رحلة العذاب في اقبية السجون الصهيونية
القسم الثاني: أساليب الخداع غير المباشرة :
وهذه الأساليب تتم بطريقتين، بالتنصت بأدوات تقنية وبشرية أو بالخداع عبر العملاء.
أولاً: أساليب الخداع غير المباشرة (التنصت):
تمهيد:
إن التحقيق المتبع في أقبية زنازين الاحتلال الصهيوني، هو برنامج له أبعاده النفسية والجسدية القائمة على معارف طبية وسيكولوجية واجتماعية، وعلى معرفة بالبيئة والمجتمع العربي وخاصة القضايا ذات الحساسية كالشرف والدين والرجولة وغيرها.
وإن أقبية التحقيق هي المكان الأكثر فرزاً وتمحيصاً للعناصر الصلبة الصادقة في الانتماء والولاء، فالألم يغربل الرجال، فيسقط من يسقط ويرتفع من يرتفع. إنه المختبر الذي يشكل المحك العملي باعتباره يمثل مركز المواجهة بين المعتقل الأعزل، وبين المحقق المحاط بكل وسائل البطش والرهبة. إنها معركة حقيقة تفوق كل معركة، وعلى المعتقل أن يشحذ فيها إرادة الصبر لديه، ويشحذ جميع أسلحة المواجهة.
وقد وصف أحد الأسرى حالة الضغط في الأسر بقولة “هناك الكثير من الألم الذي يواجه البشر في العالم، ولكن الألم الجسدي ليس أسوأ أنواع الآلام، لآن أفدح الآلام ألم الضياع عندما تشعر إنك لا شئ، هذه هي أشد الآلام في العالم. (الزير، 2001:13)
والمعتقل أمام خيارين، إما الإعتراف وإما الصمود. ففي حالة الأعتراف يكون قد كتب على نفسه السقوط، ويفقد بذلك رصيده الكفاحي، وربما انتقل لصف الأعداء، مع دفع الثمن غالياً أيضا، لأنه سوف يعاقب هو (ويأخذ ربما حكماً عالياً)، وكذلك زملائه.
في حين أن الصمود هو عبارة عن قناعة داخلية تتحقق الذات الإنسانية من خلالها بالممارسة العملية هذه القناعة, وتحقيق للذات بشكل عقلاني يعمل على ترسيخ الاستقلالية الذاتية، بإبعاد هذه الذات عن التبعيه والانقياد والخضوع والانكسار للغير، مهما استخدم هذا الغير من أدوات ووسائل وأساليب وطرق، عنيفة أو غير عنيفة، لإخضاع هذه الذات، حيث أن تحقيق الذات هدف أساسي للصمود. والممارسة العملية للصمود عبارة عن انعكاس للقناعة الداخلية، لإن الصمود كحالة ذهنية لا يرمي إلى تحقيق أهداف خارجة عن الذات, وإنما إلى الإبقاء على الذات متماسكة ومتوازنه.
والعقل يستطيع أن يصدر أوامره إلى مناطق الاحساس في الدماغ، ومنه إلى مناطق الشعور بالألم، حيث يقوم هذا العقل بإصدار طاقة عقلية لخفض الشعور بالألم، تكون بمثابة (نيكوتين) مخدر لمصدر الألم، بدلاً من أن ينشط عمليات الشعور بالألم. (أحمد أوزي، ب ت:أنترنت)
وينقسم هذا الفصل إلى قسمين: القسم الأول: سوف يتناول أولاً: المعتقل في حالة الإعتراف والإنهيار، والعوامل المؤدية لذلك. وثانيا:ً يتناول المعتقل في حالة الصمود، والعوامل المؤدية لذلك.
والقسم الثاني: سوف يتناول أولاً: الآثار الآنية التي تظهر على المعتقل أثناء التحقيق. وثانياً: سوف يتناول الآثار اللاحقة البعدية التي تظهر على المعتقل بعد انتهاء التحقيق.
القسم الأول: المعتقل بين الإنهيار والصمود أثناء التحقيق:
سوف يتناول هذا القسم المعتقل في حالة الإعتراف والإنهيار، والعوامل المؤدية لذلك. وثانياً سوف يتناول المعتقل في حالة الصمود، والعوامل المؤدية لذلك.
أولاً: المعتقل وحالة الإعتراف والإنهيار في التحقيق:
من خلال تلك الحالة يبرز نوعين من المعتقلين، المعتقل المعترف، والمعتقل المنهار. وسوف نتحدث عن هذين النمطين، وعن العوامل التي تساعد في بروزهما.
أ) المعتقل في حالة الإعتراف:
المعتقل المعترف هو الذي يقدم المعلومات المطلوبة منه للمحقق. والاعتراف برغم أنه سلبي، إلا أنه ليس كل اعتراف بنفس الخطورة والمستوى، ويمكن تقسيمه لنوعين هما:
الاعتراف المبرمج: وهو الذي يختاره المعتقل لكي ينقذ إخوانه ويضحي بنفسه من أجل براءتهم وعدم الاعتراف عليهم، وفي هذه الحالة تكون الأدلة دامغة والبيانات قوية لا يستطيع الفكاك منها، فيلجأ إلى كسر قنوات التحقيق وصرف وجهة التحقيق. وفي هذه العملية يدرك المعتقل أن المحقق ما هو إلا رجل موظف يؤدي مهمة موكله اليه، وبالتالي فهو حريص على نيل قضية –أي قضية- ولا يحقق المعتقل لرجل التحقيق هذه الرغبة إلا بعد أن يبحث عنها، أي لا بد من الصمود حتى يصل رجل المخابرات إلى حالة اليأس حيال هذه القضية، مما يدفعه في النهاية لقبول اعتراف ولو شكلي من أجل أن يقفل الملف. ويحرص المعتقل أن يكون الاعتراف بعيد عن جوهر الأشياء، ولا يسبب لأحد غيره مضرة مهما كانت، ولا يترتب على الاعتراف أي خلفية للغير.
الاعتراف السلبي: وذلك في حالات الضغط المتزايد وفي حالات شعور المعتقل انه بين حالتين من حالات الاعتراف، الاعتراف السلبي، أو الانهيار، فيلجأ إلى عملية الاعتراف الأول الذي يسبب لنفسه حكماً مرتفعاً، حيث يفضل الاعتراف على نفسه مع الحكم العالي، وعدم الاعتراف على الغير مع حكم بسيط، وبذلك لا يخرج عن حقيقة انتمائه إلى الحركة أو التنظيم، ولا يشكل حلقة ضعف للآخرين، ولو ضعف بنفسه. لإن حالة اعتراف المعتقل على نفسه وتحمل أعباء القضية مهما كان هذا الحمل ثقيل، بدون التسبب بضرر لأمن التنظيم وسلامة أفراده، حالة يتم تفهمها برغم خطورتها، التي قد تؤدي لأشياء غير متوقعه، لذلك علي المعتقل أن يتجنبها ما دام لديه القدره.
ولكن إن مجرد إعطاء الوعد بأي شيء تحت التعذيب لتخفيف وطأته، يساوي الخضوع، ويشجع المحقق على التمادي بالتعذيب، حتى لو أوقفه أحيانا لتحصيل بعض الإعترافات. إن المحقق سيصر على مطالبتك بالوفاء بالوعد. وتذكر أن الخزي ليس في أن تسمع شتيمة داخل غرف التحقيق، من محقق نذل، بل الخزي هو في عملية الإعتراف والإنهيار، وتعريض ثورتك للخطر. (علي حتر، ب ت: انترنت)
ب) المعتقل في حالة الإنهيار:
إن أردأ حالات الاعتراف هي الانهيار، ولكن الأسوأ منها، هي الحالة التي تجعل المعتقل من رجل ثوري إلى جبان مأجور، حيث يتحول إلى أداة طيعة في يد رجل المخابرات الذي يستغل اعترافه السلبي وانهياره، في ممارسة الضغط على باقي المعتقلين، وربما يمنيه رجل التحقيق بتخفيف الحكم أو حتى إطلاق سراحه بعد التحقيق، وكلها أمنيات كاذبة. وهذا المعتقل يصبح ورقة ضغط على الغير، يمارسها المحقق متى شاء وضد من شاء، مما يزيد من عناء المعتقل نفسه اكثر من غيره، حيث أن أكثر الناس مكوثا في التحقيق هم الذين يسخرون للضغط على غيرهم، باعتبار الصيد الثمين الذي لا يمكن التفريط به لممارسة الضغط على باقي المعتقلين. رغم أن معظم حالات الانهيار تنبع من الرغبة في إنهاء التحقيق، والنزول إلى الزنازين للراحة، إلا انه يخيب ظنهم عندما يتأكدون بالممارسة العملية عكس ذلك. ونفسية هذا النوع من المعتقلين هي نفيسة قريبة جدا من نفسية العميل، حيث يكمن لديه الاستعداد من اجل الارتباط والعمالة مقابل أن يخلص نفسه من هذه الورطة أو هذه القضية. وفي الغالب ما تكون حالته هذه نابعة من الوضع النفسي الذي عاش فيه ردحا من الزمن ولم يخرج منه إلا في عهد قريب. وهذا المعتقل يؤدي نفس العمل الذي يؤديه العميل، ولكن بدون ارتباط أو اتفاق على الارتباط، والذي يسير دفة أقواله هو الخوف والرعب من المحقق، ويغلب مصلحته الذاتية والفردية على مصلحة الآخرين، وينتزع نفسه من محيط الحركة ليعيش محيطه وكيانه الذي لا يرى فيه إلا ذاته فقط.
والانهيار حالة هزيمة واستسلام وتخاذل غير مبررة، تعبر عن ضعف المناضل وانتصار المحقق عليه، وعن تحوله بوعي كامل، الى مجند لصالح مخابرات العدو ولو لفترة محدودة هي فترة التحقيق التي هي كافية لالحاق أشد الأضرار بالثورة. وهي كذلك تعدل الخيانة مهما كانت المبررات، حتى لو أقسى أشكال التعذيب، لأن الانهيار تحت وطأة التعذيب، قد يشجع المحقق على مضاعفة ذلك التعذيب، حيث يستمر المحقق، بالضرب والإذلال والتعذيب لدفع المنهار الى تنفيذ أوامر أخرى مثل اقناع زملائه بالاعتراف، لأن الانهيار حالة خضوع للمحقق خضوعا تاما، حيث يؤمر فيطيع، ويضرب فيركع، ويسأل فيجيب، فيخضع. (علي حتر، ب ت: انترنت)
عوامل الإنهيار في التحقيق:
وأما أهم العوامل التي قد تساعد في عملية الإنهيار في التحقيق، فتتمحور في التالي:
1- ضعف الانتماء والولاء:
ليس الايمان بالمبدأ قضية نظرية لا علاقة لها بواقع الإنسان النفسي وتكوينه التربوي والاخلاقي، بل هي مسألة وثيقة الارتباط ببناءه الداخلي، ولها تجسيدها بشكل مواقف وسلوك. لذلك لا بد من التسلح بالايمان، ليغمر قلبه وعقله وكيانه، ويفيض بالقوة والتحدي، فلا تهزه النوائب والمحن، ويقف طودا شامخا أمام جميع التحديات والعقبات.
والله سبحانه وتعالى يمدّ الإنسان بقوّة نفسية وارادة صلبة تقويه على المحنه والابتلاء. قال تعالى: “ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كُنتُم مؤمنين” (آل عمران- 139)
وقال تعالى: “الذين قال لهُم النّاسُ إنّ الناس قد جمعوا لكُم فاخشوهم فزادهُم إيماناً وقالوا حسبُنا الله ونعم الوكيل”. (آل عمران:173) وقال: “ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنّهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجعون وكان الله عليماً حكيماً”. (النساء:104)
إن المعتقل يجب أن يملك إيمانا قويا راسخا بمبدأة وقضيته، ويؤمن بالمعاني العقدية الكبيرة، (كالإيمان بأن الله اكبر واعظم من كل قوة، وان الموت والحياة بيده، ويتوكل عليه فقط) لأنه عندما يقف أمام المحقق، ويتذكر أن هناك قوة اعظم واكبر منه يتقزم في نظره برغم كل أدوات البطش والجبروت التي تحيط به. وعندما يؤمن أن الله هو المحيي والمميت، فإنه يحتقر المحقق من داخلة وهو يهدده بالموت، وعندما يعلم أن الملجأ أو الملاذ بيد الله، ولا بد أنه ناصره، يتوكل عليه وحدة حق التوكل في التحقيق، وتقرب إليه ساعة الكرب والشدة، فتقوى عزيمته وتشتد شكيمته، وعندما يستذكر عذاب الآخرة، يستهين بعذاب الزنازين، فيتخذ من شدة هذا الموقف عبرة لموقف اشد هولاً واعظم شدة حين يقف أمام المولى عز وجل يسأل فيه عن ظلمة الناس، وهل هناك مظلة اشد من أن تقف عونا لعدو الله ضد زملائك في أقبية التحقيق.
إن المعتقل الذي لا يختزن صبرا يفوق كل محاولات اليأس والقنوط، فسوف يجد نفسه عرضة للانهيار والاعتراف بشكل مزري وسيء ولقد ذم الله اليأس ومدح النصر بقوله:- “انه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون”. “يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين”. “يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا”. “وان تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا”. “ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين”.
إن أقوى سلاح بعد الإيمان والتوكل والاعتماد على الله، هو سلاح الصبر وهو الجانب العملي لسلاح الإيمان، فالإيمان الحق يمد المجاهد بطاقة هائلة من الصبر وقوة التحمل، ومن اعظم القربات إلى الله سبحانه وتعالى الصبر وتحمل العذاب والأذى في سبيل الله سبحانه وتعالى. ويحتسب كل لحظة عذاب وألم عند المولى عز وجل الذي لن يضيع عنده مثقال ذرة من خير.
وما بين النصر والهزيمة إلا صبر ساعة، فالصبر سلاح المؤمن الذي يلازمه ولا يفارقه ابدا، ويعلم أن كل سلاح لا بد مفارقة إلا سلاح الصبر والإيمان.
والمؤمن الصادق يجب أن لا يصبر على العذاب فقط بل يشعر بالمتعة واللذة به باعتباره الطريق المؤدي لمرضاة الله وقهر عدوه وحماية إخوانه.
2- ضعف شخصية المعتقل:
إن لكل فرد شخصية خاصة به تميزه عن غيره، لأن الشخصية هي خليط مجموع من الصفات والمزايا التي يمتاز بها هذا الشخص عن غيره، ولضعف الشخصية وقوتها اثر هام في عملية الإعتراف في التحقيق، فالشخصية الضعيفة تراها من أول يوم مهزوزة وغير مستقرة على حال، فيستغل رجل التحقيق هذه الشخصية الضعيفة ويسيطر عليها ويجعل منها خادما مطيعا لكل أهدافه وخططه. لأن التحقيق -يعتمد في أول خطواته- على البحث عن ثغرة في نفسية المعتقل كي يدخل منها، ويجعلها منطلقاً لمواصلة الهجوم عليه، ويلبس المحقق لأجل ذلك أقنعة مختلفة للوصول اليها.
ونستطيع أن نبني الشخصية القوية من خلال التعود على خشونة شظف العيش، حيث ذم المولى عز وجل أولئك الذين يعيشون في نعومة وترف ورفاهية بقولة تعالى: “أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين”. كما دعى الخليفة عمر بن الخطاب المسلمين فائلاً “واخشوشنوا ” لأن خشونة العيش ضرورة لازمة لمن أختار طريق ذات الشوكة، بأعتبار أن النعومة تولد ضعف الشخصية، وبالتالي تولد عدم القدرة على مواجهة الصراع مع العدو.
لذلك يجب أن يتعود المعتقل قبل الاعتقال، على تناول أي نوع من الطعام، ويلجأ كذلك للصيام ليصبح وجود الطعام وعدمه عنده سيان، كما يتعود أن يلبس ما خشن من اللباس، وأن يفترش الأرض عندما ينام، ويكثر من الأعمال الشاقة والصعبة.
3- ضعف التكوين النفسي للمعتقل:
يساهم التكوين النفسي للشخصية مساهمة فعالة في صنع الهزيمة النفسية للمعتقل، حيث قد تجعله التربية والبيئة والظروف الخاصة مستعدّاً لتقبّل الهزيمة والتداعي أمام الضغوط التي توجّه نحوه، أو قد تصنع منه قوّة ارادية يشعرتجاهها بالتفوّق الذاتي، والقدرة على امتصاص الهزيمة، والإنتصار عليها داخلياً، بل ويسعى لتحويلها إلى نصر ودرس للصمود والمقاومة. أي أن تكوين الشخص النفسي، وتربيته الخاصة، وتجربته الحياتية، لها الأثر الكبير في صنع شخصية ومستوى مقاومته للهزيمة، وثباته في ميدان الصراع بشتى أنواعه، ويكون عزيزاً شامخاً بهذه النفسية الصامدة الصابرة. لقولة تعالى:”ولله العزّةُ ولرسوله وللمؤمنين ولكنّ المُنافقين لا يعلمون”.( المنافقون،
وقد يعمق الهزيمة النفسية تراكم الاحباطات الحياتية التي يمر بها الفرد في حياته، عبر التحدّيات المتعددة، التي يخفق في مواجهتها، تتكرر التحدّيات، وتتكرر معها حالات الفشل والاخفاق، فتتراكم الاحباطات تراكماً نفسياً، يشعره بالخوف من تكرار الفشل، فتستحكم تلك العقدة عندة، وتتحوّل إلى حالة من الإحساس بالضعف والهزيمة الداخلية.
إن صناعة الإنسان المهزوم من أبرز نتاجات عمليات التحقيق، وهذا ينشأ من خلال بث سيكولوجية الإحباط بكل أبعادها وأركانها. لإن الإنسان المهزوم يتحرك بوعي، وبدون وعي وبشكل آلي أحيانا، فعندما يواجه مشكلة على صعيد الذات أو على صعيد المجموع، يتصرف كالظبي، حيث تدفن رأسها في الرمال ظناً منها أن الخطر قد زال عنها. فيهرب باتجاه المشكلة وهو يعتقد انه يهرب من المشكلة، قال: المولى عز وجل ” الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً”. (الكهف 104) والشخص المهزوم قد تصل به حالة الإحباط إلى درجة يمتثل شعار جحا عندما داهمه الخطر فقال: (سلمت عن بيتي بسيطة) بل حتى لو دخلت المشكلة بيته، فهو أعجز من أن يحرك ساكن لحلها. أي أن حالة المهزوم هي حالة ديمومة العيش مع الهزيمة حيث ينزوي بذاته مع ذاته، يبحث عن زاوية من زوايا النسيان تلفه وتأخذه بعيدا عن واقعه وعن كيانه، ويتحول في الغالب إلى يائس من كل شيء حوله (لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس) فيقتل ذاته بذاته، ويهدم كيانه بكيانه، ويدمر نفسه بنفسه.
وهو يرفض أحياناً أن يعترف بالواقع، حرصاً منه على أن يكلفه ذلك التعايش مع هذا الواقع، أو أن يكلف ذاته بمواجهة هذا الواقع. وقد يوهم نفسه بأن الأفضل له والأنسب هو الحالة التي هو عليها، مما يصعب أو قد يستحيل تغييره وفق المعادلة القرآنية التي تقول (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم).
إن تقبل الهزيمة، هي أصعب ألف مرة من الهزيمة ذاتها، (فالهزيمة فشل، والحياة بها الفشل والنجاح، ولولا الفشل لما كان النجاح)، فلا نجعل من الفشل قناعاً لستر عوراتنا، والتمترس في أحضانه، واستمراء ضريبته، لان ضريبة الذل اشد وطئا واصعب وقعا من ضريبة الحرية. وكلا الضريبتان (ضريبة الذل، وضريبة الحرية) تحتاج لنزف من الطاقة الداخلية للفرد والأمة، وكلاهما فيهما ألم ومعاناة ومشقة (انهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون) ولكن ضريبة الحرية، بها ألم لذيذ يفوق أحيانا لذة المتعة. وقد شعر بذلك الذين صمدوا في العذيب في أقبية التحقيق في السجون الإسرائيلية، حيث تحولت بعد ذلك جميع آلامهم لمذاق حلو،عندما خرجوا رافعي الهامات والرؤس، في شموخ وتحدي، بانتصارهم على الألم والعذاب. فالرجاء الذي تؤمل به نفسك في الدنيا والآخرة، قد تجد حلاوته في قلبك، قبل أن تقطفه يداك.
4- ضعف الارادة لدى المعتقل:
الحياة مسؤولية، و الإنسان مسؤول فيها، وسر هذه المسؤليته الارادة، لأنّ الارادة هي القوّة التي تصنع الموقف، لذا كانت الحياة صراع وتنازعاً بين الدوافع الغريزية والاستجابات البشرية المتعددة. أي أن الحياة هي عبارة عن صراع إرادات متنافرة. إن المتأمّل في تاريخ البشرية ومسيرتها يجدها ساحة حرب وصراع، وما فترات الوئام والسلام إلاّ فرص للاستعداد والتهيؤ للحرب والصراع، والموقف المطلوب للصمود، هو الموقف الثابت الذي يتحدّى ويقهر المحن والارادات المعارضة لارادة الحق. فبالارادة القوية انتصر الإنسان على تحديات الطبيعة، وبالارادة القوية انتصر على الغزاة والمحتلين، وبالارادة القوية انتصر على المحن والابتلاءات التي يبتلى بها في نفسه وأهله، وبالارادة القوية انتصر على ضعفه وهزيمته ومشاكله. وبالتالي ليس بمهزوماً من خسر معركة، ولكن المهزوم من تنهار ارادته امام المواقف والمحن والتحدّيات التي يواجهها، ويعيش الهزيمة في نفسه، فتشل ارادته وقواه المعنوية والمادية، فلا يقوى على توظيفها لصالحه، أو لصالح الجماعة التي ينضوي تحتها. وقد تتفاقم الأزمة عندما تعم الهزيمة النفسية مساحات واسعة من الذات، وتصاب بالتالي مراكز التوجيه بالهزيمة النفسية، ويستشعر الفرد الخطر على كيانه.
5- قلة المعرفة بأساليب التحقيق:
من العوامل التي تجبر المعتقل على الإعتراف والانهيار، قلة الوعي بطرق وأساليب التحقيق قبل دخول المعتقل، وخاصة أساليب الخداع والوقوع في شراك العملاء، مما يوجب عليه أن يلم بهذه الطرق والأساليب حتى قبل دخول المعتقل، ويفهم جيدا وسائل العملاء في اصطياد ضحاياهم من المعتقلين.
والتنظيم الناجح هو الذي يعقد دورات للتربية الأمنية، ويربي أبناءه على الفهم الصحيح لكل ما يدور في أقبية التحقيق، ويعلمهم كل وسائل الربط والإسقاط وغيرها. حيث أن قلة الخبرة والمعرفة بالجوانب الأمنية وخاصة التحقيق يجعل باب المفاجأة مفتوحا على مصراعيه بالنسبة للمعتقل مما يؤدي إلى وقوعه في الحيرة والارتباك، وبالتالي سيطرة رجل التحقيق على نفسيته. وقد ثبت بأن كثير ممن صمدوا في مواجهة عنف التعذيب، قد سقطوا بسهولة بالخداع بواسطة العملاء، لعدم الخبرة والمعرفة بأساليبهم.
6- اعتماد أسلوب العمل التنظيمي المفتوح:
ومن العوامل الهامة لعملية الإعتراف والانهيار، طبيعة التركيبة التنظيمية في الخارج، حيث أن كثيرا من الفصائل ما تجعل العمل التنظيمي مفتوحا ، أي شبه مكشوف لعناصره، حيث تداس السرية والأمن تحت الاقدام، مما يعرض العمل للخطر القاتل، ويعرض المعتقل المجاهد للانهيار، وذلك لتوفر الأدلة والبيانات التي يقدمها كل واحد من المعتقلين ضد المعتقل الذي يصر على الصمود، حيث يشكل هؤلاء جميعا عامل ضغط يؤدي لاعترافه وربما إلى انهياره.
لذلك لا بد من عملية تخصص في العمل، حيث توزع الأدوار في الخارج بحسب الكفاءة حول المجال الذي يستطيع أن يتقدم فيه الفرد (يكون الرجل المناسب في المكان المناسب). كما يجب أن يسود العمل التنظيمي أسلوب الانغلاق فتتم ممارسة النشاط العملي للخلية ضمن حدود معينة لا يخرج عنها بتاتا ولا يسمح لأحد باختراق هذه الدائرة أو الاطلاع على مسارها إلا أصحاب الحق في ذلك وهم المسئولون عن العمل التنظيمي فقط.
7- كثرة الأسرار والمعلومات لدى المعتقل:
إن عملية وفرة المعلومات لدى الشخص المنظم تنشأ من حالة الانسياب والثرثرة، فلو التقط من كل مجلس معلومة لتراكم لديه حشد هائل من المعلومات يجد نفسه مضطرا إلى تحمل أعبائها. ولو تصرف كل فرد بحزم وشدة تجاه من يحاول تسريب أي معلومة أو توزيع المعلومات مجانا لبقي كل سر في مجاله ولظلت كل معلومة في إطارها الصحيح.
وفي كثير من الأحيان ما يلعن المعتقل اليوم الذي تعرف فيه على هذه المعومات، ويتمنى لو لم يعرف شيئا عن أي شيء، وذلك بعد أن أدرك من خلال هذا الحشد من المعلومات لديه، أن المعرفة أصبحت تشكل نقمة عليه وليس نعمة له، في حين كان من وقت قريب يبحث بكل الطرق عن المعلومة، بل كان يدس انفه فيما يعنيه وما لا يعنيه من اجل أن يعرف شيئا ما. لذلك عليه أن يدرك بان المعرفة في الجوانب التي تتعلق بالعمل والممارسة التنظيمية تشكل نقمة عليه في التحقيق حيث يطالب بهذه المعلومات وبكل ما يتعلق بمصدرها أو مسارها.
لهذا يجب أن يحرص المناضل على الهروب عن مصادر المعلومات خارج المعتقل بدلا من الجري وراء كل خبر أو معلومة ما دامت هذه المعلومة سوف تجر عليه الويلات والمسائلة، وهو في غنى عن كل ذلك، بل يلزم نفسه فقط بمعرفة ما يخصه ويعنيه فقط. وقد صدق الرسول صل الله عليه وسلم عندما قال: “من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه”.
8- عدم ضبط الإعتراف المبرمج:
إن انغلاق العمل التنظيمي وانحصار حدود المعرفة داخل الخلية الواحدة، يلزم حتماً وجود برمجة مسبقة لكيفية مواجهة الموقف في أقبية الزنازين في الحالات الاستثنائية للتحقيق، حيث تقتصر عملية الاعتراف المبرمج على كل مجموعة على حده، فيتفق عناصر هذه المجموعه مع المسئول المباشر على افضل الأساليب وأنجعها في مواجهة رجل التحقيق، في حال الخيارات البديلة عن حالة الانهيار. وذلك عبر اللجوء إلى برمجة الإعتراف بشكل يوقف استمرار عملية الاعتراف، ضمن حدود ضيقه لا تمتد عمودياً أو أفقياً. باعتبار أن عملية الاعتراف المبرمج افضل بكثير من الإعتراف المتناثر، والذي قد يشكل عامل ضغط على بعض المعتقلين الصامدين.
وهناك العديد من الحالات التي يوقف فيها المعتقل الضربة ضمن حدود ذاته فقط، ويتحمل بكل قوة وشكيمة الموقف، ويصر على أن لا يوقع أدنى ضرر بغيرة ، باعتبار أن أمن الحركة وسلامتها واستمراريتها هو جل الأهداف التي لا بد أن يحرص عليها مهما كان العناء والمشقة. لأن المعتقل الذي يوقف سير التحقيق ويكسر قنواته ويحافظ على سلامة العمل بشكل عام، جاعلاً من نفسه ضحية يقدمها طائعاً لفداء اخوانه -ولو كلفه هذا الموقف قضاء أعوام طويلة داخل جدران المعتقل- يجب أن نوليه كل احترام وتقدير لأنه قد قدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، فبرمجة الموقف المسبق بين أعضاء الخلية الواحدة لا بد أن يكون أمراً طبيعيا، ينشأ تلقائيا منذ اللحظة الأولى لبناء الخلية، حيث لا تقل أهمية هذه البرمجة أو هذا الاتفاق عن أهمية خطة الانسحاب في العملية العسكرية التي تسير جنبا إلي جنب مع خطة الهجوم باعتبار أن الانسحاب المنظم افضل وأنجع واسلم من الانسحاب غير المنظم وغير المبرمج.
ثانياً: المعتقل وحالة الصمود في التحقيق:
من خلال تلك الحالة يبرز نوع من المعتقلين، وهو المعتقل الصامد في عملية التحقيق. وسوف نتحدث عن هذا النمط من المعتقلين، وعن العوامل التي تساعد في الصمود.
المعتقل الصامد في التحقيق:
المعتقل الصامد هو الشخص الذي لم يتجاوب مطلقاً مع المحقق الصهيوني، ولم يقدم له أي معلومات، قد تشكل خطر عليه أو على الآخرين.
إن فلسفة الصمود والتحدي الذي يتبناها بعض المعتقلين هي الخيار الأمثل والأقوى والأفضل في مواجهة جلاوزة الإرهاب، وجلادي القرن العشرين. حيث تسمو قوة الروح والإيمان والإرادة فوق القوى المادية والنفسية والمعنوية بكل أشكالها وصنوفها.
فالمعتقل الذي يقف متحديا جلادة بكل كبرياء وشموخ يحطم نفسية هذا العدو الذي يتقهقر وهو يجر ذيل الخيبة والفشل، في حين يقف المعتقل المجرد صامداً متحديا، برغم وفرة الأدلة وشهادة الشهود إلا أنه يأبى أن يجعل جلادة يفرح بكلمة يشعر من خلالها بالنصر أو الفوز. وهذا النوع من الرجال هم أولى الناس بالتقدير، حيث لا يداني صمودهم إلا الشهداء. وبالتالي لا يسعنا إلا أن نقف لهم اجلالاً واكباراً.
وأمام هذه الحالة المستعصية يكاد يفقد رجل التحقيق أعصابه لشعوره بالهزيمة الداخلية، فيخرج من طور العقلانية ويتحول إلى وحش كاسر لا يهدأ من روعه إلا أن يجده جثة هامدة لا حراك فيها، أو ييأس ويسلم بالأمر الواقع، ويلجأ إلى القانون الجائر الذي يسمى (بقانون تامير) حيث يحاكم المعتقل وفقاً لإعترافات غيره من المعتقلين.
و المعتقل لا يبلغ لدرجة الصمود، إلا بأن ينصهر في العقيدة والمبدأ الذي آمن به، حيث تسمو روحه فوق جراح الجسد، وألم الواقع، ويعلم أن مواجهة الجلاد والانتصار عليه، يؤكد على انتصار الروح على المادة، والحق الأعزل على الباطل المسلح.
ويذكر (فرانكل) بعد إستعراضة لصنوف العذاب التي كان يتلقاها المسجونون في معسكرات النازي، ” بأنه كان من بين المسجونين قلة استطاعت أن تحتفظ بحريتها الداخلية الكاملة، وأن تتواصل إلى تحقيق القيم المعنوية التي أتاحها له آلامه وفي ذلك يضيف ” فرانكل” الدليل، الكافي على أن القوة الداخلية للإنسان، قد تعلوا به فوق قدرة هذا العالم الخارجي. (جليلة دحلان، 2001: 14)
عوامل الصمود في التحقيق:-
وأبرز العوامل التي تؤدي إلى عملية صمود المعتقل في التحقيق، تتمثل في استدعاء جملة من عمليات الدعم والمساندة العقلية والنفسية والعاطفية، والتي من أهمها التالي:
1- عوامل الدعم العقلي:
أ) عمق الإنتماء للفكرة (الاطار المرجعي): إن المقياس الموضوعي لدى المعتقل، يمكن في وجود مقياس (إطاراً مرجعياً) لقياس السلوك على ضوءه في التحقيق، وأما الخلل فيه فيكمن في عدم وجود مقياس أصلاً، أو لضعف هذا المقياس لخلل فيه. وكلا الأمرين يشكلان خطورة على المعتقل، حيث يفقد المعتقل بضياع الاطار المرجعي البوصلة التي يهتدي بها في ظلمات الزنازين، وغرف الجلادين.
ولمست بشكل واضح خلال تجربتي الشخصية أثناء التحقيق في السجون الاسرائيلية، بأن عملية الخوف من التعذيب (الجسدي والنفسي) تضعف لدى الأشخاص الذين يمتلكون الانتماء والولاء الجيد، وتقوى لدى ذوي أصحاب الانتماء والولاء الأضعف.
وعندما تعرفت على بعض المناضلين الذين صمدوا في التحقيق، أيقنت أنهم الأصلب على صعيد الانتماء، وإن قد يكونوا الأضعف على مستوى البيئة الجسدية. وعلمت من خلال الحوار معهم، بأن لديهم وعياً يؤهلهم لعمق الانتماء للفكرة التي يؤمنون بها (سواء أكانت فكرة عقائدية أو ايدولوجية)، وفي نفس الوقت لديهم فهم قوي وولاء كبير للفصيل أو التنظيم أو الحركة أو الحزب أو الجماعة التي ينتمون إليها. أي أن الاطار المرجعي للمعتقل الفلسطيني يتمثل في جانبين لا غنى لأحدهما عن الآخر، لأن كل منهما مركب ومعتمد على غيره، وهما (الانتماء للفكرة، والولاء للتنظيم). وهذان المعياران كانا عاملين مهمين في مجابهة أساليب التعذيب الجسدي والنفسي. ولكنهما للأسف الشديد لم يحميا المناضل من الأسلوب الأحدث والأخطر، وهو الأسلوب العقلي المتمثل في الحيل الخداعية المباشرة (عبر المحقق وغير المباشرة عبر العملاء).
ب) عمق الولاء للتنظيم: يجب أن يوطن المعتقل نفسه، منذ اللحظة الاولى التي يقرر فيها أن ينخرط في تنظيم معين للعمل من خلالة ضد الاحتلال وأعوانه، أنه سوف يقف وجهاً لوجه أمام جلاده في أقبية التحقيق، وعلية أن لا يهزم أمامه. وكم من الأشخاص انخرط في العمل التنظيمي، وساقته الظروف للزنازين، فتحول لآلة بطش لزملائه واخوانه، وهذا (في تصوري) لا يمكن أن يقوم به شخص يمتلك أدنى مقومات الولاء للحركة والتنظيم. ناهيك عن الانتماء للفكر، لأن الاطار المرجعي لديه يكون به خلل. لذلك يجب أن تكون الخطوة الأولى والأهم في حياة كل فلسطيني، (كبيراً كان أو صغيراً) لكي لا يقع في براثن العدو، أن يمتلك رصيداً قوياً من الولاء لتنظيمه.
وعلى المعتقل كذلك أن يتذكر ان التحقيق هو تكثيف لحالة صراع عقائدي تناحري بين الحركة الوطنية والثورة وأبطالها من جهة، (وأنت تمثلهم داخل أقبية التحقيق) وبين رجال التحقيق وسلطاتهم، وهم يمثلون العدوان والإحتلال، وهدفهم النهائي انهيارك والقضاء عليك واستعمال انهيارك لضرب ثورتك ورفاقك. وتذكر أن الانتصار حتماً للأقوى عقائديا. وأنت الأقوى عقائديا، ويجب أن تنتصر.(علي حتر، ب ت: انترنت)
2- عوامل الدعم النفسي:
أ)- قوة الذات (الشخصية): إن الشخصية هي المركب والخليط التاريخي لوجود الإنسان منذ تلقيح البويضة إلى الوقت الحالي الذي تعيشه الأن. وما تعبير قوة الشخصية وضعفها إلا عملية تقييمية لأدائة في الحياة على مستوى الفكر والعاطفة والسلوك، باعتبار أنها المظاهر التي يمكن من خلالها قياس السلوك. والتي أصبحت بالتكرار والثبات ثمثل لدية سمات وصفات ثابته نسبياً، يمكن التنبؤ بواسطتها عن شكل الموقف الذي سيكون عليه في المستقبل، فإذا كان مثلاً شجاعاً ففي الأغلب سوف يكون نمط تعاملة مع الموقف الذي يتعرض له في اطار هذه الصفة الشخصية، وهكذا.
ب)- الصحة النفسية: وهي بشكل عام عملية الإتزان الداخلي التي تنجم عن قدرة الفرد على التوافق والتكيف مع المحيط الخارجي، أي أن الفرد السوي لدية من المرونة ما يستطيع من خلالها إن يعيد حالة التوازن بين الواقع النفسي له وبين الواقع العملى المحيط به، بحيث لو دخل المعتقل يستطيع أن يكيف نفسة مع هذا الواقع الذي لم يتعود عليه، وبالتالي لو تعرض لضغوط من هذا الواقع يكون بمقدورة أن يمتصها أو يصرفها بشكل لا يؤثر على البنية النفسية لدية. وبذلك يحافظ على صحتة النفسية.
فمثلاَ عندما يشن عليك المحقق حربا نفسية توحي لك أن الصمود مستحيل، وأن الجميع يعترفون، وأنك لا تختلف عن الذين اعترفوا، بالقوة أو بالحسنى، ثم يقول لك: “تكلم أحسن لك، لتستريح من العذاب”، وهو بذلك يحاول أن يخلق وهما يبدو معقولا، ويستعمل أمثلة ونماذج منهارة، لوضعك تحت فكرة: (ما دام غيري قد تكلم، فأنا سأتكلم). فتبادر لشحن نفسك بالقول هذا الأسلوب لا ينجح إلا مع الضعفاء، فلن أكون واحدا منهم. (علي حتر، ب ت: انترنت)
3- عوامل الدعم العاطفي:
أ) دعم الرصيد العاطفي: إن من القوانين الهامة بالنسبة لعملية الادراك، ما اكتشفته مدرسة (الجشطلت) النفسية، من أن الأشياء المتشابهة تميل للتقارب والائتلاف فيما بينها. وقد لا نلحظ هذا القانون في حياتنا العادية، لسعتها، وعدم القدرة على ملاحظتها بشكل جيد، إلا أن ذلك لا يلغية من الحياة. ولكنه في حياة السجناء، (خاصة في زنازين التحقيق، وفي المعتقل بشكل عام) حيث الحياة محصورة وضيقة ومتلاصقة، بالإمكان الملاحظة الدقيقة له، بشكل واضح بدون لبس أو غموض. مما يمكن الفرد من تكوين رؤية واضحة عن كثير من معاني الحياة، قد لا تتوفر في الحياة العادية خارج السجن، عبر الملاحظة التي هي من أهم الأدوات العلمية التي انتجت فكراً وعلماً على مدار التاريخ.
إن الرصيد العاطفي لدى الفرد هو محصلة ما جناة في حياته وبرمج نفسة عليه، فلو أحب سير الأبطال فإنه يسعى حتماً للتماثل معهم والعكس. وعملية التماثل والتشابه هي جزء من التقارب العاطفي للأفراد (إن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها إئتلف، وما تناكر منها إختلف) فالذي يحب القراءة يميل لمثل حاله، والذي يحب اللعب يميل للتماثل مع زميله، ومن يميل لفكر معين يتماثل معه، ووفق ذلك كثير من المعتقلين، كانوا يميلون إلى بناء علاقة مع المتشابه معهم. بالتالي فالأفراد الذين عودوا قدراتهم على الصمود، يفضلون مقارنة أنفسهم مع آخرين ذوي قدرات مشابهة نسبياً لهم، لأن الآخرين المشابهين لهم، أو القريبين منهم، يقدمون لهم قياساً أكثر وضوحاً لموقفهم ذاتهم النسبي، على عكس الأفراد الذين يحملون قدرات وآراء وطاقات مختلفة عنهم.
وهذا الميل هو الأكثر إقناعاً لدى الفرد لرؤية ذاته عبر الآخرين، لذلك يجب علينا أن لا نحاكم الأفراد بغيرهم، خاصة وإن كانت الفروق الفردية لديهم بائنة، لأن هذا لا يدل على حقيقتهم، ولا يعطي وصفاً أو تصنيفاً دقيقاً لهم. بل على العكس لربما خلق لديهم احباطا، قد يؤدي لتقليص انتاجهم.
ب) دعم الموقف العاطفي: إن المحقق الصهيوني يبرع في توظيف مخرجات علم النفس في ممارسة التعذيب ضد المعتقلين الفلسطينيين، حيث قد جند كثير من نظريات علم النفس وتجاربه في ذلك، ومن جوانب هذا التوظيف دعم الموقف العاطفي السلبي لدى المعتقل، أو ما يسمى (بالعاطفة الكلية). والعاطفة الكلية تتم عبر استهداف الأفراد الذين يواجهون تهديد نفسي ما (غير مألوف لديهم) بالتعاطف مع الموقف المحيط، أي بتعميم العاطفة فيما بينهم وبين من يشاركوهم هذا الموقف، ويعيشوا معهم نفس المعاناة، ونفس التهديد النفسي، باعتبار أن هؤلاء هم حالات متشابهة عاطفياً، (أي أن التشابهه لا يكون فقط بالتشابه العقلي، وإنما كذلك بالتشابه العاطفي).
لذلك يعمد ضابط التحقيق إلى زج بعض المناضلين الصامدين في غرفة أو زنزانة بها بعض المعتقلين الذين انهاروا واعترفوا في التحقيق، ليجعل العاطفة السائدة في هذه الغرفة، (جو من الانهيار، وبث شجون الأهل والولد، والتباكي على الحياة، واثارة عاطفة الذات) يؤثر على المعتقل. لأن المعتقل يميل بشكل سيكولوجي للتأثر بالموقف المحيط، وبالتالي يتم تعميم العاطفة الكلية أو السائدة عليه بدون وعي وإدراك منه.
ولكن بالمقابل على المعتقل أن يوظف رصيدة العاطفي (تحدثنا عنه في السابق) بتعميم هذه العاطفة، لتكون هي بمثابة العاطفة الكلية الآنية، من خلال التواصل العاطفي الخيالي مع الحالة التي يحبها ويتمناها، وهم الأبطال فيتماثل معهم وجدانياً خيالياً وإن لم يتواجد معهم عملياً. لأن الشخص الذي يتماثل مع الموقف العاطفي بالصمود، يقوى ويشحن بطاقة جديدة تساعده على مواصلة التحدي والصمود.
و تذكر قبل التفكير بمصيرك، أن صمودك سيدعم رفاقك المستمرين في النضال في الخارج معنويا، ويجنبهم الاعتقال الذي يتعرضون له بسبب اعترافك، وتذكر من صمدوا قبلك، وتذكر معاناة أهلك وشعبك، وأن مصيرهم يعتمد عليك، وتذكر أن الانهيار سيجعل أهلك يعتبرونك جبانا خائنا. (علي حتر، ب ت: أنترنت)
4- عوامل الدعم العملية في أثناء التحقيق:
أ) القدرة على تصريف وادارة الوقت:
إن اخطر الأشياء على الفرد وجود وقت فراغ لا يعرف كيف يملأه، وهذا ليس خاصا بالفرد داخل المعتقل، فكثير من الناس حتى خارج المعتقل ما يصاب بالأمراض النفسية (كالإحباط والاكتئاب والضيق والغربة والتبرم وغيرها من الأمراض) وتختل لديه بالتالي الصحة النفسية،جراء عدم حسن التصرف في ادارة الوقت .
وإن عدم قدرة الفرد بالتحكم في تنظيم الوقت من أخطر الأمور في الحياة، فإضاعة كمية كبيرة من الوقت بلا شغل أو انشغال ذهني أو جسدي أو صرف الوقت في أمور لا تعود على الفرد بأي فائدة، ويكون الهدف منها هو قتل الوقت. وقد حث الرسول صل الله عليه وسلم المرء على المحافظه على الوقت، لأن الله سوف يسأل الفرد عن وقته فيما أنفقه، باعتبار أن المحافظه على الوقت من أهم الأمور التي تعين على الصحة النفسية للفرد.
فالشخص داخل السجن أو خارجه الذي يجد وقتا فائضا ويستغله في الوجوم والسرحان والشرود وأحلام اليقظة وغير ذلك، رويدا رويدا يصاب بالأمراض النفسية التي إما تخرجه من الواقع وتجعله يعيش في الخيال المرضي الذي يهرب به من الواقع المعاش لأنه لا يفكر بان يكون ولو لبنه في بناءه.
لذلك يجب أن يستغل المعتقل الوقت أثناء التحقيق في أمرين فقط لا ثالث لهما، أولاً في طرق التخيل الايجابي بالصمود، وثانياً اغلاق المداخل الحسية والعقلية في وجة المحقق. أي عليه أن يحاول دوماً إشغال هذا الفراغ الذي فرض عليه في أمور تقربه من عالم المثل، وتبعده عن الواقع الذي يعيش فيه.
وعملية ملأ الفراغ وتوظيف الوقت بشكل جيد، تتم من خلال الجوانب الثلاث التالية:
– إشغال العقل: وهو موطن الاراده والتخيل، والعقل بين ثلاث حالات، إما أن يكون فارغاً، وإما أن يكون ممتلىءً وإما يكون بين بين، فحين يكون فارغاً في حالة الصدمه (التعذيب)، فإنه قد يُملأ بأفكار ووساوس تؤثر على نفسيته وشخصيته.
فالفكره التي تراود الانسان، إما فكره تستدعي ماضي، أو تستشرف مستقبل، أو تتناول واقع. لذلك على المعتقل أن يسخر الماضي للصمود، ويجعل من المستقبل ضياءاً للصمود، ومن الواقع شحذاً للهم والنفوس للصمود. لأن الماضي فات وانقضى فخذ منه ما يشحن النفس، والمستقبل غيب فاجعل منه أمل، والحاضر واقع فاجعل منه تحدي. أي على المعتقل أن يكون على قدر المسئوليه، فلا ينظر للوراء، ولا يستعجل المستقبل، ويعيش الولقع كما هو بكل قوة وصمود.
– إشغال القلب
القلب هو منشأ العاطفه، وقلب الحقيقه)، والقلب هو الذي يوجه عاطفة الانسان، ويرسم معالمها، لذلك عليك أن تملأ قلبك بعاطفة حب المعاني الكبيره، الله –الوطن- الشعب، الجماعه، وإياك أن تملأ قلبك بمعاني صغيره، وتربط حبه بأشياء صغيره، أو تافهه، أو أشياء تشد المعتقل إلى الوهن (كتذكر الأولاد والأهل والزوجه)، وإذا تذكرتهم، فعليك أن تقلب ذلك إلى صمود، وليس إلى ضعف ووهن.
– اشغال اللسان: علي المعتقل أن يجعل لسانه يلهج بذكره والحديث معه (مناجاته) في أغلب أوقاته، وبهذا يهرب من الواقع الصعب الذي هو فيه، يحاول به قدر الإمكان أن يخفف من عناء التحقيق.
إن فلسفة ترك المعتقل لذاته هي من الوسائل والأساليب المهمة في التحقيق، وذلك من أجل خلق صراع الأفكار التي قد ترهق المعتقل أكثر من التعذيب نفسه. لذلك على المعتقل أن يخلق له أنيساً يرافقه في وحشيته، وخير أنيس هو الله، فعليه أن يذكره ويتحدث معه باستمرار وبصوت مرتفع إن أمكن ذلك، والذي لا يريد أن يكون أنيسه الله في هذه المحنه، فعليه أن يلجأ إلى أنيس آخر قد يعوضه بعضاً من وحدته هذه المهم أن يخلق له أنيس لوحدته، ولا يدع نفسه في فراغ الوحشه والعزله.
انشغل بحفظ القرآن والصلاة ان استطعت، وإذا استطعت أن تغافل الحرس أو تستغل فترة تغيير وردية الحراسة (الشفتات) أرفع صوتك ببعض الآيات تثبت بها إخوانك المعتقليين الآخرين وتكسر بها حاجز الهدوء القاتل.
ب) القدرة على التكيف مع التغيير الطاريء (التحقيق):
من المعلوم أن النفس تميل إلى العيش برتابه وروتين (في الغالب) وقليل من الناس من يحاول أن يخترق هذه القاعدة، حيث قال تعالى: “إنا وجدنا أباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مقتدون”. (الزخرف – 23)
إن على المعتقل وبمجرد دخوله الزنازين، أن يلغي البرمجة السابقة لحياته العادية التي كان يحياها في الخارج وتعود عليها سني عمره، وإلغاء عملية البرمجه هذه أو مسحها (ولو لحين)، هو من أهم القدرات التي يجب أن يوطن المعتقل نفسه عليها (كمثل الديسك الصالح للاستعمال الذي نستطيع مسح المعلومات عنه وإستبدالها بمعلومات أخرى، في حين أن الديسك غير صالح .لا يستطيع القيام بهذه العملية).
ولكن هذه الرتابة بمجرد دخوله المعتقل تتغير عبر واقعه الجديد، لذلك من الواجب على المعتقل تعلم كيفية التأقلم مع التغيير، ولو كان تغييراً قسرياً ومفاجأة ودراماتيكياً، وإلا سقط في وهم تناقض الرغبة مع الواقع، ويضطر إما إلى قلب الواقع، أو قلب الذات، حيث يؤدي الأول (قلب الواقع في التحقيق) إلى البحث عن واقع آخر، أو الواقع الذي تعود عليه، للخروج من هذا الواقع وعدم تقبله، وبالتالي تكون المساومة له سهلة من قبل ضابط التحقيق، الذي ما أن يلوح له بوقف التحقيق مقابل الاعتراف يلقي ذلك العرض رغبة جامعه في نفسه التي لم تقدر على التكيف مع التغيير الطارىء للواقع الذي اصبح يعيش فيه. وأما الأمر الثاني وهو (عملية قلب الذات)، فهي عملية تحويل للذات لإستيعاب الواقع والتأقلم معه والتكيف مع هذا الواقع وفق معطياته، بل وتستخيره للذات القوية، وهذا يدل على مرونة لدى الذات.
لذلك فإن الذين تعودوا مقاومة التغيير في حياتهم خارج السجن، سوف يكونوا أكثر الناس معاناة في قدرتهم على تقبل التغيير المفروض عليهم قسراً خلال الاعتقال .
ج) تقوية الشعور بالهوية والانتماء :
إن الانسان الذي ليس له انتماء أو هوية، فاقد لبوصلة الحياة، ومن يفقد بوصلة حياته ، يتخبط فيها بدون هدف ولا غاية، وشخصاً من هذا النوع، يكون دماغه كالعمارة والبيت الخرب الذي لا يوجد به سكان، حيث يصبح لديه قابلية بأن يقبل كل فكرة، وكل رأي دخيل مهما كان هذا الرأي، لذلك يجب أن تبنى حياة الانسان على قيم ومبادىء، ويجب أن تكون هويته وانتماءه واضحاً لا لبس ولا غموض فيه لنفسه قبل الآخرين، وعليه أن يعلم من هو، وماذا يريد، وكيف يحقق ما يريد، وعندما تتضح لذاته هذه المعالم فإن شخصيته تتحدد، وتتبلور بتبلور رسالته في الحياة.
د) القدرة في التغلب على الارهاق :
إن المحقق يسعى عبر استخدام الاساليب النفسية في التحقيق، إلى خلق حاله من الارهاق النفسي، كمقدمه لنيل الاعتراف المطلوب منه. وتحدث عملية الارهاق النفسي للمعتقل أثناء التحقيق عبر سلسلة من الضغوط النفسية الهائلة المبرمجة التي يتعرض لها المعتقل، حيث تشكل هذه الضغوط الشديدة والحادة على جدار النفس تصدعاً قوياً قد لا يقوى على تحمله إلا أصحاب النفوس الأصلب من الحديد، والأمتن من الفولاذ.
إن الجسم والعقل والقلب، كلها مداخل للإرهاق، لذلك على المعتقل أن يجعل من جسمه وعقلة وقلبة، مداخل مضادة للإرهاق، وذلك من خلال التحكم والسيطرة بها جميعاً. لأن الجسم السليم، والعقل السليم، والقلب السليم، يمنح الشخص شخصيه سليمه وسويه، تكون أقدر على مجابهة الصعاب والصمود أمام التحديات، وبالتالي يجب أن يسعى من يفكر بمقارعة الاحتلال، أن يصلح قدر الامكان من جسده وعقلة وقلبة، لكي يصلح من ذاته. فمن لا يعمل معك سوف يعمل ضدك.
إن على المعتقل أن يدرك منذ اللحظة الأولى لإعتقاله، بأنه ذاهب لرحلة من العذاب والألم والمعاناه، في معركة غير متكافئة بينه وبين المحقق. كما يدرك كذلك بأن مرحلة التحقيق جُلها مصاعب ومتاعب وأعباء، تشكل بمجموعها ضغوطاً على الجسم والنفس والعقل معاً، مما ينجم عن ذلك كماً من الارهاق النفسي الناجم عن هذه الضغوط الشديدة، التي تفرض عليه أن يوطن النفس على تلقى كل هذه الضغوط التي يتعرض لها، وأن يسيطر على زمام الأمور، بالتحكم بالذات من خلال ضبط الشهوات، وتوجيه العقل صوب الصلابة والتحدي، وتوطين النفس على الصمود، فإذا وطنت عقلك على ذلك، وجعلت من فكرة الصمود حديث النفس والعقل لديك، فأعلم أن عقلك الباطن سوف يتبنى هذه الرغبة، ويمد عقلك الواعي بمادة الصمود ويزين لك ذلك، وبالتالي سوف يُصدر عقلك الواعي أوامره لجميع خلاياك الجسميه، وعواطفك، وطاقتك العقليه بإلتزام طريق الصبر والصمود.
.... يتبع