حماس: مقاربة جيوستراتيجية
د. عبدالله الغيلاني
لا يكاد الجدل حول حركة المقاومة الإسلامية ( حماس) يهدأ حتى يثور، و لا يكاد يخبو حتى يضطرم أواره مرة أخرى، و هذا شأن حركات التغيير التي تظهر في لحظات الإنعطافات التاريخية الكبرى. نعم، هي حركة تغيير مفصلية عابرة للجغرافيا، و إن زعمت غير ذلك (و قد صدقت). فهي على المستوى العملياتي لا تتجاوز الجغرافيا الفلسطينية.
ولكنها على المستوى الإستراتيجي الأوسع تخترق الآفاق و تجوب الأصقاع : فقد أحيا الله بجهادها نفوساً ميتة، و أيقظ بفكرها عقولاُ غافلة، و بعث بثباتها معاني العزة و الشموخ في الأمة، و جدد بمنهجها مفاهيم الرباط و المجالدة، حتى غدت مصدر الهام و تعبئة لا ينازعها في ذلك أحد. و لن تدرك السر حتى تعلم مقدمات التأسيس و منهجيات البناء التي حددت الغايات و صاغت الرؤية و رسمت معالم الطريق.
فالفضل لله أولاً و آخراً، ثم لحركة الإحياء الإسلامي : فلولا الحركة الإسلامية لما كانت حماس، أو لكانت شيئاً آخر، و لولا حسن البنا لما كان أحمد ياسين و صلاح شحادة و إسماعيل هنية و خالد مشعل، أو لكانوا شيئاً آخر.
قدمت حماس أنموذجاً في الجهادين العسكري و السياسي، إمتزج بإنموذجها الفكري و الأخلاقي ، فتولد عن هذا المزيج مثال فريد تعانق فيه الواقعية السياسية و السمو الأخلاقي ، و هذا عزيز جداً في الواقع العربي السقيم. و لست أزعم للحركة البرء من الخطأ و السلامة من النقص، فليس ذلك لأحد بعد الأنبياء و الرسل، و لكنّ خطأها مغمور في بحر صوابها و نقصها مطمور في فضاء كمالاتها. و حسبك أن تدرك حدة المعركة التي تخوضها و إكراهات الواقع الذي يطوقها كي تعفيها من المحاكمات الجائرة و التخريجات الرّثة التي لا تصدر عن منصف و لا يقول بها من له أدنى دراية بقواعد إدارة الصراع. و لست أرمي منتقدي حماس جميعهم بسوء الطوية، فهناك نفر من الأخيار يصدرون في نقدهم عن نصح للحركة و حدب عليها. و ثمة طائفة أخرى قد إستحوذت عليها السخائم و إستبد بها الغيظ و ركبتها الخصومة الفكرية و السياسية فطفقت ترمي الحركة بكل نقيصة و تنفي عنها كل فضيلة و تلصق بها كل فعل ذميم. ليس لهذه الطائفة قدم صدق في جهاد العدو الصهيوني، و لا في مقارعة الإستبداد الداخلي، و لا في دفع الضراء عن الأمة،بل جلّ بضاعتها تبجيل الطغيان و تبرير القهر و تكريس حالة الإنسحاب من الشأن العام، و لا يعنيها بعد ذلك أن تُعطَل الشرائع و يُهدم العدل و تُقمع الحريات و تفشو الوثنية السياسية. و أما الفئة الثالثة فهم عامة المسلمين الذين ربما إرتابت قلوبهم و نالت منهم حملات الإرجاف تلك، و إلى هؤلاء ينبغي أن يتجه الخطاب …..
• ليست حماس حركة وعظية تسبح في فضاءات المثالية، بل هي حركة جهاد و مقاومة تعمل في بيئة جيوسياسية شديدة الخصومة ، بالغة العداء تروم إستئصالها بعد أن أحاطت بها و رمتها عن قوس واحدة.
• فينبغي، و الحال كما ذكرنا، أن تحاكم خياراتها لا إلى المثاليات الباردة، بل إلى إكراهات الواقع و شح البدائل و منطق موازين القوى كما تقررها الحسابات الجيوستراتيجية ، لا كما يخالها القاعدون على الأرائك.
• قيادة مشاريع التغيير الكبرى تقتضي المناورة تحقيقاً للغايات و تحصيلاً للمصالح العليا، دون إهدار للمبادئ و لا تفريط في القيم الجوهرية. و ليس في تجربة حماس الجهادية و هديها السياسي ما يخرق هذه القاعدة، و لعل خروجها من دمشق ينهض دليلاً على إنتصارها للمبدأ و إنحيازها للحق إذا تعذر التوفيق بين المصلحة و القيمة.
• إدارة المصالح العليا تحددها موازين القوى و معادلات القوة، و الهدي النبوي في قيادة مشروع التغيير يقدم لنا نماذج للإقتداء، فقد صالح النبي (صل الله عليه و آله) قريشاً في الحديبية متجاوزاً بذلك حالة التحفظ التي أبداها الصحابة، و كاد أن يصالح غطفان في معركة الخندق على ثلث ثمار المدينة، و لولا رفض السعدين ( سعد إبن معاذ و سعد إبن عبادة) لأنجزت الصفقة، و أثنى على عتبة بن ربيعة في بدر و كان من رؤوس الكفر، و حاصر الطائف شهراً (بعد حنين) ثم تركها و إنصرف، فجاءته طائعة دون قتال. فعلينا أن نفقه معادلات إدارة الصراع هذه كي لا نشتط في التثريب على حماس و هي تواجه الإكراهات و تفاضل بين الخيارات .
• من معايير التقييم “إستقلال القرار السيادي” فأيما كيان فقد الهيمنة على قراره السيادي أو ضعفت قبضته على مفاصل ذلك القرار ، فقد بدأت نهايته و فقدَ غاية وجوده. و لا يجادل منصف أن خيارات الحركة الإستراتيجية بيدها حصراً، و أن قرارها السيادي ليس موضوعاً للمقايضات، فهي تهيمن هيمنة تامة على المساحات السيادية.
• أما الإسناد الإيراني لحماس، و الذي يتخذه الشائنون ذريعة للقدح و مدخلاً للطعن، فليس فيه مقدح شرعي و لا نقيصة أخلاقية :
فحماس ليست حليفاً لإيران في مشروعها الطائفي أو إصطفافاتها الإقليمية
تلتزم الحركة إلتزاماً وثيقاً بمرجعيتها السنية على الصعيدين العقدي و المفاهيمي، و تعبر عن ذلك دون تردد و لا مواربة.
تنحاز الحركة الى قضايا الأمة و تنتصر للحق و العدل، و إن تعارض ذلك مع المسار الإيراني ، و آية ذلك موقفها من الثورة السورية.
شكر طهران على دعمها ضرورة سياسية و إلتزام أخلاقي، و ليس أكثر من ذلك.
ليس في العلاقة مع إيران ( على النحو الذي تقدم) ما يصادم مقررات الشريعة و
ليس فيها ما يجانب تقاليد التحالفات السياسية.
و الله الهادي إلى سواء السبيل