامتهم.
11- رفق الراعي بالرعية
من امهات القيم السياسية الاسلامية رفق الراعي بالرعية. فكان النبي صل الله عليه وسلم يوصي امراءه بالتيسير والرفق , كما في وصيته لمعاذ بن جبل وابي موس الاشعري حينما ولى كلا منهما على اقليم من اقاليم اليمن :" يسرا ولا تعسرا , وبشرا ولا تنفرا".
ومن مظاهر الرفق ان جعل الشرع الاسلامي طاعة السلطة الشرعية مقيدة بالاستطاعة: "من بايع اماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه ان استطاع". فليس لحاكم - حتى ولو كان تام الشرعية – ان يكلف رعيته من طاعته ما لا يطيقون, او يجعل امرهم عليهم رهقا, فهذا من التعسف وسوء استخدام السلطة الممنوع في شرعة الاسلام. وقد كان النبي صل الله وسلم ارفق الحكام برعيته والينهم جانبا في معاملتهم، رحمة من الله وتفضلا.قال تعالى:" فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك."
ولم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بجعل الاستطاعة شرطا في الطاعة، بل انه صلى الله عليه وسلم كان يلقن رعيته ان لا يلتزموا من الطاعة الا بما يستطيعون, على خلاف حكام الجور الذين يريدون من رعيتهم طاعة مطلقة .فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما,قال : "كنا اذا بايعنا رسول الله صل الله عليه وسلم على السمع والطاعة,يقول لنا : فيما استطعتم".
وقد اصر عدد من اصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم على تذكير امراء الجور الذين عاصروهم في بداية العهد الاموي بمعاني الرفق بالرعية, وبتشديد الشرع على من شق على رعيته او تعسف في قيادتها .
وقد استلهم فقهاء السياسة الشرعية هذه المعاني النبوية فكتبوا يحضون الولاة على الرفق برعيتهم مسلمها وغير مسلمها. وبين الماوردي المعاني الشرعية والحكم العملية وراء ذلك، فحض الامير على ان "يحسن الى رعيته احسان من يؤدي حق الله فيهم، ويملك به خالصة قلوبهم. فإنه ان قدر على ملكة اجسادهم بسلطانه، فليس يقدر على ملكة قلوبهم إلا بإحسانه".
ولاحظ ابن خلدون بنفاذ بصيرة آثار التعسف السياسي في افساد اخلاق الشعوب، وقال: "ويعود حسن الملكة الى الرفق. فإن الملك اذا كان قاهرا، باطشا بالعقوبات، منقبا عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم، شملهم الخوف والذل ولاذوا بالكذب والمكر والخديعة، فتخلقوا بهاو وفسدت بصائرهم واخلاقهم، وربما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات ..الخ".
12 – منع الاحتجاب عن الرعية وقد ترترتب على توصيف النص الاسلامي لموقع الحاكم باعتباره أجيرا للامة انه لا يحل له ان يحتجب عن حاجات الناس, ولا يضع عراقيل بينه وبينهم ,تمنعهم من اسماع اصواتهم له,وايصال مطالبهم اليه ومحاسبته على اداء الامانة التي ائتمنوه عليها.
وفي حديث الرسول صلى الله وسلم: "من ولاه الله شيئا من امر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره". وكان رسول الله صل الله عليه وسلم قدوة الامراء في القرب من الرعية واجتناب اقامة اي حواجزبينه وبينهم. واستلهاما لهذا الهدي النبوي نجد ان "عمر كره للوالي الاحتجاب عن رعيته".
وحذر فقهاء السياسة الشرعية من الاحتجاب عن الرعية، فقد دعا ابن عبد الهادي الامراء الى التأسي برسول الله صل الله عليه وسلم.
واعتبربعض فقهاء السياسة الاحتجاب عن الرعية مؤذنا بخراب الدول. قال الخيربيتي: "ان الاحتجاب وقت حوائج الخلائق اعظم آفة لزوال دولة الملوك، واعظم سبب لخراب المملكة". وهذا رأي سديد؛ لأن الاحتجاب عن الرعية تفكيك للارادة الجمعية للامة، وقطيعة للرابطة الاخلاقية بين الحاكم والمحكوم . |
| | | | الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية من الفتنة الكبرى إلى الربيع العربي | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |